(كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم ...)
مقطع من مقال د. يوسف القاسم في جريدة الاقتصادية
1. في الأصناف الربوية كالنقود الورقية, أصبحت تدار بين المقرض والمقترض وبينهما (سلع مختلقة), لا ترى صورها وأشكالها إلا في المطويات التسويقية, وفي البراويز المعلقة في جدران البنوك...!
2. المال أصبح دولة بين الأغنياء, فاستأثر به التجار دون الفقراء, لأنه أصبح يتحرك ويزيد داخل أرصدتهم, دون أن يراه أحد إلا العميل الذي ركبه الدين, وتربع على رصيده, فلم يستفد من هذا التعاقد الصوري إلا التاجر باسم البيع والشراء للسلعة المختفية عن الأنظار, وبهذا تُـقَنَّن إدارة المال داخل رصيد التاجر عبر بيع السلع التي لم يقبضها التاجر, ولم يرها العميل, في مخالفةٍ واضحة لنصوص النهي عن الحيل, وتكريسٍ فاضح للنظرية المخالفة لقوله تعالى: (..كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم...).
3. باختفاء السلع, وعدم قبضها, وبظهور النقد, أطل التضخم برأسه البغيض على دول كثيرة, وذلك قبيل الأزمة المالية, ولا سيما حين زاد حجم المضاربات في أسواق النفط وأسواق السلع والمعادن على فروق الأسعار, فغلت المنتجات المرتبطة بأسعار البورصات الدولية, وضعفت القيمة الشرائية للكثير من النقود بشكل غير مسبوق, وأعلن الكثير من المسؤولين - وعلى رأسهم بعض وزراء منظمة "أوبك" - أن المضاربات كانت وراء التضخم, وفقاعة الأسعار, حيث كانت المضاربات على أشدها في تلك الأسواق, دون أن يكون هناك تحرك حقيقي للسلع, ما مهَّد بدوره لوقوع الأزمة.
4. بمنع المشتري بيع السلعة قبل قبضها, تتحرك السلع, وينشط السوق, وتتحقق صورة من صور ما يسمى في اصطلاحنا المعاصر"الأمن الغذائي"؛ حيث يطمئن أهل السوق بوجود السلع, ووفرتها, وتداولها, فتهدأ الأسعار, وتتحرك على سجيتها, ولهذا كان من أبرز أسباب ارتفاع الأسعار ما يسمى الاحتكار, الذي تخبَّأ السلع لأجله؛ لغرض إشعار المستهلكين أن السلعة نادرة في السوق, فيدفع فيها أكثر من قيمتها الحقيقية.
5. بحمل الشارع الحكيم جميع المشترين على قبض السلعة, ونقلها من مكانها قبل بيعها, يستفيد جميع أهل السوق, حيث يستفيد الحمال الذي يحملها من مكانها, وتستفيد سيارات النقل بتحصيل أجرة نقل البضائع من محلها إلى مخازن المشتري, ويستفيد أرباب المخازن والمستودعات بتأجيرها..., وهكذا في سلسلة طويلة, يمكن استحضارها بتأمل ما يؤول إليه الحال عند قبض السلع, وهذا يدل دلالة واضحة على حكمة ربنا الحكيم الخبير الذي شرع للناس ما ينفعهم, ونأى بهم عما يضرهم, ويلحق الأذى بهم, فهل آن الأوان كي نتعرف على مقاصد شريعتنا في المعاملات؛ لنكشف عما ما وراء الأحكام الشرعية من حكم وأسرار, توقظ قلوبنا لحكمة علام الغيوب سبحانه...؟
المفضلات