منتديات أعمال الخليج
منتديات أعمال الخليج

النتائج 1 إلى 9 من 9

الموضوع: كتاب : أمراء وسماسرة النفط في السعودية

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    11-Aug-2001
    الدولة
    السعودية
    المشاركات
    11,704

    كتاب : أمراء وسماسرة النفط في السعودية

    كتاب : أمراء وسماسرة النفط في السعودية

    الثلاثاء 25 ديسمبر 2012 5:40:33 م

    تأليف'ستيفان هيرتوغ:' الفكرة الأصلية وراء البحث الذي تحول الى الكتاب الحالي هي تحليل كيف أن الاصلاحات الاقتصادية الليبرالية تغير الهياكل الاقتصادية والسياسية في دولة ريعية غنية بالنفط مثل المملكة العربية السعودية. غير انه في سياق البحث وجد الكاتب ان التغيير الذي يبحث عنه لم يتحقق بدرجة ملموسة، بل اكتشف استمرارية تاريخية تضرب بجذورها في الطريقة التي تُمارس بها السياسة وتُدار بها علاقة العمل بالدولة في السعودية، واكتشف ايضا - حسبما يقول في مقابلة اجرتها معه نشرة (جدلية) الالكترونية - أن العديد من أوجه الاستمرارية لا تتطابق مع نظرية ' 'لعنة الموارد' للدول الريعية.

    يقول الكاتب ان السعودية عانت منذ تأسيس الدولة الحديثة في الخمسينات من صراع مع العمالة الزائدة والفساد، ولكنها في الوقت نفسه تمتلك مؤسسات تعمل وفق أساليب عالمية مثل مؤسسة النفط الوطنية (أرامكو) وعملاق الصناعة (سابك)، وهما مؤسستان تعملان باستقلالية عن باقي مؤسسات الدولة منذ عقود. ولاحظ انه على مستوى السياسة كان للسعودية في سنوات التسعينات وفي العقد التالي (سنوات الالفين) سجل غير متوازن. ففي الوقت الذي تمت فيه عدة عمليات خصخصة ناجحة حيث تمكنت الحكومة من خلق سوق رأسمالي حديث ومرن، فإن الاصلاحات الأخرى في سياسة العمالة أو في البيئة التنظيمية للاستثمار الأجنبي لم تكن بنفس القدر من النجاح.

    'هذا ادى جزئيا إلى 'تفكيك' الدولة السعودية الريعية. فعوضاً عن النظر اليها ككيان متجانس، فقد تم النظر إلى العوامل الفردية وتاريخها السياسي: متى ولماذا تُستعمل أموال النفط لرعاية وبناء الاقطاعيات البيروقراطية؟ ومتى ولماذا يتم استعمالها لأغراض التنمية؟

    يقول المؤلف انه في هذا السياق اضطر الى القيام بالكثير من الأبحاث الأرشيفية والتاريخية أكثر مما كان مخططاً في السابق، لأنه شعر بعدم وجود معلومات تاريخية كافية عن تكوين الدولة السعودية الحديثة. فرغم وجود الكثير من التاريخ الشعبي، فإن أغلب المتوفر من أدبيات العلوم الإجتماعية يوفر صورة كاريكاتورية للفساد واللاكفاءة البيروقراطية، أو في بعض الأحيان تقدم حالات غير محتملة من الكفاءة في عصر ما قبل النفط غير صحيحة في أجزاء مهمة منها.

    يوفر الجزء التاريخي من الكتاب بحثا إجتماعيا متماسكاً عن كيف أن قرارات الأمراء بخصوص توزيع عوائد النفط المتزايدة بسرعة قد شكّل مؤسسات الدولة بأشكال مختلفة تماماً،'وكيف أن هذه الموارد شكّلت علاقات القوة والنفوذ بين هذه المؤسسات وبعضها البعض، وبينها وبين العوامل الرئيسة'في المجتمع. وباختصار، فإنه يشكل استعراضا للأسباب التي جعلت المجتمع السعودي على ما هو عليه الآن.

    ويحاول المؤلف في هذا السياق أن يفسر السياسات البيروقراطية، وأسلوب صنع القرار، وعلاقات قطاع الأعمال بالدولة بتفصيل أكثر من خلال مجموعة من الحالات التي قام بدراستها حول اصلاح الاستثمار الخارجي، وسعودة سوق العمل، والدخول في منظمة التجارة العالمية. '

    'تتمحورالقضايا الرئيسة التي يتناولها الكتاب في النقاش حول 'لعنة الموارد'، وتاريخ ما بعد الحرب العالمية الثانية للدولة السعودية وتأثيره على المجتمع المحلي.

    كما تشمل العلاقات بين الدولة والمجتمع، والإدارة العامة في الدول النامية بما فيها السعودية طبعا. كما يتم بالكناب تناول وانتقاد مفاهيم محددة مثل كفاءة الدولة واستقلاليتها.

    وبرأي المؤلف فإن أحد المفاهيم التي تتجاوز الحالة السعودية هو تضاؤل إستقلالية الدولة في الدول الريعية. فالنخبة الحاكمة عادة ما تتمتع بطرق ملتوية تتمكن من خلالها من استغلال أموال النفط في المراحل الأولى من التنمية، ولكن سرعان ما تبدأ بالتقيد بالتزامات التوزيع مما يقلص بشكل كبير من قدرتها على المناورة- وخصوصا في النظم الشمولية. إن الاستقلال الكبير للنخبة الملكية الحاكمة في المراحل الأولي في المملكة العربية السعودية أعطى عدداً من الأمراء نفوذاً لا حدود له على تشكيل الدولة. وترجع الكثير من الخصوصيات والصور المكررة من البيروقراطية السعودية الفاقدة للحيوية إلى تحالفات الأمراء والمشاكل التي حدثت قبل نصف قرن من الزمان، وهي نتائج أصبحت تقريباً غير ممكنة التقويم بعد أن كبر حجم الدولة والمنتفعين منها.

    ويرى المؤلف إن ما يثير الاستغراب في وضع الدولة السعودية في وقتنا الحالي ليس موضوع كفاءتها، أو انعدام هذه الكفاءة، ولكن بالأحرى درجة التشظي الضخمة للمؤسسات التي تشكل الدولة، كل حسب تاريخها الخاص ومجموع المتعاملين معها من المجتمع.

    فجهاز الدولة السعودية يضم منظمات شديدة الاختلاف: فمن قضاء 'إسلامي' يعيش في كثير من نواحيه في القرن السابع الميلادي، إلى شركات تملكها الدولة وتتمتع بقدر عالٍ من الحداثة والعلمانية مثل أرامكو والتي تبقى بمنأى عن تدخلات العائلة المالكة السعودية، إلى جهاز أمن غير قابل للاختراق تحت إشراف أميري مباشر وتتبعه مدنه ومدارسه وجامعاته ومستشفياته الخاصة.

    لقد بدأ بناء هذه الاقطاعيات المتوازية منذ الخمسينات مع بدء تدفق أموال النفط، وتعمق هذا البناء في السبعينات مع الطفرة النفطية حين بدأت النخبة الحاكمة بخلق مؤسسات جديدة لكل سياسة جديدة أو مشكلة تعترضها. وفي حين أن بعض أجزاء الدولة يمكن اعتبارها كفوءة بمقاييس البيروقراطية الحديثة، فإن هناك قدراً محدوداً من التواصل بين العوامل التي تشكل الدولة نفسها.

    إن عدم تجانس الدولة السعودية يجعل بعض الاصلاحات أصعب من غيرها- حتى ضمن الأجهزة الإدارية الكفوءة. فالتشظي الحكومي وانتشار المحسوبية عبر العمالة الزائدة في القطاع العام يقلص بدرجة كبيرة من امكانية الإصلاح في العديد من المؤسسات، ويؤثر سلباً على الإصلاح في المستويات الدنيا من البيروقراطية. لكن في نفس الوقت يمكن لبعض الاصلاحات أن تجري وتستمر في مؤسسات متفرقة وبنجاح كبير، خصوصاً إذا كان التطبيق يتم في جزر منعزلة من البيروقراطية الكفوءة.

    ورغم الطابع الاكاديمي الصارم للكتاب'فانه يتضمن مادة بحثية ميدانية يفترض أن تكون مفيدة لأي شخص لديه اهتمام بالنقاش حول 'لعنة الموارد' في الاقتصاد السياسي في الشرق الأوسط. كما ان اسلوب الكتابة فيه مفهوم بشكل كافٍ ليكون مفيدا لأي شخص يتعامل مع مواضيع خاصة بالسعودية ودول الخليج بصفة عملية، سواء بصفة عمل، أو دبلوماسية، أو صحافة، أو تبنٍ لقضايا معينة، أو ببساطة كمقيم محلي في تلك الدول.

    ويصر المؤلف أن الكتاب مكتوب لكل السعوديين الذين لديهم اهتمام بالسياسة والتنمية الاقتصادية لبلدهم. ويقول إن بعض التعليقات على الكتاب، والتي يقدرها كثيرا،ً تأتي من السعوديين الذين يعرفون من تجاربهم الشخصية الآليات التي قام بتحليلها.

