المشروع التغريبي في السعودية
في كل صبيحة يوم تتكشف تكتيكات المشروع التغريبي في السعودية أكثر وأكثر، وهو مشروع موزع بشكل جيد، ويملك أصحابه نفساً هادئاً وقدرات جيدة ومبهرة على إدارة الصراع، ليست القضية وليدة اليوم، القضية لها جذور ومحطات تاريخية، وجبهات يتم العمل عليها، سأحاول إلقاء الضوء وربط الخيوط ما أمكن.
-الشخصيات المركزية:
يكاد يتفق المراقبون على أن أهم شخصيتين عبقريتين أسستا للمشروع التغريبي في السعودية هما الراحلان: الشيخ عبدالعزيز التويجري (1918-2007) ، والدكتور غازي القصيبي (1940-2010)،أ
رحمهما الله وعفا عنهما، وبينهما تركيبة مشتركة لافتة للانتباه فعلاً، فكلاهما عروبيان، وكلاهما أديبان بارعان، وكلاهما يحمل عداوة شديدة للاتجاه الإسلامي، وكلاهما يحظى بنفوذ سياسي اسثنائي أشبه بنائب الملك، فالقصيبي كان يد الملك فهد، والتويجري كان عين ويد وسائر جوارح الملك عبدالله.
والأخيرة هي الأثر الذي يبحث عنه القائف.. فقد عمل الراحلان على تشييد المشروع التغريبي لا باعتماد (القلم) كما يفعل التغريبيون المثقفون، وإنما باعتماد (القرار) عبر التأثير على صانع القرار ذاته بشكل مباشر عبر المجالسة والمشاورة وتزكية شخصيات معينة الخ. وسنحاول الإشارة إلى شئ من جهودهما فيما يأتي.
أشرنا للمشتركات بين الشخصيتين، وأما الفروق بينهما فمن أبرزها أن القصيبي رجل ساحر للجمهور، ولذلك تصفق له المنتديات والمؤتمرات، بخلاف الأستاذ عبدالعزيز التويجري فإنه داهية من دهاة العرب في التأثير على جلسائه، فلديه قدرات دبلوماسية مذهلة، وأعرف شاباً داعية ممن اعتقل أيام أزمة الخليج، فلما خرج استضافه بشكل شخصي الأستاذ عبدالعزيز التويجري عدة مرات، وما هي إلا أيام حتى تحول هذا الداعية الشاب إلى هارديسك آخر، وهذا الداعية الآن يحمل مشاعر نقمة شديدة تجاه الإسلاميين، ما السبب؟ السبب هو القدرات الخارقة للأستاذ عبدالعزيز التويجري في التأثير، خصوصاً في إشباع شهوة الجاه والتقدير في نفوس الناس.
وبعد وفاة الأديب عبدالعزيز التويجري –رحمه الله- حلّ محله ابنه الأستاذ خالد التويجري وصار زمناً هو وغازي القصيبي (قبل مرضه) هما مركز التوجيه في البلد، ثم بعد مرض غازي ووفاته رحمه الله وعفا عنه؛ صار الأستاذ خالد هو الرقم الأهم في الديوان الملكي اليوم.
والأستاذ خالد التويجري ورث مشروع والده، مع فارق كبير في القدرات بين الشخصيتين طبعاً، فالأستاذ خالد لا يملك الموروث الأدبي والدبلوماسي الذي يملكه والده، وقد كان الأستاذ عبدالعزيز التويجري يقول لولده خالد (إني أرى فيك شبابي) وقال له أيضاً: (إذا أردت أن تغير فلا تظهر في الإعلام) . ولذلك فقد عمل الأستاذ خالد بوصية والده، فلاتكاد تجد له صورة واحدة في الإعلام برغم مركزه السيادي النافذ، بل لما نشرت صحيفة حرف الالكترونية صورة له دمر الموقع مباشرة.
استمرار الصراع
استمر الصراع بين الإسلاميين وقيادات المشروع التغريبي، وكان على أشده أيام أزمة الخليج، وفي كل تلك المراحل كان الأمر سجال يدال عليهم ويدال على الإسلاميين، ولكن في مرحلة الملك عبدالله استطاع المشروع التغريبي تسديد أقوى ضرباته عبر صناعة الضباب الكثيف حول الملك عبدالله، وضرب الجمارك الفكرية حول عيون الملك فلا تصل له إلا صورة مصممة بشكل يدعم المشروع التغريبي، ويصور المخالفين على أنهم ضد التنمية وليسوا ضد التغريب، وساعد على صناعة الضباب حول الملك أن الملك عبدالله فيه طيبة وبساطة فطرية معروفة، فاستطاع المحيطون به منعه من التواصل المباشر مع كافة الأطياف الاجتماعية وكشف الحقيقة.
