السلام عليكم
سلسلة جميلة قام بكتابتها الاخ محمد الفارس عن الأزمات المالية الأمريكية نشرتها صحيفة الخليج الاماراتية واليكم هذه الحلقات
أمريكا والعالم على وقع 3 كسادات اقتصادية كبرى ... (1)
مرّ الآن عام كامل على بدء الأزمة الاقتصادية العالمية التي أدت إلى انهيار كبريات المؤسسات المالية والتجارية في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا وبقية دول العالم، وربما لم تسلم دولة من دول العالم سواء كانت غنية أو فقيرة من تلك الأزمة سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، ومنذ بدء تلك الأزمة أو بمعنى أصح الزلزال الهائل في سبتمبر/أيلول 2008، والعالم يقف مذهولاً أمام الانهيارات المتتالية للمصارف العريقة، وشركات العقارات الضخمة، ومصانع السيارات، وشركات الاستثمار، والبورصات، وغيرها كثير مما لا يمكن حصره، ورغم أن العالم شهد أزمات اقتصادية متعددة، إلا أن أهم تلك الأزمات هي التي وقعت في الولايات المتحدة، وتأثرت بها بقية دول العالم، ويبدو أنه كُتب على العالم
أن يذوق المرارات التي تذوقها أمريكا منذ بروزها كقوة اقتصادية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وأن يذوق أيضاً مرارات أمريكا التي لا يكاد يسلم منها بلد في العالم منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية حتى الآن . ومعظم الاقتصاديين والمؤرخين يركزون على الكساد العظيم الذي ضرب أمريكا عام 1929، ولا يشيرون إلى كساد آخر قبله حدث في الولايات المتحدة عام 1873، وربما يعود ذلك إلى أن أمريكا في تلك الفترة لم تكن قد بدأت التأثير في اقتصاديات العالم، ولكن الوقائع التاريخية تشير إلى تأثر بعض دول أوروبا من ذلك الكساد الذي استمر في أمريكا منذ عام 1873 حتى عام 1879، ولمدة 6 سنوات كاملة، ولكن آثاره استمرت بعد ذلك لفترة طويلة .
لا شك أن الأرقام المالية التي شكلت خسائر في تلك الفترة لا تقارن بما حدث في عام 1929 عندما انهار السوق المالي في نيويورك وعم الكساد جميع دول العالم طوال فترة الثلاثينات، رغم الاعلان عن انتهاء الكساد عام ،1933 إلا أن آثار ذلك الكساد استمرت حتى الحرب العالمية الثانية التي اندلعت عام ،1939 ويقال إن الولايات المتحدة دخلت الحرب للخروج من نفق الكساد المظلم الذي أثر على جميع مناحي الحياة في أمريكا، وأدى إلى تدهور الاقتصاد وانتشار الفقر بين ابناء المجتمع الأمريكي بشكل كبير بعد أن اغلقت الكثير من المصانع والمؤسسات التجارية أبوابها، واخذت طوابير الفقراء الذين يحصلون على وجبات مجانية تزداد يوماً بعد آخر في جميع الولايات . وبنفس الوقت فإن الأرقام المذهلة التي تقدر كخسائر مالية في الأزمة الحالية لا تقارن بما حدث في عام ،1929 حيث نسمع يومياً عن أرقام لا نعرف عدد أصفارها من كبر حجمها، وسنحاول أن نتعرف على الأزمات التي ضربت الولايات المتحدة وتأثيرها على العالم، وهما بالتحديد الكساد الذي حدث عام 1873 وآثاره، والكساد العظيم عام 1929 مع بعض المقارنة مع ما يحدث في وقتنا الحالي . ولكن يتوجب على القارئ أن يعرف أن قراءة التاريخ الاقتصادي للدول، خاصة فيما يخص الأزمات الاقتصادية توجب طرح الكثير من المصطلحات والتعريفات الاقتصادية حتى يمكننا معرفة أسباب تلك الأزمات وتطوراتها، ولذا، فسنبدأ قبل الحديث عن الكساد الذي عمّ أمريكا عام 1873 بإعطاء نبذة تعريفية للقارئ عن الفرق بين الاقتصاد الحقيقي والاقتصاد المالي، وكيفية نشوء المؤسسات المالية التي اصبحت تطغى مع مرور الوقت على مؤسسات الاقتصاد الحقيقي، وقادت إلى الكوارث وخاصة خلال الكساد العظيم عام 1929 والكساد الحالي الذي بدأ عام 2008 ولا أحد يعرف متى ينتهي، رغم الحديث اليومي في صحف العالم عن بوادر انفراج قريبة .