    وفي اجابته على سؤال حول كيفية تأثير الكتاب على النقاشات السياسية والفكرية الحالية'حول السعودية،' يقول المؤلف'أن النقاش الدائر حول السعودية محصور بين فكرتي التقليل من الذات والدعاية المساندة للسعودية، وهو بهذا يبتعد عن النظر بعدالة وموضوعية للواقع المعقد والتنوع الكبير في النظام السعودي.

    ولا يعتبر المؤلف كتابه سياسياً بالدرجة الأولى، ويقول انه ببساطة يناقش الأساليب التي يمكن بموجبها أن يؤثر توزيع الريع سلباً على التنمية الاقتصادية ويعرقل السياسة. ويضيف إن فهم هذه القيود يجب أن يكون الخطوة الأولى تجاه أية إصلاحات ذات مغزى، وبالخصوص للقطاع العام وأسواق العمل.

    وبرأيه فإن التحديات التي يواجهها البلد مستقلة عن شكل النظام السياسي، ويقول 'بعيداً عن تحليلي الخاص لتوزيع الريع في السعودية، فقد بدأت أفكر في طريقة أكثر عدالة وشفافية للمشاركة في ريع النفط والتي لا تؤثر سلباً على تماسك البيروقراطية، كما أنها لا تخرج المواطنين من دائرة الانتاج الاقتصادي كما تفعله الآن سياسات التشغيل الزائدة عن الحد في القطاع العام. ولذلك فأنا أعمل حالياً على ورقة بحث حول دخل المواطنين في دول مجلس التعاون الخليجي الريعية، وهو مفهوم يتم فيه فصل التوزيع المباشر للريع عن التوظيف، ويتم فيه اعتباره كحق أساسي للمواطنة. يمكن لهذا أن يمنح المزيد من الاستقلالية الاقتصادية للمواطنين، ويقلل من التشتت وانعدام العدالة في أنظمة التوزيع الحالية'.

    تجدر الاشارة هنا الى انه'إضافة إلى المشروع حول دخول المواطنين في دول التعاون الخليجي، فأن المؤلف على وشك انهاء كتاب بالتعاون مع عالم الاجتماع، دييغو غامبيتا، عن سبب وجود الكثير من المهندسين في صفوف الاسلاميين المتطرفين، وهو مشروع صغير تطور ذاتياً عبر السنين. كما يعمل أيضاً على مقال يوضح استمرارية الملكيات العربية، وورقة بحث توضح الفرق بين الأساليب السياسية المختلفة للدول الريعية.

    مقتطفات من الكتاب '

    'حين دخلت غرفة التلكس في وزارة سعودية هامة في صيف 2003، شعرت بأن شيئاً ما كان خطأ في الاتصالات بين الأطراف المختلفة في الحكومة السعودية. فأمام شاشات كومبيوتر تعود الى جيل السبعينات من حجم 12 بوصة جلس موظف سوداني يرتدي عمامة ضخمة. وبين حين وآخر، تعود طابعة تبدو وكأنها ماتت منذ فترة طويلة للحياة وتصدر منها ضوضاء وهي تطبع رسالة على شريط الورق اللا منتهي الذي يتدلى منها. بهذه الطريقة كانت الوزارات السعودية تتواصل فيما بينها في عام 2003، وبعد أن صُرفت المليارات على تحديث نظم الاتصال في إدارة المملكة، وبعد ثلاثة'سنوات متتالية من العوائد النفطية العالية.

    لقد كانت قضية مثيرة من البيروقراطية العتيقة، ولكن غرفة التلكس كانت أيضاً جزءاً من اللغز العملي الواسع الذي كنت أبحث فيه لفترة من الزمن: خلال العقود الماضية، اعتلت كل النخبة السعودية الحاكمة قارب الاصلاحات الاقتصادية، وبضمنها الخصخصة، والسعودة لأسواق العمل، واصلاح سوق رأس المال، وتحرير ضوابط الاستثمار الأجنبي، ودخول منظمة التجارة العالمية. لقد أصبحت النخبة الحاكمة راغبة فعلاً في إعادة تعريف دور الإدارة، والقطاع الخاص بعد أن تراكمت الثروة عبر السنين وأصبحت لدى النخبة الإرادة'للقيام بمهام تنموية جديدة. ورغم أن الاجماع السياسي يبدو واسع النطاق، إلا أن سجل الاصلاحات الاقتصادية في السعودية منذ 1999 لم يكن متوازناً.'وقد أثار هذا فضولي حيث أنه لا يتفق مع الخطاب الرسمي حول سياسة التنمية الرشيدة، ولا مع الكليشيهات الغربية حول الفساد السعودي الذي لا مفر منه. لماذا أثبت سوق العمالة السعودي أنه غير واضح الملامح في حين أن مشروعات محددة أخرى، مثل خصخصة الاتصالات السعودية عام 2003، تمت بنجاح؟ لماذا كان تطوير البيئة التنظيمية للمستثمرين الأجانب في سنوات الالفين أصعب من بناء بنية تحتية بمواصفات عالمية قبل ربع قرن من الزمن؟'لماذا تم تطبيق بعض السياسات بينما تعثرت سياسات أخرى في دهاليز البيروقراطية؟

    إن السجل السعودي المشوش لا يتسق بسهولة مع الطرق المقبولة لتفسير الاقتصاد السياسي للمملكة، وأقصد على وجه الخصوص نظريات 'الدولة الريعية'، والتي كانت المملكة العربية السعودية المثل الدائم لها، والتي ُرسمت لها صورة أوسع مما يجب.

    وفي الوقت الذي وفرت هذه النظريات 'فرصة جيدة للتفكير بخصوص مشاكل عامة خاصة بالتنمية النفطية، فإنها كانت أقل فائدة في تفسير درجة النجاح أو الفشل، وهو أكثر الألغاز إثارة في نظام معقد مثل السعودية، والذي لم يكن أبداً فشلاً تنموياً. فالنظريات الريعية تتوقع أن دخل النفط سيسمح للدول أن تتصرف بشكل مستقل عن مطالب المجتمع، وأن المدخول النفطي سيقوي من الدولة على حساب المجتمع، وعلى حساب السلطة التنظيمية الضعيفة لمؤسسات الدولة وانتشار الاعتماد على الريع، وهذا كله صحيح في السعودية إلى حد ما. ورغم ذلك، فلا شيء من هذه التوقعات يفسر تعقيدات آليات صنع القرار في السعودية أو التباين في النتائج. '
    '
    علم الاجتماع والمشاركة في الثروة

    النفط كان مهماً جداً في تشكيل الدولة السعودية، ونظام السلطة فيها، وأساليب صناعة القرار، وفي تشكيل السلطة ضمن المملكة عبر الزمن. ومن أول النتائج التي توصلت إليها في الابحاث التي قمت بها هو أن قرارات النخبة كان لها أهمية قصوى في تشكيل الدولة، خصوصاً في المراحل الأولى في بناء الدولة. فبينما قامت العائلة المالكة السعودية في حالات كثيرة باستعمال سلطتها المالية لبناء محسوبيات شخصية أو لتوظيف جيوش فعلية من المنتفعين البيروقراطيين الذين لا عمل فعلياً لهم، الا انها استعملت في نفس الوقت هذه الموارد - بمساعدة آخرين - آخرين لبناء إدارات كفؤة عن طريق شراء خبرات عالمية وتقديم عروض جذابة للمواطنين الطموحين. وإذا كانت هناك نتيجة ما لذلك، فإن أجزاء كبيرة من المدخول النفطي قد وسعت من لائحة الخيارات المؤسسية المتوفرة للنخبة مما أنتج جهازاً حكوميا غاية في التباين بين أجزائه.

    لقد لعب جهاز الدولة السعودي دورا قيادياً ساحقاً لغيره في السياسة الداخلية. فقد كانت السياسة السعودية مركزية بشكل كبير بيد النخبة، التي أضعف سخاؤها ورعايتها للآخرين من استقلالية المجموعات الإجتماعية. ومع ذلك فإن طبيعة النمو الاقتصادي المتقطع للدولة وعصب النظام الذي يتمحور حول العائلة المالكة قد أدى إلى عدم انسجام كبير وتشظ للجماعات الإجتماعية، وبدرجة أساسية لمؤسسات الدولة في المستويات الدنيا من الهيكل السياسي.

    وبينما كانت القرارات السياسة تتخذ من أعلى الهرم نزولاً لأسفله وتهيمن عليها سلطات عليا، فإن النظام تمكن في وقت قصير نسبيا من أن يبني ويمنح المتعاملين معه في المجتمع، جماعات كانوا أم أفراداً، التزامات مالية واسعة. وبمرور الوقت فإن هذا 'السخاء الأبوي' أصبح غير قابل للتغيير مما قلص من استقلالية القيادة في التصرف بحرية في عوائد النفط، وهي آلية توضح الأهمية القصوى لقرارات التوزيع التي تم اتخاذها في منعطفات تاريخية سابقة. إن مجموعات المنتفعين من الدولة الريعية، والذين تراكمت أعدادهم عبر الزمن، كانت لهم فائدة واضحة في تهدئة المجتمع سياسياً، ولكن وجودهم غير القابل للتزحزح في الدوائر البيروقراطية وحولها يجعل عملية الاصلاح والإدارة اليومية لشؤون الدولة أكثر صعوبة.

