تمثل المكاتب والمراكز التي تقدم الدراسات العلمية والاستشارات الاقتصادية والإدارية والخطط الاستراتيجية والاستشارات القانونية واحدة من أهم مؤسسات التطوير التنموي في معظم دول العالم وبخاصة الدول الصناعية التي تعتمد كثيراً على مثل تلك المراكز التي تتخصص في مجالات البحث والدراسة العميقة المبنية على وقائع وإحصاءات وتوجهات موضوعية تنير الطريق للشركات والمؤسسات الحكومية والخاصة لبناء استراتيجية المستقبل واتخاذ القرارات السليمة للتطور والنمو.

وتأتي أهمية تلك المراكز والمكاتب الاستشارية من كونها تمثل بيوت الخبرة المتفرغة للبحث والدراسة فهي تتابع باستمرار تقدم العلوم والمعارف وتشارك بخبرائها في المؤتمرات العلمية العالمية وتسعى لاقتناء أحدث الإصدارات والتقارير والدوريات العلمية وتمتلك مراجع وبيانات إحصائية متجددة، وهذا يجعلها في وضع متميز لتقديم المشورة الموضوعية التي تساهم في تطوير الأنظمة والسياسات والمنتجات وغيرها. كما أن تلك المراكز - إذا استثنينا مراكز الدراسات السياسية والاستراتيجية - تكون في الغالب بعيدة عن التأثيرات الخارجية والتوجهات السياسية أو الشخصية التي دائماً ما تفسد التوصل إلى قرار موضوعي سليم أو التوصل إلى نتائج موضوعية حول قضية من القضايا.

وفي المملكة تأسست خلال السنوات الماضية العديد من المراكز والمكاتب المتخصصة في الدراسات والاستشارات الاقتصادية وفي مجالات الأنظمة والإدارة أو المجالات التربوية والتعليمية والتدريبية وأخيراً انتشرت المكاتب الاستشارية في المجالات القانونية والمحاماة. كما أن جامعات المملكة العريقة أنشأت هي الأخرى مراكز للبحوث والاستشارات لاقتطاع جزء من عوائد السوق المتنامي في هذا المجال الحيوي. وطالما أن المكاتب والمراكز الاستشارية الخاصة تتعاقد مع أساتذة الجامعات بالباطن لإعداد تلك الاستشارات، فلماذا لا تقوم الجامعة بالدور نفسه وتستفيد من إمكانات أساتذتها؟!

إن ظاهرة انتشار المراكز والمكاتب الاستشارية تعد ظاهرة صحية لو كانت بالفعل تقوم على أسس متينة وتمتلك خبرات وإمكانات بشرية ومادية فاعلة. ولكن من خلال معايشة ومتابعة لوضع كثير من المكاتب والمراكز الاستشارية وكذلك الاطلاع على عدد من الدراسات والبحوث والخطط الاستراتيجية التي أعدتها تلك المكاتب يمكن أن أصل إلى استنتاج عام وهو أن هذه المكاتب تمثل أحد عوامل التخلف التنموي في بلادنا فاستشاراتها الكربونية تمثل أحد عناصر فشل كثير من المشاريع الاستثمارية في القطاع الخاص، وأحد عوامل تردي القرارات الاستراتيجية التي تتخذها الأجهزة الحكومية في مجال تطوير أدائها أو تحسين مستوى إدارتها لقطاعات التنمية.

وربما يتساءل القارئ عن الدور الذي تلعبه تلك المكاتب والمراكز الاستشارية في مجال التخطيط والتطوير لمجمل السياسات والقرارات الإدارية والاقتصادية والتنموية. فأقول ان المكاتب والمراكز الاستشارية في المملكة - وإن كانت تعيش في الظل وبعيدة عن الأضواء الإعلامية - إلاّ أن لها دوراً كبيراً ومن خلف الكواليس في تخلف الفكر التنموي وفي تخبط كثير من السياسات والقرارات التنموية على أكثر من صعيد. فالأجهزة الحكومية تستعين بتلك المراكز والمكاتب الاستشارية لإعداد الاستراتيجية الوطنية والدراسات الميدانية التي ينبثق منها قرارات استراتيجية طويلة المدى، كما أن عددا من الأجهزة الحكومية وشبه الحكومية تستعين بها لإعادة هيكلة أنظمتها الإدارية ووضع اللوائح والإجراءات الإدارية.