الاقتصاد العيني والاقتصاد المالي:
لم يشهد العالم أزمات مالية حادة عندما كان التعامل الاقتصادي بين الناس يتم بطرقه القديمة من بيع وشراء في مختلف انواع السلع، وكانت تمر أزمات أو كوارث طبيعية أو مجاعات تشل الحركة الاقتصادية لفترة من الوقت، ولكن ظهور الاقتصاد المالي أدى إلى بداية حدوث الأزمات الاقتصادية، وتتطلب البداية أن نفهم أن هناك تفرقة أساسية بين ما يمكن أن نطلق عليه “الاقتصاد العيني أو الحقيقي” وبين “الاقتصاد المالي”، فأما الاقتصاد العيني، وهو ما يتعلق بالأصول العينية، فهو يتناول كل الموارد الحقيقية التي تشبع الحاجات بطريق مباشر مثل السلع الاستهلاكية، أو بطريق غير مباشر مثل السلع الاستثمارية، فالأصول العينية هي الأراضي والمصانع والطرق ومحطات الكهرباء، وهي أيضاً القوى البشرية، وبعبارة أخرى هي مجموع السلع الاستهلاكية التي تشبع حاجات الإنسان مباشرة من مأكل وملبس وترفيه ومواصلات وتعليم وخدمات صحية، ولكنها ايضا تتضمن الأصول التي تنتج هذه السلع الاستثمارية من مصانع وأراض زراعية ومراكز للبحوث والتطوير . . الخ، وهكذا، فالاقتصاد العيني أو الاصول العينية هو الثروة الحقيقية التي يتوقف عليها بقاء البشرية وتقدمها، وإذا كان الاقتصاد العيني هو الاساس في حياة البشر وسبيل تقدمهم، فقد اكتشفت البشرية منذ وقت مبكر أن هذا الاقتصاد العيني وحده لا يكفي، بل لا بد أن يزود بأدوات مالية تسهل عملية التبادل من ناحية، والعمل المشترك من أجل المستقبل من ناحية أخرى، ومن هنا ظهرت الحاجة إلى ادوات أو وسائل تسهل التعامل في الثروة العينية، لعل أولى صور هذه الأدوات المالية هي ظهور فكرة الحقوق على الثروة العينية، فالارض الزراعية هي جزء من الثروة العينية، وهي التي تنتج المحاصيل الزراعية التي تشبع حاجة الإنسان من المأكل وربما السكن واحيانا الملبس، ولكنك إذا اردت أن تتصرف في هذه الارض، فإنك لا تحمل الارض على رأسك لكي تبيعها أو تؤجرها للغير، إنما كان لا بد للبشرية أن تكتشف مفهوماً جديداً اسمه “حق الملكية” على هذه الأرض فهذا “الحق القانوني” يعني أن يعترف الجميع بأنك “المالك” الوحيد صاحب الحق في استغلال هذه الارض والتصرف فيها .
