عن الجنون: تجربة شخصيّة مع اضطراب الهوس الاكتئابي – بايبولار – . (مترجم)

ترجمة: آية علي.


قبل خمس سنوات، وبشكل مفاجئ وحاد وغير متوقّع، أصبحت مريضة. كنت أعمل كطبيبة عامّة، مع قائمة مليئة بالأحلام وأربعة أطفالٍ صغار. مررتُ في البداية بأيام أكون فيها انفعالية جدا تجاه عائلتي، مع معاناتي من نوبات قلق وصداع شديدين. وقد عللّت الأمر بساعات عملي الطويلة وحياتي الاجتماعية الحافلة في ذلك الوقت.

ثم وأثناء قيادتي على الطريق السريع ذات يوم؛ قررت أن من المناسب جدا الاصطدام بسيارتي وإنهاء حياتي. كان هذا بداية أفكار انتحارية قوية جدا ودوافع تقفز في رأسي فجأة، دون سابق إنذار، وكنت احتاج إلى طاقة عقلية حقيقية كي أقاوم تنفيذها. في أثناء ذلك، كنت أجد صعوبة في أداء عملي، حتى أنني كنت أسحب – حرفيا – جسدًا مُرهَقًا للغاية ودماغًا مشوّشا إلى الجلسات الاستشارية للمرضى، وأصبحت أعالج كل مريض بدوره بدلًا من النظر إلى جدول العمليات الجراحية الممتلئ عن آخره. وفي أيام أخرى أجد العمل مفيدًا في صرف انتباهي عن الاكتئاب غير الحاد. ثم مجدّدا، أجد نفسي في أوقات أخرى مليئة بالحيوية والطاقة، وأستمتع بالتواصل مع المرضى، وأبحث بشكل متواصل عن أشياء إضافية للقيام بها أنا وعائلتي. لاحظت بشكل تدريجي أن ليالي العمل الطويلة قد أصبحت لا تطاق، وعللتُ هذا مجدّدًا بأطفالي الصغار، بدلا من الاعتقاد بأنّي قد أكون مريضة.

ومع تقلب مزاجي بشكل يومي وعلى نطاق واسع جدًّا، كانت رؤية أني بحاجة للمساعدة أمرًا بالغ الصعوبة. وفي النهاية شجعني زوجي على الذهاب لرؤية طبيبي العام الذي أحالني مباشرةً إلى طبيبة نفسية، وبقرار غير حكيمٍ منها، أعطتني مضادًا للاكتئاب دون سؤالي عن الأعراض المزاجيّة المرتفعة، وذلك لأني كنت غارقةً وقتها في اكتئاب حاد. أعادتني طبيبتي النفسية إلى العمل بعد تشخيص مؤكد بالاكتئاب في البداية ثم بعد ذلك بالهوس الاكتئابي ” بيبولار”، ومن ثمّ بدأت سنوات من العلاجات المتعدّدة. ” مضادات الاكتئاب، مثبتات المزاج، العلاج بالصدمات الكهربائية، مضادات الذهان، هرمونات الغدة الدرقية، الليثيوم، العلاج النفسي، الدخول للمستشفيات النفسية ” كل هذه العلاجات لم تجدِ أيّ نفع للنمط غير المستقرّ من تقلبات المزاج المفاجئة، والحلقات المتسارعة، والاكتئاب ثنائيّ القطب، وحالات المزاج المختلطة المحبوكة بخصائص ذُهانيّة.


كيف يبدو العيش مع هذه الحالة بشكل يومي؟



ما الذي يعنيه هذا المرض؟ إنّه يعني أن تكون محاصرا في جسدك وعقلك، يعني أن تفقد السيطرة على حياتك. اضطراب ثنائي القطب – بيبولار- عبارة عن اضطراب متعدد الأقطاب لا يؤثر على مستويات الطاقة وحسب بل على السلوك ووظائف الأعضاء كذلك.

يبدو للناظر أن شخصيتك تغيرت تماما؛ أن ذلك الشخص الذي يعرفه لم يعد موجودًا، وقد ينجرّ إلى الاعتقاد بأنّ تغيّرك تغيرٌ دائم. قد يتغيّر مزاجي من وقت لآخر في اليوم الواحد، فمن الممكن أن أستيقظ في العاشرة صباحا وأنا مكتئبة جدا ثم بحلول الثالثة عصرًا أصبح مبتهجة ومنفعلة تماما.