    بعد فترة من التطورات السريعة والتغيرات التي أملاها التوسع في الدولة، فإن الدولة السعودية برزت وبشكل غير متوقع كدولة متشظية وككيان ضخم وجامد- رغم وجود بعض الأجزاء الحيوية وعالية الكفاءة فيها. ولتفسير السبب الذي يجعل بعض الاصلاحات ممكنة في السعودية في وقتنا الحاضر وبعضها الآخر غير ممكن، فإننا نحتاج إلى 'تفكيك' الدولة. نحتاج أن نفهم هياكلها وعلاقاتها بالمجتمع على المستوى المتوسط لمنظمات محددة وجماعات إجتماعية، إضافة غلى فهم الأفراد المنتفعين من الدولة على المستوى الفردي.

    إن التشظي على المستوى المتوسط في الدولة السعودية يعني أن القابلية للتنسيق والتكامل في السياسات بين المؤسسات المختلفة والشبكات الأخرى ضعيف، كما يشهد بهذا المنظر الذي ذكرناه سابقاً من غرفة التلكس والذي يوحي بأن الرسائل تصل وكأنها قادمة من قارة أخرى.

    وعلى النقيض من هذا، فإن سياسات الإصلاح التي شملت بضع مؤسسات فقط، أو التي تمت عبر أطراف دولية قوية نُفذت بشكل أكثر نجاحاً. وحتى بعد ذلك، فإن النجاح في التطبيق مشروط بالكم من اللاعبين على المستوى الفردي الذين يحتاجون أن يتم تفعيلهم وتوجيههم في هذه العملية، وهؤلاء قد يكونون مدراء من المنتفعين من البيروقراطية، أو أفراداً يلعبون أدواراً تنظيمية في المجتمع. وبينما يعد المجتمع السعودي ضعيفاً من ناحية التنظيم الجمعي، فإن الشبكات الاجتماعية في الدائرة البيروقراطية يمكنها في أغلب الأحيان أن تعرقل السياسة.

    إن 'درجة اتساع' المستوى الأوسط، و'عمق' المستوى الفردي في سياسة'ما هما عاملان حيويان في تحديد النجاح أو الفشل لهذه السياسة. إن التفريق في السياسات الريعية بين المستويين المتوسط والفردي يسمح بفهم أكثر دقة ' لقدرة الدولة' في البيروقراطية الريعية، وهو عامل يمكن أن يتباين خلال نظام ما إعتماداً على المحتوى المؤسساتي.

    إن التحليل العميق للنموذج السعودي يوفر لنا أساساً أعمق للنقاش الدائر حول الدولة الريعية. إنه يضيف دقة للتأكيد على أن الدولة الريعية مستقلة عن المجتمع. وفي الأساس، فإن مدخول النفط أعطى النخبة الحاكمة مساحة واسعة للمناورة. هذا الاستقلال يمكن أن يتقلص بمرور الزمن، ولكن، يمكننا أن نرى أنالقيود التي تربط الدولة بالمجتمع تتزايد وهي تأخذ على عاتقها مسؤوليات التوزيع الفردي للثروة والتي لا يمكن الرجوع عنها.

    إن الحالة السعودية تؤكد التوقع النظري أن الريع يقوي الدولة في مقابل المجتمع. والآلية التي توضح هذه النتيجة هي أن الاعتماد على الريع يميل إلى جعل المجموعات الإجتماعية تابعة للنظام ويقوض من تجانسها الداخلي. ومع ذلك، فإن الدخل النفطي العالي يبدو مغرياً للنخبة السياسية لتضيف منظمات أخرى لجهاز الدولة لمواجهة المشاكل السياسية والإدارية، مما ينتج عنه تشظي الدولة نفسها. هذه هي النتيجة غير الموثقة حتى الآن لتأثير المدخول الريعي الذي يبدو حاصلاً في الدول الريعية أيضاً.

    وفي الوقت الذي تعتبر فيه البيروقراطيات 'المترهلة' ذات السلطات التنظيمية مهمة وكاشفة لطبيعة النظام، وهي التي تعزى في أغلب الأحيان للمدخول الريعي، فإن هذه البيروقراطيات تعد طارئة وعرضية بدرجة أكثر مما تتنبأ به الأدبيات. واعتماداً على الكيفية التي تقرر بها القيادات استعمال المدخول المكتشف حديثاً في عملية بناء الدولة، فإن هذه البيروقراطيات قد تظهر وقد لا تظهر. وإذا ظهرت، فإن الآلية المعتادة هي استعمال التوظيف البيروقراطي كمورد لضمان الولاء والذي يقوض المحفزات الفردية في النظام البيروقراطي. وفي حالات أخرى، فإن المنتفعين الثيوقراطيين والذين تم انتقاءهم بعناية من قبل آل سعود قاموا ببناء 'جزر من الكفاءة' في خضم جهاز الدولة السعودية تتمتع بأنظمة توظيف وحوافز مستقلة عن بعضها، وتصدر في بعض الأحيان تعليمات صريحة بتجاوز البيروقراطية في باقي جهاز الدولة.'وبخلاف ما تمت مناقشته في السابق، فقد وجدت أن وجود أو غياب نظام ضرائبي على المستوى الوطني له أثر ضئيل على سلطات الدولة التنظيمية.
    إن السعي وراء الربح والفساد الذي تتنبأ به الأدبيات يحدث بالفعل في السعودية، حيث يتضاعف حجم بعض المؤسسات وكأنها مصالح ومحسوبيات خاصة لبعض اللاعبين المؤثرين في النظام. يتفاوت حجم الفساد كثيراً بين مؤسسة وأخرى، ومع ذلك فإن هذا لا يعد السبب الرئيس للنتائج المتواضعة للسياسات الرسمية، بل إنه يتصل أكثر بتشظي الدولة وبزخم المنتفعين داخل بيروقراطية الدولة.'إن ما أطلق عليه أنا 'الانتفاع المقسم'- وهو نظام غير متجانس وغير رسمي مبني على الانتفاع من الريع الذي تهيمن عليه العلاقات الرأسية-'يسمح بالتحليل الدقيق أكثر مما تسمح به نظريات الدولة الريعية. إنه يعطينا الفرصة لنفهم في أي جزء منها تكون الظاهرة الريعية قابلة للتطبيق وفي أي جزء آخر لا يمكن تطبيقها، إضافة إلى فهم علاقات السلطة التي تحددها.
    '
    ' منشورات مطبعة جامعة كورنل الامريكية عام 2011

    ' لعنة الموارد: مصطلح اقتصادي حديث نسبيا (ثمانينات وتسعينات القرن الماضي) يشير الى التناقض المتمثل في اقتران وفرة الموارد الطبيعية (خاصة تلك غير المتجددة والقابلة للنفاد كالنفط والغاز والماس والرواسب المعدنية..الخ) في بلد ما بضعف مزمن في مستويات النمو، بل وفي كامل عملية التنمية الاقتصادية.

    فقد لوحظ، وعلى امتداد سنوات لسنوات طويلة، ان متوسط النمو ومستوى تطور اقتصادات بلدان تتمتع بوفرة من المصادر الطبيعية المستغلة يكونان اقل عموما مما هو الحال في بلدان لا تتمتع بهذه الوفرة.

    ومع ان هناك معارضة لهذه النظرية من اقتصاديين كثيرين، الا انها تظل صالحة لتفسير ـ ولو جزئي ـ لما يحدث في كثير من البلدان المعتمدة على عائدات الموارد الطبيعية التي تمتلكها، بما في ذلك التشوهات الملحوظة في اقتصاداتها.
    الاقتصاديون المؤيدون لنظرية 'لعنة الموارد' يرجعون ضعف النمو او التشوه الاقتصادي، الملحوظان بالبلدان التي اصابتها هذه اللعنة، الى اسباب عديدة بضمنها ضعف تنافسية بقية القطاعات الاقتصادية غير المعتمدة على الموارد الطبيعية نتيجة ارتفاع سعر صرف عملات البلد المعني، وعدم استقرار قيمة عائدات تصدير قطاع الموارد الطبيعية (النفط مثلا)، وسوء وفساد نظم الحكم والادارة، وما يوفره ذلك من امكانيات للنهب المنظم والرشوة وشراء الولاءات.. الخ.
    رد مع اقتباس رد مع اقتباس

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    28-Oct-2005
    المشاركات
    476
    معلومات قيمة شكرا
    رد مع اقتباس رد مع اقتباس