ويأتي الخلل في مستوى تلك الاستشارات نتيجة أن هذه الخدمة مدفوعة الثمن التي تقدمها المكاتب الاستشارية للأجهزة الحكومية تنبثق - في الغالب - من علاقات شخصية بين أصحاب المكاتب وبعض المسؤولين الكبار في تلك الأجهزة حيث يجري تمرير الموافقات على عقود تكليف المكاتب بإعداد الدراسات والبحوث دون تقييم حقيقي لاحتياجات الجهة الحكومية أو معرفة دقيقة بإمكانيات المكتب أو بمنهجية البحث والدراسة. ولهذا تأتي معظم تلك الدراسات والأبحاث أو الخطط الاستراتيجية أو دراسات إعادة الهيكلة الإدارية والتنظيمية بأسلوب (القص واللصق) حيث يتم تجميع أكبر كمية ممكنة من المعلومات والطرح النظري من دراسات سابقة، ثم دمجها في فصول وأبواب لا رابط بينها وأخيراً توصيات تقليدية لا تتجاوز ما يقال في الندوات والمؤتمرات أو ما يكتب في الصحف والمجلات عن هذه القضية أو تلك.

من جهة أخرى، توفر أنظمة الترخيص للمشروعات الاستثمارية كمشروعات الاستثمار في القطاع الصناعي أو الزراعي أو الاستثمار في قطاع التعليم والتدريب وغيرها من المجالات سوقاً كبيرة للمكاتب الاستشارية حيث تمثل إعداد دراسات الجدوى الاقتصادية من مكاتب ومراكز استشارية مرخص لها أحد متطلبات الموافقة على الترخيص المطلوب. وتفترض تلك الأنظمة الصماء أن تكون دراسات الجدوى الاقتصادية مبنية بالفعل على دراسات ميدانية عميقة وبيانات إحصائية موثوق فيها، ولكن الذي يحدث أن معظم تلك الدراسات مجرد صور كربونية من مشاريع مماثلة يجري تغيير الأرقام والأسماء وإعادة تجليد الغلاف وتقديمها كدراسات جدوى اقتصادية. ولهذا يكون مصير تلك المشروعات التي تبنى باستثمارات مالية ضخمة التأرجح لسنوات طويلة في مد وجزر حتى تبين طريقها وتتعلم من ممارساتها فتنجح إذا امتلكت إدارة جيدة أو تفشل وتندثر إذا تمسكت بالرؤى الضحلة التي تقدمها دراسات الجدوى الاقتصادية. إن الخلل في منهجية دراسات الجدوى الاقتصادية يعني أن المشاريع الاستثمارية تبنى على رمال متحركة لا تعرف متانة قاعدتها أو تزرع في أرض سبخة لا يعرف مستوى إنتاجها.

ولكن لماذا كانت تلك المراكز والمكاتب من عوامل التخلف التنموي؟ في تقديري ان أحد أسباب الدور السلبي هو النشأة المضطربة لتلك المكاتب والمراكز الاستشارية حيث ان معظمها تأسس بجهود فردية من أساتذة متقاعدين من الجامعات أو مسؤولين سابقين في القطاع الحكومي وجدوا أنفسهم خارج اللعبة البيروقراطية في تلك الأجهزة، ولما كان بعضهم يملك خبرات واسعة ومعرفة لبعض تعقيدات ومشاكل التنمية، وكذلك لما كان هؤلاء يحظون بعلاقات واسعة ونافذة في عدد من الجهات الحكومية والخاصة وجدوا أن أفضل مجال لاشغال أنفسهم في فترة التقاعد هي في إنشاء مكتب استشاري خاص طالما أن رأس المال المطلوب لتأسيس هذا المكتب ليس عالياً، فالحد المتوسط للاستثمار في هذا المجال استئجار مكتب معقول في أحد الشوارع الرئيسة وتوظيف سكرتير متعاقد للرد على استفسارات العملاء ومطبوعة صغيرة للتعريف بالمكتب.

أما العامل الآخر الذي ساهم في تعميق الدور السلبي للمكاتب الاستشارية فهو طريقة عملها واحجامها عن توظيف الخبرات البشرية المتمكنة.. فمعظم تلك المكاتب لم تنعتق من دور الشخص الفرد في الإدارة والاستشارة والتنظير. فغالباً ما يكون المؤسس هو المدير العام وهو الباحث الرئيس وهو موظف العلاقات العامة، وإذا كان هناك حاجة إلى خبرات خارجية فقد نشأ في دهاليز الجامعات والكليات والمعاهد فئة محترفة في عمل المكاتب والمراكز الاستشارية معظمهم من الأساتذة المتعاقدين تجيد فن (القص واللصق بالحاسب الآلي) وايهام حتى أصحاب تلك المكاتب بكفاءة الأبحاث والاستشارات التي يقدمونها. وعموماً الجميع مشغولون ولا وقت لديهم لقراءة وتقويم تلك الصفحات من الغثاء الصريح.

