وينكم .. 75 قراءة ولا رد .. يعني كلكم شارين في بنك الرياض
هذا بحث جميل قرأته وما كملته :
الشركات المختلطة بين الحلال والحرام
الشيخ دبيان محمد الدبيان
اتفق على إطلاقِ مصطلح الأسهُم المختلطة على أسْهُم الشركات المباحَة التي يكون أصلُ نشاطها وغالبُه حلالاً، مثل: الشركات الصناعية والتجارية، وشركات الخدمات، ولكن لها معاملات مُحرَّمة، كالاقتراض، أو الإقراض بالرِّبا، وفي هذا النَّوْع وقع خلافٌ بين العلماء المعاصرين في حُكم الاكتتاب في أسهمها وفي حُكم تداولها.
بعدَ اتِّفاقهم على تحريمِ الاشتراك في تأسيسِ مِثل هذه الشركات التي ينصُّ نظامُها على تعامل محرَّم في أنشطتها، أو أغراضها، وبعد اتفاقهم على أنَّ مَن يباشر هذه العقودَ المحرَّمة في الشركة كأعضاء مجلس الإدارة والراضين بذلك أنَّ عملهم مُحرَّم، وبعد اتِّفاقهم أيضًا: على أنَّ المساهم لا يجوز له بأيِّ حال من الأحوال أن ينتفعَ بالكسب المحرَّمِ مِن السهم، بل يجب عليه إخراجُه والتخلُّص منه، وبعد اتِّفاقهم أيضًا على أنَّ المساهمة في الشركات التي يغلُب عليها المتاجرةُ بالأنشطة المحرَّمة مُحرَّم.
وإنَّما الخلافُ الواقِع بين العلماء هو في حُكم الاكتتاب في مِثل هذه الشركات المختلطة، والمتاجَرة في أسهمها إذا كان المحرَّم شيئًا يسيرًا، وقدِ اختلفوا فيها إلى ثلاثة أقوال، وسوف أهتمُّ في هذا المقال بمُناقَشة القائلين بالجواز، وأكْتَفي بذلك لضِيق المساحة؛ ولأنَّ الأدلَّة على تحريمِ الرِّبا معلومٌ من الدين بالضَّرورة.
فهناك مِن أهل العلم مَن يرى جواز الاكتتاب في الأسهم المختلطة، وجواز تداولها بشروطٍ وضوابط، مع وجوبِ التخلُّصِ من الكسب الحرام، وممَّن ذهب إلى هذا القول الهيئةُ الشرعية لشركة الراجحي، والهيئة الشرعية للبنك الإسلامي الأردني، وندوة البركة السادسة، واختاره فضيلة الشيخ عبدُالله بن منيع، والشيخ يوسف القرضاوي، والشيخ تقيُّ العثماني، والشيخ نزيه حماد، والشيخ علي محي الدين القره داغي، والشيخ يوسف الشبيلي، وهو أحدُ القولين لشيخِنا ابن عثيمين - رحمه الله.
والقائلون بالجوازِ وَضَعوا ضوابطَ وشروطًا للقول بالجواز، إذا اختلَّ ضابطٌ منها رجَع القول إلى التحريم، فيُستحسن قبل أن ندخُلَ في ذِكْر أدلتهم، أن نعرفَ هذه الضوابط، ومدى وجاهتها:
ففي تحديدِ نسبة الاقتراض الرِّبوي من حجم الموجودات.
حدَّد القائلون بالجواز فيما يتعلَّق بالاقتراض الرِّبوي ألاَّ تزيد القروض عن 30 % من إجمالي موجودات الشركة.
وفي تحديد نِسبة الإيرادات المحرَّمة مِن الإيرادات، حدَّد القائلون بالجواز ألا يتجاوزَ مقدار الإيراد الناتِج مِن عنصر محرم 5 % من إجمالي إيرادات الشركة، سواء كان هذا الإيراد ناتجًا عن الاستثمار بفائدة رِبوية، أم عن ممارسةِ نشاط محرَّم، أم عن تملُّك لمحرَّم، أم عن غير ذلك، ويبدو من التفريقِ بين الإقراض بفائدة، والاقتراض بفائدة أنَّ الأول ينتج عنه كسبٌ محرَّم، بينما الثاني تصرُّف محرَّم؛ لذا كان الأول 5 %، والثاني: 30 %.