ومن أوائل من أشار للضباب الكثيف الذي يحيط بالملك عبدالله الناقد التنموي د.محمد القنيبط في مقابلة شهيرة له في برنامج حديث الخليج بقناة الحرة حين قال (للأسف هناك ضباب كثيف حول الملك عبدالله).
-التركيز على المرأة:
يلاحظ المتابع للمشروع التغريبي أن هناك تركيزاً هائلاً جداً على ملف المرأة، فهناك إلحاح شديد على إنهاء بعض أحكام الشريعة حول المرأة المتعارضة مع الثقافة الغربية، مثل الاختلاط والحجاب وعلاقات الصداقة بين الجنسين ونحوها، يرى التغريبيون أنه حان الوقت لتجاوز أحكام القرآن المختصة بالمرأة مثل (وقرن في بيوتكن) ، (فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن) ، (ولاتخضعن بالقول) ، (ولاتبرجن) ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ماتركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء) ، (لايحل لامرأة تؤمن بالله..) (إياكم والدخول على النساء) ، (طوفي من وراء الرجال) ، الخ ونحو هذه النصوص التي كن قرأها بشكل موضوعي متجرد باحث عن الحق لايشك أن مراد الله فيها هو التحفظ في العلاقة بين الجنسين، فهذا هو القدر المشترك بينها، وهذا هو "المقصد" لمن يبحث عن مقاصد الشريعة.
المراد أن أصحاب المشروع التغريبي يرون أن فعلهم هذا ليس كراهة في القرآن والسنة، ولا جحداً لهذه النصوص، وإنما شعورٌ بأن أحكام القرآن والسنة المختصة بالمرأة إنما تناسب البيئة العربية التي وجد فيها محمد -صلى الله عليه وسلم- أما نحن اليوم في عصر الحداثة والتكنولوجيا فلا تناسب المرأة السعودية هذه الأحكام القرآنية النبوية المتحفظة في العلاقة بين الجنسين
ومن هذه الجبهات التي فتحوها في ملف المرأة: خلط الشباب بالشابات في جامعة كاوست (نموذج من التعليم العالي) ، وخلط المعلمات بالصبيان في المراحل الأولية (نموذج من التعليم العام)، وتلاحظ أنهما عمليتان متعاكستان، واحدة من الأعلى والأخرى من الأسفل بهدف الالتقاء في المنتصف، التحضير لإخراج السعوديات في الأولمبيات الرياضية، برامج الكشافة للفتيات والرحلات والتدريب الخارجي المختلط، تكثيف حضور النساء السافرات في القنوات السعودية حتى كان بعض العامة يسمي قناة الإخبارية (المشغل) من كثرة النساء فيه، إقحام المرأة في مناصب نيابة الوزارة وما فيها من لقاءات غير لائقة بمسؤولين أجانب والتحضير لإدخالها في جلسات مجلس الوزراء، قرار امتهان الفتيات بوضعهن كاشيرات، لقاء الأمير خالد الفيصل بالطالبات الخريجات بشكل غير لائق، دفع الملك عبدالله للظهور في صور جماعية مع النساء ثم نشر الصورة لصناعة انطباع إيجابي بأن الملك داعم لهذه المشروعات التغريبية، الخ.
-تغريب أحكام الكفار:
يأتي في المرتبة الثانية بعد أحكام المرأة تغريب أحكام الكفار في كفر الكافر والبراءة منه والقتال ونحوها، فأما كفر الكافر فأغلب ما يدورون حوله هو إنكار (كفر من يجحد نبوة محمد) وقد أجمع أهل الإسلام في كل العصور والمذاهب على من أنكر نبوة محمد –صلى الله عليه وسلم- على أنه كافر تثبت له أحكام الكفار، فتراهم يقولون لك: اليهودي النصراني ونحوهم الذي يؤمن بالله ويعمل صالحاً مؤمن وليس بكافر (أي حتى لوكان كافراً بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم) وقد كتب هذا الرأي الذي يمثل ناقضاً من نواقض الإسلام في جريدة الرياض مرتين، وافتى فيها الشيخ البراك، ثم عرض هذه السنة وتم الترويج له في المسلسل الاجتماعي الشهير طاش ماطاش، وتشربه كثير من العامة والشباب غير المحصنين عقدياً.
