الزمن، زمن الرواية، وفي خضم ما يشهده المشهد الثقافي السعودي، من طرحٍ مكثف للرواية، يُطرح سؤال عريض: هل هناك رواية سعودية عبّرت عن حقيقة المجتمع السعودي وتحولاته؟!! هذه شهادة من روائي سعودي بأنه لم يحن الوقت بعد، لكتابة رواية سعودية حقيقية!!

يقول الدويحي: ( يحاصرني سؤال كبير، مفزع في ذات الوقت، بدأ يُطرح بقوة في الآونة الأخيرة، وينتصب على أعمدة الصحف، وفي المنتديات الأدبية، بما يحمل في طياته من بذور الشك، حول حضور رواية سعودية، تكتب في الوقت الراهن، وتشكل علامةً مهمة في المشهد الثقافي والحركة الأدبية في المملكة على وجه الخصوص، ويمتد السؤال الحقيقي متفرعاً، بأسئلة أكثر حرارة، لماذا الرواية بالذات في هذا الزمن، وعن أي رواية يتقد السؤال؟!!
يجتهد كثير من المتابعين للحركة الأدبية في السؤال، وتأويل سبب تبؤ الرواية في مكانتها الريادية هذا الزمن، وانحسار جنسين أدبيين، هما الشعر أولاً كجنس أدبي أثير، والذائقة الشعبية الأولى في البلاد، بنوعيه العامي والفصيح، والقصة القصيرة، الجنس الأدبي الآخر، وقد نافست الشعر في النبوغ والشيوع بين المهتمين، لأكثر من ثلاثة عقود من الزمن، وشكلت بعدد كتابها الذين بلغوا خلال السنوات الماضية، أكثر من مائتي كاتب قصة قصيرة، خارطةً كبيرة للإبداع السردي على امتداد الوطن ! ويذهب أولئك إلى الاعتقاد بأن طبيعة الجنس الأدبي وخصوصيته، تشكل المعيار الأول لسيادة هذا الجنس الأدبي، ولأن الشعر هو المعبر الحقيقي بفطرته، حول خصوصية البيئة السعودية، وما شهدته على أرض الواقع من تحولات كبيرة، أصابت مجتمع متعدد المشارب والأعراق، تيسرت له كل مقومات التغيير، وعبرت القصة القصيرة عن تلك التحولات بحالات فردية، حسب ما تقتضيه طبيعتها الفنية، كجنس أدبي له سمات محددة، طغت اللغة الشعرية على نماذج كثيرة منها، ولم تأت تلك التحولات الأدبية، كالواقع أيضاً في نظري فجأة، فالساحة الأدبية شهدت إطلالة القصيدة الحديثة في بداية السبعينات، بما لها من رؤية جديدة، شكلت رغبة التغيير في كل شيء، لتهز في حينه الثوابت الاجتماعية والأدبية، ولينشأ صراع لم ينته بين تياري التقليدية والحداثة، واكتفت القصة القصيرة بتكثيف حضورها ودورها وتراكمها في ظل غياب نقدي حقيقي، وانشغال النقاد بمتابعة صراع الحداثة، وتوجهات القصيدة الحديثة، وواصلت الرواية حضورها، عبر نتاجات لكتابها الذين عرفوا من قبل، كإبراهيم الناصر الحميدان وعبدالعزيز مشري ورجاء عالم وعبدالله جفري، عبرنتاجاتهم الغزيرة، وأصدر كل روائي منهم أعمالاً عديدة، بالذات المبدع الراحل مشري، وقد تجاوزت رواياته العشر، صدرت الأخيرة منها ( المغزول) بعد موته، ولن يهمل التاريخ الأدبي أعمال روائية، صدرت في النصف الأول من القرن الماضي، وخصوصاً في البيئة الحجازية الحاضرة المدنية في ذلك الزمن، لعبدالقدوس الأنصاري وحامد دمنهوري وأحمد السباعي ومحمد عبدة يماني وطاهر سلام، وغيرهم، ولكننا هنا نعنى بالكتابات في السبعينات والثمانينات، حيثُ صدرت في تلك الفترة روايات لكتاب قصة، لم تشكل حضوراً مهماً بسبب سوء التوزيع، المشكلة الأزلية التي تواجه مع النشر جل الأدباء، ولم تلفت بدورها نظر النقد والمتلقي معاً، في ظل إنشغال الساحة بالقصيدة وصراع الحداثة والتقليدية، ولو سألت أحداً في الساحة عنها، لما استطاع تسميتها وهي ( رائحة الفحم لعبدالعزيز الصقعبي، وريحانة لأحمد الدويحي و الغصن اليتيم لناصر الجاسم) والرواية الأخيرة طبعت في أحد الأندية الأدبية، وفازت بجائزة النادي ألأدبي، ولا يعرف عنها أحد بعد ذلك شيئاً، ومما يلفت النظر ويستطيع المتابع جيداً ملاحظته، أن بنية السرد الروائي في فترة التسعينات، تبدت في ثنايا عدد غير قليل من نصوص قصصية، وتوفرت لها عوالم روائية، أكثر مما توفرت لها شروط القصة القصيرة في رصدها المتوالي، لجملة