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    8-Dec-2005
    المشاركات
    437
    الطرح جيد ولكنه جاء بنظرة مادية متأثرة بثقافة غربية ، التركيز على الإقتصاد وتجاهل الأمور الأخرى غير جيد . السعودية ليست النفط فقط يجب أن لا يتم فصل البيئة الفكرية والثقافية والجغرافية وحتى المناخية ، البيئة الحاضنة تأثيرها كبير وما ينطبق على الغرب ليس بالضرورة أن يصلح للشرق ، هتلر عندما إنفصل عن بيئته جاء بالطوام وكذلك فعل مؤسسوا المنهج الإشتراكي وفعله أيضاً القذافي الذي يمثل أوضح مثال علىذلك عندما إنفصل عن بيئته وغير كل شيء المسميات والتواريخ والنظم والفكر وكل ذلك بإسم التطوير إلا أن النتيجة كانت مدمرة ، وهذا ينطبق على حالتنا ، من الخطأ أن يكون المخطط لنا من غير بيئتنا وثقافتنا .
    الإجتهادات البشرية إذا لم تكن موافقة لسنن الله الكونية والشرعية فلن تعطي نتائج مضمونة . إستبشرت شعوب كثيرة بالنازية وكانت طامة على أصحابها ومثلها الإشتراكية والرأسمالية على الطريق . هناك أمور قد يكون في ظاهرها الخير وباطنها الشر ومثال ذلك إستخدام الكيماويات والمبيدات في الزراعة كانت في البداية مبشرة ثم تبين أنها مهلكه ، ونرى عكس ذلك في أمثله سريعة فالجوع المقنن صحة ( الرجيم ) والتعب المقنن أيضاً صحة ( الرياضة ) والتعب وبذل الجهد يرفع صاحبه ( من طلب العلا سهرالليالي ) في حين أن الظاهر أن الشبع والراحة أفضل من الجوع وبذل الجهد .
    أمريكا جاءت للعراق ظلماً وعدواناً ومخالفة لسنن الله لإستغلال ثرواته ولإستخدامه لمرحلة قادمة في صراعها مع الشرق وإحتلت البلد وأتخذت مبدأ الفوضى الخلاقة منهج لتدمير البلد لسهولة السيطرة عليه فكان في ذلك هلاكها وإستنزافها . وفي مثال آخر جاءت الثورات العربية في الخمسينات بشعارات التطوير والتنمية وبقيت دول أخرى تحت نظام ملكيات توصف بالرجعية والتخلف والإقطاعية .... وبعد خمسين سنة فإن دول الثورات المزعومة تراجعت وتخلفت وعصفت بها الفوضى وظهرت فيها الثورات الحالية ، ودول الملكيات بقيت مستقرة وهي أكثر تطور ونمو قياساً على دول الثورات . الخلاصة التحكم بالنتيجة ليس بالضرورة مضموناً ولا يأتي كما خطط لها . في حين أنه إذا سلم المنهج وكان موافقاً لسنن الله الكونية والشرعية فإن العمل والنتيجة ستكون مضمونه . لو توكلتم على الله حق التوكل لرزقكم كما يرزق الطير تروح بطانا وتغدوخماصاً . ولنا في الأزمة المالية الأخيرة عبره فقد كانت المؤسسات التي تنتهج أو تحاول أن تطبق السنن الشرعية في تعاملها ، كانت هي من أقل المؤسسات تأثراً بالأزمة المالية .
    الحل هو في العوده للوحيين القرآن والسنة في جميع أمورنا لنكسب خير الدارين . العوده للدين الذي يريده الله وليس للدين الذي نريده نحن ، نريد دين يحكمنا وليس دين نحكمه .
    الدول المتقدمة اليوم هي دول تطبق مناهج ومثل ومباديء من إختيارهم طبقوها وصارت هي الحاكمة لهم ، بذلك تقدموا . دول فعًلوا مؤسسات تطبق هذه المثل والمباديء في بيئة ديمقراطية يسيًرها عقلاؤهم . تذهب الحكومات وتبقى المؤسسات . وباقي دول العالم المتخلف لا توجد مؤسسات ولا مثل ولا مباديء ، الموجود شعارات فقط تذهب المؤسسات وتبقى الحكومات . .. ماذا لو كان عندنا مؤسسات تطبق إختيار رب العالمين لنا في جميع المجالات السياسية والإقتصادية والإجتماعية والإعلامية . تذهب الحكومات وتبقى هذه المؤسسات ؟ كيف سيصبح حالنا ؟ .
    رد مع اقتباس رد مع اقتباس

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    11-Aug-2001
    الدولة
    السعودية
    المشاركات
    11,704
    هناك من يريد أن يخلق فجوة وفوضى بين الشعب والحكومة وبين الشعب والمقيمين في البلد عبر هذه التقارير وهذه الكتب ، وهذا ما يحدث ، وهذا مقال أيضاً يريد خلق فجوة وفوضى وهي واضحة عبر محتويات المقال !!!

    أهمية النفط أصبحت أكبر من السابق بعد ارتفاعات الاستهلاك الواضحة على مستوى العالم ...


    الأدب في زمن النفط: أيام الماعز

    "منذ تلك اللحظة، بالضبط مثل ذبابة مانيان، بدأ خوف مجهول يغلف عقلي. شك غير منطقي بدأ يتملكني، أن هذه الرحلة لم تكن تقودني إلى حياة الخليج التي كنت أحلم بها وأشتهيها. ذاك الخليج الذي عرفت عنه الكثير من العديد من الأشخاص، لا يشبه ما أراه. يلفحني الخطر، ولا شيء واضح أمامي ." (أيام الماعز، بنيامين، دار نشر بنغوين 2012)

    لقد خلق زمن النفط مستويات غير مسبوقة من التقييد والقسوة البشرية. وفي الوقت نفسه، فالناس اليوم يسافرون أسرع وفي مجموعات أكبر من أي وقت مضى: والهجرة إلى الخليج بعد الانفجار النفطي في السبعينات خير مثال على ذلك. يوجد هناك ما يقرب من خمسة عشر مليوناً من العمال المهاجرين في الخليج، قدم أغلبهم من دول آسيوية، وأفريقية، وعربية. وقد ارتفع عدد العمال الآسيويين المهاجرين بشكل ملحوظ في التسعينات، ليعوضوا النقص الحاصل بسبب تهجير العمال العرب الذي سببته حرب الخليج عام 1991. هناك ما يقرب من مليونين ونصف من العمال المهاجرين من كيرالا لوحدها، وهم يرسلون إلى بلدهم سنوياً ما يقرب من خمسة عشر بالمئة من التحويلات الخارجية للهند. يقضي العمال المهاجرون سنوات من عمرهم بعيداً عن عوائلهم، يعملون بأجور زهيدة جداً، ويعيشون في ظروف سيئة، فيما يحتجز أرباب العمل جوازاتهم في بلد لا يوجد فيه بشكل فعلي أية قوانين عمل على أرض الواقع. يعبر الأدب عن تجارب هؤلاء المهاجرين بصورة مثيرة في رواية بنيامين، أيام الماعز، باللغة الانجليزية. هذه الرواية المبنية على قصة حقيقية، أصبحت ضمن قائمة أفضل المبيعات في طبعتها الأصلية المالايالامية ( أدوجيفاتيم)، وفازت بجائزة أكاديمية ساهيتا- كيرالا. بنيامين، وهذا هو الاسم الأدبي لبني دانيل، هو مسيحي من كيرالا عاش في البحرين منذ عام 1992.

    1. السفر والأدب

    هناك نقص كبير في الأدب الذي يكشف التقاليد التي ولدت في مجتمع النفط. ورغم أن الهجرة إلى الخليج تعد مثالاً لحياة المهجر لدول جنوب آسيا في وقتنا الحاضر، فإنه لا توجد رواية أخرى ، متوفرة باللغة الانجليزية، أبرزت شخصية العامل المهاجر كشخصية رئيسية فيها. بنيامين يقوم بهذا عن طريق وصف ثري لما يحيط بشخصية البطل بأسلوب حوار داخلي مؤثر. الراوي في الرواية اسمه نجيب، عامل منجم بسيط من كيرالا يسافر للرياض عن طريق بومباي في التسعينات حالماً بالحصول على ثروة، ليستعبد بعدها لمدة ثلاث سنوات في مزرعة ماعز تحت رحمة رب عمل قاس (أرباب). إنها رواية ذات تقاطعات متعددة: من جنوب الهند للخليج، ومن الرياض إلى المناطق القروية في السعودية، ومن الأحلام إلى المرارة المادية، والتحرر من الوهم على واقع الفقر. ولكن يكمن في قلب أيام الماعز الرحلة التي يقوم بها نجيب من العبودية للحرية، وبضمنها رحلة شاقة ومحفوفة بالمخاطر في بطن الصحراء. تتحدث الرواية عن الأخطار التي يواجهها نجيب في صراعه للحصول على الحرية.

    ما لفت انتباهي كحقيقة جذابة في أيام الماعز هو الاقتصاد في استعمال النثر، حيث يستعمل بنيامين أسلوباً مباشراً وموجزاً:

    "امتدت أغصان شجرة ليمون برية إلى أبعد قليلا من كشك الحراسة. كنا نقرفص في ظلها متأملين أن يطل حارس علينا أثناء نوبته ويرانا. بقينا هكذا لفترة طويلة. وفي تلك الأثناء، دخل إثنان أو ثلاثة من العرب بخطى رشيقة إلى مركز الشرطة، فيما تسكع ثلاثة أشخاص على الأقل خارجين منه. بدونا وكأننا غير مرئيين لهم."