ومن وسائل ترويج تغريب أحكام الكفار مؤتمرات الحوار والتقارب بين الأديان التي صارت ترعى وتكثف لها الدعوات والتلميع الاعلامي.
-ترقيق الدين بالخلافيات:
هذه هي الملمح الثالث في المشروع التغريبي، فمن وسائل تحييد حاكمية النص الشرعي الاحتجاج بالخلاف على النص، فإذا أتى التغريبي من ينكر عليه شأناً ما، قال لك: "المسألة فيها خلاف"، وإذا أتى التغريبي يريد أن يتبنى نظرية غربية ما، وقلت له فيها العيوب الشرعية التالية، قال لك: "المسألة فيها خلاف"، وهكذا ضاعت فائدة النصوص لأنها صار يحكم عليها بالخلاف.
الطريف في الأمر أن الله أنزل النصوص لتحكم على الخلاف، وهؤلاء يصنعون العكس، فيحكمون بالخلاف على النصوص، حيث يقول تعالى (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) [النساء 59]. ويقول تعالى (وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) [البقرة 213].
فتلاحظ في هذه النصوص أن الله يجعل النص حاكماً على النزاع، وحاكماً على الخلاف، وهؤلاء قاموا بالعكس تماماً.
ومن أوائل من نشر هذه الطريقة الشاذة ابوسعيد بن لب –رحمه الله وعفا عنه- الذي رد عليه الشاطبي في الموافقات، ثم ماتت هذه الطريقة ولله الحمد، يقول الشاطبي في الرد عليها:
(فصل: وقد زاد هذا الأمر على قدر الكفاية؛ حتى صار "الخلاف في المسائل" معدوداً فى حجج الإباحة، ووقع فيما تقدم وتأخر من الزمان الاعتماد فى جواز الفعل على كونه مختلفاً فيه بين أهل العلم..، فربما وقع الإفتاء فى المسألة بالمنع؛ فيقال "لِمَ تمنع والمسألة مختلف فيها؟" فيجعل الخلاف حجة فى الجواز لمجرد كونها مختلفاً فيها، لا لدليل يدل على صحة مذهب الجواز، ولا لتقليد من هو أولى بالتقليد من القائل بالمنع، وهو عين الخطأ على الشريعة) [الموافقات، 5/92]
ومن أهم ما في معالجة الشاطبي لهذه القضية إشارته إلى رقة الدين التي يسببها الاحتجاج بالخلافيات، كما يقول رحمه الله:
(مما في اتباع "رخص المذاهب" من المفاسد: الانسلاخ من الدين بترك "اتباع الدليل" إلى "اتباع الخلاف"، وكالاستهانة بالدين إذ يصير بهذا الاعتبار سيالاً لا ينضبط) [الموافقات، 5/102]
وهذه الطريقة، أعني الاحتجاج بالخلافيات على النصوص تشربها كثير من الشباب والعامة للأسف، وقد نجح التغريبيون في ترويجها نجاحاً مذهلاً.
-الاستعانة بالفكر العلماني العربي:
من أهم الأدوات التي استعان بها المشروع التغريبي السعودي محاولة استثمار الكتب والدراسات العلمانية العربية لتفكيك البنية السلفية وتقويض يقينياتها وإدخال الشكوك والارتيابات فيها، تمهيداً لتقبل الفكر التغريبي، وقد كان الأستاذ عبدالعزيز التويجري يستضيف عامة المفكرين العلمانيين العرب في مهرجان الجنادرية المشهور، وفي أوائل سنواته كان يحضره بعض الدعاة، وتثور بينهم وبين المفكرين العلمانيين مجادلات ساخنة، منها مداخلات للشيخ سعيد بن زعير وغيره.
ثم أصبحت كتابات العلمانيين تدخل عبر معارض الكتب وخصوصاً مركز دراسات الوحدة العربية ودار الساقي والجمل ونحوها، وقد أقبل بعض الشباب على هذه الكتب وبنوا تصوراتهم عن السنة النبوية وأصول الفقه والتاريخ الإسلامي من خلال هذه الكتب التي هي إعادة إنتاج للاستشراق التقليدي (الفيلولوجي)، وخصوصاً أمثال دراسات جولدزيهر وشاخت وهنري كوربان ورينان ونحوهم، ويحتاج هذا ورقة خاصة لتوضيحه.
المهم أن استضافة المفكرين العلمانيين العرب، والتقاؤهم بالشباب السعودي الغر على هامش تلك المؤتمرات، وقراءتهم لكتبهم، وبناؤهم تصوراتهم الشرعية من خلال كتب العلمانيين، كان له دور كبير جداً في صناعة عقليات شبابية صالحة لزراعة التغريب.
