اكبر افلاس في تاريخ امريكا



افلاس شركة الطاقة الامريكية "انرون" أدخل الجمهور الامريكي الى جدول يومي عاصف جديد، يمثُل فيه الرئيس بوش نفسه في قفص الاتهام. فبعد ان كشف الحزب الديمقراطي المنافس عن شبكة العلاقات الحميمة والمشبوهة التي تربط الرئيس بوش بمدير شركة انرون، كينت لي، بدأ الكونغرس التحقيق في ملابسات انهيار الشركة التي وصلت ديونها الى 31 مليار دولار، وسبّبت خسائر فادحة لعشرات آلاف المواطنين الامريكيين الذين استثمروا اموالهم فيها بعد عملية تضليل طويلة الامد.
الاتهام الرئيسي الموجّه للرئيس الامريكي هو اخفاء معلومات حول خسائر الشركة عن الجمهور. ولا تأتي هذه الادعاءات من فراغ، اذ ان بوش كان يُتهم اثناء ولايته لتكساس بتمثيل مصالح شركات الطاقة التي تتخذ من الولاية مقرا لها، على حساب المصلحة العامة للجمهور. مدير انرون نفسه، كينت لي، يعتبر من اهم الرموز في الولاية، ومن ابرز المؤيدين للرئيس الامريكي اذ تبرع لحملته الانتخابية بمبلغ 550 الف دولار، كما تبرع ايضا لوزير العدل الامريكي جون اشكروفت الذي تنافس على منصب نائب في الكونغرس.
ان افلاس شركة بضخامة انرون وتشابك علاقاتها مع رجال السياسة، لا يعتبر حدثا عابرا او مماثلا لانهيارات شركات امريكية ضخمة اخرى، بل يكشف الوجه القبيح للنظام الامريكي الذي يفاخر بديموقراطيته بينما يعمل على اخفاء الحقيقة عن الجمهور، ويترك لرأس المال صلاحية ادارة الدولة من خلال شراء الحكم والتأثير على سن القوانين التي تلائم مصالحه الاقتصادية الضيقة.
ورغم سعي الديمقراطيين في الكونغرس لفضح العلاقة السياسية بين رؤوس الاموال وقيادة الحزب الجمهوري، الا ان البعد الاقتصادي يكتسب بلا شك اهمية قصوى لانه يكشف هشاشة النظام الرأسمالي وميله للانهيار. انرون لم تكن شركة لتوزيع الطاقة (الغاز والكهرباء) فحسب، بل كانت من رموز الاقتصاد الحديث، وتحولت الى واحدة من اكبر واهم الشركات في الولايات المتحدة بعد ان احتكرت 20% من سوق الطاقة الامريكية.
اجراءات الحكومات المتعاقبة خلال التسعينات التي استهدفت الغاء الرقابة على الاسعار وتوليد الطاقة، اثرت بشكل مزدوج على الشركة. فهي من جهة اطلقت لها العنان للنمو دون قيود، ولكنها من جهة اخرى ادت لانهيارها كنتيجة مباشرة لعدم وجود مثل هذه الرقابة والفحص الدقيق لنشاطاتها الاقتصادية.