    إن المحرك الرئيس في رواية نجيب هو ليس الرحلات فقط، ولكن أيضاً نوبات الانتظار الطويلة. لهذا تعد قراءة أيام الماعز مثيرة: فالقارئ يتابع نجيب وهو يدخل إلى عالم يصبح فيه معتمداً بالكامل على "مضيفه" حين يُنقل من مكان احتجاز لآخر. إن الفقرة التي أوردناها أعلاه تتحدث عن رحلة نجيب مع سيده الجديد من المطار: يُنقل نجيب على شاحنة متجهة إلى الصحراء، وهو لا يعلم إلى أين يأخذونه. وعن طريق إبقاء القارئ مترقباً للأحداث، يرسم بنيامين خط هجرة غير مرئي لقراء الأدب الهندي. يعود الفضل للمترجم، جوزيف كويبالي، في الاحتفاظ بخاصية الإثارة في النص الأصلي دون تغيير.

    أشعر بالسعادة كلما وجدت ترجمة إنجليزية لأحد الأعمال الأدبية من جنوب آسيا، لأنه، وبالرغم من الثراء الأدبي في تلك المنطقة، فإن الأدبي الهندي المكتوب بالانجليزية هو أكثر أنواع الأدب قبولا وتقديراً فيها. انتشر الأدب الهندي المكتوب بالانجليزية في التسعينيات. أحد الأنواع الفرعية لهذا الأدب ركز على الهجرة من جنوب آسيا إلى أماكن تسود فيها اللغة الإنجليزية. ركز الكثير من هذا الأدب على الكيفية التي أعاد المهاجرون الهنود تشكيل أنفسهم حين غادروا إلى المملكة المتحدة والولايات المتحدة حيث شعروا بالتمزق بين عالمهم القديم والعالم الجديد الذي وصلوا إليه. بما أن روائيين مثل جمبا لاهيري، وأنيتا ديزاي، وأميت شودري، وبانجيري دياكاروني قد كتبوا باللغة الانجليزية، فقد حظوا بجمهور دولي في أوروبا والولايات المتحدة، ونُظر إليهم على أنهم بالأساس كتاب هنود. ورغم هذا، فإن الرحلة الأساسية التي قام بها المهاجرون من جنوب آسيا في نفس العقد، وقعت ضمن الاحداثيات الجغرافية في الجنوب الدولي، أي بين الهند والخليج. هذه الفئة من المهاجرين ليست في الحقيقة في "الوطن" ولا تملك الحرية والترف لتكتب أدباً. وكما شرحت ديزي روكويل في "بلد الجسور المعلقة"، فهناك ترتيب هرمي للغات ضمن منطقة جنوب آسيا ذات اللغات المتعددة. فهنالك من درسوا في مدارس إنجليزية، وهم عادة من الطبقات الميسورة الحال. إن وضع لغة المالايالام كلغة إقليمية في الهند يحدد من إمكانية الوصول إلى قراء في العالم المتحدث بالانجليزية، ولهذا السبب تم الترحيب برواية بنيامين أيام الماعز.

    كان على الروايات الهندية المكتوبة باللغة الانجليزية أن تبذل مجهوداً لتعرض "ما يصعب ترجمته" من عبارات باللغة الهندية-أردية، والبنجابية، و..إلخ إلى الانجليزية. بما أنه من المفترض أن جمهور القراء من الآدوجيفيتام لا يتحدثون الإنجليزية، فإنه لا توجد محاولة لعرض كيف يبدو متحدثو المالايام للقراء الإنجليزيين. ومما يزيد الأمر تعقيداً حقيقة أن اللكنة الإنجليزية لمن يتحدثون المالايام، ولهجة الآخرين ممن يتحدثون لغات جنوب الهند هي هدف لسخرية الطبقات الأرستقراطية الهندية في الشمال. هذه السخرية مرتبطة بتاريخ اللغة السياسي، حيث قاوم الناس في الجنوب هيمنة اللغة الهندية كلغة وطنية حيث تم إعادة ترتيب الولايات الهندية وفقاً للغة بعد الاستقلال بفترة وجيزة.

    الأهم من ذلك هو أن أيام الماعز تفتح أفقاً جديداً لأنها رواية عن المهجر الآسيوي الجنوبي، والذي هو ليس الغرب ولا الطبقة الارستقراطية. وبالتالي، فإنها غير مهتمة بشكل أساسي بمواضيع الهوية والانتماء، مثل تلك الروايات التي تركز على رحلة المهاجرين الهنود للغرب ( الولايات المتحدة وأوروبا). يمكن للمهاجر العامل أن يعيش لسنوات بعيداً عن وطنه، وربما يتعلم العربية أيضاً، لكن الاندماج عن طريق اكتساب الجنسية أمر غير ممكن في دول الخليج كما هو الحال في الولايات المتحدة وبريطانيا على سبيل المثال. وبالتالي، فإن تجربة " الانتماء دونما إنتماء" هي أمر محل نقاش في أماكن مثل دبي، حيث يشكل الأجانب أغلبية السكان، ويعملون بشكل أو آخر كعلامات تجارية، أو كعالم من المستهلكين في غياب الديمقراطية، وكعمال بدون أجور عادلة.

    الشيء المنعش أيضا في أيام الماعز هو نقاشها الواقعي والمرن في الوقت ذاته لموضوع الإسلام، فيما يخص كيفية تناول بنيامين لتدين نجيب. إن النظرة لهذا الموضوع ليست نظرة مراقب يدخل إلى عالم جديد، ولذلك فلا نجد وصفاً لكيف يتجمع الناس للصلاة، وكيف يصلون، وما الذي يقولونه أثناء صلاتهم. إن ديانة نجيب، وصلاته، واعتقاداته ليسوا غريبين، ولا تتبع أي فكر سياسي. إن إسلامه حدث عرضي ومقدر بالضبط كما هو حال رب العمل ( الأرباب). يتحدى نجيب المعاني المختلفة للكلمة العربية أرباب، والتي تعني رب العمل، والمخلص، ولكنها أيضا جمع كلمة (رب) وتعني الإله. يلجأ نجيب في مرات عديدة إلى مخلصه الأكبر في نفس الصحراء التي سمعت اسمه أول مرة:

    "لم أكن أعلم إن كان الله قد سمعني أو لا، لكن إيماني بالله كان يرعاني ويزرع في نفسي ثقة جديدة. أنتم ياغير المؤمنين، ممن كنتم محظوظين للعيش بسعادة في الربوع الخضراء التي أفاء الله بها عليكم، قد تظنون أن الصلاة شعائر سخيفة. بالنسبة لي، كانت الصلاة هي المفتاح. لقد أبقاني إيماني قوي الروح برغم ما كنت أعانيه من ضعف الجسد. ولولا ذلك لتلاشيت واحترقت مثل العشب في تلك الرياح العاصفة."(153)

    ولهذا تعد رواية أيام الماعز سرداً أدبياً "من القاع" عن طبقات، وأشخاص مقهورين ومستغلين. لذلك، يشعر القارئ بالأحلام التي تستند إلى إمكانات محدودة في الحياة، يتبعها إفاقة من تلك الأحلام. تتكون رحلة نجيب إلى السعودية من دوائر رهيبة يدور فيها نجيب ويخسر: الحصول على فيزا عن طريق وكيل في بومباي، والتكلفة العالية للحصول على كفيل حيث يضطر أن يبيع كل شيء فقط ليقوم برحلته إلى الرياض. يشرح حماسه للرحلة، وأحلامه بالحصول على " ساعة ذهبية، تلفزيون، سيارة"، تاركاً زوجته مع وعود بهدايا كثيرة عند عودته، ومن ثم تأتي خيانة تلك الأحلام: "أشعر بالقرف وكأني أشم رائحة عفنة من مشهد في فلم من الدرجة الرابعة" (39).

    2. العمل والعنف

    إن المشهد الافتتاحي في القصة والذي يدور في السجن يعد بداية موفقة، حيث يسجل نجيب نفسه بشكل طوعي، فلا يوجد مكان يمكن للعامل أن يذهب إليه إذا ترك كفيله وأراد العودة لوطنه. فالأجنبي ممنوع حسب نظام "الكفالة" من العمل في أي من دول مجلس التعاون الخليجي بدون كفيل محلي. متى ما تم قطع علاقة العمل هذه، يعتبر العامل الأجنبي حينها مقيماً غير شرعي ويجب عليه أن يغادر البلاد فوراً. وبما أن نظام الكفالة يقيد إذن العمل والإقامة الممنوح للعاملين بموافقة الكفيل، فإنه يمنعهم من البحث عن عمل بديل. أما أولئك الذين يشتكون من ظروف العمل القاسية، والمعاملة السيئة فإنهم يخاطرون بفقدان عملهم، واعتبارهم مجرمين ومن ثم ترحيلهم. يصف نجيب سجن سوميسي بأنه مكان يستلقي فيه "السجناء على أي مساحة من الأرض يستطيعون الحصول عليها، في منظر يشبه تكوم الجثث بعد كارثة طبيعية" (13)، وفي مكان آخر يصف هذا المكان بأنه مثل " محطة قطار حيث يأتي الناس ويرحلون"(25).