ظهور الأصول المالية تاريخياً وبروز أهميتها في التداول:
وهكذا، بدأ ظهور مفهوم جديد اسمه “الاصول المالية” Financial Assets باعتبارها حقاً على الثروة العينية، وأصبح التعامل يتم على “الاصول المالية” باعتبارها ممثلاً للأصول العينية، فالبائع ينقل إلى المشتري حق الملكية، والمشتري تنقل إليه الملكية العينية من المالك القديم بمجرد التعامل في سند الملكية، واصبح التعامل الذي يتم على هذه الاصول المالية (سندات الملكية) كافياً لكي تنتقل ملكية الاصول العينية (الارض) من مالك قديم إلى مالك جديد، ولم يتوقف الامر على ظهور أصول مالية بالملكية، بل اكتشفت البشرية ان التبادل عن طريق “المقايضة” ومبادلة سلعة معينة بسلعة عينية أخرى أمر معقّد ومكلف، ومن ثم ظهرت فكرة “النقود” التي هي اصل مالي، بمعنى انها بمنزلة “حق” ليس على أصل بعينه (أرض معينة أو سلعة معينة) وإنما هي حق على الاقتصاد العيني كله، فمن يملك نقوداً يستطيع ان يبادلها بأية سلعة معروضة في الاقتصاد، أي ان “النقود” اصبحت أصلاً مالياً يعطي صاحبه الحق في الحصول على ما يشاء من الاقتصاد، أي من السلع والخدمات المعروضة في الاقتصاد، والنقود في ذاتها ليست سلعة، فهي لا تشبع الحاجات، فهي لا تؤكل، ولا تشبع حاجة الملبس أو المسكن أو غير ذلك من متاع الحياة، فقط الاقتصاد العيني من سلع وخدمات يسمح بذلك ولكن النقود باعتبارها حقاً على الاقتصاد العيني، تسمح بإشباع الحاجات الحقيقية بمبادلتها مع الاصول العينية (السلع)، أي أن النقود هي أصل مالي أو حق على الاصول العينية، فهي ممثل عن الاقتصاد العيني، ولكن وجودها والتعامل بها يساعدان على سهولة التبادل والمعاملات في السلع العينية، ولم يتوقف تطور “الأصول المالية” على ظهور حق الملكية أو ظهور النقود كحقوق مالية على موارد عينية محددة أو على الاقتصاد في مجموعه، بل اكتشفت البشرية ايضا ان الكفاءة الاقتصادية تزداد كلما اتسع حجم المبادلات، ولم يعد مقصوراً على عدد محدود من الأفراد أو القطاعات، فالقابلية للتداول Negotiability ترفع القيمة الاقتصادية للموارد، ومن هنا ظهرت اهمية ان تكون هذه الاصول قابلة للتداول، وبشكل عام، تأخذ هذه الاصول المالية عادة أحد شكلين، فهي إما تمثل حق الملكية على بعض الموارد (أرض زراعية أو مصانع أو غير ذلك) أو تأخذ شكل دائنية على مدين معين (فرد أو شركة)، وقد تطورت اشكال الاصول المالية الممثلة للملكية (الاسهم) مع ظهور الشركات المساهمة، كما تطورت اشكال الاصول المالية الدائنة أو “المديونية” مع تطور الاوراق التجارية والسندات، وهكذا جاء ظهور الاوراق المالية من أسهم وأوراق تجارية وسندات، مما زاد في حجم الاصول المالية المتداولة التي تمثل الثروة العينية للاقتصاد، وساعد وجود هذه الاصول المالية المتنوعة على انتشار وتوسع الشركات، وتداول ملكيتها، وقدرتها على الاستدامة، ولكن الأمر لم يقتصر على ظهور هذه الاصول المالية الجديدة (أسهم وسندات وأوراق تجارية) بل ساعد على انتشار تداولها ظهور مؤسسات مالية قوية تصدر هذه الأصول باسمها اصبحت تتمتع بثقة الجمهور، مما أدى إلى زيادة تداول هذه الاسهم والسندات بين الجمهور، فمن ناحية ظهرت البورصات التي تتداول فيها هذه الاصول المالية، مما اعطى المتعاملين درجة من الثقة في سلامة هذه الاصول المالية، ومن ناحية أخرى، فإن المؤسسات المالية الوسيطة (البنوك بوجه خاص) حين تمول الأفراد، فإنها تحل في الواقع مديونية هذه البنوك التي تتمتع بثقة كبيرة لدى الجمهور محل مديونية عملائها، فالعميل يتقدم للبنك للحصول على تسهيل أو قرض أو مديونية هذا العميل للبنك تستند إلى ملاءمة هذا العميل والثقة به، ولكن ما أن يحصل العميل على تسهيل البنك، فإنه يتصرف في هذا التسهيل كما لو كان نقوداً، لأن البنوك تتمتع بثقة عامة في الاقتصاد، وهكذا فإن البنوك تحول المديونيات الخاصة للعملاء إلى مديونيات عامة تتمتع بثقة كبيرة لدى الجمهور، فيقبل عليها المتعاملون لأنهم يثقون في هذه البنوك، وهكذا ادى القطاع المصرفي والقطاع المالي بصفة عامة دوراً هائلاً في زيادة حجم الاصول المالية المتداولة، وزيادة الثقة فيها، ومن هنا بدأت بوادر أو بذور الأزمات المالية، وهي بدء انقطاع الصلة بين الاقتصاد المالي والاقتصاد العيني، وازداد التوسع المالي بإصدار أنواع متعددة من الأصول المالية المتنوعة بشكل مستقل عن الاقتصاد العيني، واصبحت للأسواق المالية حياتها الخاصة بعيداً عما يحدث في الاقتصاد العيني، ومن هنا تظهر حقيقة الأزمات المعاصرة باعتبارها أزمات “مالية” بالدرجة الأولى نجمت عن التوسع الكبير في الأصول المالية على نحو مستقل إلى حد كبير عما يحدث في الاقتصاد العيني، ويرجع ذلك إلى المؤسسات المالية التي أسرفت في اصدار الأصول المالية بأكثر من حاجة الاقتصاد العيني، ومع هذا التوسع الكبير في إصدار الاصول المالية زاد عدد المدينين، وزاد بالتالي حجم المخاطر إذا عجز أحدهم عن السداد .
