المصدر : د. وليد عرب هاشم


لماذا ينمو اقتصاد بعض الدول ويتطور, بينما تتخلف دول أخرى عن الركب وتتأخر ? ما هي العوامل أو الأسباب الرئيسية التي تؤدي إلى نجاح أي اقتصاد?.
لا شك أن هناك عوامل عديدة تساهم في هذا النجاح أو تؤدي إلى العكس أو الفشل وقد يبدو بعضها بديهياً جداً مثل وجود وتوفر الموارد الطبيعية , فعندما نجد اقتصادا قابعا على بحار من النفط مثل الاقتصاد السعودي- ما شاء الله - فبلا شك سنتوقع النجاح والغنى لهذا الاقتصاد . ومثله مثل الاقتصاد الكويتي أو القطري . بينما قد تعاني دول أخرى ليس لها إلا الصحارى من مجاعات متتالية وفقر مزمن.
بلا شك أن العوامل الطبيعية أو ا لموارد التي وهبها الله لمختلف الدول لها أثر كبير على نمو أو ثراء اقتصادياتها وبالتالي فإن الموارد الطبيعية هي من أهم العوامل أو الأسباب لنجاح أي اقتصاد ولكن هذا ليس أهم سبب وذلك لأنه بصفة عامة تكاد لا توجد أي دولة أو اقتصاد بدون أن يكون لديها موارد طبيعية , فالموارد موجودة لدى الجميع وإن كانت بكميات مختلفة وان اختلف التوزيع فبعضها لديه نوع معين من الموارد وللآخر نوع آخر , وبعضها لديه الكثير والبعض ليس له إلا القليل.
وثانياً :نجد أمامنا أمثلة كثيرة لدول وهبها الله ثروات طبيعية هائلة مثل العراق وغيرها من الدول العربية والإسلامية فهذه الدول بصفة عامة هي من أغنى الدول على الأرض بالنسبة للموارد الطبيعية بل يصعب أن نتصور أي مورد إلا ونجده متوفراً وبكثرة في هذه الدول ومع ذلك فهي من أفقر الدول بصفة عامة.
بينما نجد دولاً أقل موارد ومع ذلك نجدها من أغنى الدول وأعني هنا بالذات دولاً مثل السويد و اليابان.
لذا بالرغم من أهمية وجود الموارد الطبيعية إلا أنها لا تكفي لنجاح الاقتصاد كما أنها ليست شيئاً أساسياً للنجاح بمعنى أنه بالإمكان أن ينجح الاقتصاد ويتطور حتى ولو كان يفتقر إلى الموارد الطبيعية كما يمكن أن لا ينجح ويتخلف بالرغم من توفر الموارد الطبيعية لديه.
إذاً الأهمية لا تكمن في وجود المورد الطبيعي و إنما تكمن في حسن استخدامه , وهنا يأتي دور البشر فهم أساس النمو وعليهم تقع مسئولية اعمار الأرض.
والمورد البشري ليس بالعدد , فهناك دول لديها عشرات أو مئات الملايين مثل الهند أو الصين ومع ذلك فلقد عانت ويلات الفقر والجوع وهناك دول ذات ضآلة سكانية مثل النرويج أو سويسرا ومع ذلك فهي من أغنى الدول.
الموارد البشرية هي أساس النجاح ولكن في نفس الوقت قد تصبح هذه الموارد أساس الفشل بحيث نجد دولاً تشتكي من عدد سكانها وتسعى لتقليصهم وتنظيم الأسر أو تحديد النسل , فهناك على سبيل المثال قانون في الصين يمنع إنجاب طفل ثالث ويحدد عدد الأطفال باثنين في أي أسرة.
بالتالي العدد ليس هو المهم وإنما المهم هو الكفاءة والنوعية والتنظيم وهنا يأتي دور الدولة في قيادة المورد البشري وتأهيله وتحفيزه وتشجيعه بحيث يصبح عاملاً منتجاً بدلاً من أن يكون عبئاً . هذا هو أسلوب دعم الاقتصاد الوطني.