    يترك المقيمون غير الشرعيين هنا حتى تنادى أسماؤهم وأرقامهم، تلك الأرقام التي توشم على سواعدهم: " لقد ذهبت إلى مدرسة دينية عندما كنت صغيراً، وهذا كاف لأميز الرقم 13858." كان "الاستعراض اليومي" الذي يقام كل أسبوع هو أكثر ما يرعب نجيب وزملاءه في السجن:

    "إنه اليوم الذي يتعرف فيه العرب على العمال الفارين. نقف كلنا في خط مستقيم..يمشي العرب أمامنا وهم ينظرون في وجوهنا بتمعن، بالضبط كما يفعل شاهد العيان الذي يريد التعرف على متهم..ويكون رد الفعل الأولي للعربي الذي يرى عاملاً من عماله أن ينزل بصفعة مدوية على وجهه تكاد تخرق طبلة أذنه، بل إن البعض يخلع حزامه ويجلد السجين حتى يهدأ غضبه." (21)

    قد يترجم العنف الذي يلقاه العاملون المهاجرون في السعودية بشكل خاطئ من قبل بعض القراء على أنه عودة للأزمنة القديمة، لعالم القرن السابع، مجسدة المفهوم الخاطئ أن هناك ميلاً متجذراً نحو العنف في "الثقافة العربية." لكن العالم الذي يحتجز فيه نجيب عصري بالكامل، تم تشكيله عن طريق التفاعل بين الأوروبيين، والأمريكان، والعرب. فمؤسسات كالسجون التي بنيت لإيواء العمال الفارين، والأنظمة التي تم إرساؤها للجوازات والفيز، تعود أصولها إلى مشروع بناء الدولة الحديث: في حالة السعودية، تم تأسيس هذا المشروع بالكامل على قاعدة اقتصاد يعتمد على النفط، وعلى نخبة احتكرته.

    لا نعرف إلا القليل عن تاريخ العبودية والعمالة المستأجرة في القرن العشرين قبل الانفجار النفطي في السبعينات. ولكن التدفق الكبير لملايين من العمال الهنود على ممالك النفط في الوقت الحديث يعيد إلى الذاكرة نفس التدفق للعمالة عبر المحيط الهندي قبل، وفي بداية ظهور النفط. لقد كانت العمالة المستأجرة أمراً حيوياً لنجاح العمل في الامبراطورية البريطانية، وتم نقل أكثر من مليون منهم إلى مستعمرات حول العالم بين عامي 1830 و 1920، ليحلوا محل العبيد الذين تحرروا في مزارع الهند الغربية.

    يمكن أن نرى مثلا حيا للتوظيف الاستعماري للعمالة الهندية في المجتمعات الهندية في كل من الهند الغربية، وجنوب أفريقيا، وموريشيوس، وفيجي: لقد شكل هذا التوظيف الدولي الممنهج للعمال الهنود، والذي أدير من قبل حكومات إمبراطورية، وهندية، وحكومات استعمارية، سابقة غير معروفة من قبل. كما قام الجيش البريطاني باستعمال الهنود كعمالة عسكرية وكجنود في حملته على وادي الرافدين (1914) إبان الحرب العالمية الأولى، والتي أصبح النفط قرب نهايتها حافزاً أساسياً لتأسيس دولة عربية (العراق) في المناطق المقهورة. بدأت شركات النفط الأمريكية بالدخول إلى منطقة الخليج في الثلاثينات عقب المنافسة بين المصالح العثمانية والبريطانية، والتي كانت حجر الزاوية في إعادة تشكيل القبائل العربية المتنازعة. وقد فضل مديرو شركات النفط الأمريكية التعامل مع العائلة السعودية المستبدة بشكل خاص كما فعل البريطانيون في السابق.

    وبينما تطورت السعودية سريعاً إلى أن أصبحت دولة وزبون عمل عن طريق التوسع في علاقة الأمن مقابل النفط مع الولايات المتحدة، كان هناك نظام عالمي هرمي للنفط يتم إرساؤه . في الأقاليم السعودية الشرقية الغنية بالنفط، تم في الأربعينات تطبيق قوانين جيم كرو، والتي استوردها مسؤولو شركة النفط الأمريكية، والتي فصلت بشكل غير متساو بين العرب والبيض، ولكن هذه الظاهرة اشتملت أيضاً على استقدام عمالة هندية للمساعدة في الأعمال المحلية، وبالتالي تم فصل العمالة بناء على العرق، وهو استراتيجية إمبراطورية قديمة.

    في الحقيق، فإن مصطلح "نظام هرمي" تم تقديمه من قبل مسؤولي شركة النفط، وهو شيء التقطه الأمريكان من البريطانيين، الذين كانوا في هذه المنطقة منذ زمن طويل. في هذا النظام النفطي الهرمي الجديد، يتم تحديد الطبقة بناء على العرق والجنسية، مع تفضيل لبعض ( المغتربين الأنجلو-أمريكيين، والنخبة السعودية) على حساب الآخرين (الفقراء السعوديين، والبدو، والعمال المهاجرين). إن المرء يتساءل، إلى أي حد يمكن أن ننسب التصاعد في دولة الرفاهية السعودية، والتحول إلى العمالة الأجنبية إلى رد فعل على قمع العمال السعوديين واتحاداتهم. في عام 1949، عاد بعض العمال الباكستانيين إلى بلادهم من السعودية، وفضحوا سوء المعاملة التي تلقوها من الأمريكان في الصحافة المحلية:

    "حال وصولهم إلى السعودية، وجد الباكستانيون الشباب المسؤولين الأمريكان ثملين بالعجرفة العنصرية..كانوا معبئين إلى أقصى حد بالرغبة في تعريض المسلمين الشباب إلى معاملة "إعدم الزنجي" اللا إنسانية. وحين استجمع هؤلاء "الزنوج" ما يكفي من الشجاعة للاحتجاج ضد هذه المعاملة المفروضة عليهم، تم تسليمهم للشرطة فوراً، ومن ثم تم ترحيلهم إلى الباكستان دون أدنى مراعاة لشروط التعاقد معهم.

    لقد تم إلغاء العبودية في السعودية، والتي أغمض الأمريكان عيونهم عنها في السابق، عام 1962 بشكل رسمي من قبل الملك فيصل، ولكن العبودية المغلفة بالعقود استمرت. إن الغياب الرسمي "للعبودية"ن يستدعي في الواقع تساؤلاً عن ظاهرة مماثلة في عالمنا المعاصر، وهي ظاهرة العبودية عن طريق التعاقد، والتي تفترض قبول الطرفين وهو أمر لا معنى له في الواقع. إن ترتيبات الاحتجاز، والنقل، والعمالة القادمة من الهند إلى الخليج يمكن أن ينظر إليها على أنها جزء من التاريخ الامبراطوري العالمي للقرن العشرين. أما بالنسبة للملايين من العمال المهاجرين الذين سافروا إلى الخليج بحثاً عن فرص عمل، فقد وجدوا أنفسهم محاصرين بين الكفيل والدولة.

    تستعمل كلمة أرباب في اللغة المحلية بمعنى كفيل/رب عمل، وهي تعني في الواقع "المخلص"، وحين يغادر نجيب، المتزوج حديثاً، موطنه ويصل لأول مرة إلى السعودية، ينتظر في المطار بفارغ الصبر الرجل الذي سيتولى مسؤوليته. وبخلاف العرب الأثرياء من سكان المدن الذين يسلمون على المهاجرين، فإن أرباب نجيب شخص فقير. ورغم استعداده للقيام بأي عمل، يتذكر نجيب باشمئزاز ورعب مشاعره حين عرف مصدر رائحة أربابه "التي تشبه خليطاً من مسحوق العظام والروث"، إنها قادمة من مزرعة الماعز حيث سيجبر على أن يعيش ويعمل، ممنوعاً من أن يغسل نفسه أو يستحم. هذه الروائح المقرفة، المنبعثة من نتانة الماعز والملابس العفنة التي أعطيت له، تشكل الخيط الذي يربط الرواية بكاملها:

    "في البداية، كانت الرائحة النتنة تنبعث من كل شيء في المزرعة. الرائحة المنبعثة من بول الماعز، النتن المنبعث من الفضلات، العفونة المنبعثة من العشب والقش المبلل ببول الماعز..حتى حليب الماعز كانت له رائحة نتنة. كلما غمست قطعة خبز في حليب الماعز كانت رائحة العفونة تخترق أنفي. كم تقيأت في الأيام الأولى، ولكن شيئاً فشيئاً توقفت عن التقيوء، أو ربما بدأت أنسى. فيما بعد، ورغم أني حاولت مرات عديدة إلا أنني لم أستطع التعود، لقد أصبحت جزءاً مني، ولم أكن أصدق أن رائحة نتنة مثل هذه كانت موجودة أصلاً." (128)

    3. الاحتجاز والعبودية:

    إن تجربة الاحتجاز بالاكراه لمدة طويلة أمر لا يمكن التفكير فيه عند أغلب المهنيين المتنعمين. لذلك، فإنه من الصعب تخيل ما شعرت به وأنا محتجز في الصحراء، وممنوع من الاستحمام، وممنوع من أن أغسل نفسي بعد التغوط، أو أن أشرب الماء أكثر من ثلاث مرات في اليوم. من الصعب تخيل شعوري الدائم بالخوف من محتجزي الذي يمكن له أن يجلدني، أو يزيد من حجزي، أو يقتلني إذا شاء. ما هو شعورك حين تكون مختطفاً، ومسجوناً، بل ومستعبداً في واحدة من أقوى ممالك النفط على وجه الأرض؟

    يقف الزمن بالنسبة لنجيب. حين يعقد حلفه الفاوستي، تظهر مشاعر متصاعدة ثم تخفت من الارتباك، والأرق المصحوب بعقدة الاضطهاد، والقلق، والضجر، والخوف مختلطة بمزيج من الضباب، والقذارة، والمرض. لقد ظهرت أصوات تعبر عن معاناة العمال المهاجرين للخليج في تقارير حقوق الانسان، وبرزت صورهم المصقولة على أغلفة العديد من الكتب والمجلات فاضحة أسلوب توزيع الثروة في ممالك النفط. ولكن السرد الأدبي من أرض الواقع لا يعري الحقيقة ببساطة، إنه يجعل التعرف على القسوة أكثر ألفة.

