يناسب بيئتنا ويجذب الاستثمارات الاجنبية والاموال المهاجرة
مردود تطبيق المفهوم المعاصر للادارة العامة يفوق عائدات الخصخصة
لا يختلف اثنان على أن اختلاف الرأي لا يُفسد للود قضية ، أيضا لا ينكر أحد أنه كما من حق أي إنسان الإيمان بموضوع ما فمن حق الآخرين أن يؤمنوا بموضوع آخر شريطة احترامهم لآراء الآخرين .
هذه المقدمة أجدها ضرورية جدا و بالذات في موضوع هذه المقالة الذي أبدأ فيه على عكس التيار و مغردا خارج السرب .
تأتي موافقة المجلس الاقتصادي الأعلى على استراتيجية التخصيص و التي تعتبر نقلة نوعية في مسيرة الإصلاح الاقتصادي و إعادة الهيكلة الاقتصادية ، وبالرغم من ذلك و في هذا السياق لابد من وقفة مع موضوع الخصخصة .
ففي عام 1418 هـ نشرت مقالتي في صحيفة المدينة (العدد 57421) بعنوان (الخصخصة وملاءمتها للبيئة السعودية ) مطالبا فيها بالتريث في تطبيق مفهوم الخصخصة في المملكة و في نفس الوقت دراسة المفهوم المعاصر للإدارة العامة و من ثم إجراء المقارنة بين النموذجين و اختيار الأفضل .
ثم أعدت الكرة مرة أخرى في مقالتي بعنوان ( أما آن أوان الاتعاظ أيها المطالبون بالخصخصة?) المنشورة في صحيفة المدينة العدد 11241 في 7/1/ 1422 هـ.
وسأسرد في مقالتي هذه وجهة نظري عن الخصخصة و أفصل القول على قدر ما يُتاح لي من مساحة.
سأستعرض أولا تاريخ الخصخصة و أهدافها الحقيقية ثم أناقش مبررات من يُطالب بالخصخصة في المملكة .
أولا - نبذة تاريخية عن الخصخصة:
يقول العرب ان من لا ماضي له لا حاضر له ، ويُجمع علماء الغرب على أنه حتى يمكن معرفة الحاضر فلابد من فهم الماضي الذي يعتبر سردا تاريخيا مملا ولكنه في منتهى الأهمية ، و عليه.. حتى نفهم الآثار السيئة للخصخصة - التي ظهرت في بريطانيا - على حقيقتها فلابد من معرفة جذور الخصخصة الحقيقية و ليس الدعائية, وهو الأمر الذي يتطلب دراسة التاريخ البريطاني منذ عام 1215 و حتى عام 1789 م عندما بدأ تبني فكرة الحكومة الوطنية (Strong Executive Authority and National Government).
بنشوء الحكومة الوطنية , انقسم البريطانيون إلى حزبين, حزب حاكم و آخر معارض . وقد تبادل الحزبان الحكم طوال هذه القرون وقد كانا يتنافسان على تحقيق مزيد من الرفاهية للمواطنين قدر المستطاع (Welfare State) . فكانت فرصة فوز الحزب في الانتخابات تعتمد بشكل جوهري على مدى المساعدات المالية التي ينوي تقديمها ونسبة الضرائب التي يزمع فرضها .
فعلى سبيل المثال فقد تنافس الحزبان على أيهما يدفع مزيدا من الإعانات الاجتماعية للمواطنين و على أيهما سيخفض الضرائب بنسبة أكبر . و بعد الحرب العالمية الثانية تنافسا على أيهما يدفع مزيدا من الإعانات على الخدمات العامة مثل الكهرباء و المياه و البريد و (لاحقا) الهاتف و أيهما سيخفض الضرائب بنسبة أعلى .
إن هذا التنافس بين الأحزاب الحاكمة زاد من حجم الإنفاق الحكومي من 52 % من إجمالي الدخل القومي GDP في عام 1946 إلى 25 % في عام 1970م.
إن هذه الزيادة المهولة في الإنفاق على الخدمات العامة بالإضافة إلى حركات التحرر من الإمبراطورية التي كانت لا تغيب عنها الشمس و ارتفاع نسبة البطالة و التضخم الاقتصادي فيها, أدت جميعا إلى أزمة مالية خانقة نتج عنها انخفاض الإيرادات العامة و بالتالي مزيد من الانخفاض في إجمالي المعونات التي يمكن تقديمها للخدمات العامة مما أدى إلى تدني مستوى جودة الخدمات العامة و صعوبة تطويرها .