وفي تحديد حجم العنصر المحرَّم من حجم الموجودات نصَّ قرار الراجحي رقم 485 على ألاَّ يتجاوز حجمُ العنصر المحرَّم، استثمارًا كان، أو تملُّكًا لمحرَّم نسبة 15 % من إجمالي موجودات الشركة، ثم وجهت الهيئة الشرعية في مصرف الراجحي من خلالِ خِطابها المبلغ مِن رئيسها إلى عدمِ اعتبار هذا الضابط، وأخذتْ هيئة المعايير المحاسبية في البحرين ألاَّ يتجاوز المبلغ المودَع بالربا 30 % من القِيمة السوقية لمجموع أسهُم الشركة، ولم يعتبر (الداو جونز) هذا الضابط، ولم يُشر قرارُ الأهلي لهذا الضابط أيضًا.
وفي تحديدِ نسبة المصروفات المحرَّمة لجميعِ مصروفات الشركة، حددتْ هذه النسبة بـ 5 % من إجمالي المصروفات، وهذا الضابط توجَّهَتْ إليه الهيئات أخيرًا، وسوف تُطبِّقه على قوائمِ الشركات في العام الميلادي الجديد.
مناقشة هذه الضوابط:
هذه النِّسَب اجتهادية في تقديرِ اليسير، ولم يَرِد في القرارات ما يوضِّح المستندَ الشرعي لهذه النسب، غير أنّه ورد في قرار الراجحي (310): "رأت الهيئة بنظر اجتهادي منها، واستنادًا إلى دلائلَ في بعض النصوص الشرعية، وإلى المعقول، أن تعتمد الثُّلُث حدًّا بين القلَّة والكثرة"، وفي القرار رقم 485: "والهيئة توضِّح أنَّ ما ورد من تحديدٍ للنِّسب في هذا القرار مبني على الاجتهاد، وهو قابلٌ لإعادةِ النظر حسبَ الاقتضاء".
والسؤال الفقهي المشروع:
مَن قال مِن أهل العلم مِن المتقدِّمين بأنَّ الربا يُفرَّق بين قليله وبين كثيره في قَبوله والتعامل به؟!
فإذا لم يثبت أنَّ هناك فرقًا في التحريم بيْن القليل والكثير، لم يكن هذا التفريقُ قائمًا على دليلٍ شرعي، وإذا ثبت أنَّ هناك فرقًا في التحريم بيْن القليل والكثير فمَن قال باعتبار الثُّلُث حدًّا بين القلة والكثرة؟
وللجواب على ذلك نقول: لا أعلم أنَّ أحدًا من أهل العلم من المتقدمين قال: بأنَّ قليل الربا حلال؛ قال - تعالى -: ﴿ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ﴾ [البقرة: 275]، فالآية مطلَقة، لا فرْق في التحريم بيْن قليل الرِّبا وبين كثيره.
وقال - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 278 - 279].
فأمَر بترْكِ ما بقي من الربا قليلاً كان أو كثيرًا، وأنَّ أخذه منافٍ للتقوى، وأنَّ أي زيادة يأخذها المرابي على رأسِ المال فهي مِن الربا المحرَّم، كما دلَّ قوله - تعالى -: ﴿ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 279]، وأنَّ كلَّ زيادة على رأس المال فهي داخلةٌ في الظُّلم، قليلةً كانتِ الزيادة أم كثيرة.
ومن السنة ما رواه مسلمٌ عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((الذهب بالذهب، والفِضَّة بالفِضَّة... مِثْلاً بمثل، يَدًا بيد، مَن زاد أو استزاد، فقد أرْبَى، الآخذ والمعطي سواء)).
فقوله: ((مَن زاد أو استزاد فقد أرْبَى)) نصٌّ في شمولِ التحريم للقليل والكثير من الرِّبا.