    قراءة أيام الماعز تجعل القارئ قريباً من بطل الرواية. يخاطب نجيب القارئ بأسلوب الأمر الواقع، جاذباً إياه ليستمع إليه:

    "لم تكن خواطري تدور حول بلدي الأم، بلدي ساينو،أوماه، أو ابني أو ابنتي الذي لم يولد بعد..كل هذه الخواطر أصبحت غريبة علي كما هي بالنسبة لميت انتقل للعالم الآخر. قريباً ربما تتساءل، وجوابي هو نعم" (94-95).

    رواية بينامين توضح بجلاء تام وبقوة تجربة النفس التي عوملت وكأنها شبه آدمية. يقاوم نجيب الظروف اللاإنسانية لحجزه عن طريق تشكيل علاقات حميمة عبر كل المساحة التي عُزل فيها، وعن طريق العيش على أمل البقاء والعودة لوطنه، هذا الأمل الذي يقويه الإيمان، ويزدهر عن طريق سلسة من الصدف السعيدة. وهو معزول بعيداً عن لغته الأم تبقى لدى نجيب وسيلتان وحيدتان للتواصل: لغة العنف التي يستعملها الأرباب، ولغة الألفة الانسانية. يكتب الروائي توني موريسون وهو يتحدث عن سرد العبيد:

    "في محاولاتي لجعل تجربة العبودية أكثر ألفة، كنت آمل أن يكون الاحساس بالأحداث، وهي تحت السيطرة وخارجها، مقنعاً على مدار العمل، بحيث تمزق الفوضى التي يخلقها عوز الأموات هدوء ونظام اليوم العادي، وتتحدى الذاكرة التي تصارع لتحيا الجهد الخارق المبذول للنسيان. وحتى نقدم العبودية كتجربة شخصية، يجب على اللغة أولا أن تفسح الطريق لتحقيق هذا الغرض."

    وهذا بالضبط ما ينقله لنا بنيامين بأسلوب رائع. في عرض جذاب للكلمات العربية، يعرض نجيب على القارئ:

    "إذا سأل خبير باللغة العربية من بينكم ما إذا كان اللفظ والمعنى للكلمات التي جدولتها هنا صحيح، يمكنني أن أقول إنني لا أعرف. لقد سمعتها بهذا الشكل، وتعلمتها بهذا الشكل..يمكنني أن أفهم ما عنته كلمة أرباب من خلال هذه الكلمات، ويمكن للأرباب أيضا أن يفهمني. ليس بالضرورة أن يكون الشخص خبيراً لغوياً ليتمكن من التفاهم." (97)

    يعاني نجيب من الضرب، والحجز، والوجبات البائسة من الخبز والماء، والخوف ولكنه يتمكن من البقاء حياً. ورغم أنه رغبته في الهرب كانت حارقة، إلا أنه لم يكن يعرف أين هو ولا أين هو الاتجاه المؤدي لاقرب مدينة، وهي على الأقل تبعد مسافة ليلة كاملة بالسيارة عن المزرعة، كما أن الأرباب لديه مسدس وزوج من النواظير. يعرف القارئ جيدا منذ البداية أن نجيب يحيا ليستعيد عذابات عبوديته، ولكنه ينجذب إلى المتابعة. كيف يهرب نجيب في خاتمة المطاف من عالم لا يهتم به إلا كجسد يؤدي عملاً؟

    كان الماعز هو الرفيق الوحيد لنجيب في فترة احتجازه. "لقد أصبحت واحداً منهم"، يقول نجيب بعد أن أُجبر على النوم في وسط الماعز. يمر الوقت اللاآدمي على نجيب في المزرعة، ويبدأ هو بتعريف كل واحد من قطيع الماعز بإسم معين محاولا بدوره أن يسبغ صفة الآدمية عليهم.

    "ما عدا بوجاكاري رامني، فقد قمت بتسمية كل معزة أتمكن من تمييزها في المزرعة مما يجعل تقريعهم وتدليلهم أسهل. الأشخاص من محيطي المحلي مثل ارابو رابوثار، مارياميونما، إنديبوكار، نياندو راغافان، باريبو فيجايان، جاكي، أميني، كوسو راوفت، بنكي، آمو، رازية، وظاهرة، إضافة لشخصيات عامة مثل جاغاتي، موهانلال، وحتى إي إم إس نفسه كانوا جميعاً جزءاً من المزرعة. كل واحد منهم كان قريباً من نفسي بطريقة أو بأخرى. هل سبق لك أن نظرت متفحصاً في وجه معزة؟ إنه قريب جداً لوجه الإنسان. لقد أسميت الماعز ليس فقط بعد النظر إلى وجوههم، ولكن أيضاُ عن طريق ربط أسمائهم لبعض ملامح الشخصيات، وطريقة مشيهم، وأصواتهم، والأحداث التي تذكرني بهم، بالضبط كما يعود الشخص لمنزله حاملا لقباً ما..لذلك، كان هناك الكثير منهم الأسباب الشخصية والغريبة لاختيار كل اسم أعطيته للماعز. يمكن أن يضيع المنطق وراء الأسماء ولكنه كان منطقياً تماماً بالنسبة لي." (162-163)

    أصبحت الماعز بالنسبة لنجيب الامتداد الحي لشوقه لأرض الوطن. ينبض عالم مالايلي كامل بالحياة حين يسرد نجيب القصص الملونة خلف تلك الأسماء لأفراد عائلته، وتجارب حب سابقة، وأهالي المدينة. تمكن بهذه الطريقة من أن يهون من حنينه للماضي، "شوق جارف يتبدى في رغبة حارقة للعودة إلى الوطن، مثل خنزير بري حين يصاب بطلق ناري ويركض لا يلوي على شيء في حقل لقصب السكر"(146). سرد القصة بحد ذاته كان أحد وسائل نجيب للبقاء، فقد ألقي به بعنف في خضم أشكال متعددة من العزلة. فهو معزول عن اللغة، ومعزول عن الجغرافيا، ومعزول عن الناس باستثناء أربابه. إنه معزول حتى عن الماء. ولهذا، يحول نجيب محيط عزلته الغريب وغير المألوف إلى شيء محسوس ليتمكن من أن يحافظ على آدميته وعقلانيته.

    ونحن نعيش مع وصف لقلة حيلته، وعنف أربابه، وتهالك جسده، نرى فقرات متناثرة تتحدث عن لحظات قصيرة من الفرحة، مثل وقت المطر، وأمله في الهرب. وبينما يصف نجيب عالمه لنا كعالم سريالي، محجوزاً في "كوكب غريب مع الماعز والأرباب"، نرى بوضوح ملمحاً دنيوياً مملاً في طريقة احتجاز نجيب كما يصفها لنا بنيامين، فالاحتجاز هو فخ لاصطياد الوقت. إنه يلد جداول لا نهاية لها:

    أعرف ما هي قائمة طعامي للأيام القادمة،

    الإفطار: خبز، وماء

    الغداء: خبز، وماء

    مشروب المساء: حليب طازج دافئ من صدر الماعز، فقط إذا أحسست برغبة في ذلك

    العشاء: خبز، وماء

    وماء فاتر من خزان المياه الحديدي للشرب بين الوجبات ( عند الحاجة القصوى فقط).