قد أكون مليئة بالطاقة الابداعية ولا أنام سوى ساعتين في الليل، ثم وبحلول منتصف النهار التالي أكون متبعة جدا وتصبح أبسط الأشياء كالتنفس أمرًا مُرهِقا. وإذا استمرت حالة المزاج المتسارع (الهوس) لأكثر من بضعة أيام فإن مصاريفي تخرج عن السيطرة، وأضطّر إلى إعطاء زوجي بطاقات الائتمان خاصّتي – الأمر الذي يحتاج إلى قوّة إرادة كبيرة، وإلا فإنني أشتري أشياءً أندم عليها بعد ذلك -. أتذكّر افتتاني بوصلة كهربائية صفراء طولها 18 متر، إذ بدَت اللفائف الصفراء في حالة إدراكي المرتفع جميلة بشكل رائع ولا يُقاوم، كنت أرغب بشراء عدة وصلات دفعة واحدة.

في بعض الأحيان أقود أبعد من المعتاد، أحتاج لساعات نوم أقل، أركّز بشكل جيّد، وأتّخذ قرارات سريعة ودقيقة، كما أنني أصبح اجتماعية جدا ومرِحة وكثيرة الكلام، وقد أركّز حينًا ويشرد ذهني حينًا آخر. وإذا استمرت هذه الحالة المتسارعة فإن مشاعر العنف والانفعال نحو من أُحب غالبا ما تبدأ بالتسلّل إليّ. يبدأ كل من التركيز والذاكرة بالتضاؤل، وأصبح شديدة الحساسية تجاه الضوضاء؛ فيمكن لضوضاء الأطفال المعتادة وغناء زوجي أن يتسببّا في إرباكي وتشتيتي.

تتسارع أفكاري جدا ويصبح باستطاعتي الاستلقاء في سريري لعدة ساعات متواصلة أشاهد صورًا على الجوانب الداخلية لجفوني. قد تظهر بعض الكلمات أحيانا فأقرأها كما لو أنني منهمكة بقراءة رواية جيّدة، ولو طُلِب منّي قراءة هذه الكلمات بصوت مرتفع فلن تجدها منطقيّةً البتّة. إنه خليط ضبابيّ مذهل من الكلمات والصور، خليطُ مُنتزَع من الشعر والموسيقى. ينفذ صبري من نفسي ومن المحيطين بي ممّن يبدو أنهم يتحركون ويتحدثون ببطء شديد.

أرغب باستمرار في أن أكون قادرة على تحقيق عدة مهام في نفس اللحظة؛ فقد أريد قراءة روايتين وسماع الموسيقى وكتابة الشعر، كل ذلك في وقت واحد، وسرعان ما أُصاب بالإحباط كوني لا أستطيع ذلك. جسديًّا، قد تبدو مستويات الطاقة عندي لا محدودة. يتحرك جسدي بسلاسة ويكون الإرهاق إمّا خفيفا أو غير موجود على الإطلاق. أستطيع الذهاب لقيادة دراجتي على الجبل والاستمرار في ذلك طوال اليوم بمجرد أن تنتابني الرغبة لفعل ذلك، وإذا استمرّ مزاجي مرتفعا حتى اليوم التالي فإن عضلاتي لا تكون مُتعبة أو متيبّسة البتّة. لكنّ هذا لا يستمر، ففترات الهوس عندي قصيرة ومعتدلة ويمكن التحكم فيها بشكل عام، لكن التحول إلى الاكتئاب الشديد أو حالة المزاج المختلطة تحدث أحيانا في غضون ساعات أو دقائق، أو غالبًا في غضون أيام، وتستمرّ لأسابيع دون فترة اعتدال طبيعيّة، بل إنني كثيرا ما أصبح غير قادرة على معرفة ماهية الوضع الطبيعيّ.

في البداية تتفكّك أفكاري وتشظّى في كل مكان، وأشعر أني أحاول – جسديًّا – ملاحقتها في ذهني، أحاول جعلها متسلسلة ومتماسكة. وأحيانا ما تظل هذه الأفكار متسارعة ومحاطة بأوهام البارانويا، مسبّبةً توتّرًا داخليا شديدا لا يمكن تخفيفه إلى حدّ ما إلا عبر أداء نشاط بدني مثل التجول السريع في الرّواق. أبدأ كذلك بالاعتقاد أن الآخرين يعلّقون سلبًا على مظهري وسلوكي، ويمكن أن أصبح خائفة جدا وغير اجتماعيّة. يستطيع أطفالي كشف التحوّل في مزاجي في وقت أبكر واللعب بمفردهم، كوني أصبح أكثر انطوائيّةً وغضبًا.

