الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد :
هذا الأثر: (البلاء موكل بالمنطق ) قد جاء من عدة طرق ولكن لا يصح منها شيء مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم بل ذكرها ابن الجوزي رحمه الله في الموضوعات ، وقد ذكر بعضهم أنها تصح عن بعض الصحابة كابن مسعود رضي الله عنه كما رواه ابن أبي شيبة في المصنف عن إبراهيم النخعي والله أعلم ، وقد جاء في السنة الصحيحة نحو هذا كما سأورده إن شاء الله في كلام ابن القيم من قصة الشيخ الذي زاره الرسول عليه الصلاة والسلام.
قال ابن القيم : وقد استشكل هذا من لم يفهمه, وليس بحمد الله مشكلًا, فإن مسبب الأسباب جعل هذه المناسبات مقتضيات لهذا الأثر, وجعل اجتماعها على هذا الوجه الخاص موجبًا له وأخر اقتضاءها لأثرها إلى أن تكلم به من ضرب الحق على لسانه, ومن كان الملك ينطق على لسانه, فحينئذ كمل اجتماعها وتمت, فرتب عليها الأثر, ومن كان له في هذا الباب فقه نفس انتفع به غاية الانتفاع, فإن البلاء موكل بالمنطق, قال أبو عمر: وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم البلاء موكل بالقول, ومن البلاء الحاصل بالقول قول الشيخ البائس الذي عاده النبي صلى الله عليه وسلم فرأى عليه حمى, فقال: لا بأس, طهور -إن شاء الله - فقال: بل حمى تفور, على شيخ كبير, تزيره القبور, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فنعم إذن . وقد رأينا من هذا عبرًا فينا وفي غيرنا, والذي رأيناه كقطرة في بحر.ا.ه
وقال ابن القيم كذلك - رحمه الله تعالى -: فحفظ المنطق, وتخير الأسماء من توفيق الله للعبد, وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم من تمنى أن يحسن أمنيته, وقال: إن أحدكم لا يدري ما يكتب له من أمنيته, أي: ما يقدر له منها, وتكون أمنيته سبب حصول ما تمناه أو بعضه, وقد بلغك أو رأيت أخبار كثير من المتمنين أصابتهم أمانيهم أو بعضها . اهــ
قال الشاعر:
لا تنطقنْ بمقالةٍ في مجلسٍ ... تخشى عواقبَها وكن ذا مَصْدقِ
واحفظْ لسانكَ أن تقولَ فتبتلى ... إِن البلاءَ موكلٌ بالمنطقِ
وقال آخر:
لا تنْطِقَنَّ بما كرهت فربما *** عبث اللسانُ بحادثٍ فيكونُ
وقال آخر :
لا تمزحن بما كرهت فربما ... ضرب المزاح عليك بالتحقيق
ولمَّا نزل الحسين رضي الله عنه وأصحابه بكربلاء ، سأل عن اسمها فقيل : كربلاء ، فقال : كربٌ ، وبلاء ، فجرى ما جرى .
ومن ذلك ما قاله المؤمل الشاعر في امرأة من الحيرة كان علقها ، قال :
شفَّ المُؤمِّلَ يومَ الحيرةِ النَّظرُ ... ليتَ المؤمِّلَ لم يُخلقْ لهُ بصرُ
فيقال : إنه رأى رجلاً في المنام قد أدخل إصبعيه في عينيه ، فأخرجهما ، وقال : هذا ما تمنيت ، فأصبح أعمى .
قال ابن الدورقي : اجتمع الكسائي واليزيدي عند الرشيد ، فحضرت صلاة ، فقدموا الكسائي يصلي ، فارتج عليه قراءة : (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ) فقال اليزيدي : قراءة : (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ) ترتج على قارئ الكوفة ؟! قال : فحضرت صلاة ، فقدموا اليزيدي ، فارتج عليه في ( الحمد ) فلما سلم قال :
احفظْ لسانكَ أن تقولَ فتبتلى ... إِن البلاءَ موكلٌ بالمنطقِ
وفي ( الزهد ) لهناد عن إبراهيم النخعي قال : إني لأرى الشيء مما يعاب ، ما يمنعني من غيبته إلا مخافة أن أبتلى به ؛ ورواه وكيع في ( الزهد ) بلفظ : إني لأرى الشر أكرهه ، فما يمنعني أن أتكلم به إلا مخافة أن أبتلى به
والعناية بالألفاظ وتخيرها هو من شأن أهل العقل والحكمة كما أنه من توفيق الله للعبد ومن أسباب السلامة ، وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يعجبه الفأل ، قيل له : وما الفأل : قال : (كلمة طيبة)
روى أحمد والترمذي عَنْ عُقْبَةَ بن عَامِرٍ قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَا النَّجَاةُ ؟ قَالَ : " أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ ، وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ ، وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ " .
وفي الأسبوع الماضي رأينا جميعاً وسمعنا بقصة المعلملة والدة الفتاة التي لم تقبل في كلية الطب حيث كانت رغبة ابنتها ، ووافتها المنية على إثر هذه الحادثة نسأل الله لها الرحمة والمغفرة ، والشاهد من هذا وهو ما شدني وأدهشني وجعلني أكرر المقطع هو ما سمعته من قولها : (والله العلي العظيم يا أموت منتصرة أو أموت مظلومة وحدة من الثنتين) وتعجبت من إقسامها على الموت وما مناسبته فكان ما حلفت عليه ، وعندها تذكرت هذه المقولة: (البلاء موكل بالمنطق) ، وبالتأكيد لا أجزم بتنزيل حديثي السابق على هذه الحادثة فالله أعلى وأعلم ولكن من باب ضرب المثل بواقعة عايشناها لعله يكون لنا عظة وعبرة .
تنبيهات :
ينبغي عدم الإغراق في التخوف من المنطق خشية البلاء، والتدقيق في ربطه بما يقع من المصائب قد يجر صاحبه إلى التشاؤم ، والتشاؤم منهي عنه.
أن ما قدره الله تعالى كائن لا محالة، ولو سعى المرء للفرار منه، كما قال تعالى: (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ) {آل عمران:154}, وكما في حديث: وَاعْلَمْ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَمَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ. رواه الطبراني مرفوعًا, وغيره موقوفًا, ومن أيقن بهذا استراح قلبه.
ليس معنى كون البلاء موكلًا بالمنطق أنه لا يصيبه بلاء إلا بسبب منطقه ، فالعبد قد يبتليه الله تعالى اختبارًا أو عقابًا ولو لم يتكلم بما يوافق المصيبة.
والحقيقة أن الموضوع أكبر وأكثر من هذا المختصر ولكن يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق ، والحر تكفيه الإشارة.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.
المفضلات