البحث عن "الإكسير" في أسواق المال ..!!
الجمعة 26 مارس 2004 08:52
علي بابان


إذا كان التاريخ ينقل لنا قصصا و حكايات عن علماء و فلاسفة أجهدوا أنفسهم للبحث (الإكسير) الذي يحيل المعادن و الأشياء إلى ذهب فأن نظرائهم المعاصرين فعلوا شيئا مشابها عندما بحثوا عن القوانين التي تفسر لهم تحركات السوق و تقلباته بحيث يحصدوا الأرباح بمجرد تطبيقهم لتلك القوانين و معرفتهم المسبقة بالتقلبات و الذبذبات.

منذ ظهور الأسواق المنظمة في العصر الحديث و بروز ما أطلق عليه (البورصات) أو (الأسواق المالية) و حتى زماننا هذا لم تتوقف الجهود و الدراسات للتوصل إلى معادلات أو قوانين تفسر حركات السوق ، علماء في الرياضيات و الإحصاء و إدارة الأعمال راقبوا الأسواق و أخضعوا ذبذباتها للدراسة و التحليل و في العصر الحديث دخلت أجهزة الحواسيب على الخط و أدخلت السلاسل الزمنية للأسعار التي كانت منذ عشرات السنين في تلك الحواسيب مع برامج ذات منهجيات متعددة لتحليلها ، كتب ألفت و نظريات ابتكرت و أشخاص أطلقوا على أنفسهم لقب (محللي منحنيات الأسعار ) و شركات عرفت نفسها بأنها تعطي النصائح و التوقعات للبائعين و للمشترين ، صار تحليل المنحنيات مادة تدرس في بعض الجامعات و ظهرت لها مصطلحاتها و تعريفاتها ،فهناك ( حواجز الدعم )فإذا ما هبطت أسعار عملة أو سلعة ما إلى مستوى معين فأنها تتلقى دعما عنده يمنعها من الانزلاق أبعد من ذلك فإذا ما كسرت ذلك الحاجز فأنها ستهوي إلى الأسفل حتى تلاقي حاجزا آخر ، و إذا ما صعدت سلعة معينة فأنها ستواجه حاجز مقاومة فإذا ما تغلبت عليه فأنها ستصعد أكثر حتى تصل الحاجز الذي يليه و يحدث نفس الشيء فإما قهر الحاجز و مواصلة الصعود و إما التقهقر إلى الوراء ، عندما تجلس وسط محللي السوق فأنك تسمع مصطلحات غريبة فبعضهم يتحدث لك عن (الشمعة ) و ما توحي به ، أما هذه الشمعة فليست سوى تقنية لتحليل الأسعار و فهم تقلباتها طورها اليابانيون ،و هناك العديد من المصطلحات التي ستسمعها و تستغربها .

وبالنسبة للسوق فأنه لم يصدق نظريات كل أولئك الذين صرفوا أوقاتهم و جهودهم للعثور على (الإكسير ) و كان له منطقة الخاص الذي يرفض البوح به لأحد ، لأنه لو عرف أحد بمنطق السوق لأصبح أثرى الأثرياء و لتعطل البيع أو الشراء في الدنيا كلها ، و لكن السوق أولئك المجتهدين بأقل القليل عندما صدق بتقلباته ما عثروا عليه من قانون التقلب بين الصعود و الهبوط دوريا ، ذلك القانون الذي يصح أن يلخصه من خلال استخدام أمثالنا العربية التي تقول ( ما طار طير و ارتفع إلا كما طار وقع ) فهذا المثل صحيح تماما في سوق المال فكل صعود ورائه هبوط وكل هبوط يمهد للصعود و لكن هذا القانون البدائي في سوق المال لا يمكن بأي حال أن يتحول إلى (إكسير ) لأنه من غير المعروف عند أي مستوى يتوقف الصعود و عند أي سعر ينتهي الهبوط و بالنتيجة فنحن لم نستفد عمليا من مثل هذا القانون.

