جريدة القدس العربي

عندما يكون النفط أرخص من الماء! ( د. سعيد الشهابي )

ربما كان للاعمال الارهابية التي تحدث في السعودية دور في رفع اسعار النفط في الفترة الاخيرة، ولكن عوامل اخري كانت ستؤدي حتما الي هذا الارتفاع عاجلا ام آجلا. وقد أعطت وسائل الاعلام اهمية خاصة لتصريحات نسبت الي عبد العزيز المقرن، الناطق المزعوم باسم القاعدة في المملكة العربية السعودية يتباهي فيها بان هجوم الخبر الاخير الذي أدي الي مقتل اكثر من عشرين شخصا، دفع سعر البرميل الي تجاوز الـ 40 دولارا للمرة الاولي منذ عشرين عاما. كما اشارت وسائل اعلامية غربية أخري الي مقولة لأسامة بن لادن مفادها انه لم تحدث جريمة سرقة لأمة كجريمة سرقة الثروة النفطية في العالم العربي التي تباع بأزهد الاثمان وتبذر عائداتها علي مشاريع لا طائل في اغلبها.

هذا التركيز علي دور القاعدة في زيادة اسعار النفط ليس بريئا، بل ربما يطرح كمبرر آخر للضغط علي الرأي العام الغربي بضرورة مواصلة ما سمي الحرب علي الارهاب وهي حرب يتفق المراقبون علي انها ربما أدت الي تكريس الظاهرة وتصعيدها بدلا من القضاء عليها او حتي الحد منها. فالنفط اصبح عصب الحياة الاقتصادية في العالم كله، وبدونه تتوقف آلة التصنيع في كافة انحاء الارض، اذ فشلت محاولات البحث عن بدائل عملية علي نطاق واسع حتي الآن. وبالاضافة الي تشغيل المصانع التي اصبحت احد مصادر الدخل الاساسية للدول الصناعية، فقد اصبح النفط مصدرا مهما للخزينات الغربية.

وثمة حقائق لا يدركها الكثيرون لان وسائل الاعلام تتجاهلها بشكل متعمد نظرا لاهميتها وخطورتها. ففي مقابل كل دولار نفطي تتسلمه الدول المصدرة مثل السعودية، تستفيد الخزينة البريطانية ثلاثة دولارات بشكل مباشر من الضرائب التي تصاعدت في ربع القرن الماضي بنسبة 60 بالمائة علي الاقل. ولم يكن ذلك ليتحقق لولا الضغوط السياسية الهائلة علي الدول المنتجة للنفط خصوصا المملكة العربية السعودية التي اصبحت المنتج المتأرجح المسؤول عن ضخ المزيد من النفط لسد اي نقص في انتاج دول منظمة الدول المصدرة للنفط (اوبك).
ماذا يعني ذلك؟ في مطلع الثمانينات كان سعر البرميل حوالي 40 دولارا، فتواصلت الضغوط لخفضه بدلا مما تقتضيه القوانين الاقتصادية من صعود متواصل لأسعار السلع. السعر الحقيقي للنفط، فيما لو ترك لقوي السوق بدون اي تدخلات سياسية، كان سيرتفع بشكل مضطرد علي الاقل بمعدلات التضخم العالمية، ولنفترض ان ذلك بحدود 3 الي 5 بالمئة سنويا. هذا يعني ان سعره الطبيعي الآن كان سيصل الي قرابة الـ 80 دولارا، وكان ذلك سيعتبر سعرا طبيعيا لانه حدث بالتدريج. ولكن الضغوط الغربية علي اوبك اوقفت هذه الزيادة، بينما استمر سعر بيع البنزين في محطات تزويد الوقود المحلية في تصاعد مستمر. ويبلغ سعر ليتر النفط اليوم عشرة اضعاف ما كان عليه في مطلع الثمانينات، فكيف تم هذا الارتفاع مع هبوط اسعار النفط الخام؟ هنا تكمن حقيقة ما تمت الاشارة اليه بان مدخولات الخزينات المالية الغربية هي التي استفادت من هبوط اسعار النفط الخام، وذلك بزيادة الضرائب المفروضة علي هذه السلعة بشكل متواصل يصل الي اكثر من عشرة بالمائة سنويا. فلو سمح لقوي السوق الحرة وقوانينها بالتحكم في أسعار النفط الخام، لكان السعر الحالي للبنزين يمثل في اغلبه دخلا مباشرا للدول المصدرة للنفط، بينما تم تجميد مدخولات هذه الدول بسبب الضغوط المتواصلة، وفرضت ضرائب متصاعدة ادت الي تصاعد مدخولات الدول الغربية في شكل ضرائب مباشرة. بمعني ان الخزينة البريطانية مثلا اصبحت تحصل من كل دولار يدفعه المستهلكون البريطانيون من النفط علي ثلاثة ارباعه، ويتوزع الربع الباقي علي الدول المصدرة وشركات التكرير والشحن والتوزيع.