فإذا ثبَت التحريم لقليلِ الربا وكثيرِه سقَط ما يُقال: في التفريق بيْن القليل والكثير.
وإذا تجاوزْنا موضوعَ الربا، فمَن قال مِن أهل العلم مِن المتقدِّمين باعتبار الثُّلُث حدًّا بين القلة والكثرة؟
وللجواب على ذلك يقال: لا يُعرف هذا إلا للمالكية وحْدَهم، فهم مَن جعَل الثلث فرقًا بين القليل والكثير، إلا أنَّ اعتبار هذا التقدير عندهم مشروط بشرطين:
الأول: ألاَّ يكون للأقلِّ حُكمه المنصوص عليه، فإذا كان للأقلِّ حُكمُه المنصوص عليه لم يُفرَّق بين القليل والكثير؛ انظر القواعد والضوابط الفقهية القرافية (1/350 - 351).
مثال القليل الذي نصَّ عليه: كون يسير البوْل ناقضًا للوضوء، فالنُّقطة والنقطتان ناقضتانِ للوضوء، فالقليل له حُكمُ الكثير هنا، ومثله يسير الخمْر فإنَّه حرامٌ ككثيرِه؛ للحديث: ((ما أسكر كثيرُه، فقليلُه حرام))؛ رواه أحمد وغيره، وهو حديثٌ صحيح.
ومثله لو كان الأقلُّ مقيسًا على منصوصٍ عليه: كما لو ترَك الإنسان بُقعةً في غسْل يده في الوضوء، فإنَّ وضوءَه غيرُ صحيح، ولا يُقال: هذا قليل بالنِّسبة لأعضاء الوضوء قياسًا على قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ويلٌ للأعقابِ من النار)).
فإذا طبَّقْنا هذا الشرْطَ على يسير الرِّبا، فيسيرُ الربا لم يقُلْ أحدٌ: إنَّه لم ينصَّ على تحريمه، ولم يَدَّعِ أحدٌ أنه حلال، فقد أجمع العلماءُ على تحريم ربا النسيئة قليله وكثيره؛ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن زاد أوِ استزاد فقد أرْبَى))؛ رواه مسلم.
وبالتالي لا يصحُّ الاحتجاجُ بقول المالكية في الأخْذ بالثُّلُث فرقًا بيْن القليل والكثير؛ لأنَّهم لا يقولون بهذا؛ لأنَّ القليل ما دام قد نصَّ على تحريمه لم يكن هناك مجالٌ للتفريق بين القليل والكثير، وإذا لم يقلْ به المالكيةُ لم يقلْ به أيضًا أحدٌ من الأئمة الأربعة.
والخلاصة: أنَّ قول الهيئات الشرعية بالثُّلُث هو قولٌ لم يكن لهم فيه سَلَف، ولا يسوغ الاجتهادُ فيه بإحداثِ قول جديد.
الشرط الثاني:
إنَّ المالكية جعَلوا الثُّلُث فرقًا بين القليل والكثير في مسائلَ معدودة، ولم يُعمِّموه في كلِّ أبواب الفقه؛ جاء في "الذخيرة": "الثلث في حدِّ القلَّة في ستِّ مسائل: الوصية، وهِبة المرأة ذات الزَّوْج إذا لم تُرِد الضرر، واستثناء ثلث الصُّبْرة إذا بِيعت، وكذلك ثُلُث الثمار والكباش، والسَّيْف إذا كان حليته الثلث يجوز بيعه بجِنس الحلية".
ويستدلُّ المالكيةُ بحديث سعد بن أبي وقَّاص - رضي الله عنه - الذي رواه البخاريُّ عنه، قال: كان النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يعودني وأنا مريضٌ بمكة، فقلت: لي مالٌ، أوصي بمالي كلِّه؟ قال: ((لا))، قلت: فالشطر؟ قال: ((لا))، قلت: فالثلث؟ قال: ((الثلث، والثلث كثير... الحديث))، والحديث متفق عليه.
