الركود الامريكي يهز الاقتصاد العالمي



أعلنت وزارة التجارة الامريكية في تقرير نشرته في 27/7، ان نسبة النمو السنوي في الاشهر نيسان وايار وحزيران بلغت 0,7%، الامر الذي يشكل اكثر النسب انخفاضا منذ عشر سنوات. بكلمات اخرى، يشير التقرير الى ان الاقتصاد الامريكي يمر وضعا من الركود رغم كل محاولات الحكومة والبنك المركزي الامريكي احتواء الوضع من خلال الاعفاءات الضريبية والتقليص المستمر في نسبة الفائدة.
معظم الاقتصاديين الامريكيين يعترفون ان الاقتصاد الامريكي يمر اليوم في ادق مراحله منذ عام 1993، ولكنهم يعزون انفسهم بان الشركات الصناعية تأقلمت بسرعة مع الواقع الاقتصادي الصعب ومع متطلبات السوق، فقلصت الانتاج وبدأت التخلص من المنتجات المخزنة في المستودعات، على ان تتم العودة للانتاج بعد فروغ المستودعات، تبعا لحاجة السوق.
ولكن الواقع الاقتصادي يشير الى تطورات عكسية، ولم تفلح التدابير المختلفة التي استخدمت لاحتواء الركود في الاثمار عن النتائج المرجوّة. ورغم خفض نسبة الفائدة الا ان البورصة الامريكية لم تنتعش بعد، مما يصعب على الشركات تجنيد رأس المال الضروري لتطوير مشاريعها. من جهة اخرى كان متوقعا ان يؤدي خفض نسبة الفائدة الى هبوط في قيمة الدولار مقابل اليورو الاوروبي والين الياباني، مما كان سيسهم في تشجيع التصدير الامريكي للاسواق العالمية، ولكن النتيجة جاءت عكسية، اذ هبطت قيمة اليورو مقابل الدولار، واصل الين الياباني هبوطه الحاد.
ان ظاهرة الدولار القوي نابعة من الضعف الذي بدأ يصيب الاقتصاد العالمي. احد الاقتصاديين الامريكيين شرح الامر لصحيفة "نيويورك تايمز" (8/7) بالقول: "الاجانب يدركون انه اذا واجهت الولايات المتحدة مشاكل، فبلدانهم ستواجه مشاكل اصعب، لان امريكا هي المحرك العالمي للتنمية. ان تملك الدولار، وليس انفاقه، يعتبر استثمارا جيدا، وهذا ما يعيق امكانية بنك الاحتياط الفيدرالي اعادة تحريك الاقتصاد الامريكي".
واستنتجت صحيفة "وول ستريت جورنال" (12/4) ان الادارة الامريكية تخشى هبوط قيمة الدولار. وتعقد الصحيفة هذه المقارنة بين وضعي الدولار ومؤشر الاسهم ناسداك قبل انهياره، فتقول: "الدولار يشبه مؤشر ناسداك قبل عام، فهو يرتفع بسرعة لدرجة ان السؤال الوحيد الذي يطرح هو متى سيهبط وباية سرعة؟ المالية الامريكية تفضل الدولار المستقر والمنخفض بعض الشيء، ولا تريد انهيار قيمته. ولكن، لا احد يعرف كيف يمكن الحصول على النتيجة الاولى الايجابية، دون المخاطرة في حدوث النتيجة الثانية السلبية".
ولا يدل الدولار القوي على صلابة الاقتصاد الامريكي، بل على الضعف الكبير الذي اصاب الاقتصاد العالمي المتأثر بما يحدث في امريكا. وقد فتحت صحيفة "واشنطن بوست" (18/7) مقالها الاقتصادي بالكلمات التالية: "الآن اصبح الامر رسميا: الهبوط الاقتصادي الذي بدأ السنة الماضية في قطاع الصناعة والتكنولوجيا في الولايات المتحدة انتشر ليشمل العالم كله، وخلق هبوطا متزامنا للمرة الاولى منذ عقد من الزمن".
ويثير هذا التطور قلق زعماء العالم اجمع، وذلك بعد الازمة الاقتصادية التي اصابت دول شرق آسيا وانتقلت عدواها الى روسيا والبرازيل بين العامين 1997 و1998. في تلك الفترة لعب الاقتصاد الامريكي المزدهر دور المستهلك للمنتجات الخارجية، الامر الذي ساهم في احتواء الازمة العالمية، ولكن بشكل مؤقت فقط. والآن اصيب الاقتصاد الامريكي بنفس الامراض التي عانى منها الاقتصاد العالمي، الامر الذي يمنعه من لعب دور المنقذ العالمي مرة ثانية ازاء ازمات اقتصادية حادة مثل التي الواقعة في الارجنتين وتركيا.