كيف يعمل الاقتصاد الحديث؟

لمن اراد فهم اصول الاقتصاد الحديث تعتبر قضية انرون درسا مفيدا. الاعتماد على التكنولوجيا المتطورة، والنقل السريع للمعلومات من خلال شبكة الانترنت، وخلق قيمة جديدة من خلال تطبيق اساليب جديدة في مجال التجارة، هي الشعارات التي يحاول من خلالها اصحاب الاقتصاد الحديث الترويج لبضاعتهم. ويضلل هؤلاء عامة الناس من خلال جرّهم لاستثمار اموالهم التي في صناديق التوفير والتقاعد، في شراء اسهم شركات ترتفع قيمتها بنسب خيالية وفي فترة زمنية قياسية، الامر الذي يحقق لصاحب الاسهم ثروة طائلة دون مجهود وفي وقت قصير، هذا بالاضافة لاعطائه الحس انه في الواقع واحد من اصحاب الشركة.
قد يكون هذا السيناريو صحيحا في الافلام، او الاحلام، ولكنه بعيد عن الحقيقة بعد الثرى عن الثريا. ان سر نجاح انرون لم يكن استخدامها للتكنولوجيا المتطورة، بل اعتمادها على اساليب تقليدية جدا: شراء صُنّاع القرار السياسي من خلال التبرعات السخية. وفي امريكا التي بلغت فيها الحملة الانتخابية للرئاسة نحو 50 مليون دولار، اصبح أي مرشح سياسي مضطرا لتكوين علاقات مع رجال المال والاعمال حتى يكون بمقدوره خوض المعركة الانتخابية.
من خلال شراء السياسيين الذين يتحكمون بسن القوانين، تمكّنت انرون من قيادة حملة عنيفة جدا في الكونغرس، استهدفت الغاء الرقابة في مجال صناعة الطاقة وخلق المناخ المناسب لتمكين الشركة من جني الارباح دون منافسة. ويمكن القول ان مصطلح المنافسة الحرة الذي ينسجم مع الديمقراطية والحريات التجارية فقد في الاقتصاد الحديث معناه، واستبدله الاحتكار الذي يتحكم به عدد قليل جدا من الشركات التي تتمتع بنفوذ في الكونغرس. النموذج المثير على اتساع نفوذ هذه الشركات هو ذلك الذي اوردته صحيفة "نيويورك تايمز" (13/1) التي نقلت ان مدير شركة انرون قدم لادارة بوش قائمة باسماء الشخصيات التي يفضل هو شخصيا ان يتولوا مناصب معينة في لجنة الرقابة الفيدرالية في مجال الطاقة.
ولكن لا يكفي شراء الساسة للحصول على التسهيلات القانونية المطلوبة، بل من المهم جدا ان تشغّل الشركة لديها واحدا من نجوم المضاربة في بورصة وول ستريت يكون مقربا من شركات الاستثمار الضخمة التي تسوّق اسهم شركات مثل انرون في اسواق المال. فمن المهم ان يوصي "المحللون" الاقتصاديون في هذه الشركات الجمهور باستثمار امواله في شركة معينة، بادعاء ان ادارتها قوية ووضعها المالي متين لا غبار عليه. وفي حالة زيادة الطلب على شراء هذه الاسهم ترتفع قيمتها وترتفع بالتالي ارباح شركات الاستثمار التي تبيعها. هذه المصلحة المشتركة تجعل شركات الاستثمار، مثل رجال السياسة، موالية للشركات وليس للجمهور الذي تقدم له النصح في كيفية توظيف امواله.
من الرموز الهامة في وول ستريت اختارت شركة انرون ان تشغّل سكيلينغ في منصب اداري رفيع. سكيلينغ الذي يتبنى افكار الاقتصاد الحديث مقتنع بان القيمة الفائضة لا تتحقق بالصناعة او الانتاج بل بالتداول السريع للبضائع. ومن هنا جاءت المبادرة لتأسيس شركة "انرون اون لاين" (Enron online) للمتاجرة بالغاز والكهرباء من خلال الانترنت، الامر الذي منحها افضلية على الشركات التقليدية المنافسة.
ومن المنظور الجديد لم تعد الطاقة او الكهرباء امرا حيويا وضروريا، وحتى استراتيجيا، بل بضاعة مثلها مثل الخشب او التأمين، دورها ان تحقق الارباح للشركات التي تتاجر بها. ومهّد هذا المفهوم لتطبيق فكرة سكيلينغ حول خروج انرون من مربع الاستثمار في الطاقة فقط، والتوسع لمجالات اخرى لا تفهم فيها، مثل التأمين وصناعة الخشب، فكلها بضائع.
وما كانت مشاريع سكيلينغ لتتحقق وتصل الهند وامريكا اللاتينية، لولا ان فاستاو، مديرا آخر في انرون، قام بتأسيس شركات صغيرة تابعة لانرون دورها التغطية على الخسائر التي سبّبتها مغامرات السيد سكيلينغ. فقد سُجّل قسم من ديون انرون وخسائرها باسم الشركات التابعة لها، وذلك لتتمكن من الاعلان عن موازنة سنوية ايجابية جدا، وتضمن بذلك ارتفاع قيمة اسهمها في البورصة.
بعد ان ضمنت انرون لنفسها السياسيين ثم المسوّقين في البورصة، كان عليها ان تكسب لصفها مكتب المحاسب اندرسون، احد اهم مكاتب المحاسبة في الولايات المتحدة، وذلك للحصول على ثقة الشركات التي تبيعها الطاقة وثقة الجمهور بشكل عام. ولقاء مليون دولار اسبوعيا (52 مليون دولار سنويا) عمل اندرسون على التستر على العمليات غير القانونية التي تقوم بها انرون، وتغاضى عن وجود الشركات التابعة لها عندما وقع على ميزانية الشركة. وبعد ان استدعى الكونغرس اندرسون للتحقيق معه في القضية، قام بتمزيق وحرق كافة الوثائق ذات الصلة.