هذا هو قولُ المالكية، وهذا هو دليلُهم، فإنْ كانت هذه الهيئات أخذتْ هذا التحديدَ من قول المالكية، فلا أراه متوافقًا مع مذهبِ الإمام مالك، وإنْ كان هذا القول قد قالوه ابتداءً مِن عندهم، فلا أرى أنَّه يسوغ لهم ابتداعُه، وعلى التنزُّل أن يكون هذا القولُ متسقًا مع قولِ المالكية، فإنّه لا بدَّ مِن النظر في دليله، فالرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - لو قال: الثُّلُث والثلث كثير في أمورٍ محرَّمة، لأمكن الأخذُ بعمومِ اللفظ، أما والحديث واردٌ في باب الوصية، وهو عملٌ مشروع، فسَحْبُ هذا الحُكم على كلِّ شيء في أبواب الفقه، في العبادات والمعاوضات، بل حتى في المحرَّمات، فيجعل ما نقص عن الثلث يسيرًا في كلِّ شيء فيه تكلُّفٌ لا يخفى، وفيه قياس أمور على أخرى دون أن يكونَ هناك عِلَّة جامعة، فلا أعرف مسوغًا شرعيًّا لقياس الرِّبا الذي حرَّمه الشارع بنصوصٍ قطعية، حتى جعَلَه من الموبقات، وقرنه بالشِّرْك بالله، والسِّحر، وقتل النفس التي حرَّم الله، والزنا، أن يُقاس مثل هذا على الوصية التي ندَب إليها الشارع، وأقرَّها، وقدَّمها على الميراث في توزيعِ التَّرِكات.
فكيف يُقاس الخبيث على الطيِّب؟! ما لكم كيف تحكمون؟! أما تحديد بـ 5 % مِن الإيراد المحرَّم حدًّا لليسير، فيُقال في الجواب عليه:
أولاً: جميع المقادير في الشريعة يحتاجُ القولُ فيها إلى توقيف، وذلك مثل تقدير خِيار التصرية بثلاثة أيام، وتقدير المسْح للمُقيم يومًا وليلة، وللمسافِر بثلاثةِ أيَّام، فأين التوقيفُ في تقدير مثل ذلك، خاصَّة أنَّ ذلك يَقلِب الحرام إلى حلال، والحظْرَ إلى إباحة.
ثانيًا: إنْ كان المرجع في تقدير مثل ذلك إلى العُرْف، فهذا عمل لم يكن موفَّقًا؛ لأنَّه لا يمكن الأخذُ بالعُرْف فيما ورد فيه نصٌّ شرعي؛ لأنَّ ذلك يؤدِّي حتمًا إلى تعطيلِ النص الشرعي.
الضابطأوالشرطالثاني: نصُّهم على أنَّه لا يجوز الاشتراكُ في تأسيسِ الشركات التي ينصُّ نِظامها على تعامُل محرَّم في أنشطتها، أو أغراضها.
وجهاعتبارهذاالشرط: أنَّه إذا نصَّ على ذلك في نِظام الشركة لم يكن بإمكانِ أحد من المساهمين الاعتراضُ على ذلك، بخلافِ الأمر في حالةِ عدم النص، أو لأنَّ الدُّخول في الشركة مع كونِ المحرَّمات منصوصًا عليها في نِظامها الأساسي يجعل المساهمَ بمنزلة الراضي بذلك.
مناقشة هذا الشرط:
أولاً: إذا كان الأمرُ معلَّقًا على قُدرة المساهم على الاعتراضِ على نِظام الشركة لم يكن الدخولُ في المساهمة معلَّقًا على تحديدِ نسبة المحرَّم، بل يكون الحُكم معلقًا على القُدرة على الاعتراض على نظام الشركة وتغييره، سواء كان الحرامُ قليلاً أم كثيرًا، فليعلق الحُكم به، ويُقال بالجواز بالنسبة لمَن يَقْدِر على تغيير هذا المنكر، والمنع لمن لا يقدر.