إن معظم تلك المراكز والمكاتب لم تنشأ أصلاً وفق دراسات جدوى اقتصادية.. ولا تمتلك خبراء ومختصين متفرغين للعمل.. ولا يوجد لديها هياكل وأنظمة إدارية ولا لوائح داخلية، ولا يتوفر لديها إمكانات مادية عالية.. لا قواعد بيانات - ولا إحصاءات منظمة وموثوقة.. لا مشاركة في مؤتمرات عالمية.. لا تدريب لكوادرها وخبرائها في مؤسسات استشارية عالمية.. فكيف تقوم تلك المكاتب والمراكز بإعداد خطط استراتيجية ودراسات ميدانية وتطوير أنظمة إدارية وإعادة هيكلة وتطوير أنظمة محاسبية..؟!

قبل أسابيع وضع أمامي أحد المسؤولين الكبار في جهاز حكومي أربعة مجلدات ضخمة بإخراج جميل وتجليد فاخر وقال: هذه دراسة ميدانية أعدها المكتب الاستشاري (...) بتكليف من إدارة الدراسات والبحوث لدينا، وقد كلفتنا مئات الألوف من الريالات، ولكن لا نعرف ما نفعل بها؟ لقد حاولنا استخلاص "زبدة" هذه الدراسة لنستفيد منها في دعم توجهاتنا الاستراتيجية لتطوير مجال عملنا، ولكننا حقيقة لم نتمكن من الحصول على تلك النتيجة النهائية.. لقد تأملنا في الجداول والإحصاءات فتهنا في تفاصيلها وعندما وصلنا إلى توصيات الدراسة وجدناها لا تختلف عما نتحدث نحن فيه في لقاءاتنا وندواتنا بل إننا نعرف عمق المشكلات التي تواجهنا أكثر مما طرحته هذه الدراسة!!

وهذا مثال من عدة أمثلة يمكن أن نسرد بعضاً منها، فهناك جهة حكومية أخرى يفترض أن تكون أهم مركز للبحث العلمي في البلاد، ولكنها تعاقدت مع أحد المراكز الاستشارية لإعداد المرحلة الأولى من استراتيجية وطنية في مجال عملها.. المرحلة الأولى استغرقت عدة سنوات ولما تأخرت سبقتها المراحل الثانية والثالثة التي يفترض أن تكون قد بنيت على المرحلة الأولى.. وأنجزت الاستراتيجية الوطنية واحتفل بها إعلامياً ورسمياً ولكنها بقيت للديكور ضمن إصدارات تلك الجهة. مثال آخر دراسة ميدانية قام بها مركز البحوث والاستشارات في إحدى الجامعات منذ سنوات لصالح وزارة من الوزارات تتعلق بالتعليم فوق الثانوي في المملكة.. الدراسة أعدت باللغة الإنجليزية وحشد في نهايتها أسماء عدد كبير من المختصين التربويين، ولكن تأثيرها لم يتجاوز عتبات تلك الوزارة العتيدة. مركز للبحوث والدراسات في جامعة أخرى يعد منذ سنوات دراسة عن الحد الأدنى للأجور في سوق العمل بتكليف من مجلس القوى العاملة.. هذه الدراسة لم تر النور بعد على الرغم من أن التغيرات في سوق العمل تكاد تكون يومية، والأمثلة لا تحصى على ضحالة الدراسات والاستشارات التي تقدمها المكاتب "الاستشارية" الجامعية والخاصة.

إن المطلوب إعادة النظر في شروط الترخيص للمكاتب والمراكز الاستشارية فكثرتها لا تدل على أنها في وضع جيد بل ان العملة الرديئة كثيراً ما تطرد العملة الجيدة من السوق.. والمأمول أن يكون هناك معايير عالية المستوى للارتقاء بها لأن تأثيرها على مسيرة التنمية بالغ الأهمية ومكانتها المتوقعة هي في الصدارة في عملية التخطيط لسياسات وبرامج التنمية.

د. أحمد بن محمد العيسى