الكبار والصغار، والمتعلمون والجهلة، هؤلاء وغيرهم، جميعهم يشدون الرحال إلى الشمال بحثاً عن الذهب. والصحراء بدورها تأبى إلا أن تكافئ أولئك الذين لا يهابون الموت ومن لا يخشون بأس الجني الذي يتقمص شكل الأفعى.
يأتي الجميع في الصباح الباكر حاملين المعاول والأكياس سعياً وراء البريق المتلألئ لذلك المعدن اللامع عبر أرض قاحلة جرداء. وهؤلاء الناس بملابسهم الرثة وأسمالهم المهترئة وأحذيتهم المتواضعة لا يطمعون في الكثير وإنما مجرد حفنة من ذهب تقيم أودهم وتقيل عثرتهم فيعودون قانعين بما حملوا لا بما حلموا وهم في إيابهم تظلهم السماء الصافية في شمال السودان.
يهب سموم ريح غشوم يلفح الأجسام ويشوي الوجوه فيسود الوجوم تحت شمس الصحراء الحارقة ويقيم هؤلاء الأناس معسكراتهم في بقعة معزولة من بني البشر ولكنها مأهولة بالأفاعي والحيات والعقارب التي تنتشر فيها بكميات مهولة. وتواصل درجات الحرارة ارتفاعها فيتذكرون ما قاله لهم سائق الحافلة التي أقلتهم إلى حيث يقيمون وقذفت بهم في هذه المجاهل البعيدة عن العاصمة الخرطوم. فقد تحدث إليهم السائق وقتها قائلاً: «دعونا نعود إلى منازلنا ولا داعي للمجازفة وتعريض الحياة للتهلكة والخطر بالمبيت في هذا المكان».
مبيت أي مبيت هذا؟
هي أصوات جلبة وضوضاء وأصداء قصص مرعبة عن الليل. من ذلك على سبيل المثال الأسطورة التي تتحدث عن الجني الذي يتخذ هيئة الأفعى ويتولى حراسة الذهب الحيلولة دون بلوغه من قبل من يحاولون استكشافه والتنقيب عنه في حين أن الأولياء والصالحين يحاولون إلحاق الهزيمة بالجنّي من خلال الدعاء والاستغاثة والتوسل. إن الجني لا يخيفهم. فهاهم ينتظرون وما عليك إلا أن تسأل الصبية الذين يسرحون ويمرحون متجهين نحو المخيمات خلف نار الطبخ.
أما مولدات الكهرباء فلها هدير وزئير كما الأسد مستمراً مجلجلاً حتى الفجر في حين أن الحفارين مشمرون عن سواعدهم ومتلثمون بأقنعة تقيهم من الرمال والأتربة والأوساخ وهم يزجون الوقت في لعب الورق واحتساء القهوة والشاي ويتهامسون فيما بينهم ومع بعضهم تحت الأنجم التي تتلألأ وتومض كبريق بسمة تفتر عنها شفتا فتاة منعمة ترفل في نعيم الدعة وسعة العيش فتهتك بها أستار الظلام.
يتحدث في هذا السياق محجوب الصادق وهو خريج جامعي يحمل درجة البكالوريوس في العلوم وقد أمضى عامين بحثاً عن وظيفة مستقرة فلم يعثر لها على أثر. يقول محجوب: «إن صديقاً لي ذهب إلى مناجم الذهب وعندما عاد استطاع أن يكمل نصف دينه واشترى لنفسه سيارة فارهة. أنا بدوري أريد أن أتزوج وأن أقتني ما اقتناه فأكون مثله سواء بسواء. لقد قدمت طلبات للالتحاق بوظيفة أكثر من تسعين مرة منذ تخرجي ودخلت أكثر من ثلاثين مقابلة شخصية دون جدوى. إذا لم تكن تعرف شخصاً ذا نفوذ قوي فلن تتمكن من الحصول على وظيفة».
لم يشأ محجوب أن يخبر والدته إلى أين يخطط أن يذهب، إلى هذا المكان حيث يموت الناس من شدة الحر والعطش والأعيرة النارية الطائشة إلى أن اتصلت عليه وهو على متن الحافلة فرد عليها قائلاً: «إني آسف يا أمي سوف أفتقدك كثيراً». قال ذلك والدموع تنهمر مدراراً تحت نظارته المعتمة وهو يستمع إلى كلماتها بينما الحافلة تنهب الطريق وتسابق الريح وتطوي المسافة منطلقة به صوب الشمال.
يعيش كثير من السودانيين في مسبغة وفقر ويقاسون أيما مقاساة من ضيق ذات اليد وشظف العيش كما أن 28 بالمائة من خريجي الجامعات يعانون من البطالة ومن المحتمل أن ترتفع هذه النسبة في خضم الأزمة الاقتصادية التي تخيم وترخي بسدولها على العالم. قليلة بل نادرة هي الفرص المتاحة لتحقيق دولة الرفاهية ولأجل هذا فالمتعلم كما الجاهل واليائس كما البائس والمغامر وغيره جميعهم ما كان لهم أن يتوانوا وإنما انطلقوا لا يلوون على شيء وهم يحملون المعاول والأزاميل والمطرقات والأقداح ويتسللون من وراء هؤلاء الأطفال الجياع وتلك الحرب اللعينة التي يدور رحاها من دارفور إلى الجنوب بلا انقطاع ولا تلوح في الأفق بوادر أو بوارق أمل لأن تضع أوزارها.
عندما يختفي أحدهم من منزله يتوافق الجيران على أنه ذهب إلى حيث الذهب.