ثانيًا: إذا كانتِ المساهمة تَحرَّم في الشركات المختلطة إذا كان نظامُها التأسيسي ينصُّ على تعامل محرَّم في أنشطتها، فيَنبغي أن تُحرَّم المساهمة إذا كانتِ الشركة تمارِس المحرِّم فعلاً؛ لأنَّ كتابة النظام إنما هو وسيلةٌ إلى فعل الحرام، وليس هو ارتكابًا للحرام، فما بالك بارتكاب الحرام ذاته، أتكون الوسيلةُ أولى بالتحريم من الممارسة الفعلية؟!
ثالثًا: كتابة الممارسات المحرَّمة في نِظام الشركة ليس لها مِن الأهمية، خاصَّة إذا علمنا أنَّ الجمعيةَ العامة غير العادية لها الحقُّ في تعديلِ نظام الشركة سلبًا أو إيجابًا، فيجب أن يُعلَّقَ الأمر على الممارسة، وليس على مجرَّد نصٍّ في نظام شركة قابل للتغيير.
رابعًا: لا يمكن فكُّ الارتباط بيْن المكتتبين، وبين نظام الشركة، فإنَّ الذي يتولَّى التصديق على نظام الشركة: هي الجمعيةُ التأسيسية، ولا يمكن صدورُ قرار الوزير بإعلان تأسيسِ الشركة إلا بعد اجتماع الجمعية التأسيسيَّة، والتي يدعو فيها المؤسِّسون جميعَ المكتتبين إلى الاجتماع لاستكمالِ إجراءات التأسيس، ومِن ذلك التصديق على نظامِ الشركة، فكيف يُفصَل نظامُ الشركة - وهو معلَّق بموافَقة المكتتبين، أو أغلبهم - عن الاكتتاب؟!
هذه هي شروطُ وضوابطُ القول بالجواز، وأما أدلَّتهم على الجواز فهي كالتالي:
الدليل الأول من أدلَّة هذا القولِ ما يرجِع إلى الخلاف في تكييف شركة المساهمة، والخلاف في تكييف السَّهْم، فالقائلون بجواز المساهمة في الشركات المختلطة يرَوْن أنَّ السهم حصةٌ في الشركة باعتبارها شخصيةً معنوية، وليس السهمُ حصَّةً في موجوداتها، وأنَّ القانون التجاري بما يمنحه للشركة المساهمة من شخصية اعتبارية، يميِّز بين ملكية السَّهْم، وبيْن ملكية الأصول والأعيان التي يتضمَّنها السهم، فالسهمُ يُملَك على وجهِ الاستقلال عن ملكية الأصول والأعيان التي تملكها الشركة، بحيث إنَّ الحِصص المقدمة للمساهمة في الشَّرَكة تنتقل على سبيلِ التمليك إلى ملكية الشركة، ويفقد الشركاء المستثمرون كلَّ حق عيني عليها.
فالشخصيةُ الاعتباريَّة للشَّرَكة قد جعَلَها تَملِك وتتصرَّف كالأفراد الطبيعيِّين، وتجب لها الحقوق، وتلزمها الواجبات، والشخصيةُ الاعتبارية لها أصلٌ في الفِقه الإسلامي كالدولة، وبيت المال، وملكية الوقْف، فهذه الجِهات ليستْ عبارة عن أصولِ وموجودات، وإنْ كان الوقف وبيت المال يملكان أصولاً، وديونًا، ومنافع، فالسهم إذًا حصَّة في الشركة، وليس حصَّة في مفردات أصولها؛ لأنَّ الأصول مملوكةٌ للشركة، وليس لحَمَلةِ الأسهم، بدليل أنَّ المساهم لا يملك التصرُّفَ في أعيان الشركة، أو منافع أعيانها، لا بالبيع، ولا بالرهن، ولا بالانتفاع، ولا بغيرها، فالشركةُ لها شخصيتها الاعتبارية، وذِمَّتها المالية تجعلها أهلاً للإلزام والالتزام، وهي بهذا تستقلُّ تمامًا عن شخصيات وذِمم الشُّركاء المكوِّنين لها، والسَّهْمُ بهذا الشكل جزءٌ من الشخصية الاعتبارية للشركة، ويرغب الناسُ في بيعه وشرائه بقصْد الاسترباح، وليس وعاءً لما يُمثِّله من موجودات الشركة.
