بسم الله الرحمن الرحيم



الكتابة عن غموض السياسة النفطية في بلادنا ليست قضية جديدة وقد سبقني إليها من لمح وصرح وفق قدرته ومقدرته، ولقد فكرت مرارا قبل الكتابة عنها، و من حقي أ ن أتردد خشية أن يفهم عني ما لم أقصده، و أتمنى قراءة هذا الموضوع بتجرد وحسن ظن مسبق وليس وفق تصور آخر ليس بالضرورة أن يكون ملازما للمرء في كل موقف، حقا لقد احترت وترددت في الكتابة، أدرك أن الأمر لا يخلو من حرج أدبي كون المعنيين بالدرجة الأولى أناس لا أخفى تقديرهم واحترامهم!

ومهما كان بينا من الحب والمودة الخاصةإلا أن الحق والعدل يبقيان أحب إلى النفوس السوية من مجاملة كل عزيز على حسابهما، جربت الانتظار فيما مضى وليسعني ما يسع الصامتين غيري فلعل فرصة سحرية ما تتاح لتصحيح الوضع النفطي فتكون أكثر جدوى من مجرد مقال عابر على موقع في الشبكة العنكبوتية، لكن سرعان ما تسرب اليأس إلى نفسي عندما تذكرت أن والدي رحمه الله قد صمت مع جيله سبعين عاما حتى لحق بربه ورأيه في صدره، وجير حق ذلكم الجيل إلى ميدان العرض الأكبر يوم القيامة، و ها هو جيلي قد تجاوز نصف العمر المتوقع ولا يزال في صدورهم عن غموض النفط السعودي أكثر مما كان في صدور آبائهم من قبل، فهل نصمت كما صمتوا ونحتسب الأجر عند الله!! أو نتكلم بحق وصدق مؤكدين على احترام كل محترم، محافظين على مكانة كل رمز اجتماعي يترتب على احترامه جمع الكلمة ووحدة الصف دون أن يكون ذلك على حساب ميزان العدل ودون أن نحرم أنفسنا حقنا الشرعي في التناصح بيننا بكل وسيلة مشروعة عندنا من الله فيها برهان مؤكدين على حق الجميع في ممارسة النقد البناء المتبادل لنا وعلينا جميعا وفق ضوابط الشرع وقواعد الأدب المتفرعة عنه دون التقليل من هيبة من تقتضي مصلحة المسلمين الحفاظ على هيبته، فترجح عندي الإفصاح والمشاركة في الكتابة طمعا في أن نؤتى أجرنا مرتين بإذن الله فخير الناس انفعهم للناس.

أناشد الأخوة الكرام بالجدية في مناقشة هذه المسألة الحساسة من منطلقات شرعية وطنية، كما أرجو ألا يجرد هذا المقال من مضمونه فيحصر في قصد الإثارة التي ليست هدفا لأي مصلح نزيه، أرجو ألا تشغلكم عيوب كاتبه عن مناقشة مضمونه، فالمال عصب الحياة، والنفط السعودي عصب الاقتصاد الوطني، و من الواجب تسليط الضوء على قضيته التي ترهلت بسبب غياب الرقابة من جهة والخوف والمجاملات و تغلغل نفوذ النفعيين من جهة أخرى، النفط السعودي وأسراره الغامضة قضية أساسية يسيل لها لعاب كتاب الإثارة عالميا لما فيها من الغموض والغرابة والطرافة أحيانا، و أتمنى أن ينبري لتصحيحها وضبطها من يدرك أمانة الولاية على الأمة فيعالج هذا الغموض الذي أصبح مهيمنا على عقل كل ذي لب، عينه بصيرة ويده قصيرة، يراقب ارتفاع سعر النفط إلى أعلى حد نسبي ولأطول فترة، و في دولة تعتبر من أقل سكان الأرض نسبة إلى مساحتها، وأكبر دولة مصدرة للنفط في العالم، وتتصدر قائمة الاحتياط العلمي، ومع هذا سواء علنا أرتفع سعر النفط أو انخفض فالأمر يبدوا وكأنه معزول بالكامل عن حياة المواطن العادي الذي أضحى بالمقابل، مكلفا بدفع الرسوم والضرائب و مستعدا لتحمل صدمة رعب رفع أسعار السلع الضرورية والتي سبق أن رفعت (مؤقتا) على وعد تخفيضها، لينتهي الأمر إلى وعيد آخر برفعها ثانية علاوة على ضريبة الطرق التي أقضت مضاجع ميسوري الحال الذين يقلقون من قيمة تعبئة وقود السيارة واختصار مشاويرها فضلا عن رصد ميزانة الطريق والوقود والسفر.