تلعب الدولة دوراً كبيراً في نمو أي اقتصاد أو تخلفه, فهي يمكن أن تكون الداعم الرئيسي وراء النمو, كما يمكن أن تضع العقبات والعراقيل بحيث يتخلف الاقتصاد.
وليس من الضروري أن يكون الدعم بالمال أو بالاعانات الحكومية, بالعكس في بعض الأحيان قد نجد أن مثل هذا الدعم المادي قد يضر أكثر مما يفيد, فالدعم المطلوب يختلف من اقتصاد الى آخر, ويختلف في نفس الاقتصاد من نشاط الى آخر, ويختلف في نفس النشاط من زمن الى آخر, فعلى سبيل المثال عندما بدأ يتكون الاقتصاد السعودي قبل حوالي سبعين عاما ويتحول الى اقتصاد وطني واحد- حيث كان قبل ذلك مقاطعات مختلفة تتعامل مع دول أجنبية أكثر مما تتعامل مع بعضها البعض- في تلك الفترة عندما تم توحيد هذه المناطق كان لابد للدولة أن تلعب دورا مباشرا لكي يقوم الاقتصاد الوطني, وهكذا فعلت حيث قامت ببناء الموانئ والطرق وتوفير التعليم المجاني وتوفير الماء والكهرباء والهاتف وخلافه من خدمات أساسية, وبنية اقتصادية لم تكن موجودة ولم يكن الاقتصاد الوطني سيوفرها لو لم توفرها الدولة.
وفي مرحلة لاحقة تغير نوع الدعم حيث قامت الدولة بانشاء المؤسسات المالية المتخصصة مثل بنك الاقراض العقاري وبنك الاقراض الصناعي, وصندوق التنمية الصناعية وغيرها من مؤسسات مالية بهدف تمويل القطاع الخاص ليقوم بدور أكبر في الاقتصاد الوطني.
على أساسه اختلف الدعم من المرحلة الأولى- حيث كانت الدولة تقوم مباشرة بالنشاط الاقتصادي كتوفير الماء والكهرباء والتعليم- الى مرحلة ثانية حيث توفر الدولة التمويل, وقد توفر الأراضي أو الكهرباء والماء, ولكنها تترك القطاع الخاص في الاقتصاد الوطني يقوم هو بالنشاط مباشرة.
ورأينا أيضا الدولة تتخذ سياسة ضمان الشراء وبأسعار معينة للمنتج الوطني السعودي كما فعلت في سياسة دعم القمح, وهنا قامت الدولة بضمان شراء كميات معينة من القمح, وبأسعار محددة ومغرية بحيث اتجه القطاع الخاص الى انتاج هذه السلعة وبوفرة كبيرة.
وهذه سياسات أو أنواع مختلفة من الدعم, وهناك كثير غيرها, ولكن كما يمكننا أن نلاحظ فان لكل سياسة محاسن ومساوئ, وأول ما يمكن أن نلاحظه أن كل ريال يتم دفعه كدعم للقطاع الخاص هو ريال من ميزانية الدولة, وتم استقطاعه من مكان آخر, أو كان بالامكان دفعه في مكان آخر, فعلى سبيل المثال عندما يتم تمويل مشروع صناعي أو عقاري بقروض ميسرة من الدولة أو عندما يتم شراء انتاج القمح بسعر محدد وأعلى من سعر السوق, فإننا نكون صرفنا هذه الريالات على الصناعة أو العقار أو القمح بدلاً من أن نصرفها على الصحة أو التعليم أو الأمن, أو كنا على الأقل وفرنا هذه الريالات ودفعنا بها جزءا من الدين العام.


دعم الاقتصاد الوطني يأخذ عدة أشكال ويختلف حسب طبيعة النشاط الاقتصادي كما يختلف حسب المكان والزمان, فهنالك دعم مباشر مثل شراء المنتج بسعر مدعوم كما فعلت الدولة عندما حددت سعر شراء إنتاج القمح أو عندما تمنح الدولة خدمات مثل الكهرباء أو المياه بسعر مخفض أو مدعوم, أو عندما تمنح أراضى أو قروض أيضا بأسعار مخفضة أو مدعومة.
هذه جميعها أنواع مختلفة من الدعم للنشاط الاقتصادي وهنالك الكثير غيرها ولكن بصفة عامة فان جميع أنواع الدعم وعلى اختلافها لها تكاليف ولا تقتصر هذه التكاليف على المبلغ المدفوع كدعم للنشاط الاقتصادي المعني ولكنها تتعدى ذلك, وقد نجد في بعض الأحيان أن التكلفة ليست فقط اكبر من العائد وإنما التكلفة أصبحت تضر السلعة المدعومة نفسها ولا تفيدها, وبالتالي يجب أن نكون حريصين جدا عند القيام بدعم أي منتج أو نشاط اقتصادي.
ولعل تجربة المملكة في دعم القمح هي مثال جيد لتكاليف الدعم وآثاره المتعددة, فلقد كان الهدف من هذا الدعم هو تحقيق الاكتفاء الذاتي في الغذاء, وهذا بلا شك هدف استراتيجي ويتعلق بأمان واستقرار الدولة كما يتعلق باقتصادها, ولكن عندما تم ضمان سعر مرتفع لشراء القمح من المزارعين واتضح أن هناك أرباحاً هائلة يمكن ان يجنيها هؤلاء المزارعون من الاتجاه إلى زراعة القمح وبدأ الإنتاج يقفز ويتضاعف, وجدنا أننا سرعان ما حققنا الاكتفاء الذاتي من زراعة القمح ومع ذلك لم يتوقف الإنتاج بل استمر في الزيادة, فالمزارعون ليس لهم علاقة بالهدف الاستراتيجي أو الأمني الذي من اجله قامت الدولة بدعم القمح وإنما يتصرفون فقط بناء على الأرباح التي يحققونها من زراعته, وبالتالي ما دام الدعم مستمر والسعر المعروض هو سعر مربح ومضمون فإن الإنتاج سيستمر, وبالزيادة, وهكذا تم صرف مليارات الريالات بالرغم من أننا حققنا الاكتفاء الذاتي من هذه السلعة, أو حققنا الهدف الاستراتيجي الذي من أجله بدأنا بالدعم, وهذه خاصية سلبية للدعم بمختلف أنواعه, فعادة يتم منح الدعم لتحقيق هدف معين, ولكن بصفة عامه فإن الدعم لا يتوقف عندما يتم تحقيق هذا الهدف, فلقد اصبح الدعم مستمرا بحد ذاته ويصعب توقيفه إذ أن الناس اعتادت عليه.
ثانيا لا يخفي على أحد ان التوسع في زراعة القمح أدى إلى سحب كميات هائلة من مخزون المياه الجوفية الموجودة لدينا والتي تكونت عبر آلاف السنين, وربما لو اتجهنا إلى دعم إنتاج التمور بدلا من القمح لكنا وفرنا كثيراً مما تم استخدامه من المياه, فإنتاج القمح يكاد يحتاج إلى الماء على مدار الساعة بينما يعيش النخيل شهوراً بدون ماء .
ولو أردنا إيقاف الدعم عن القمح فقد نجد أننا لم نستفد الكثير, فالمخزون الذي تم الحصول عليه لا يمكن الحفاظ عليه للأبد, فهو يهلك بسرعة, أما بالنسبة للمزارع فإن القمح كما نعلم هو محصول موسمي, فبعد ما يتم حصاد المحصول يجب ان نبدأ من جديد في زرعه, وهذا يختلف عن منتج كالتمور, حيث تطرح النخلة في كل عام محصول جديد ولعشرات السنين.