و هو الأمر الذي كثيرا ما أدى إلى خروج الحزب الحاكم من السلطة وفوز المعارضة التي كانت تستغل نقص الإيرادات العامة و بالتالي إجمالي الإعانات في تأليب الرأي العام البريطاني على الحزب الحاكم واتهامه بإهمال تطوير الخدمات العامة و سوء إدارتها.
في عام 1969 م بالتحديد أصدر رائد علم الموازنة العالم أرون والدافسكي (Aaron Wildavsky) كتابه الشهير:الجوانب السياسية لإجراءات إعداد الموازنة (The Politics of the Budgetary Process) الذي قال فيه ) لا تطوير في توزيع النفقات بدون تغيير جذري في النظام السياسي (. و هو يقصد بهذا ضرورة إعادة تعريف دور و مهام الحكومة في المجتمع .
وفي غضون أشهر قليلة من تولي السيدة مارجرت ثاتشر رئيسة الوزراء البريطانية السلطة في عام 1979 م فكرت في التخلص من الخدمات العامة التي كانت تستغل من قبل المعارضة في تأليب الرأي العام تجاه حكومتها . و هو الأمر الذي يُثبت أنها فهمت اللعبة جيدا واستوعبت نصيحة العالم أرون والدافسكي و لكنها في نفس الوقت لم تكن تستطيع البوح بهذا السبب علنا فاستغلت ذكاءها والازدهار الاقتصادي الذي شهدته الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية بأن أعلنت عن نيتها بيع المرافق العامة و لكن لتحقيق العديد من الأهداف لعل من أبرزها ما يلي:
(1) مشاركة أكبر قدر ممكن من الشعب في امتلاك أصول الدولة , (2) مشاركة الجمهور البريطاني في قيادة بلده من خلال المشاركة في إدارة أهم المرافق العامة التي يحتاجها , (3) تطوير وتحسين الخدمات المقدمة و تسهيل الإجراءات الإدارية , (4) تخفيض الإعانات المقدمة لتلك الخدمات العامة بما يؤدي إلى خفض نسب الضرائب المفروضة على الشعب , (5) السماح للجمهور بالاستثمار في هذه الخدمات العامة بما يخلق مزيدا من المنافسة و بالتالي انخفاض الأسعار و خلق مزيد من الفرص الوظيفية .
هذه هي قصة الخصخصة في بريطانيا باختصار شديد .
و لكن بعد مضي عشرين عاما تقريبا بدأ الباحثون في تقييم هذه التجربة .
ثانيا: تقييم تجربة الخصخصة
في بداية التسعينيات الميلادية بدأت تتكشف بعض المشاكل مما دفع العلماء إلى تقييم تجربة الخصخصة فوجدوا ما يلي:
1 - أن الخصخصة أدت إلى ارتفاع في الأسعار غير مسبوق مما جعل بريطانيا أغلى بلد في أوروبا من حيث أسعار السلع و الخدمات.
2 - أن الكفاءة لم تتحسن كما كان مأمولا ( فعلى سبيل المثال كثرة حوادث القطارات) .
3 - أن نسبة الضرائب في تزايد مستمر.
4 - اعتماد الإيرادات العامة على الضرائب بأنواعها و عدم تعدد مصادر الدخل بالشكل الكافي .
و عليه بدأت تظهر أفكار جديدة للقضاء على مشاكل الخصخصة و تطوير المرافق العامة , فظهرت فكرة المفهوم المعاصر للإدارة العامة (New Public Management ) و سمي أيضا الخطوة التالية (Next Step) . ثم بدأ الباحثون في تطوير هذه الفكرة .و هناك العديد من الدراسات التي تنتقد الخصخصة و تشرح معنى المفهوم المعاصر للإدارة العامة منها على سبيل المثال ما يلي:
1- Fry, G. K. (8891), The Thatcher Government, The Financial Management Initiative, and The New Civil Service, Public Administration, Vol. 66, Spring, pp. 1-02.
2. Dunleavy, Patrick and Christopher Hood (4991), From Old Public Administration To New Public Management, Public Money and Management Journal, July-September, pp. 9-61.