نحن كمواطنين نشعر بانتماء خاص لهذا البلد الذي شارك آباؤنا في وحدته بدمائهم الزكية تحت قيادته السعودية وهذا يعني أننا شركاء فيه تحت قيادتنا، هذا الحق يخولنا أن نسأل ونتساءل ونناقش القضايا ذات العلاقة المباشرة بلقمة عيش أبناء المجتمع وعلى الأخص الأرملة والمسكين والذين لا يسألون الناس إلحافا، عندما نطلع على أوضاع اجتماعية حادة يبدو أنها لا تنقل بصورة واضحة وأمينة إلى أصحاب الشأن اما حاجات المعوزين الدامية للقلب نتساءل بكل عفوية: أين يذهب نفطنا؟ وكيف تدار الشئون النفطية في بلادنا؟ أليس من الحيف أن نقرأ عنه كما يقرأ البشر في أقصى الشرق أو الغرب من الأرض ونحن لا نرى أثره علينا؟ لا يكفي أن يقال لنا هناك هيئة رقابة مالية تحت إشراف وزير المالية، فطالماأن الغموض موجود فالشكوك مبررة والتهم واردة،

لقد جاءت نصوص شرعية كثيرة تؤكد ضرورة ضبط المال ومحاسبة الكبير والصغير، و تحيكم الشريعة يقتضي الإيمان بأن هناك نظام مراقبة ربانيا واضحا في ضبطه للمال العام ومحاسبة كل (بن لتبية) يستغل منصبه لأكل أموال الناس بالباطل وهذا النظام المحاسبي الشرعي يخضع له كل عبدٍ لله مهما كان موقعه حتى لو كان خليفة المسلمين كافة، كما كان ذلك في صدر تأريخنا المجيد وهذا هو الأساس الذي توحدت عليه بلادنا واجتمعت عليه كلمة قبائلنا العريقة في الشمال والجنوب والشرق والغرب والوسط من مملكتنا الحبيبة حرسها الله بالإسلام العادل.

ألا فليربع أصحاب الامتيازات على أنفسهم، فليسوا متقصدين في ذواتهم واشخاصهم معاذ الله، ولكن عليهم أن يتحملوا مشاركة الناس لهم بحق بعد أن حرموهم حقهم بغير حق، إنه حق طبيعي طبعي للمظلوم أن يشتكي من ظالمه، وللجائع أن يصرخ طلبا للقمة عيشه المسلوبة، وللمحروم أن يستصرخ من يرد عليه حقه، كلنا بشر وكلنا خطاء ولكن في التعامل بيننا هناك العدل والمساواة في الحقوق والواجبات، وإذا علمنا أن الأنعام لا تسكت على الضيم في مصالحها، تعبر عن موفقها الرافض بطريقتها الخاصة، فكيف ونحن بشر كرمنا الله على خلقه وحملنا في البر البحر وفضلنا على كثير ممن خلق تفضيلا، وأوجب علينا المطالبة بالحق المشروع دون إلحاق الأضرار بالمصلحة العامة للأمة، والمنتفعون من الوضع القائم هم الذين يروجون التهم ضد كل ناقد بصير، ويقفون في وجه كل مصلح لأن الإثم حاك في نفوسهم وأدركوا أن الصدق سيؤدي إلى حرمانهم تلك الامتيازات التي عادة ما ينعمون بها على حساب حقوق الضعفاء واليتامى والمساكين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا،

كما انه من الجرم أن تستغل طيبة و بساطة المجتمع وانشغال الناس في حياتهم وحسن الظن السائدة لتكريس الأثرة والاستبداد و التي صبر عليها الناس عقودا خوفا من الفتنة دون أن يجهلوا الوعيد الوارد في حق الآكلين لأموال الناس بالباطل (إن أقواما يتخوضون في مال الله بغير حق، لهم النار يوم القيامة).

تساؤلات منطقية، لم يعد هناك مجال لكبتها إلى الأبد، لأنها تنطلق من قلوب محبة ومخلصة للدين ثم للوطن فلا ينبغي الضيق بها ذرعا، ومن ساءه قول الحق بأدب فليعلم أن رضا الله مقدم عليه، و إذا كنا صادقين بالإيمان بأن ديننا دين العدل والمساواة فإنه من الظلم الصارخ أن نعيش في طبقية فلكية بين الباذخ المنعم والصارخ الذي يصبح ويمسي على ارتفاع إثر ارتفاع في تكاليف معيشته الضرورية، مرة في فواتير الكهرباء وأخرى للمياه وثالثة لترتيب ضرائب الطرق ورابعة لزيادة ضرائب البلديات وأخرى للصحة وهكذا.... والعالم من حولنا يرى ويسمع و(يتهمنا) بالتخمة والبذخ والثراء الفاحش قياسا على ارتفاع أسعار النفط والكمية الضخمة التي تصدرها بلادنا، بينما قد لا يختلف حال البعض من المواطنين عن حال مواطني دولة أخرى لا تصدر برميلا نفطيا واحدا،