الأزمة الاقتصادية عام 1873:
عندما بدأت الأزمة الاقتصادية الحالية في سبتمبر/أيلول 2008 تطرق الحديث كثيراً للانهيار الاقتصادي الذي عم الولايات المتحدة ثم العالم في ،1929 ولا يعرف الكثيرون أن أول أزمة أو انهيار اقتصادي في الولايات المتحدة بالحجم الكبير حدث في عام ،1873 وكانت تلك الأزمة الاقتصادية التي استمرت 6 سنوات (من 1873 إلى 1879) هي بداية الأزمات الاقتصادية التي تسبب بها النظام الاقتصادي الحديث الذي تحول جزء كبير منه من اقتصاد عيني يعتمد على البيع والشراء وتبادل البضائع بالمقايضة وغيرها، إلى اقتصاد جديد يقوم على النقود والبورصات والأسهم والسندات كما ذكرنا سابقاً، وهذا النظام الجديد هو المسؤول الرئيسي عن الأزمات الاقتصادية التي تحدث كل عدة سنوات في مناطق متفرقة من العالم، ولكن يبدو واضحاً أن أهم ثلاث أزمات شهدها العالم وكان مصدرها الولايات المتحدة هي على التوالي التي حدثت خلال أعوام 1873 و1929 و2008 ولو دققنا بأسباب تلك الأزمات، سنجد تشابهاً كبيراً في كثير من الأسس والقواعد التي سببت تلك الانهيارات الاقتصادية، مع بعض الاختلاف في الحجم والظروف ويبدو واضحاً أن المشكلات الكبيرة التي تصيب مختلف مناطق العالم، لا تأتي من التمدد والتدخل العسكري للولايات المتحدة فقط، وإنما من سياساتها الاقتصادية المتغيرة، وأدواتها المتجددة التي ما أن تطبق أياً منها، إلا ونجدها قد انتقلت خلال فترة قصيرة إلى أوروبا وبقية دول العالم، ولو بدأنا في الذعر الاقتصادي الذي أصاب الولايات المتحدة عام 1873 وكان بداية لكساد طويل استمر حتى عام ،1879 وشمل الولايات كلها، سنرى أن الذي عجل بهذه الأزمة هو افلاس مؤسسة فيلادلفيا للصرافة في 18 سبتمبر/ أيلول 1873 في أعقاب الانهيار الذي أصاب بورصة فيينا في 9 مايو/ أيار 1873 في النمسا وهو ما يطلق عليه بالنمساوية “انهيار المؤسسين”، ونلاحظ هنا أن سبب تلك الأزمات مؤسسات مالية وليست مؤسسات تعتمد الاقتصاد التقليدي الذي يعتمد على البيع والشراء، ويبدو أن شهر سبتمبر/ أيلول يمثل شؤماً لاقتصاد الولايات المتحدة، فمثلما تسبب انهيار بنك ليمان براذر في بداية الأزمة الحالية في سبتمبر ،2008 كان انهيار مؤسسة فيلادلفيا في نفس الشهر من عام 1873 بداية الأزمة في أمريكا . ورغم أن هذا الكساد كان واحداً من سلسلة أزمات اقتصادية جرت وقائعها في القرن التاسع عشر، إلا أنه يعتبر الأهم والأطول، وقبل هذا الكساد، كان الاقتصاد الأمريكي في حالة تمدد واتساع زائد، وبصفة خاصة في قطاع بناء خطوط السكك الحديدية .
