الاقتصاد الوهمي .
ثمة خبراء يذهبون أبعد من هذا في التفسير فيتحدثون عن الاقتصاد الوهمي أو الاقتصاد الورقي . ويعزون الأزمة إلى تضخم هذا الاقتصاد فما هو ؟
يرى هؤلاء أن الاقتصاد الحقيقي هو الاقتصاد الذي يتعاطى تبادل سلع حقيقية في الوقت الحقيقي ، أي بائع يعطيك السلعة ويتقاضى منك ثمنها . في هذا ( الاقتصاد الحقيقي ) تدرج أربعة قطاعات : الزراعة والصناعة والتجارة والخدمات . أما ( الاقتصاد الوهمي ) أو الاقتصاد الورقي ، فهو اقتصاد بدا يظهر تدرجاً مع ابتكار ( منتجات ) مصرفية أو مالية تخطت مبدأ السلعة مقابل الثمن . ففي العقود الحكومية ظهرت منذ سنوات عقود سميت ( BOT ) وهي أحرف تختصر العبارة الانجليزية ( Build Operate , Transfer) أي أنشى واستغل ثم سلم . وفي هذا النظام مخاطرة اقتصادية في المجهول ، لان الشركة لا تعرف تماماً كيف ستكون الحركة على هذا المشروع في سنوات الاستثمار . لكن أمر المخاطرة ظل محصوراً بين فريقين : الشركة والدولة .
ثم ظهر نظام أخر سمي : التسنيد ، وفية أن شركة ما تشتري خدمات البريد مثلاً من الدولة ، فلنقل 20 سنة ، وتتولى هي استغلالها هذه المدة . وبذلك تحصل الدولة على دخل البريد سلفاً ثمناً للعقد ، في مقابل أن لدى الشركة احتمال زيادة ربحها على المبلغ المدفوع للدولة . وفي هذا النظام أيضاً ظلت المخاطرة محصورة بين فريقين : الشركة والدولة .
توسعت أفكار خبراء المال وتفتقت عن ( منتجات ) مصرفية ومالية بدت مغرية ، كان منها ما سمي : العقود الآجلة ( Futures ) . ففي إمكانك في هذا النظام أن تجلس في بيتك وأن توكل إلى الشركة مضاربة في سوق المال ، أ، تستثمر مالك في شراء الأسهم والسلع وبيعها .
وحتى نبسط الأمر ، لنقل إنك تملك 10 ملايين دولار وتريد استغلالها . فتتصل بعميلك في سوق المال وتسأله : كم سعر برميل النفط اليوم ؟ فيقول لك 70 دولار . وتقول له : أشتر 100 ألف برميل . أنت غير مهتم لا بشراء النفط ولا ببيعة ، وفي الأساس يعقد عميلك عقد الشراء هذا على أن تتسلم النفط بعد ثلاثة أشهر مثلاً . في اليوم التالي ، تسأله : كم البرميل اليوم ؟ فيقول لك 73 دولار ، فتقول له : بع المائة ألف برميل ، فيبيع ، وتكون قد ربحت بين ليلة وضحاها 300 ألف دولار ، من دون أن تتسلم النفط أو تسلمه . بل لو فرضنا أنك لا تملك أي مال ، لكنك تعرف لعبة الأسواق ، وصدف أن كان مدير أحد المصارف صديقاً لك . فيمكنك عندئذ أن تحصل من صديقك هذا على ائتمان مصرفي يمكنك من المضاربة وكسب الملايين ، من دون علمهم . على هذا النسق ( أكتشف ) المضاربون أساليب الربح التي ترفع أسعار السوق وتنزلها ، بعيداً في كثيراً من الأحيان عن قاعدة العرض والطلب وعن التجارة الحقيقية . فلا نفط بيع ولا نفط اشتري ، بل ورقة عليها تعهد ما ذهبت من يد إلى يد .
الخطر في هذا أن المائة ألف برميل التي اشتريتها ثم بعتها ربما تداولتها 50 يداً ، فانتقلت من مضارب إلى أخر في غياب السلعة نفسها وترتب على هذا خسائر وأرباح تفوق قيمة السلعة الحقيقية أضعافاً مضاعفة ، على نحو نفخ قيمة حركة السوق دونما زيادة في الإنتاج .
لقد نشأت ثروات طائلة ( وهمية ) في اقتصاد ( ورقي ) قائم على المضاربة وحدها ، فأصبح حجم الاقتصاد ( الوهمي ) الأمريكي في سوق المال أضعاف حجم الاقتصاد الحقيقي ، أي حجم الزراعة والصناعة والتجارة والخدمات . وفي عام 2000 انفجرت فقاعة شركات الصناعة الرقمية وتكنولوجيا المعلومات فهرب الناس من القطاع ليضاربوا في مكان أخر ظنوا أنه أمن : العقار . فالعقار في الحساب التقليدي قطاع أمن لأنك تشتري بيتاً أو عقاراً حقيقياً لا وهم فيه . حتى أن اسم العقار بالانجليزية هو ( Real Estate ) أي الأملاك الحقيقية . لكن فيروس العقود الآجلة واقتصاد الورق دخل في سوق العقار وأخذ التجار يبيعون بيتاً لم ينشأ بعد ، بل لا يزال على الورق . وأخذت أسعار العقار ترتفع والمضاربة تشتد ، والجالسون في بيوتهم يبيعون ويشترون عقوداً أجلة . ودخلت المصارف في اللعبة . وتوسعت في الإقراض ... إلى أخر القصة .
هذه المرة كان انفجار الفقاعة قاتلاً ، لان مجتمع المصارف وشركات التامين ، وهي عصب الأساس في الحركة المالية تورط في اللعبة الخطرة . حتى شركات صنع السيارات وهي العملاقة : جنرال موتورز وفورد وكرايسلر ، وهي من صميم الاقتصاد الحقيقي ، انزلقت إلى المستنقع ، حين أسست مصارف كان غرضها أولاً إقراض مشتري السيارات ، لكنها توسعت في المضاربة ودخلت سوق الاقتصاد الورقي فيما بعد ، وهكذا فتحت على نفسها أبواب الجحيم .
وتعمق محللون في النظرية ، فقال سمير أمين المفكر الاقتصادي المصري ، إن أصل الأزمة أن تبأطو نمو الإنتاج في الغرب منذ بداية سبعينات القرن الماضي ، وفر فائض رأس مال تحول من الإنتاج إلى سوق المال التي صارت أوفر ربحاً . ورأى جون سي بوجل ، أن الأسباب أربعة : رأسمالية المديرين التي حلت محل رأسمالية حملة الأسهم ، وتعاظم مكافآت الرؤساء التنفيذيين ، والتركيز على سعر السهم بدل قيمة الإنتاج الحقيقية ، وفشل المسئولين عن الرقابة ولاسيما مدققوا الحسابات ومجالس الإدارة ومحللو وول ستريت والساسة .
المفضلات