هذه حقيقة مرة، ولا يمكن وصفها الا بالسرقة المباشرة لأموال الدول النفطية. يتم هذا بعلم حكومات الدول المصدرة والمستوردة للنفط، وبدون علم شعوبها.
ولذلك، فعندما قفزت اسعار النفط خلال الاثني عشر شهرا الاخيرة، عادت الدول الغربية، خصوصا الولايات المتحدة وبريطانيا، لممارسة كافة اشكال الضغوط علي الدول المصدرة للنفط لضخ المزيد من النفط لخفض الاسعار التي تمثل، كما تمت الاشارة، أقل من ربع السعر الذي يدفعه المستهلك. اما الارباع الثلاثة التي تدخل خزينات هذه الدول في شكل ضرائب، فلم تمارس اية ضغوط لخفضها. فسعر الليتر الآن في بريطانيا هو بحدود 84 بنسا، منها 60 بنسا ضرائب تذهب للخزينة، و 19 بنسا لشراء النفط، و ثلاثة بنسات لمحطات البيع، وبنس واحد للشحن وبنس واحد كفوائد للشركات النفطية. ويلاحظ هنا ان الضغوط تمارس علي الدول المصدرة لخفض نصيبها البالغ 19 بنسا فقط، بينما لا توجه الضغوط لحكومات الدول الغربية لخفض الضرائب التي تبلغ 60 بنسا تستلبها مباشرة بدون تعب او نصب. وتقول التقارير ان وزير الخزينة البريطاني، جوردون براون، قضي وقتا طويلا قبيل انعقاد مؤتمر اوبك الاخير في بيروت الاسبوع الماضي علي الهاتف مع نظرائه في الدول النفطية للضغط عليهم لزيادة الانتاج. وكذلك فعل الرئيس بوش مع زعماء تلك الدول. المنطق الذي يستعمل هنا يتمثل بتبرير ضرورة خفض اسعار النفط الخام للحفاظ علي توازن الاقتصاد العالمي، وهي مقولة مبهمة تطلق بدون تفسيرات او تبريرات مدعومة بالارقام. فالتوازن الاقتصادي لا يتحقق، وفق هذه المقولات، الا باستلاب النفط بأسعار زهيدة جدا، مع زيادة الضرائب التي تفرضها الخزينات المالية للدول المنتجة.

يعترف المستهلكون للبنزين بان سعره أقل من سعر الماء والكوكاكولا. فعبوة الماء الفرنسي بيرييه ذات الليتر الواحد تباع في المحلات العادية بأكثر من جنيه، ومشروب الكوكاكولا (ثلث ليتر) بنصف جنيه، بينما الليتر من البنزين يباع بـ 84 بنسا، مع كون تلك المنتجات غير ضرورية نظرا لوجود البدائل لها. ويقول بعض المنصفين منهم بان سعر البنزين حتي بعد الارتفاع ما يزال ارخص من السلع الاخري الاقل اهمية.