كما يصبح نظام نومي رديئا ومتقطّعا بسبب الكوابيس، وأتحوّل من كوني الشخص صاحب الأفكار – وصانع القرارات – إلى شخص غير مهتم بشيء على الإطلاق. يبدو لي العالم كالحًا وسلسلة لا طائل منها من المجاملات الاجتماعيّة. أرتدي ملابسي المريحة جدا – والتي تكون سوداء اللون غالبا – فكل شيء آخر يخدش جلدي ويؤلمه. أنفر من اقتراب الأشخاص ويتعاظم إدراكي جدًا لمساحات الآخرين الشخصية التي ازداد قربها حولي بطريقة ما، مضيّقةً عليّ الخناق. يُثقلني أداء أبسط المهام، حتّى تلك التي أتخيّلها، فأرى غبارًا على كلّ سطح وحشائش في كل أنحاء الحديقة وأطفالًا متّسخين، وأشعر أنني وحدي المسؤولة عن تحسين كل هذه الأشياء.

أمّا جسديّا فأعاني من تعب هائل، إذ تصرخ كلّ عضلة – بل وكل ندبة قديمة – في جسمي من الألم. ينخر الوجع عظامي نخرًا وأشعر بمفاصلي كما لو أنّها متورّمة. ألهث من التعب أثناء تشذيب جزء صغير من الحديقة ويتحتّم عليّ التوقف بعد دقيقتين فقط. أصبح خرقاء جدا فلا أستطيع السيطرة على أطرافي مما يجعل الأشياء تسقط منّي دون قصد. يصل الإرهاق أقصى درجاته، فأسقط في نهاية المطاف على سريري وأنا بكامل ملابسي. قد أتقيأ أحيانا حين تتوقف عملياتي الهضمية عن العمل.

وغالبا ما أنام لمدة تزيد عن 18 ساعة دون أن يكون لهذا النوم أي أثر في إزالة إرهاقي أو إنعاشي من جديد؛ بل أشعر كما لو أنني لم أنل قطُّ قسطًا من نوم أو راحة. وفي بعض الأوقات تنقبض كل عضلة في جسمي وتقاوم الاسترخاء تماما. قد يتصبّب منّي العرق صبًّا أو قد أدخل في نوبة ارتعاش لا علاقة لأي منهما بدرجة الحرارة المحيطة. أصرخ لطلب المساعدة مرارا وتكرارًا، لكن الكلمات تظل في ذهني دون أن تتجاوز شفتاي.

يصبح الطعام رتيبا وغير مغرٍ بالمرّة أو تصبح نكهته مثيرة للاشمئزاز، فينخفض وزني بسرعة أثناء مرحلة اكتئاب طويلة. قد أتوق في بعض الأحيان إلى تناول حلويات فقط بكميات صغيرة، كما يصعب عليّ كثيرا تناول كميات كافية من المياه مما يؤثّر على مستويات الأدوية ويعطّل أمعائي عن العمل.

أصبح غير قادرة على التركيز في قراءة رواية من أجل المتعة، من أجل الهرب. حتى إن الاستمرار في قراءة المجلات أو الجرائد يصبح مستحيلا. بدأت بالشعور بأنني محاصرة؛ أن المهرب الوحيد هو الموت. ويصبح قرار الموت عند هذه المرحلة أو قبلها بقليل، قرارًا عقلانيًّا تمامًا. يتباطأ ذهني مباشرة وأصبح عالقة، غير قادرة على إجابة سؤال بسيط، غير قادرة على تأسيس تواصل بصري مع الآخرين، غير قادرة على فهم أيّ من الأسئلة الموجّهة إليّ.

أتحاشى الرد على الهاتف أو الباب، ويصبح صوتي عميقا وبطيئا لدرجة الإبهام أحيانا. يصبح جلدي شاحبا بمسحةٍ رماديّة. تصبح حساسيتي للبرد شديدة جدا فأستشعره بسهولة. أنظر إلى المرآة وأفشل في التعرف على الشخص الواقف أمامي. وحينما أبدأ في الانزلاق نحو مرحلة أكثر ذُهانيّة؛ أصبح غير قادرة على التعرف على أشياء مألوفة مثل راحة يدي أو وجوه أطفالي. يتغيّر شعوري بالمكان وتبدو الغُرف المألوفة كما لو أنّ أبعادها قد تغيّرت، وقد تحمل أشياء بسيطة في الغرفة معاني مشؤومة جدًا لي.

