ركود الاقتصاد الامريكي دمار شامل

هناك من يقول ان خفض الفائدة بشكل حاد قد يُفهم على انه اشارة من البنك المركزي الامريكي بان الاقتصاد ليس في هبوط موسمي بل يعاني ركودا مزمنا، الامر الذي قد يؤدي لانهيار البورصة الامريكية. ولا يعرف احد ما العمل لوقف التدهور الخطير، لا الساسة ولا الاقتصاديين.




الهبوط الحاد في اسعار الاسهم في بورصة نيويورك، صار الاتجاه الغالب منذ مطلع العام الحالي. مؤشر "ناسداك" الذي تُداوَل فيه اسهم شركات الانترنت والصناعات الالكترونية، فقد 60% من قيمته منذ آذار (مارس) 2000 بعد ان هبط من خمسة آلاف نقطة الى اقل من ألفي نقطة. ولا يقتصر هذا الهبوط على الشركات الالكترونية فحسب، بل يشمل ايضا مؤشر "داو جونز" الذي تُداول فيه اسهم شركات اكثر رصانة مثل شركات صناعة الطيران، الكيمياء، الادوية والاغذية. وقد اعلنت هذه الشركات عن خسائر متوقعة في الاشهر القادمة الامر الذي انعكس في فصل الآلاف من العمال.
ويستغل الرئيس الجديد، جورج بوش، الازمة في البورصة، لتكثيف حملته الرئيسية الساعية لإحداث تقليص في الضرائب بقيمة 1,6 الف مليار دولار خلال السنوات العشر القادمة. (راجع الصبّار 7/3). ويدّعي الرئيس الامريكي ان التقليص في الضرائب سيساعد على إنعاش الاقتصاد الامريكي، لانه يبقي بحوزة الجمهور سيولة اكبر تشجعهم على الاستهلاك والاستثمار. غير ان الكثير من الساسة والمراقبين ينتقدون هذه السياسة، ولا يرون ان في وسعها انقاذ الاقتصاد في الفترة القصيرة القادمة. كما ان الحديث الدائم عن امراض الاقتصاد الامريكي، يثير مناخا من التشاؤم ويعرقل عملية الاستثمار في البورصة الامريكية.
ومع اقتراب الاجتماع القادم لمجلس الاسواق المفتوحة التابع للبنك المركزي الامريكي، زادت التكهنات حول النسبة التي ستنخفض اليها الفائدة البنكية، في محاولة للجم الازمة العميقة لاسعار الاسهم في البورصة. من جهة اخرى، يدور نقاش حاد في امريكا حول مدى قدرة البنك المركزي على انقاذ الاقتصاد من خلال خفض نسبة الفائدة. ففي ازمة من هذا النوع ليس اكيدا ابدا ان يساهم خفض الفائدة في تشجيع الاستثمار، نظرا للانكماش المستمر في الطلب على المنتجات. وهناك من يقول ان خفض الفائدة بشكل حاد قد يُفهم على انه اشارة من البنك المركزي بان الاقتصاد ليس في هبوط موسمي وطبيعي، بل يعاني ركودا مزمنا، الامر الذي قد يؤدي لانهيار البورصة الامريكية.
وكما ان لا احد يعرف ما العمل لوقف التدهور الخطير، لا السياسيين من خلال تقليص الضرائب ولا الاقتصاديين من خلال خفض الفائدة، كذلك لا يستطيع احد ان يشير بشكل دقيق للسبب الذي ادى الى هذه الازمة، الامر الذي يعيق امكانية معالجتها. فاذا حدّدنا ان السبب الرئيسي للازمة الحالية هو انفجار فقاعة الاقتصاد الحديث المعتمد على المضاربة في الاسهم، والتي وصلت قيمتها لنسب غير معقولة، لكان بالامكان التكهّن بان هبوط الاسهم الى قيمتها الحقيقية سيؤدي لارتفاع مجدد، ولكن معتدل، في البورصة.
ولكن الملاحظ ان هذا الهبوط الدوري الناجم عن ارتفاع اسعار الاسهم فوق القيمة الحقيقية للشركات، والمؤسس على توقعات مبالغ فيها حول قدرة شركات الانترنت على اكتساح السوق وجني الارباح السريعة، قد انتقل من مؤشر ناسداك الذي اغرى معظم المستثمرين، الى مؤشر "داو جونز" الذي، كما اسلفنا، يمثّل شركات الاقتصاد القديم. ويعني هذا ان المشكلة اكثر عمقا من ان تحل بطرق اصطناعية، لان الهبوط نابع من تراكم حقيقي للبضائع في مخازن الشركات، بعد انخفاض الطلب على العرض، الامر الذي يشير بوضوح لركود اقتصادي عام.
في هذا المجال لا بد من ايضاح العلاقة الجدلية بين الاقتصاد القديم والحديث. فالمشاكل التي تعاني منها الشركات الضخمة في مجال السيارات او الملابس وحتى الإعلام، ليست جديدة وارباحها لا تعكس حجم الاستثمارات الضخمة فيها. وقد كان هذا السبب الاساسي الذي دفع المستثمرين للسعي وراء مجالات جديدة للاستثمار الذي يهدف الى جني الارباح السريعة الضخمة. وهذا ما قدمته شركات الانترنت المعتمدة على الاختراعات والتي لا تضطر للانفاق على الايدي العاملة والمواد الخام والماكينات التي تقلص نسبة الارباح.
الارتفاع المصطنع (2%-5% يوميا) والمستمر في قيمة اسهم الانترنت جذب الجمهور الامريكي الواسع المنتمي للطبقة الوسطى للاستثمار في البورصة. وكان من الواضح ان هذه النسب لا تمثّل النمو الحقيقي للشركات، ولكن المضاربة في الاسهم زادت حجم السيولة في ايدي الجمهور الامريكي، الامر الذي شجع الاستهلاك المحلي. وقد استهلك الجمهور الامريكي في السنوات الخمس الاخيرة المزيد من السيارات والادوات المنزلية والكمبيوترات، الامر الذي ضاعف ارباح الشركات الصناعية الكبرى، وهدد في الوقت نفسه بالتضخم المالي بسبب زيادة الطلب على العرض.
المشكلة كانت ان هذا الاستهلاك لم يموَّل بنقود من العمل او الانتاج، بل بنقود من المضاربة في البورصة، الامر الذي ادى الى نمو اقتصادي اصطناعي كان لا بد ان يوضع له حد. هذا الحد وضعه رئيس مجلس الاحتياط الفدرالي (البنك المركزي) الامريكي عندما رفع نسبة الفائدة، واعترف بان سياسة السوق الحرة والاقتصاد الحديث اوصلا الاقتصاد الامريكي الى حافة الازمة الاقتصادية. ورغم محاولات البنك المركزي لجم النمو المصطنع، فقد تبين ان النواقص كبيرة جدا لدرجة فتحت مرحلة من الركود افقدت البنك المركزي القدرة على التحكم بالامور من خلال خفض نسبة الفائدة من جديد لاعادة انعاش الاقتصاد المريض.