هذا هو التكييفُ للشركة، وبناءً عليه نقول:
تَصرُّفُ مجلس الإدارة في أموال الشركة ليس مبنيًّا على الوكالة، حتى يكونَ المساهمون مسؤولين عن هذا التصرُّف.
لا تتعدَّى تبعةُ الربا مجلسَ الإدارة؛ لأنَّهم هم المباشرون للعقود الرِّبوية، وأما المساهِم المستثمر فغيرُ مباشر، فلا يكون مؤاخذًا، ومع هذا فإنَّه لا يَحِلُّ له أخذ الربح الناتج عن الربا، أو العنصر المحرَّم، بل يجب عليه أن يتحرَّى مقدار ما دخَل على عائداتِ أسهمه من الإيرادات المحرَّمة فيتخلَّص منها.
الموقفمناعتبارالشخصيةالاعتباريةللشركة: يَنبغي أن ألفتَ الانتباه قبلَ الجواب على القول بالشخصية الاعتبارية بأنَّه "لم تتوفَّرْ حتى الآن على هذا المفهومِ المستحدث بأبعاده القانونية - ندواتٌ أو مؤتمرات فِقهية بغرَض دراسته، واتِّخاذ الموقف الإسلامي المناسب تُجاهَه، وإن لم يَخْلُ الموضوع من دراسة منفردة هنا، أو هناك في محاولة لاستكشاف جوانبه، والحُكم له أو عليه".
انظر المعايير الشرعية لصِيَغ التمويل المصرفي اللا ربوي، فهناك مَن يُنكر إثباتَ هذه الشخصية الاعتبارية للشركة مطلقًا، ويرى أنَّ قيام شركة المساهمة لا يتوقَّفُ على اعتبار الشركة ذات شخصية اعتبارية، بل يمكن أن تقومَ شركة المساهمة بكلِّ ما هو مُقرَّر لها من أحكام، وخاصَّة فيما يتعلَّق بتداول الأسهم، دون أن تُوصَف بالشخصية الاعتبارية، وإذا لم يكن هذا التكييفُ ضروريًّا لم يكنْ لازمًا.
وهناك فريقٌ آخر يذهب إلى القولِ بوجود هذه الشخصية الاعتبارية للشركة، بالقَدْر الذي يساعد على تسهيلِ معاملات الشركة، ويَعترِف لها بحق التقاضي، لكنَّه يرفض بعضَ هذه الآثار القانونية المترتبة عنها، ويرى أنَّها مصادِمة لرُوحِ الفقه الإسلامي وعدالته، فالآثار التي رُتِّبت على القول بالشخصيَّة الاعتباريَّة ليستْ مبنيَّةً على لوازمَ فِقهيَّة، وإنَّما مبنيةٌ على أحكام قانونية، وهي لا تلزم الفقيه.
وبناء عليه، فيُمكن القولُ بالشخصية الاعتبارية للشركة، ولا يعني هذا الأخذَ بتلك اللوازم القانونية، فلا نجعل ذِمَّة الشركة مستقلَّة عن ذِمَّة الشركاء من كلِّ وجه، بل نأخذ به بالقَدْر الذي يساعد على تنظيمِ أعمال الشَّرِكة، والقيام بنشاطها دون تدخُّلٍ مباشر من المساهمين؛ لأنَّ وجود الشخصية الاعتبارية ليس أمرًا جوهريًّا تتغيَّر به الحقيقةُ المقرَّرة، وهي ملكية المساهمين للشركة، وموجوداتها.