3. Ferlie, Ewan, Lynn Ashburner, Louise Fitzgerald and Andrew Pettigrew (6991), The New Public Management In Action, Oxford: Oxford University Press.
إن مضمون المفهوم المعاصر للإدارة العامة يعني إدارة الأجهزة الحكومية باسلوب مشابه لذلك المستخدم في القطاع الخاص مع بقاء الملكية في يد الحكومة إن بقاء الملكية في يد الحكومة هو أحد أهم العوامل التي تفرق بين المفهوم المعاصر للإدارة العامة و الخصخصة التي تطالب ببيع المرفق العام بالكامل إلى القطاع الخاص.
ثالثا - مبررات تطبيق الخصخصة في المملكة
يطالب العديد من الباحثين و المفكرين في المملكة بتطبيق مفهوم الخصخصة و ذلك للأسباب التالية:
(أ) إعفاء الحكومة السعودية من تكاليف المرافق العامة و الحصول على إيرادات مجزية بدون تحمل أي عناء أو تبعات سوء الخدمة المقدمة .
بمعنى أنهم يعتقدون أنه يمكن بيع قطاع الاتصالات مثلا على المواطنين مقابل 21 مليار ريال (و هو مبلغ ضخم جدا يمكن استخدامه في سداد جزء من الدين العام ) و من ثم فرض رسوم على إيرادات الشركة المساهمة الجديدة (شركة الاتصالات) و قد بلغت في السنتين الأخيرتين ما يقرب من 7 مليارات ريال سعودي .
إنها فكرة ممتازة جدا بل هي خارقة فأربعة أو ثلاثة مليارات سنويا بدون جهد هو مبلغ خيالي .
و لكن دعوني أنظر أبعد من رأس أنفي قليلا مسترشدا بما حدث في بريطانيا .
ففرض ضرائب على شركات مساهمة مملوكة لرجال الأعمال يعني أنهم سيقومون بترحيل هذه الضرائب إلى المستهلكين , أي زيادة أسعار الخدمة المقدمة . فلنفرض أنه قد تمت خصخصة الاتصالات و الخطوط السعودية .
و قد قررت الحكومة فرض ضرائب على دخلهما بنسبة 5 % ، فان مساهمي الشركتين سوف يرحلون هذه الضرائب إلى المستهلكين من خلال زيادة أسعار الخدمات التي تُقدمانها .
إن هذه الزيادة سوف ترفع تكاليف أي منتج سعودي (بسكويت , جبن , أثاث , لبن , إسمنت , كهرباء ... الخ ) لأن كل المصانع تستخدم الهاتف و عدد كبير منهم يلجأ إلى شحن السعودية .
وبالتالي فإن زيادة أسعار السلع ستؤثر سلبا على دخل المواطن ، فكم منا حاليا سمع جملة (نستلم الراتب باليمين لندفع فواتير الأقساط والكهرباء و الهاتف و المياه بالشمال) .
إن هذا الوضع المالي قد لا يُرضي ولاة الأمر لذا فسوف يقومون بزيادة رواتب وأجور موظفي وعمال الحكومة .
بمعنى أن الذي استلمته الحكومة باليمين دفعته بالشمال في شكل إعانات أو زيادة في الرواتب و الأجور.
وبمجرد اعتماد هذه الزيادة فستقوم الحكومة بزيادة الضرائب على هاتين الشركتين لتغطية النفقات الأخيرة (الإعانات و زيادة الأجور) كما ستقوم الشركتان بزيادة أسعار خدماتهما بمناسبة الزيادة الجديدة في الأجور و الضرائب .
ثم تدور العجلة من جديد لنجد أنفسنا في دورة مستمرة لارتفاع الأسعار .
ثم ألم يفكر المطالبون بالخصخصة في مرحلة ما بعد النفط الذي إما أنه سينفد لا محالة أو أن يظهر بديل له كمصدر للطاقة .
عندها .. من أين يمكن للحكومة توفير إيرادات لها تكفي لتغطية نفقاتها الضرورية مثل نفقات قطاع الأمن ?
سوف لن يكون أمامها إلا فرض الضرائب على المستفيدين .
و لكن هل الجيل القادم سيتحمل ارتفاع الأسعار المتوقع بالإضافة إلى الضرائب لا سيما في ظل انخفاض الأجور و الرواتب بسبب التضخم المتوقع?