يبدأ العالم في هذه المرحلة باتخاذ مظهر حاقد يصعب عليّ وصفه. يصبح كلّ أحبّائي المحيطين بي جزءًا من مؤامرة لإيذائي، فتتغير وجوههم وتحمل أصواتهم نبرةً ساخرة. أبدأ حينها بكُره زوجي وكل من أحبّ.

تتربّص بي الصور القابعة خارج محيط رؤيتي وتستعدّ للانقضاض عليّ، مما يجبرني على البقاء في حالة دائمة من اليقظَة. كنت أعتقد أنني أتعفّن تحت جلدي، أن أرواحا شرّيرة تقضم نخاع عظامي وتتغذّى عليه، ثمّ ما تلبث الأصوات والصور في رأسي أن تُملي عليّ ما أفعل، كالتوقف عن أخذ الأدوية أو جرح وقتل من أحبّ. دمار لا مفرّ لي منه البتّة. في النهاية تبدأ بإخباري أن كل شيء سيكون على ما يرام بمجرّد أن أقتل نفسي، أنني شرّ وعبء ولا أستحق سوى العقاب.

أوهامٌ وقصص مشوَّهة. أصبح شغوفة ومهووسة بموضوع واحد فقط خلال أوقات اليأس والغضب والخوف الشديد تلك؛ ألا وهو الانتحار. تأتي الدوافع والصور الانتحارية في أي مرحلة من مراحل المرض، حتى في مرحلة الهوس، لكنّها تكون في أوج حدّتها وقوّتها أثناء مراحل الذّهان. كنت أحمل في صندوق سيارتي – لعدة أشهر متواصلة – حبالًا وشفرات حادّة، وما يكفي من أدوية مضادات الاكتئاب ثلاثية الحلقات لقتلي مرّتين! كما كنت أستطيع في الماضي الوصول إلى أدوية مميتة من أدوية الطوارئ، وذلك خلال عملي كطبيبة. أعرف من أين أشتري سلاحا، أعرف الجرعة القاتلة من الأدوية التي أتناولها، فكّرت في معابر السكك الحديدية، والجسور التي فوق الأنهار، والقيادة خارج الطرق للسقوط في الأودية، والصعق الكهربائي.

كانت لي محاولات انتحار بالشنق والغرق كادت أن تنهي حياتي، وذلك خلال السنوات القليلة الماضية. وللأسف فإن التفكير في تأثير انتحاري على أطفالي لا يفيد نفعا حينما أكون مريضة ولا يجعلني أتراجع عن رغبتي فيه. أعتبر نفسي عبئا كبيرا عليهم في تلك الأوقات لدرجة أنّي أعتقد بأن انتحاري سيكون بمثابة إراحة لهم، بمثابة هدية أخيرة من أمٍّ لم تعد قادرة على تقديم المزيد، من شخصٍ بلغ أقصى حدود الاحتمال.

أختبر في بعض الأحيان صورًا من العنف الشديد تجاه الآخرين – تجاه أفراد الأسرة والأشخاص المقربين لي غالبا – وأحيانا تجاه أشخاص غرباء عنّي تماما. أشعر أحيانا بأني منفصلة عن الواقع وفاترة ومجبرة على التصرف وفقا لهذه الصور؛ وغالبا ما تكون مقلقة ومؤلمة للغاية، وعندما أكون في حالة طبيعية فإن هذه الصور تثير اشمئزازي لأبعد درجة.

من حسن حظي أن أولئك الذين يهتمون لأمري يكونون قادرين على معرفة هذه الحالات غير الآمنة التي أمر بها ويجعلونني أدخل المستشفى. ثم ولسبب غير مفهوم؛ يتحوّل مزاجي. يتساقط التعب من على أطرافي كتساقط وزن ميّت، ويعود تفكيري إلى حالته الطبيعية.

تزداد شدة وضوح الأضواء، وتصبح رائحة الأزهار أكثر جمالًا، ويتوق فمي للابتسام في وجوه أطفالي، ويعاود الضحك حضوره بيني وبين زوجي. أحيانا ما يستمرّ هذا ليوم واحد، لكنّني أصبح نفسي مرة أخرى، ويصبح الشخص السابق الذي كنت عليه مجرد ذكرى مرعبة. لقد نجوت من نوبة أخرى من نوبات هذا الاضطراب اللعين. إنه سلسلة متواصلة من القتال اليومي، وسأحصل – إن حالفني الحظّ – على بضعة أيام كل عدة أشهر، أكون فيها طبيعيّة تماما وغير مضطرة لالتماس العذر باستمرار لحالتي المزاجيّة.