    أيام الماعز هي سرد لقصة العبودية الحديثة: هي سرد لقصته وجعلها مسموعة، إنها جزء من فعل التحرر لنجيب. التحرر من الانتظار، فقد كان على نجيب أن ينتظر دوماً: أن ينتظر المسؤولين ليعترفوا بوجوده، أن ينتظر اللحظة التي ينظر فيها الأرباب بعيداً حتى يتمكن من شرب الماء، وعليه أن ينتظر فرصة للهرب، وأن ينتظر في السجن حتى يسمع النداء على اسمه، ويجب أن ينتظر في الصحراء، ويجب أن ينتظر حتى يستطيع أن يسرد قصته بعد أن يخرج ناجياً من عملية الهروب. يجبر بنيامين في روايته أيام الماعز القارئ على الانصات جيداً لكل اللحظات الانسانية المرهفة، والتآزر الذي يظهر في القصص المتبادلة بين الرجال الذين يشتركون في مخاطر العمالة المحتجزة. فمن حميد، زميله في سوميسي، إلى الرجل الذي يساعد نجيب في طريقه نحو الحرية، وهو صومالي اسمه إبراهيم خادري مطلوب على ما يبدو من الحكومة لمساعدته العمال على الهرب من كفلائهم،يصف بنيامين بشكل مثير مملكة النفط من زاوية أولئك الذين قدموا من بعيد ليعملوا في مدنها وصحراواتها.
    رد مع اقتباس رد مع اقتباس

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    11-Aug-2001
    الدولة
    السعودية
    المشاركات
    11,704
    من الخطأ أن يكون المخطط لنا من غير بيئتنا وثقافتنا .
    يجب أن نعتمد على انفسنا وأن نثق بانفسنا أخي الفاضل ، وهذا من حقنا ...
    رد مع اقتباس رد مع اقتباس

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    10-Feb-2008
    المشاركات
    3,745
    الأخ الكريم سيف الخيال مع التحية ... قرأت الموضوع الأول على فترات ...
    وبصراحة وجدت صعوبة في فهمه وإستيعابه ... الصياغة والأسلوب صعب جدا ...
    وقد يكون السبب في الترجمة مضافا إليها تعقيد المؤلف في وصف أفكاره المتداخلة في وصف النظريات الأصلية والمكتشفة ...
    ولم أتوصل الى خلاصة واضحة !!!
    أوضح ما فيه السوداني ذو العمامة الكبيرة !!!

    *****


    الموضوع الثاني بدأت قراءته ولم أنهيه ... ولكن لفت نظري جملتين:

    الأول: سجن سوميسي:
    ويقصد به سجن الشميسي ... وهذا مقياس على بعد الترجمة الثالثة عن الأصل ...
    من الهندية المحلية الى الإنجليزية الى العربية !!!

    يصف نجيب سجن سوميسي بأنه مكان يستلقي فيه "السجناء على أي مساحة من الأرض يستطيعون الحصول عليها، في منظر يشبه تكوم الجثث بعد كارثة طبيعية" (13)، وفي مكان آخر يصف هذا المكان بأنه مثل " محطة قطار حيث يأتي الناس ويرحلون"(25).

    *****


    الثاني:
    وصف الدولة القائمة بالعائلة المستبدة ... وكأنه لا يوجد دولة ...
    البديل للتعامل مع "العائلة المستبدة" هو الإحتلال والإستعمار ...
    ولكن لا يوجد بديل منطقي بين الإثنين ... وهو التعامل مع الحكومة القائمة ... وهي الحكومة السعودية !!!


    بدأت شركات النفط الأمريكية بالدخول إلى منطقة الخليج في الثلاثينات عقب المنافسة بين المصالح العثمانية والبريطانية،
    والتي كانت حجر الزاوية في إعادة تشكيل القبائل العربية المتنازعة.

    وقد فضل مديرو شركات النفط الأمريكية التعامل مع العائلة السعودية المستبدة بشكل خاص كما فعل البريطانيون في السابق.

    *****

    رد مع اقتباس رد مع اقتباس

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    19-Jan-2003
    الدولة
    الرياض
    المشاركات
    971
    مورنا لعوده للدين الذي يريده الله وليس للدين الذي نريده نحن ، نريد دين يحكمنا وليس دين نحكمه .
    الدول المتقدمة اليوم هي دول تطبق مناهج ومثل ومباديء من إختيارهم طبقوها وصارت هي الحاكمة لهم ، بذلك تقدموا . دول فعًلوا مؤسسات تطبق هذه المثل والمباديء في بيئة ديمقراطية يسيًرها عقلاؤهم . تذهب الحكومات وتبقى المؤسسات . وباقي دول العالم المتخلف لا توجد مؤسسات ولا مثل ولا مباديء ، الموجود شعارات فقط تذهب المؤسسات وتبقى الحكومات . .. ماذا لو كان عندنا مؤسسات تطبق إختيار رب العالمين لنا في جميع المجالات السياسية والإقتصادية والإجتماعية والإعلامية . تذهب الحكومات وتبقى هذه المؤسسات ؟ كيف سيصبح حالنا ؟ .[/quote]
    لا فظ فاك
    رد مع اقتباس رد مع اقتباس

  8. #8
    تاريخ التسجيل
    11-Aug-2001
    الدولة
    السعودية
    المشاركات
    11,704
    الأخ الكريم سيف الخيال مع التحية ... قرأت الموضوع الأول على فترات ...
    وبصراحة وجدت صعوبة في فهمه وإستيعابه ... الصياغة والأسلوب صعب جدا ...
    وقد يكون السبب في الترجمة مضافا إليها تعقيد المؤلف في وصف أفكاره المتداخلة في وصف النظريات الأصلية والمكتشفة ...
    ولم أتوصل الى خلاصة واضحة !!! أوضح ما فيه السوداني ذو العمامة الكبيرة !!!

    *****

    الموضوع الثاني بدأت قراءته ولم أنهيه ... ولكن لفت نظري جملتين:

    الأول: سجن سوميسي:
    ويقصد به سجن الشميسي ... وهذا مقياس على بعد الترجمة الثالثة عن الأصل ...
    من الهندية المحلية الى الإنجليزية الى العربية !!!

    يصف نجيب سجن سوميسي بأنه مكان يستلقي فيه "السجناء على أي مساحة من الأرض يستطيعون الحصول عليها، في منظر يشبه تكوم الجثث بعد كارثة طبيعية" (13)، وفي مكان آخر يصف هذا المكان بأنه مثل " محطة قطار حيث يأتي الناس ويرحلون"(25).

    *****

    الثاني: وصف الدولة القائمة بالعائلة المستبدة ... وكأنه لا يوجد دولة ...
    البديل للتعامل مع "العائلة المستبدة" هو الإحتلال والإستعمار ...
    ولكن لا يوجد بديل منطقي بين الإثنين ... وهو التعامل مع الحكومة القائمة ... وهي الحكومة السعودية !!!

    بدأت شركات النفط الأمريكية بالدخول إلى منطقة الخليج في الثلاثينات عقب المنافسة بين المصالح العثمانية والبريطانية،
    والتي كانت حجر الزاوية في إعادة تشكيل القبائل العربية المتنازعة.
    وقد فضل مديرو شركات النفط الأمريكية التعامل مع العائلة السعودية المستبدة بشكل خاص كما فعل البريطانيون في السابق.
    تحية طيبة أخي الفاضل

    اتفق معك على الترجمة ، والهدف واضح من الكتاب هو خلق فجوة بين الشعب والحكومة لخلق فوضى ونزع الثقة . ولكن لا يعلم المؤلف بان الشعب والحكومة واعية لهذه الأهداف ... علاقتنا بالحكومة كشعب قوية وسوف تستمر على هذا المنهج مهما كانت الأسباب ....

    وأي فجوة تحدث بسبب أي خلل سوف نسدها إن شاء الله ...
    رد مع اقتباس رد مع اقتباس

  9. #9
    تاريخ التسجيل
    11-Aug-2001
    الدولة
    السعودية
    المشاركات
    11,704
    وهذا كتاب أيضا يحرض على العنف والكراهية وخلق الفتن بين الشعوب


    أوغلي : نشر الكتاب الساخر عن رسول الله يحرض على العنف والكراهية


    أعرب الأمين العام لمنظمة التعاون الإسلامي البروفيسور أكمل الدين إحسان أوغلي عن قلقه إزاء نشر الأسبوعية الفرنسية الصفراء "شاريلي إيبدو" كتابا ساخراً كجزء من سلسلتها عن حياة الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم كما عبر عن أسفه لإقدام المجلة على نشر هذا الكتاب الذي يمثل حالة أخرى من حالات إساءة استخدام حرية التعبير.



    وقال البروفيسور أوغلي في بيان له اليوم "إن نشر هذه السلسلة يخالف قواعد الصحافة المسؤولة وهو بمثابة سوء استخدام للحق في حرية التعبير" مبينا أن التحريض على الكراهية والتعصب على أساس الدين والدعوة إليهما من خلال هذا المنشور يعد خرقا للقوانين والصكوك الدولية لحقوق الإنسان.



    وجدد الأمين العام لمنظمة التعاون الإسلامي تأكيده على ضرورة أن تمتثل المجلة للأحكام والقوانين المتعلقة بالتحريض على الكراهية والعنف ولا سيما تلك المعمول بها في سياق الاتحاد الأوروبي حاثا السلطات المعنية في فرنسا على اتخاذ التدابير المناسبة ضد هذه الأسبوعية.



    وناشد إحسان أوغلي المسلمين في مختلف بقاع العالم على ضبط النفس إزاء هذا التصرف مجدداً موقف المنظمة المبدئي الداعي إلى بناء توافق دولي للتعامل مع أعمال التحريض المتعمدة هذه ومع وتيرته المتسارعة في إطار قرار مجلس حقوق الإنسان رقم 16/18.
    رد مع اقتباس رد مع اقتباس

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
المنتدى غير مسؤول عن أي معلومة منشورة به ولا يتحمل ادنى مسؤولية لقرار اتخذه القارئ بناء على ذلك