ويحصي المختصون الاقتصاديون الامريكيون ثلاثة اسباب رئيسية لانتشار الركود الامريكي لبقية انحاء العالم. السبب الاهم هو ارتفاع نسبة التجارة العالمية من الانتاج العالمي، فقد تضاعفت عما كانت عليه عام 1970 لتصل الى 25% من الانتاج. ويقول احد هؤلاء المختصين لنفس الصحيفة ان "العالم اصبح متعلقا اكثر من اللازم بالاقتصاد الامريكي"، الامر الذي يعيق امكانية امريكا تصدير ازمتها للخارج، من خلال خفض قيمة الدولار وتشجيع صناعاتها المحلية.
السبب الثاني هو عولمة الاستثمار. ففي الماضي استفاد المستثمرون الكبار من امكانية الاستثمار في كل انحاء العالم والمضاربة في الاسهم، وادت الازمات في بورصات العالم المختلفة للاضرار بمصالح شركات الاستثمار، الامريكية منها تحديدا. ويتعلق السبب الثالث بالطبيعة المتعددة الجنسيات للشركات، ففي حال وقوع مشكلة في احد فروع الشركة في مكان معين، فانها تلجأ لاجراء تقليصات واسعة تشمل مجمل البلدان التي تنشط فيها دون استثناء.
المشكلة الاساسية التي سبّبت الازمة الاقتصادية الراهنة هو الهبوط الحاد في نسبة ارباح الشركات المتعددة الجنسيات، والذي ادى بالتالي الى هبوط في قيمة الاسهم في الاسواق العالمية. ومن تبعات العلاقة بين الاسواق ان الركود الاقتصادي المزمن في اليابان والمستمر منذ عقد تقريبا انتقل ليعم المانيا ايضا التي تعتبر اهم اقتصاد في السوق الاوروبية.
لتخطي هذه الازمات تقوم الشركات الكبرى بتسريح عشرات آلاف العمال في شتى انحاء العالم. وقد ارتفعت البطالة في المانيا خلال الاشهر الستة الاخيرة ووصل عدد العاطلين عن العمل في شهر حزيران الى 3,6 مليون شخص، ويتوقع ان تصل نسبة البطالة في بداية العام القادم الى 9,8%، بينما سترتفع نسبة البطالة في مجمل السوق الاوروبية من 8,3% الى 8,5% في نفس الفترة. في امريكا نفسها اعلنت وزارة العمل الامريكية في 27/7 عن 2.081 حالة فصل جماعي في حزيران مقابل 1.426 حالة في ايار. الفصل الجماعي حسب هذا الاحصاء هو كل فصل يشمل اكثر من 50 مكان عمل.
الحقيقة ان الاقتصاد الرأسمالي وصل الى طريق مسدود لانه يعاني من مرض مزمن يندلع بشكل موسمي بدرجات متفاوتة من الخطورة، وهو مرض "الانتاج الفائض" الناجم عن تشبع الاسواق وعدم قابليتها لاستيعاب انتاج اضافي، ويعني هذا زيادة العرض على الطلب ما يؤدي لخفض الاسعار وضرب الارباح. وليس هذا المرض بظاهرة جديدة بل اشار اليها المفكر الكبير كارل ماركس قبل اكثر من 150 عاما عندما تنبأ بانهيار هذا النظام الذي يهدد البشرية كلها بالزوال.
لقد فشلت التدابير التي اتخذتها الادارة الامريكية في انعاش الاقتصاد الامريكي، لان المشكلة لا تكمن في النقص برأس المال بل بالعكس. فهناك اليوم كميات هائلة من الاموال التي لا تجد مجالات كافية للاستثمار، ويوجه معظمها نحو المضاربة بالاسهم والعملات، الامر الذي اوصل بورصات العالم الى شفا الانهيار بعد ان اتضح ان قيمة الاسهم لا تعبر عن القيمة الحقيقية لاداء الشركات.
لقد ساهمت العولمة في زيادة ارباح الرأسماليين بوتيرة متسارعة، ادت الى فقر ومعاناة ومآسٍ لم تعرفها البشرية من قبل. ولكن يتضح اليوم ان نفس العولمة الاقتصادية تحولت بنفسها الى حجر عثرة امام النظام الرأسمالي، ومن الممكن ان تتحول الى قبر له بعد ان وصلت الازمة الى قلب النظام وهي الولايات المتحدة الامريكية نفسها.