لماذا لا أزال هنا إذن؟ لا أدري، ربّما هو الحظّ، ربما هي كسرة الإنسانيّة الضئيلة المتبقيّة داخلي حتى في أكثر حالاتي الذُّهانية والانتحارية شدّة، والتي تسمح لي بالتعبير عن اليأس وفقدان السيطرة اللذين أمرّ بهما بحيث يمكن لمقدّمي الرعاية والأطباء المعالجين الاستجابة لذلك بالطريقة اللائقة، وإبقائي في مأمن. قليلٌ من الأمل، بعضٌ من الإنكار. لقد فقدتُّ كلًّا من الوظيفة والحياة الاجتماعية والتحفيز الفكري. أحيانا ما أتساءل: كيف استطاع زواجي التماسك والاستمرار؟ كما أنني قلقة باستمرار بسبب الآثار التي يخلّفها مرضي على أطفالي، وعمّا إن كان سينتهي بي الحال مثل كثير من الأشخاص الآخرين المصابين باضطراب ثنائي القطب الحاد ممّن انفصلوا عن أطفالهم بشكل دائم.

بسبب هذا الاضطراب؛ تدمّرت علاقات وتشوّهت، لكن علاقات أخرى تكاتفت وصمدت في وجه أسوء تمظهراته وتعابيره. غالبا ما يكون تكوين صداقات جديدة صعبا للغاية. أولئك الذين يعرفون بمرضي أصبحوا مرنين ومتكيّفين معه، لكن الآخرين لم يصبحوا كذلك. كان عليّ أيضًا تحمّل الآراء الصادرة من مختلف الأشخاص الذين يعتقدون أنّني سأتعافى تمامًا لو أنّي فعلتُ فقط شيئا مختلفا. وقد تنوّعت هذه النصائح من نصحي بأخذ فيتامينات متعددة، التدليك المتنظم، أخذ عطلة، العودة إلى بلدي الأمّ، التأمل، الصّلاة، حضور الكنيسة، إلى تجنب الملوّثات الجوّية والتفكير السلبي. تعلّمت أنه حتّى مع توفر أفضل رعاية نفسيّة إلا إن بعض الأشخاص لا يستجيبون للأدوية، لا يتحسّنون أبدًا.

ومع ذلك فأنا أشعر بالامتنان لكوني حظيت بأفضل رعاية متاحة، وأنّ عائلتي قد اكتملت قبل ظهور هذا المرض. كما أنني ممتنّة لكوني استطعت الحصول على تأمين حماية الدخل قبل عدة سنوات من إصابتي بالمرض، وإلّا لأصبحنا فقراء، كما أصبح الحال مع العديد من المصابين بالأمراض النفسية. ما يعنيه هذا المرض هو الاضطرار إلى عيش الحياة بأقصى تحمّل عقلي وبدني ممكنَين، الاضطرار إلى الذهاب إلى أماكن لم يجرّبها معظم الناس مطلقا، ولن يرغبوا في تجربتها أبدا. إنه يعني وجود قيود مفروضة على حياتك ووظيفتك وعائلتك، قيود لا يستطيع أحد تخيّلها. بالنسبة لعائلتي، كان الأمر يتعلّق بمحاولتهم التكيّف مع ديناميّة متغيّرة تمامًا، كونهم يمتلكون أمًّا لا تستطيع التواجد من أجلهم، واضطرارهم للعيش مع تقلبات مزاجي المتواصلة والاضطراب الذي يأتي من دخولي المتكرر للمستشفيات.

إنه يعني الاضطرار إلى الاعتماد على الآخرين في الحصول على المساعدة حينما تشعر بأنّك في أقصى حالاتك ضعفًا وعُرضةً للخطر. إنه يعني أن تلاحقك وصمة عار هذا المرض. لقد أصبح يعني محاولة النجاة والبقاء على قيد الحياة، محاولة عيش الحياة لأقصاها في الفترات القصيرة من الحالة الطبيعية أو الهوس المعتدل الذي يحدث من وقت لآخر. عدا ذلك، فإن اضطراب البيبولار آفة لا تشفى ولا تلين.