-التشويه الإعلامي للعلماء والدعاة المعارضين للتغريب:
من أهم أدوات المشروع التغريبي توجيه رؤساء التحرير لفتح المجال للكتّاب التغريبيين والمستخدمين لتشويه العلماء والدعاة المعارضين للمشروع التغريبي، وتلميع العلماء المتصالحين مع المشروع التغريبي، ولذلك تجد الصحفيين مطبقين على إسراف المديح على شخصيات دينية بعينها، في مقابل تشويه رموز فقهية ودعوية بعينها، كتشويههم للشيخ البراك واللحيدان والمنجد والأحمد ونحوهم، هذا التواطؤ على مديح شخصيات دينية بعينها، وذم شخصيات دينية أخرى لا يمكن تفسيره بتاتاً بكونه عرضاً واتفاقاً بل هو جزء من البرنامج قطعاً
ومن أهم مدراء الكيانات الإعلامية المحنكين في إدارة المعركة: الأساتذة: تركي السديري، وعبدالرحمن الراشد، والوليد الابراهيم، وهم في الغالب لا يواجهون مباشرة بل يتحكمون بشكل غير مباشر في طريقة وصول الرسالة للمتلقي النهائي.
-استعمال العلماء المتصالحين مع المشروع التغريبي:
ثمة بعض الفضلاء من الدعاة كانوا في مرحلة أزمة الخليج خصوماً للدولة والإعلام الليبرالي، وبعد الاعتقال وصلوا إلى قناعة أنه لا يمكن مصارعة الدولة والإعلام الليبرالي، فتحولوا إلى مصالحة النظام السياسي والإعلام الليبرالي كلاهما، لكن تحولت سهامهم إلى السلفيين تدريجياً وبلا شعور منهم فيما أظن.
هؤلاء الدعاة الفضلاء تم استعمالهم في تعزيز المشروع التغريبي وهم لا يشعرون، ولا أشك أنهم لو شعروا لنفروا إن شاء الله من ذلك، فهم أخيار في أنفسهم، المهم أنهم صاروا يقدمون تزكيات هائلة لرموز تغريبية كمديح غازي القصيبي وأنه نموذج يحتذى، والدفاع عن الجابري، والحكومات العلمانية كالنظام التونسي والليبي، وعمارة النفوس بتعظيم الغرب وأن أمريكا لن تسقط، في مقابل لمز الحركات الإسلامية، وسيد قطب، وحزب النهضة التونسي، وأنهم يسعون للسلطة، ولمز المحتسبين، بل وضع السلفيين في خانة الأعداء (شكراً أيها الأعداء)، وتمييع النصوص بالتخيير والتشهي في الخلافيات.
ولذلك فإن المفتي بالأمس أرسل رسالة لا تخلو من تنبيه لاذع حول خطورة أن يقوم الإعلام الليبرالي باستغلال هذه الشخصيات الدينية لتزكيتها وتخفيف مشاعر النقمة تجاهها، كما يقول المفتي الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ:
(وإن كان الخروج –في القنوات- لأمور عادية، وقد يراها أصحاب القنوات بأنها تزكية لهم إذا خرج من هم أهل التقى والصلاح في قنواتهم، والواقع أن منهجهم وبرامجهم غير سليمة؛ فلا ينبغي أن نعطيهم تزكية بخروجنا معهم) [الشرق الأوسط، 6سبتمبر2010]
وأنا واثق إن شاء الله أن هؤلاء الأخيار سيتنبهون للدور الخطير الذي يضعهم فيه الإعلام الليبرالي ويدفعهم له ويطريهم ويثني عليهم، ولذلك تجد الأستاذ الوليد الابراهيم يختار وقت الذروة لبرامج رموز دينية معينة لأنه يعلم جيداً أنها توفر أجواء غير عدائية لمشروعه التغريبي، ولوكانت هذه البرامج تهدد التغريب لما دعمها وحرص عليها ووضعها في أغلى الأوقات.