ولو سلَّمْنا بأنّ وصف القانون التجاري حُجَّة - وهذا نقوله مِن باب المناظرة - فإنَّ كتب القانون ليستْ مُتَّفقة على ذلك، فقد ذكر الدكتور عبدالعزيز خيَّاط في كتابه "الشركات في الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي": "ثلاثة مذاهب لهم فيها، فمِنهم مَن ينفيها، ولا يَعتبر الشركة إلا بأشخاصِ مساهميها، ومنهم مَن يعتبرها مجازًا قانونيًّا، ومنهم مَن يعتبرها حقيقةً قانونية، فإذا كان القولُ الفقهي إذا لم يتَّفق عليه لا يُعتبر حُجَّة بمجرَّده، فما بالك بآراء أهلِ القانون الوضعي.
وشركة المساهمة لا تَختلف عن طبيعةِ شركة العقود، حتى ولو لم تلحقْ بأيِّ نوع من أنواع الشركات المعروفة لدَى الفقهاء؛ ذلك أنَّ جوهرَها: هو اتِّفاق عددٍ كبير من الشركاء على أن يدفعَ كلُّ واحد منهما مالاً لمَن يتصرَّف فيه، سواء كان مِن الشركاء أنفسِهم، أو من غيرهم؛ بقصْد الحصول على الرِّبْح، وهذا هو مضمونُ شركات العقود، أما اختلافُ الطريقة التي يحصُل بها الاشتراك، ويُجمع بها المال، أو الطريقة التي تُدار بها أموالُ الشركة، فهذه أمورٌ تنظيميَّة لا تتعارض مع طبيعة شركة العقد.
وإذا كان الشأن كذلك، فكلُّ ما يُقال عن أحكامٍ للشركات المساهمة تخالف فيه أحكامَ الشركات في الفقه الإسلامي، فهو مِن قبيلِ الدعوى، والتي تفتقر فيه إلى بُرهان مِن كتاب، أو سُنَّة، أو إجماع، وإذا تقرَّر بأنَّ اعتبار الشخصية الاعتبارية للشركة لا يَعني الأخذَ بتلك اللوازم القانونية، لم يلزمْ مِن القول بإثبات الشخصية الاعتبارية للشركة في جواز المساهمة في الأسهُم المختلطة، وذلك لأمور منها:
أولاً: أنَّ تصرُّفات مجلسِ الإدارة في أموال الشَّرِكة: إما أن يكون التصرُّفُ منهم لمصلحتهم، أو لمصلحة المساهمين، أو لمصلحتهما معًا، ولا يوجد قسمةٌ غير هذا.
فإنْ كانتْ تصرُّفاتُهم في أموال الشركة لمصلحتهم، فما أخذوه مِن المساهمين بمنزلة القرْض، ويجب عليهم أن يَردُّوا مثله، فإن ردُّوا أكثرَ منه كان ذلك من الرِّبا المحرَّم؛ لأنَّه من قبيل القرْض الذي جر نفعًا.
وإنْ كان تصرُّفهم لمصلحةِ المساهمين، أو لمصلحتهما معًا، فإنَّ تصرفهم في أموالِ المساهمين مِن قبيل الوكالة، وقولُ غير هذا قولٌ لا برهانَ عليه، ولا دليلَ عليه لا مِن الواقع، ولا مِن الشَّرْع، وإذا كان تصرُّفُهم من قبيلِ الوكالة كانتِ التصرفات المحرَّمة من مجلس الإدارة منسوبةً إلى جميع المساهمين.
ثانيًا: إذا كانتْ حِصَّتي في الشركة هي حِصَّةَ ملْك، وليست حصَّةَ اشتراك، فإذا تصرَّف أحدٌ في حصَّتي، فإمَّا أن يتصرَّف بدون تفويض مني، فيعتبر تصرُّفه باطلاً؛ لأنَّه تصرَّف فيما لا يَملِك، أو يتصرَّف بتفويض، فيكون نائبًا عني، وهذا هو التوكيل، فكل تصرُّفاته المحرَّمة أنا مسؤولٌ عنها؛ لأنَّه نائبٌ عنِّي.
ثالثًا: أنَّ الذي عيَّن مجلس الإدارة، وفوَّضَ إليها التصرف، هو المسؤول عن تصرُّفاتها، فمجلسُ الإدارة إما أن يكون قد عيَّنه الأعضاءُ المؤسِّسون، وأقرَّتْه الجمعية التأسيسية للشركة ممثلةً في المكتتبين كلِّهم، أو غالبهم، أو عيَّنتْه ابتداءً الجمعيةُ التأسيسية.