الرابح والخاسر

ما يغضب اليوم الرأي العام الامريكي ان المسؤولين في انرون اجروا اتصالات مكثفة خلال العام الماضي مع مسؤولين في الادارة الامريكية، منهم نائب الرئيس تشيني ووزيري المالية والتجارة اونيل وايفانس، واعلموهم بالوضع المالي الحقيقي للشركة. شخصيات مهمة في البورصة علمت هي الاخرى بان انرون تمر بصعوبات مالية حادة، ولكن الجميع التزم الصمت ولم يطلع الجمهور الذي يستثمر ماله في هذه الشركة على الحقيقة.
ولم تقتصر الجريمة على عدم قول الحقيقة للجمهور، بل اهتم 29 مسؤولا في انرون بانقاذ انفسهم قبل افلاس الشركة، وباعوا اسهمهم فيها بقيمتها العالية التي تراوحت بين 31-86 دولارا في حين يصل اليوم سعر السهم الى 70 سنتا. من خلال بيع 17,3 مليون سهم في الفترة بين عام 1999 واواسط عام 2001، حقق هؤلاء المسؤولون ارباحا وصلت الى 1,1 مليار دولار. بينهم كان المدير نفسه، كينت لي، الذي حصد اكثر من 30 مليون دولار.
واذا كان مدراء انرون قد نجحوا في تحقيق الارباح حتى في حالة الافلاس، فان عمال وموظفي الشركة الذين يبلغ عددهم 21 الفا، وجدوا انفسهم في كارثة حقيقية. فمن جهة فقدوا اماكن عملهم دون انذار مسبق، ومن جهة اخرى فقدوا مخصصات التقاعد بعد ان اجبرتهم الشركة على استثمارها في شراء اسهمها بالبورصة. لقد دفعت الشركة عمالها للاستثمار في شركتهم على اعتبار انها الشركة الاكبر والاهم في الاقتصاد الامريكي الحديث، ومن لم يعترف بهذا الانجاز اعتبر خارجا عن القاعدة.
ولكن كما اتضح اخيرا، لم يكن هذا اقتصادا حديثا بل فسادا قديما. ان انهيار انرون هو نتيجة مباشرة للركود الذي يمر به الاقتصاد الامريكي. وقد كان المفروض ان يتغلب الاقتصاد الحديث على المد والجزر الذي يميز الاقتصاد الانتاجي القديم. ولكن اتضح ان الاسلوب الاقتصادي الحديث الذي حرر الاحتكارات الضخمة من الرقابة والقيود، وقضى بذلك على الشركات المتوسطة والكبيرة، قد زاد في الواقع من حدة وعمق الازمة الاقتصادية.
ان الحرب التي اطلقتها امريكا على الارهاب العالمي، لا يمكن ان تحل المشاكل البنيوية الداخلية للنظام الرأسمالي الذي بات يواجه فسادا سياسيا ومرضا اقتصاديا وسياسة خارجية خاطئة تغرق الدول النامية في مزيد من الديون وتقودها لمزيد من الحروب. ان انفجار فقاعة الاقتصاد الحديث يثبت ان هذا النظام استنفذ خياراته وفقد قدرته على التجديد والتغيير والحد من تدهوره نحو الزوال.