الدعم كما نرى له عدة تكاليف ويجب ان نكون حذرين جدا في استخدامه وفي اختيار السلع أو النشاط الاقتصادي الذي نرغب في دعمه, وهناك تكاليف مباشرة تتمثل في الدعم المباشر الذي نقوم باعطائه للسلعة أو النشاط, وقد تصل هذه التكاليف الى مليارات الريالات, خصوصا ان كانت السلعة المدعومة هي سلعة تستخدم بكثرة ولعدة أغراض مثل الكهرباء أو الماء والقمح, كما ان هناك تكاليف غير مباشرة قد تصل أيضا الى مليارات الريالات, وخصوصا ان كانت السلعة تدخل في صناعات مختلفة.
وقد تحدثنا عن ذلك في المقالات السابقة وأعطينا عدة أمثلة وهي أمثلة واضحة عن تكاليف الدعم, فيكفينا ان ننظر الى الميزانية الحكومية السنوية لنرى حجم الدعم أو المليارات التى تم رصدها لدعم الماء أو الكهرباء أو القمح أو الخطوط السعودية أو التعليم فهذه تكاليف واضحة وبعضها لها مبررات قوية.
بالتالي فان التكاليف المباشرة للدعم هي تكاليف واضحة ولكن للدعم أيضا تكاليف غير واضحة, بل انه في بعض الأحيان قد تكون نتائج الدعم عكسية , فقد يضر الدعم نفس النشاط الذي نريد أن ندعمه, فلو على سبيل المثال أردنا أن يتم توفير أي منتج في السوق بأسعار منخفضة للغاية بحيث يستفيد من هذا الدعم كل من يستخدم هذا المنتج , قد نجد وبعد فترة أننا حققنا عكس النتائج التي كنا نهدف اليها , فعندما نريد على سبيل المثال دعم رواتب وأجور العمالة السعودية قد نجد اننا عندما نقوم بفرض راتب أو اجر مرتفع في هذه العمالة هذا يؤدي الى ابتعاد عن تعيينها أو استخدامها أو الاتجاه الى استخدام العمالة الوافدة , وبالتالي بدلا من ان نساهم في دعم دخول المواطنين السعوديين قد نجد في النهاية ان دخولهم قد انخفضت بدلا من ان ترتفع , صحيح ان أجرة العامل الوافد قد زادت ولكن هذه الزيادة ستؤدي الى استخدام عمالة أقل والاتجاه الى البدائل.
بالتالي فان الدعم هو سلاح قوي ولكنه سلاح ذو حدين, كما أنه سلاح ذو تكاليف مرتفعة , وسياسات الدعم يجب ان تكون وقبل كل شيء سياسات مؤقتة ولا تستمر كما هي بدون مراجعة مستمرة وتعديل سنوي.
وثانيا يجب أن تكون هذه السياسات مقتصرة الى اقل قدر ممكن ولا يتم استخدامها الا كملجأ أخير.
وأخيرا فان الدعم الأفضل هو الدعم غير المباشر والذي يهيئ المناخ المناسب لنمو النشاط الاقتصادي وتطويره ولا يتدخل أبدا بشكل مباشر في شراء السلعة أو انتاجها.
هذا لا يعني أنه ليست هناك فوائد أو مبررات للدعم, لكن يعني أن الدعم سلاح قوي وله نتائج سلبية كثيرة كما ان له نتائج ايجابية كثيرة.

لذا لابد لنا من الحرص الشديد والمتابعة المستمرة والتقييم الدوري لأي عملية دعم نقوم بها.

د. وليد عرب هاشم
استاذ الاقتصاد المشارك