فمن يفسر لنا هذا اللغز المحير؟ لابد من جواب شاف كاف، من قبل اصحاب الشأن بعيدا عن التجريح الشخصي لأي مسئول كائنا من كان، و لا أملك دليلا ماديا ملموسا على أحد بعينه سوى مظاهر البذخ والرفاهية عند البعض، يقابلها حرمان لأبسط مقومات الحياة عند البعض الآخر، فكيف لنا بغض البصر عن هذه الثقوب السوداء في وضعنا المالي وهي تلتهم أموال الأمة بغير حق، لا بد من الاعتراف أن هذه الثقوب السوداء قاتلة وخطيرة ومن مصلحتنا حكاما ومحكومين ردمها بأي ثمن حتى يزول ما في الصدور من حشرجة لها ما يبررها ولكي لا يجد المفسدون في الأرض ومثيروا الفتن فرصة للنيل منا جميعا، لتحقيق أهدافهم الدنيئة مستشهدين بما يستحيل إنكاره.

إن السكوت لا يعني السكون دائما، والحاكم الحصيف هو الذي يملك أدوات الإنصات إلى منطوق الشارع الكامن، قبل تحوله إلى سلوكيات شعب وإثارة لا سمح الله، ونحن امة الجسد الواحد كما جاء في الحديث، ولا شك أن في صدور المواطنين الكثير مما لا يرون الوقت مناسبا للإفصاح عنه في هذه المرحلة الحساسة لكي لا تستغل معاناتهم من قبل المتربصين الذين يصطادون في الماء العكر، لكن بين الفينة والأخرى يطفح الكيل فتعلو صيحات الامتعاض عندما تفيض النفوس عند امتلائها، لست من الحالمين بالمثالية ولكن لا بد من تحرك للتصحيح، والصدق مع الجميع منجاة للجميع، رغم مرارة المصارحة لاسيما والدولة نفسها وفي أعلى مستوياتها تتوجه نحو شيء من الشفافية بعد أن كشفت وجود حالات فقر مدقع في العاصمة الرياض تم عرضه مصورا على شاشة التلفاز الرسمي فضلا عن المناطق النائية شمالا وجنوبا من بلادنا الغالية.

إننا نفتقر إلى العدل في إدارة ثروة البلاد ونحن نتابع ارتفاع في نسبة البطالة وقصور في الخدمات العامة، ونسبة عالية من الخريجين المنتظرين لحقهم الوظيفي على مجتمعهم الذي قاموا بحقه عليهم رغم قلة ذات اليد، كلها أزمات تقتضي المناشدة لأداء الأمانة التي عرضها الله على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان، وطالما أن الأوضاع المالية غامضة فلابد من التساؤل ولا داعي للحساسية المفرطة من مناقشة قضية جوهرية تخص كافة أمة محمد كقضية النفط وسياسته، ونحن بحمد الله أحبة متفقون في شاننا العام، وعلى ثوابتنا الاجتماعية، وقيمنا الوطنية، مختلفون في بعض جوانب حياتنا، حريصون على الشرعية والمشروعية والطاعة بالمعروف، دون أن نُحرم من حق التناصح فيما بيننا و الصدق في التعامل مع الشأن العام للأمة والعدل بين الرعية والقسمة بالسوية انطلاقا من تعاليم ديننا الذي شدد على ضبط الضرورات الخمس وفرض الحدود على من يعتدي عليها.

من حق المجتمع على الدولة أن تصارحه بالأمر، وأن تجيب على تساؤله: أين يذهب نفطنا؟ فالكل مستعد لتحمل الغُرم الحقيقي المشترك عندما يتأكد انه مشارك بالغُنم الحقيقي أيضا، إذ لا بد من الإفصاح عن الدين العام وإناطة جدولته ومتابعة سداده بهيئة مستقلة ذات صلاحية واضحة ليس لأصحاب النفوذ عليها سبيل، كي لا يصبح الدين العام مشجبا سريا يعلق عليه النفعيون تمرير مآربهم وتضليل المراقبين خاصة مع غياب أي جهة مستقلة تملك حق المحاسبة والمساءلة لمن يتولون تدبير شئون المال العام الذي يعني كل مواطن. يجب أن يتحقق ذلك دون منة من أحد فإنه من أدنى أبجديات المواطنة الحقة التي من المفترض أن تعطي مثل ما تأخذ إذ يصعب المطالبة بالوفاء بحق وطن يراه البعض عبئا ثقيلا ،ضرره أكثر من نفعه. فهل من رجل رشيد يرد المظالم إلى أهلها يحذو حذو عمر بن عبد العزيز بين بني أمية فيكشف أسرار هذا الغبن النفطي المتراكم عبر السنين ويريح المواطن العادي من هذه الظنون والوساوس التي أصبحت تغشاه وهو يرى دخل بلاده فلكيا في كميته، ذهبيا في قيمته، غيبيا في فائدته، يؤمن به في الغيب بينما يفتقده في عالم الشهادة؟

محسن العواجي
http://www.wasatyah.com/vb/showthrea...threadid=20084