أليس في ذلك نهب مكشوف؟ المشكلة ان هناك حالة من الضعف السياسي في انظمة الحكم بدول اوبك تجعلها عرضة للضغوط السياسية بعناوين اخري وذرائع مختلفة. وتمثل السعودية المثل الاوضح لهذه الحالة. فهي الدولة الاقدر علي الانتاج النفطي الاكبر، وبامكانها زيادة انتاجها بدون جهود كبيرة، ولذلك تتعرض للضغط المستمر من قبل الولايات المتحدة لزيادة الانتاج بهدف خفض الاسعار. واذا لم تستجب لذلك فتحت ملفاتها الاخري في مجال انتهاكات حقوق الانسان والديمقراطية. ان هناك عملية ابتزاز واضحة للدولة السعودية التي تعاني من مشاكل داخلية غير قليلة. وتشعر العائلة السعودية المالكة انها اصبحت في وضع حرج جدا تسعي لتفاديه بأقل الخسائر. فهي من جهة مطالبة من الولايات المتحدة بزيادة انتاج النفط، في الوقت الذي اصبحت مستهدفة من قبل تنظيم القاعدة والمجموعات المتطرفة بسبب خضوعها للضغوط الامريكية والعلاقات الخاصة مع واشنطن. وفي الوقت نفسه تواجه موجة متصاعدة من المطالبة الشعبية بحقوق سياسية طالما تجاوزتها بسياسة الانفاق الهائل في اطار سياسة احتواء المشاعر ومحاصرة التطلعات السياسية للقوي الاجتماعية التي تزداد وعيا علي العالم ورغبة في الحرية والاصلاح السياسي. وكانت المدخولات النفطية في السبعينات والثمانينات وسيلة لاسكات الاصوات المعارضة، اما اليوم فحكام السعودية يشعرون ان خزينتهم قد استنفذت اما بالحروب المتواصلة التي فرض عليها دفع بعض اقساطها، او بانخفاض عائدات النفط بسبب تدني اسعاره، في الوقت الذي تضاعف عدد سكان المملكة في العشرين عاما الماضية وازدادت الحاجة للمزيد من الدخل غير المتوفر حاليا. والضغوط الامريكية تزيد من ازمة المملكة اقتصاديا وسياسيا. فخفض الاسعار يؤدي الي تآكل العائدات وبالتالي عدم القدرة علي الانفاق، الامر الذي ينعكس سلبا في شكل توترات سياسية، بينما يؤدي عدم الانصياع لمطالب واشنطن لابتزاز يتمثل باتهام المملكة في التقاعس في الحرب ضد الارهاب، ومطالبتها بالتصدي للمجموعات الاسلامية السلفية، في الوقت الذي تفتح فيه ملفات حقوق الانسان والديمقراطية. وفي الاسبوع الماضي تكررت الادعاءات من بعض الدوائر الامريكية بان السعودية غير متعاونة في مجال مكافحة الارهاب، وطلب منها علي الفور تجميد ارصدة مجموعات اسلامية جديدة. هذه الخطوات توفر المزيد من الوقود لتلك المجموعات لاستهداف النظام السعودي. وهكذا تصبح العلاقة مع الولايات المتحدة مصدر اضطراب وتوتر دائمين، ولا تجدي الحكام علي المدي البعيد لانها تفصلهم عن مواطنيهم وتجعلهم اكثر اعتمادا علي الدعم الغربي غير المضمون.