تلك التحولات وبنفس قصصي، وظلت مجرد ركام في ظل غياب نقدي، يقرأ ويستبطن ويفرز ويحلل كل تلك النصوص، والغريب أن روايات لكتاب روائيي عرب، عاشوا بيننا وتناولت رواياتهم الهم المحلي، نالت رواياتهم شهرة وصيت على حساب السرد المحلي، وهي تقل قيمة فنية عن نظيراتها المحلية، بزعم أنها أكثر جراءة وحرارة، كرواية مسك الغزال للبنانية حنان الشيخ، ونجران تحت الصفر للفلسطيني يحي يخلف وحمى البراري للفلسطيني إبراهيم نصر الله والبلدة الأخرى للمصري إبراهيم عبدالمجيد، ودون شك شكلت روايات الروائي العربي الكبير عبدالرحمن منيف، هاجساً كبيراً ومهماً بين المثقفين، وخصوصاً ملحمة (مدن الملح) في أجزائها الخمسة، وشكلت في رصدها الدقيق المذهل لحقبة زمنية مهمة، لتكون خير شاهد على تلك التحولات، لتأت قمة التحولات على أرض الواقع، نتيجة اجتياح العراق لدولة الكويت، وقيام ماسمي بحرب الخليج الثانية، ليظهر جنس أدبي آخر يسود الساحة، لدرجة أصبح فيها كل مواطن، يُعد شاعراً شعبياً لسبب ليس به تبرير محدد، وليكرس هذا اللون الأدبي، بما يحمله من لهجات تغطي المساحة الشاسعة للمملكة، وتقام المنتديات وتفرد له الصفحات الأدبية، ويزج به ليكون ضمن برامج الجنادرية في مواسمها الثقافية، ليحصد مكانة أدبي، أثارت غيض كتاب الأجناس الأدبية الأخرى! ولأن لا أحد يستطيع أن يقف في وجه حركة المجتمع، فالرواية المحلية اليوم، تكتب في الوقت الراهن بدم جديد قادم، وكتب خلال موسمين ثقافيين آخرين عدد كبير من الروايات، لدرجة أنه صدر مؤخراً أكثر من ست عشرة رواية، لكتاب بعضهم كتب الشعر أو القصة من قبل وعُرف به، ومنهم إبراهيم الناصر الحميدان وسلطان القحطاني وعبده خال وأحمد الدويحي ورجاء عالم وغازي القصيبي وتركي الحمد وليلى الجهني وعبدالحفيظ الشمري وعلي الدميني وعبدالله المعجل وعبدالله التعزي ومحمد أبوحمراء ومحمد حسن علوان وإبراهيم شحبي، كما أن لها نقادها الجدد على المشهد الثقافي، والسبب واضح فهناك معطيات جديدة، خرجت بنا من أزمة القصيدة الحديثة، وخندق الشعر الشعبي، فالرواية هي نهر يجرف في مساره كل شيء، مستفيدةً من كل الجناس الأدبية المتعددة، بما فيها القصيدة الحديثة التي صادمت وحاولت أن تهز وتغيّر من السائد والجاهز، ولتأت الرواية راصدةً كل تلك الانهيارات، ولأنها تتكئ على اليومي والتاريخي والسياسي والثقافي والأخلاقي والديني وأصوات الذاكرة والأساطير والأحلام، وتجاوزت في طموحاتها دور القصة القصيرة، والفن السردي القريب لها بعد أن تلاشى عدد كتابها وكنا في ذات مرحلة نتباهى بأن لدينا أكثر من مائتي قاص، والسبب لأن المرحلة ذاتها قد تغيّرت، فالقصة الوامضة المعبرة عن حالة فردية قالت مالديها، وحلّت مكانها تحولات مجتمع بأكمله ! وأقف في نهاية هذا الاستطراد متسائلاً : هل هناك رواية سعودية حقيقية، تحمل تحولات وهموم هذا المجتمع فنياً ووعياً ونضجاً ؟!! ولا أميلُ مطلقاً إلى الرأي القائل بأن المجتمع السعودي يعكس في النهاية كتابة روائية، خالية من الصدق الفني المعبّر عن حقيقته، وأظنُ أن العامل الإبداعي في جوهره، هو مغامرة وتجربة جميلة، لاتخلو أحياناً من الضعف والسقوط، كما يمكن أن تكون الرواية متميزة، ومشكلةً بنية ومساراً للأجيال التالية، فالرصد الدقيق يُعدُ من أولى مهمات الكاتب الروائي، شرط أن يكون قد اكتمل لديه نسيج عالمه الروائي، وتسلح بمعارف عديدة، تعينه في خوض غمار التجربة، والرقيب الاجتماعي والمؤسسي لاشك في وجوده، ليظل حارساً على الثالوث المحرم، وفي يقيني التام أن مثل هذه الحواجز الوهمية، لا بد أن تغيب من عقل وفؤاد المبدع الحقيقي، وليست الروايات السعودية الصادرة على ذات المستوى، لأنها في ذات الوقت صادرة عن بيئات مختلفة، وثقافات وتجارب مختلفة أيضاً، بحكم اتساع الجغرافيا، والنوافذ الثقافية الجديدة والحديثة)