تشير التقديرات إلى أن ربع مساحة البلاد تمثل مستودعاً للذهب وتتخللها مكامن له. أما المنطقتان الأشهر في مجال التعدين فهما يتمثلان في ولاية جنوب كردفان بالقرب من جبال النوبة في أواسط السودان وحول منطقة المحس في الشمال وهي الوجهة التي قرر الصادق وستة من أصدقائه أن يقصدوها بعد أن جمعوا مبلغاً قوامه ثلاثة آلاف دولار أمريكي أغلبها حصلوا عليه عن طريق الاستدانة أو من بيع الحلي والمجوهرات من قبل أمهاتهم وأخواتهم.
استأجر الصادق وصحبه جهازاً للكشف عن المعادن واستعانوا بخدمات رجل اشتهر بأنه على دراية بكيفية العثور على الثروات الدفينة أو الكنز المدفون. وهكذا خرجوا من ديارهم يحدوهم الأمل في اقتناء هذا المعدن الثمين النفيس والذي يبلغ ثمنه 1230 دولاراً للأوقية في الأسواق العالمية بيد أنه في الغالب الأعم يعود الواحد منهم خالي الوفاض صفر اليدين سوى من حبيبات الرمال الخشنة.
بعد أن أسفر التنقيب عن نتائج مبشرة بدأت صناعة الذهب في السودان تزدهر في تسعينيات القرن الفائت حيث تحول شمال البلاد إلى وجهة يؤمها عشرات الآلاف من المستكشفين الذين يعمل بعضهم بصفة شخصية على أساس فردي بينما يقدم آخرون على قيادة شاحنات الواحدة منها بحجم المنزل المتحرك ويستخدمون آليات نبش التراب وتحريك التربة وهي آليات تؤول ملكيتها إلى شركات من الصين والهند وتركيا والدول الأخرى.
طارق علي الذي يعمل مدرساً في مدرسة أهلية ويتقاضى راتباً شهرياً قدره (160) دولارا أمريكيا هو واحد ممن قدموا بحثاً عن الذهب. يقول طارق في هذا الخصوص: «إنني في إجازة وقد قررت أن أغتنم الفرصة مع صديقي. إذا عثرت على الذهب سوف أترك التدريس إلى غير رجعة وأشرع في مزاولة أعمالي الخاصة. فما الذي يدعوني للجلوس في المنزل؟»
لقد أصبح جسم صادق خشناً من جراء العمل في مجال البناء بالطوب في المناطق المجاورة للعاصمة الخرطوم. أن العمل في البناء ليس مهنة تليق بخريج جامعي داخل دولة يصر فيها الآباء والأمهات على إلحاق أطفالهم بالمدارس ليصبحوا أطباء ومهندسين.
نزل صادق من الحافلة وأجال نظره فيما حوله من أرض قاحلة مليئة بالشقوق والحفر الغائرة التي تمتلئ بها منطقة كانت ذات يوم تخضع لحكم الفراعنة والروم. هنالك رجال مثله وأطفال يقومون بتفريغ الأكياس حيث يجثو الواحد منهم على ركبتيه في برك الأوحال ويستخدمون المناخل لغربلة قطرات الزئبق الفضي داخل أوعية وآنية ويرقبون بلهفة تدفق حبيبات الذهب. ها هو ذا بابكر آدم المزارع النحيف ذو البنية الهزيلة يتحدث عن تجربته قائلاً: «عندما تعثر على الذهب فإن هذا يدفعك لأن تطيل مدة بقائك وأمد إقامتك طمعاً في المزيد». فقد تمكن بابكر من جمع أربعة جرامات من الذهب في شهر واحد وباعها لوسيط سمسار ثم أرسل المبلغ الذي حصل عليه إلى زوجته في بلدتهما التي تفصلها مسافة تقطعها السيارة في عدة ساعات. وقد أمر زوجته بأن تشتري حماراً. أردف يقول: «جئت إلى هنا منذ شهرين. أطفالي يطلبون مني أن أعود إليهم بينما يطلب مني الذهب أن أبقى حيث أنا حتى أتمكن من الحصول على المزيد إنها فرصة العمر». قد يكون الجشع قاتلاً ومميتاً في الشمال فقد لقي على الأقل خمسة أشخاص حتفهم من بينهم ضابط شرطة خلال هذا العام في نزاعات بمنطقة قبقبة بعد أن اكتشف سكان المنطقة أن الحكومة منحت امتيازاً لشركة مغربية كما منحتها حقوق حصرية للتعدين في مسارات يعتقد أنها مفعمة بالذهب. في غضون الفترة الماضية التي تبلغ (16) شهراً لقي حوالي أربعين شخصاً مصرعهم وماتوا عطشاً وجوعاً في غمرة الصراع أثناء التنقيب. وقد طارت الركبان بأخبار مصرعهم حيث شاع خبرهم إلى أن وصلت أصداؤه إلى الخرطوم. بيد أن قصص الموت ما كان لها أن تزجر أحداً فيرعوي وها هو ذا صادق يصر على إمضاء المزيد من الوقت في البحث عن الذهب. وقال إنه سوف يوطن نفسه على التأقلم مع الأوضاع – فالمستضعف ليس في ميسوره أن يملي شروطه ولا يملك حق الاختيار أو كما قال الصادق. الحافلات تأتي حاملةً المزيد من الناس الذين لا يملّون السماع إلى القصص التي تروى عن الجن.
نجح قلة في عالم البورصات فهرع الجميع للبحث عن الثراء وكل يقول انا ذلك الرجل المحظوظ وتهون المخاطر في البحث عن الثراء السريع
ونفس الحال اذا ربحت يزيد الطمع فيك فتبقى حتى ينهال السوق عليك
تتشابه الحياة لان النفس البشرية واحدة.
المفضلات