كثيرا ما نسمع بمؤشر (داوجونز) ولا يعلم الناس أن ( داو) هذا كان من أشهر من درس ذبذبات الأسعار و كتب فيها و النتائج التي توصل إليها هي الأقرب إلى الدقة في الوقت الحاضر ، و هذا الباحث درس آلية السوق و أكتشف أن هناك خمس مراحل أساسية تتراوح بين الإقبال على الشراء عندما تكون الأسعار رخيصة ثم يؤدي هذا التهافت إلى ارتفاع السعر ثم يبدأ الناس بالإحساس بأن السعر أرتفع أكثر مما ينبغي عندها يحاول البعض البيع فتنخفض الأسعار ثم يقلدهم الآخرون فتنخفض انخفاضا شديدا و تنشأ حالة ذعر في السوق و يحدث انزلاق في الأسعار بعدها يشعر الناس بأن السعر أنخفض كثيرا فيقبلوا على الشراء مجددا و هكذا تستمر العملية وفق هذه الآلية ، داو هذا الذي فسر حركة السوق مات فقيرا و بعد وفاته تسلطت الأضواء على كتاباته ، و هنالك باحث آخر بنى نظريته للأسعار على طريقة مشي الرجل السكير أي المشي بطريقة عشوائية فالسكير عندما يعود لمنزله بعد أن ملأ جوفه بالكحول فأنه يصعد و ينزل و يمشي يمينيا و يسارا و بعض الباحثين وجدوا أن مسيرة الأسعار ليست سوى محاكاة لمسيرة السكير العشوائية .

في ميدان التحليل السعري تجد هنالك مدرستين مختلفتين و منهجيتين متنافرتين ...الأولى يطلق عليها ( التقنيون ) و هذه تركز على أن العوامل التقنية التي تحدثنا عنها سالفا و عندهم هي التي تحدد مسار الأسعار و تقلباتها ، و الثانية أصحابها هم (الأصوليون) أو (التقليديون) الذين لا يقيمون اعتبارا لغير العوامل الحقيقية في السوق من عرض وطلب و شائعات و قرارات و أسعار فائدة و صفقات و أخبار و معلومات و غيرها فهذه عندهم هي التي تحرك السوق بالفعل لأنها عوامل واقعية يضعها البائع و المشتري في حسابه و ليست منحنيات أو أشياء متوهمة ولا نقاط مقاومة أو مستويات دعم و غيرها ممن لا يعترفون بوجودها إلا على الورق .

وفي الواقع فأن السوق يرفض أن يبوح بأسراره لأحد كما يرفض أن ينصر أحد المنهجيتيين فهو تارة يصدق هذه و يكذب تلك و تارة يفعل العكس ، و الباحثون عن ( الإكسير) يجدون دائما الحجة لدعم منطقهم و تبرير توقعاتهم .

على الرغم من أنه لم يتحقق أي نجاح في إثبات أن هناك منهجية صالحة التفسير حركات السوق و بناء التوقعات عليها فأن المساعي لم تتوقف للعثور على ( الإكسير ) لدرجة أن مصرفا عالميا شهيرا ضمن المصارف العشرة الأولى عالميا وضع برنامجا لدراسة الذبذبات السعرية و خصص له الملايين و كرس له مجموعة من الباحثين و المبرمجين ثم انتهى البرنامج إلى لا شيء .

يبدو أن الإنسان يتعلق بالأحلام الجميلة حتى ولو كانت غير واقعية و هؤلاء الذين يبحثون عن قوانين تفسر لهم تقلبات الأسعار يكررون في الواقع صنيعة علماء الكيمياء الذين حاولوا تحويل المعادن إلى ذهب أو هم كمن يذهب إلى العراف ليقرأ له طالعه و ما ينتظره في المستقبل.


علي بابان

http://www.elaph.com.:9090/elaph/ara...90871050755100