-التغريب السياسي:
وثمة بعض الفضلاء من الاسلاميين المهتمين بالبعد السياسي في النهضة، أكثرهم فاضل في نفسه وصادق في البحث عن مخرج؛ ولكنهم انجرفوا بلا وعي في التغريب السياسي، فصاروا ينادون بالديمقراطية والحرية (الحرية هي ترجمة الليبرالية أصلاً!)، وحجتهم في ذلك أن التغريب إنما هو بسبب الفساد السياسي، ولا يمكن مواجهة الفساد السياسي إلا بالديمقراطية، وهذه الحجة تحتاج لقراءة هادئة احتراماً لصدق أصحابها، فالمقدمة الأولى منها مقدمة صحيحة جزئياً، وهو أن من أهم أسباب التغريب جوانب القصور في نظام الحكم، ولكن الحل ليس هو بالديمقراطية والحرية التغريبية، فإن التغريب لا يواجه بالتغريب، وإنما يواجه بالشريعة، والفساد السياسي يواجه بالسياسة الشرعية، والسياسة الشرعية تتضمن أموراً كثيرة منها (العدل في الحكم، وتولية الأكفاء، والشورى، ومحاسبة الولاة، واستقلال القضاء، الخ)
وهؤلاء الفضلاء صاروا ينادون بالحرية، ويجعلون من معناها (حق أهل الضلال في نشر ضلالهم) وهذه حرية تغريبية وليست حرية شرعية، ومن حججهم التي يقولونها: أن الإسلاميين إن دعوا للتضييق على أهل الضلال فسيكونون هم أول ضحية، وأن الإسلاميين لم يضيق عليهم إلا لأنهم لم يطالبوا بالحرية.
ونحن نحتاج هاهنا أن نناقش هذه بهدوء، لأن بعض من يقولها صادق في طلب الحق إن شاء الله، فالحقيقة أن من يقول هذه الحجة غفل عن أن المعيار في القضايا الشرعية ليست هي المصالح الشخصية، بل الشريعة، والشريعة جاءت بحكمين متوازيين: التمكين للعلماء والمفكرين والأدباء الخ من نشر علومهم وآرائهم، ومنع أو معاقبة من يخرج على الشريعة منهم. فلا يصح أن نطالب بالجزء الأول ونترك الثاني بحجة أننا حتى لا نكون ضحية، هذا تفكير يصلح في برنامج سياسي وليس تفكيراً منطلقاً من الالتزام بالشريعة.
ولذلك فسائر أئمة الإسلام الكبار طالبوا بمنع المضلين ومعاقبة من لايرتدع إلا بالعقوبة، مع كون هؤلاء الأئمة –أيضاً- كانوا ضحايا للسلطة كسعيد بن المسيب ومالك وسفيان الثوري وأبي حنيفة وأحمد وابن تيمية وغيرهم، وقد ساق المؤرخ ابوالعرب (ت333هـ) في كتابه المحن عجائب من ابتلاء أئمة السلف، فكل هؤلاء تعرضوا لاضطهاد السلاطين ولم يمنعهم ذلك أن يطالبوا بمنع المضلين، بسبب كون أئمة السلف موضوعيين علميين في نظرهم في الشريعة وليسوا سياسيين يفكرون بحرياتهم الشخصية، فهل يسوغ أن نقول طبقاً لمنطقكم هذا: إن ما أصاب ابن المسيب ومالك وأحمد وابن تيمية ونحوهم إنما هو بسبب دعوتهم لمعاقبة المبتدع ومنعه فكان هؤلاء الأئمة هم أول الضحايا؟ هل يسوغ هذا في نفس رجل يحب الله ورسوله وأئمة السلف؟!
المهم أن هؤلاء الاسلاميين المعنيين بالقضية السياسية صاروا ينزعون إلى التغريب السياسي بلا شعور منهم عبر الترويج للديمقراطية والحرية التغريبية، بل وإدمان المديح للغرب، وإدمان المديح للغرب ليس مجرد خلل (فكري)، بل هو إخلال (عقدي) بأصل من أصول أهل السنة وهو وجوب اعتقاد (خيرية واجتباء هذه الأمة على سائر الأمم) كما قال تعالى (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) [آل عمران، 110].
وبين الله اجتباء هذه الأمة في قوله (هُوَ اجْتَبَاكُمْ) [الحج 78].
بل وجعل تعالى هذه الأمة شاهدة على الناس بسبب حبه وتعظيمه لها جل وعلا كما قال تعالى (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) [البقرة: 143]
والمراد أن من يغالي في مديح الغرب وشتم هذه الأمة المسلمة فقد انتهك أصلاً عقدياً من أصول أهل السنة وهو وجوب اعتقاد فضل وخيرية واجتباء هذه الأمة على سائر الأمم، وهذا لا يخالف الثناء الجزئي على أمر جزئي معين، كقوله تعالى (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) [الروم:7] ومع أنها سيقت في معرض الذم! لكنها تضمنت ثناء جزئياً.
يتبع...........
المفضلات