فكيف يقال: إنَّ تصرفَ مجلس الإدارة لا يُعتبر تصرُّفًا للمساهمين، وأنهم يُمثِّلون أنفسهم، ولا يمثِّلون من عينهم، وأنَّ الإثم عليهم وحدَهم دون مَن كلفهم؟! هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنَّ المكتتب مسؤولٌ عن نظام الشركة أيضًا؛ لأنَّه لا بد أن يُصدِّق عليه في الجمعية التأسيسية، والتي يدعو فيها المؤسِّسون جميعَ المكتتبين إلى الاجتماعِ لاستكمالِ إجراءات التأسيس، ومِن ذلك التصديق على نظام الشركة.
وكلُّ هذه الإجراءات قبلَ أن تَكتسِبَ الشركة ما يُسمّى بالشخصية الاعتبارية؛ لأنَّ هذه الإجراءات تسبِقُ صدورَ القرار من وزير التجارة بإعلانِ تأسيس الشركة، ولا يُمكن أن تكتسبَ الشركة شخصيتَها القانونية والمعنوية إلا بعدَ صدور قرار وزير التجارة بإعلان التأسيس.
فتبيَّن بهذا مسؤولية المكتتب في الشركة من ناحيتين: مسؤوليته عِن تصرُّفِ مجلس الإدارة؛ لأنَّها نائبةٌ عنه، ومسؤوليته في إقرارِ نظام الشركة.
فإنْ كان المساهِم يملك أسهمًا كثيرةً تُمكنه من تغيير كلِّ نظام يخالف الشرع، فهذا هو المطلوب، وإلا كان المطلوبُ منه ألاَّ يُمنح التفويضُ لمجلس الإدارة ابتداءً، وذلك بعدمِ الدُّخول في الشركة، والمساهَمة فيها.
رابعًا: مِن المعلوم أنَّ هذه الأموال هي ملكٌ للمساهمين قبل أن يكتتبوا في أسهم الشركة، وهي باقيةٌ على ملكهم بعد الاكتتاب، إذ لم يوجدْ ما يُخرِجها عن ملْكهم.
خامسًا: إذا جاز لكم أن تقولوا: إنَّ السهم لا يُمثِّل حصَّةً شائعة في موجودات الشركة بناءً على أنَّ قيمته لا تُعبِّر عن قيمة تلك الموجودات، جاز لنا أن نقول: إنَّ السهم أيضًا لا يُمثِّل حصَّة في الشخص الاعتباري الذي هو الشركة، بناء على أنَّ قيمته لا ترتبط بالشركة نفسِها، بل بالعَرْض والطلب، فما جاز لكم أن تُجيبوا به جاز لنا أن نُجيب بمثله.
سادسًا: أنَّ فصل السهم عمَّا يُمثِّله يؤدِّي إلى جواز المساهمة في البنوك الرِّبويَّة، وشركات القمار، والخمور، وسائرِ الشركات المحرَّمة؛ لأنَّ السهم سلعةٌ بذاته، مفصول عن موجودات الشركة، وما تُمثِّله، وهذا لم يقلْ به أحد.
سابعًا: كون المساهمين لا يتصرَّفون في تلك الأموال طِيلةَ مدة الشركة لا يعني أنَّها قد خرجتْ عن ملكهم، بل مرد ذلك إلى العُرْف الذي هو كالشرط، والمسلمون على شروطهم، وله نظيرٌ في الشرع، وهو المال المرتهن حيث يبقَى على ملْك الراهن، ولا يخرج عن ملكه، وليس له أن يتصرَّفَ فيه بالبيع مُدَّةَ الرهن على القول الصحيح، هو قولُ جماهير أهل العلم، فامتناع التصرُّفِ من أجل حقِّ الغير لا يمنع ثبوتَ الملك لأصحابها، والله أعلم.
المفضلات