ازمة ارتفاع اسعار النفط في العالم الغربي تعكس مشكلة اخري تتمثل بتراجع الاقتصادات الامريكية والبريطانية، برغم ما يبدو من قوتها. فالانفاق العسكري الهائل لانجاح ما سمي الحرب ضد الارهاب اصبح مصدر استنزاف متواصل للخزائن المالية، وارتفاع اسعار النفط من شأنه ان يؤدي الي كساد اقتصادي خطير خصوصا ان كلا من جورج بوش وتوني بلير اصبحا علي ابواب انتخابات رئاسية وبرلمانية في نهاية هذا العام والنصف الاول من العام المقبل، وكلاهما يعاني من تدني شعبيته بسبب الحرب في العراق. هذا في الوقت الذي تشهد فيه دول اخري نموا اقتصاديا كبيرا يتيج مجالا واسعا لها لمنافسة الاقتصادات الغربية. وتمثل الصين بشكل خاص حالة متميزة من النمو الاقتصادي المتواصل. وتتبعها الهند التي شهدت في السنوات الاخيرة انتقال الكثير من خدمات الشركات المتعددة الجنسية الي اراضيها بسبب انخفاض تكلفة الايدي العاملة. هذا النمو الاقتصادي ادي الي المزيد من الطلب علي النفط، الامر الذي ساهم في رفع اسعاره. ولذلك جاءت الضغوط علي منظمة اوبك لزيادة الانتاج كمحاولة لمنع المزيد من التداعي الاقتصادي، خصوصا مع اقتراب موعد قمة الدول الصناعية التي تعقد هذه الايام في جورجيا بالولايات المتحدة الامريكية. وفيما تناقش القمة مشروع الشرق الاوسط الكبير، تتوجه الانظار لما يمكن ان يتمخض عنها خصوصا في الجانب الاقتصادي والموقف من القضية النفطية وتداعياتها علي الاقتصاد العالمي. ولا شك ان جورج بوش وتوني بلير قد ذهبا الي القمة مستبشرين بتراجع الازمة النفطية، خصوصا بعد ان قررت اوبك رفع سقف انتاجها مليوني برميل يضاف اليها نصف مليون برميل في مطلع اغسطس المقبل. هذا القرار الذي كان يفترض ان يبدأ تنفيذه في بداية الشهر المقبل، من شأنه ان يضغط علي الاسعار باتجاه الانخفاض، ولكن يبدو ان السوق النفطية ما تزال مضطربة وغير مقتنعة بان خطوة اوبك سوف تؤدي الي خفض حقيقي في الاسعار. المشكلة ان سلعة النفط عوملت بطريقة خارجة عن قيم التجارة الحرة وقوي السوق، وأخضعت لقرارات سياسية يتخذها زعماء الدول تحت الاكراه، ولا تراعي ظروف الدول النفطية، الامر الذي يزيد من تعقيدات الوضع.

بل ان الانضمام الي منظمة التجارة العالمية اصبح خاضعا للقرار الامريكي الذي اصبح يساوم الدول النفطية بشكل مفضوح لكي تزيد الانتاج. وثمة مشاكل اخري تواجه اوبك، منها غياب التوازن الذي كان سائدا قبل تساقط انظمة بعض الدول الاعضاء تحت الضغوط الامريكية مثل ليبيا والعراق والجزائر، بعد ان كانت من صقور المنظمة بالاضافة الي ايران وتشيلي. ومنها تراجع حصتها من السوق النفطية اذ لم تعد تتجاوز الـ 40 بالمائة، بينما تفضل دول اخري مثل مصر البقاء خارج الكارتل النفطي ولا تريد الالتزام بنظام الحصص، الامر الذي يضعف المنظمة ويجعل نجاح قراراتها خصوصا في ما يتعلق بموضوع الحصص خاضعا للدول غير الاعضاء. وتعاني ايضا من عدم التزام اعضائها بالحصص المقررة لها، وبتصرفات بعض اعضائها عندما تخضع لضغوط امريكية تطالبها بزيادة الانتاج. وهنا تكمن مشكلة ازدواجية الموقف بين الالتزام بقرارات المنظمة والخضوع للضغوط الخارجية. وربما آن الاوان لاعادة النظر في منطلقات المنظمة وجدواها ومدي استقلالها في ضوء المحاولات المتواصلة لاخضاعها للاعتبارات السياسية والضغوط الخارجية. النفط هذه السلعة الاستراتيجية المتميزة، اصبحت عنوانا لمشكلات وازمات، عنوانها اخضاعها للاعتبارات السياسية وتجاهل قوي السوق والتجارة الحرة، وفوق كل ذلك، عدم اخضاعها لقوانين المحافظة عليها وعدم تبذيرها والتفريط بها عبر زيادة الانتاج بمعدلات مفروضة من القوي الكبري بعيدا عن مصالح الشعوب والحكومات. واذا كان استلاب نفط السعودية وبقية دول الخليج بالشكل الذي حدث عنوانا لظلامة أمة، فان هذه الظلامة بدأت تتعمق بمد اليد الانكلو ـ أمريكية للنفط العراقي، الذي كان أهم الدوافع، في نظر الكثيرين، لاحتلال العراق.