المصدر : الدكتور وليد عرب هاشم
عندما نتحدث عن الإنتاج فإن الفرد العادي يتصور أن الانتاج هو مثل أخذ بذور , وزرعها في أرض , واستخراج محصول القمح أو الشعير أو خلافه, فالإنتاج بصفة عامة يعطي انطباعا بأنه نشاط مفيد يتم من خلاله تحويل مواد خام مثل الأرض والماء والشمس مع البذور ومع جهد من البشر لنستخرج شيئاً مفيداً مثل القمح أو الشعير أو خلافه.
ويندرج أيضاً تحت هذا الانطباع معظم المصانع التي تأخذ مواد خام كالخشب والحديد والفحم , وتستخدم آلات ومعدات, ونجتهد كبشر في هذه المصانع - سـواء كنا عمالا أو مديرين - لنحول الحديد والفحم الى صلب ننشيء منه العمائر , ونحول النفط الخام الى بلاستيك , وثم الى أقمشة , وألعاب , وكراسي , وطاولات , وخلافه من سلع مفيدة للبشر.
الانتاج فعلاً يشمل كل هذه الأنشطة والعمليات , كما يشمل غيرها من عمليات مفيدة كإنتاج الأدوية , وتحلية المياه, وتوفير الكهرباء , وجميعها منتجات أساسية وليست فقط مفيدة للبشرية , ولكن للأسف فإن تعريف الانتاج في الاقتصاد لا يقتصر على هذه الأمثلة من منتجات مفيدة , بل أنه لا يتطلب أن يكون المنتج الذي ننتجه هو شيء مفيد أصلاً.
فمصانع التبغ والمزارع التي توفر لها المادة الخام تعتبر في الاقتصاد عمليات إنتاجية , وكل من يعمل في هذه الصناعة من مزارعين الى عمال الى موزعين للسجائر يعتبرون منتجين , وبغض النظر عن أن ما ينتجونه هو سم قاتل - وإن كان يقتل ببطء - بحيث يمر مدمن التدخين على مراحل طويلة من المتعة أولاً , ثم العذاب , وينتهي بالموت بسبب التدخين.
بالرغم من أن صناعة السجائر بكافة مراحلها تعتبر صناعة سموم إلا أنه مع ذلك يتم حساب جميع هذه المراحل في الاقتصاد , كمراحل انتاج , وتضاف الى الناتج القومي , وكلما زادت هذه العمليات فإن إنتاجنا - من المنظور الاقتصادي - يزيد , ونعتبر أن إقتصادنا قد تحسن بالرغم من أنه في الحقيقة نحن تراجعنا , وسوف نتكبد خسائر كبيرة في المال, والأرواح بسبب صناعة سموم التدخين.
علم الاقتصاد عندما يحسب الانتاج فإنه لا يفرق بين ما هو مفيد وما هو مضر , وليس فقط يدخل ضمن الانتاج صناعة سموم التدخين, وإنما يدخل أيضاً مصانع الأسلحة - سواء كانت أسلحة خفيفة كرصاص ومسدسات أو أسلحة بيولوجية - كأمراض وأوبئة في شكل فيروسات وجراثيم, أو أسلحة كيمائية في شكل سموم تشل الأعصاب وتقتل البشر, أو حتى أسلحة دمار شامل , هذه جميعها عمليات إنتاجية من وجهة نظر الاقتصاد.
الإنتاج في الاقتصاد يعتمد على شيء واحد فقط ; وهو هل يتم تلبية طلب الفرد أم لا ? فإن كانت العملية التي يتحدث عنها تساهم في تلبية طلبات المستهلكين - أو حتى مستهلك واحد - فإنها تعتبر عملية إنتاجية بغض النظر عما إن كانت مفيدة أو مضرة , إما إن لم تساهم هذه العملية في تلبية طلب أي مستهلك فإنها لا تعتبر عملية إنتاجية.
الإنتاج ''انتهى''
الإنتاج في الإقتصاد يشمل أي عملية تساهم في إشباع رغبات المستهلكين, أو رغبة مستهلك واحد, بالتالي فإن الإنتاج في الإقتصاد ليس له علاقة بموضوع الفائدة, أو المصلحة, فنحن كإقتصاديين نعتبر أن أي شيء يلبي رغبات البشر يعتبر إنتاجاً حتى لو كان في شكل إنتاج سموم كالسجائر, أو أدوات دمار كالقنابل, فالإنتاج في الإقتصاد قد يكون مضرا من الناحية الصحية أو الإنسانية, ومع ذلك يعتبر انتاجاً. الشرط الرئيسي للإنتاج في الاقتصاد هو إشباع الرغبة - بغض النظر عن مصدر هذه الرغبة أو أسبابها - فلو على سبيل المثال أتينا بقطعة قماش بيضاء ووضعنا عليها أشكالا وألوانا ليس لها أي علاقة بالواقع, ولا تمثل لمعظمنا سوى فوضى أو شخبطة أطفال, ولكن إن وجدنا أن هناك شخصاً شيئا واحداً فقط يرى في هذه اللوحة شيئا جميلا, ويستمتع برؤيته, وله رغبة وقدرة على دفع مال مقابل إقتنائها فإن هذه (اللوحة) تعتبر في علم الاقتصاد إنتاجاً, والشخص الذي قام بشخبطتها يعتبر منتجاً. وهكذا يجب أن نكون حريصين عندما نستخدم إحصائيات الانتاج في إقتصاديات الدول, لأن هذه الاحصائيات تشمل إنتاج ما هو مفيد كالسيارات, أو القمح, ولكنها أيضاً تشمل إنتاج ما هو مضر كالسجائر أو الخمور, وتشمل إنتاج ما قد لا يكون له فائدة أو ضرر.
ومن الملاحظ أنه كلما تطور الاقتصاد, وكلما ارتفعت مستويات الدخول, وجدنا أن الانتاج يتجه أكثر الى ما هو مضر أو الى ما هو غير ذي فائدة, ليتحمل نسبة أكبر من إجمالي العمليات الانتاجية. فالدول الفقيرة بالكاد تستطيع أن تنتج ما يقابل إحتياجاتها من الطعام أو السكن أو الملابس, ولكن الدول الغنية تنتج عشرات أو مئات المليارات من أسلحة الدمار, ومن السموم, كالدخان, أو الخمور, ومن السلع التي لا نرى فيها أي فائدة للبشرية, ومنها على سبيل المثال عشرات المليارات التي يتم صرفها على طعام (ولباس) الحيوانات الأليفة كالقطط, والكلاب, بل أن هناك مستشفيات - ومنها مصحات نفسية - للقطط والكلاب, وتوجد لها أيضاً فنادق ذات خمس نجوم, بالتالي يجب أن نكون حريصين عندما نقوم بإستخدام إحصائيات الانتاج, فتعريفها الاقتصادي قد يختلف كثيراً عما نتوقع أو نعتقد.
المفضلات