ثم هل الخصخصة تتفق مع الهدف الاستراتيجي للدولة المتمثل في تنويع مصادر الدخل? إن الضرائب على دخل القطاعات المزمع خصخصتها سوف تذهب كزيادة في الأجور والرواتب كما أوضحت أعلاه .
فماذا بقي للحكومة كمصدر للدخل?!
ثم إن كان الأمر يتعلق بتوفير إيرادات للحكومة و رغبة في سداد الدين العام فلماذا نعتمد على الخصخصة فقط ? آلا يوجد بديل آخر ?! إنني و باستخدام المفهوم المعاصر للإدارة العامة و في ثلاثة مقالات سابقة اقترحت توفير مبلغ 103 مليار و 123 مليون ريال سعودي ( انظر الرأي الاقتصادي , عكاظ في 15/2/ 1423 و03/1/3241 و 16/1/ 1423 هـ) .
فأيهما أحق بالتبني المفهوم المعاصر للإدارة العامة أم خصخصة قطاع الهاتف الذي سوف يعطي الحكومة 21 مليارات فقط?
إنني أكاد وأجزم أن المفهوم المعاصر للإدارة العامة إذا ما تم تبنيه رسميا و دُعم بالسلطة اللازمة فانه سيقضي بإذن الله تعالى على الدين العام في غضون عامين فقط , بل انه سيعفي الحكومة من موازنة بعض الأجهزة الحكومية مثل وزارة الحج .
(ب) يدعي المطالبون بالخصخصة أنها سوف تؤدي إلى رفع مستوى الخدمة و أداء الموظفين .
فأسألهم .. هل يستطيع أحد أن ينكر أن خدمات الهاتف حاليا قد تحسنت عما كانت عليه قبل ظهور شركة الاتصالات? ألا يمكننا الحصول على جوال بدفع مبلغ 200 ريال بدلا من 0000 1 ريال? ألا يمكننا الحصول الآن على أكثر من خط هاتفي ثابت في غضون ساعات ? و لكن هل تم بيع الشركة فعلا إلى المساهمين ? أبدا لم يبع أي سهم .
إذا إن تطوير الخدمة لا يرتبط ببيع المرفق العام بل بالإرادة والإصرار .
فلماذا تبيعها الدولة الآن و تُحرم خزانتها من ثاني أكبر دخل في المملكة ? لماذا تُحرم خزانة الدولة من 61 مليار أتمثل إيرادات تشغيلية وتكتفي بثلاثة أو أربعة مليارات كضرائب ستدفعها الحكومة لاحقا كإعانات وكزيادة في الأجور والرواتب?
(ج) قد يدعي البعض أن الخصخصة هي أحد أهم مطالب و شروط الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية .
ولهؤلاء أقول اننا نحن الأقوى بتطبيق المفهوم المعاصر للإدارة العامة و الذي سيجذب الاستثمار الأجنبي و الأموال السعودية المهاجرة على اعتبار أن المملكة تطبق أحدث المفاهيم العلمية المعاصرة و المطبقة حاليا في الدول الغربية .
(د) قد يعتقد البعض أن الخصخصة هي الموضة الحالية ولابد من مسايرة الموضة .
إن الفقرة ثانيا أعلاه توضح بما لا يدع مجالا للشك أن الموضة الحالية هي استخدام المفهوم المعاصر للإدارة العامة الذي يستخدم حاليا في كل من كندا , الولايات المتحدة الأمريكية , غالبية دول أوربا مثل بريطانيا و فرنسا , نيوزلندا , استراليا وجنوب أفريقيا. فلماذا نبدأ من حيث بدأوا و لا نبدأ من حيث انتهوا ? لماذا نتبنى أسلوبا تركته الدول في العالم الغربي ? هل نحن في حاجة إلى عشرين عاما لنكتشف عيوب الخصخصة التي اكتشفوها هم الآن ?
وكخلاصة فان الخصخصة أصبحت مفهوماً قديماً في العالم الغربي , وإنني أعتقد أنها غير ملائمة للمجتمع السعودي بل المفهوم المعاصر للإدارة العامة هو أكثر المفاهيم المعاصرة ملاءمة للبيئة السعودية .
د . طارق بن حسن كوشك
* أستاذ المحاسبة و المراجعة الحكومية المساعد
جامعة الملك عبد العزيز بجدة
tariqkoshak@hotmail.com
المفضلات