وهذا التمدد والاتساع شبيه بما حدث قبل أزمة عام ،2008 فقد شهد العالم خلال السنوات القليلة الماضية ازدهاراً اقتصادياً ونمواً هائلاً في قطاعي البورصات المالية والعقارات، وارتفعت الأسعار إلى أرقام فلكية في كل دول العالم، وكانت تلك مقدمة مشابهة لما حدث عام ،1873 ولكن قبل أن تبدأ أزمة ذلك العام، كانت هناك انتكاسات في الاقتصاد الأمريكي، تلت فترة التمدد والاتساع التي شهدها الاقتصاد .
الانتكاسة الاقتصادية التي سبقت أزمة 1873:
تمثلت الانتكاسات الاقتصادية في سلسلة من الأحداث وهي ذعر يوم الجمعة الأسود عام ،1869 وحريق شيكاغو عام ،1871 واندلاع انفلونزا الخيول عام 1872 والتوقف عن استخدام الفضة في عمل العملة عام ،1873 والسبب في ذعر الجمعة الأسود كان محاولة اثنين من الاقتصاديين هما جاي جولد وجيم فيسك احتكار سوق الذهب عام 1869 وقد تم منعهما من القيام بذلك بموجب قرار صادر عن إدارة الرئيس الأمريكي جرانت، وبمقتضاه تم الإفراج عن الذهب الحكومي وطرح للبيع . وكانت التجارة الدولية في ذلك الوقت قائمة على معيار الذهب، وهذا يعني أن على التجار عند الشراء من الخارج أو البيع إليه أن يشتروا الذهب لسداد قيمة التعريفات الجمركية، وأن عليهم التحوط في سوق الذهب للحيلولة دون تأثر أرباحهم بالتقلبات الحاصلة في سعر الأورارق النقدية الخضراء، واعتقد جاي جولد أحد أدهى الرجال الذين عرفتهم وول ستريت في تاريخها أنه أمام فرصة ذهبية في هذه الحالة، وفي عام 1869 قرر أن يحتكر الذهب كما ذكرنا سابقاً، ووسيلة الاحتكار هذه لم تكن إلا عبر السيطرة على مجمل عرض سلعة ما، سواء كانت سهماً في إحدى شركات السكك الحديدية أو الذهب لفترة ما من الزمن، وكل من يرغب في شراء تلك السلعة في خلال تلك الفترة سيكون مضطراً إلى دفع الثمن الذي يطلبه صاحب الاحتكار أو أن يتدبر أمره من دون هذه السلعة، وكانت حالات الاحتكار شائعة في وول ستريت في ستينات القرن التاسع عشر، ولكن الشروع في احتكار الذهب جوهر النظام النقدي العالمي في القرن التاسع عشر كان تهوراً مالياً لا مثيل له من قبل، وكان لدى جولد موارد كافية لشراء الذهب المتداول بعدة أضعاف، ووصل الاحتكار ذروته في 24 سبتمبر 1869 الذي عرف منذ ذلك اليوم بالجمعة الأسود . ففي ذلك اليوم جرى نهب وسلب الآلاف، وساد سخط شديد ضد مقترفي أعمال السلب. أما حريق شيكاغو الذي اندلع يومي 8 و9 اكتوبر/ تشرين الأول ،1871 فقد تسبب في خسارة مقدارها حوالي 200 مليون دولار في الممتلكات العامة جراء ألسنة اللهب التي التهمت منطقة مساحتها أربعة أميال مربعة، وتفاقمت نتائج ذلك الحريق بفعل اندلاع حرائق متزامنة في ولاية ويسكونسن، وترتب على ذلك خسائر مالية هائلة .
إنفلونزا الخيول:
هناك ثلاثة أوجه تشابه بين الأزمة الاقتصادية عام 1873 والأزمة الحالية، فكلتاهما بدأت في شهر سبتمبر/ أيلول، وفي حين كانت انفلونزا الخيول أحد مسببات أزمة ،1873 تصادف انتشار انفلونزا الخنازير التي أصبحت وباء في وقتنا الحاضر ونحن مازلنا نعاني تبعات الأزمة الاقتصادية التي بدأت في سبتمبر ،2008 أما الوجه الثالث للتشابه فهو أن الأزمتين بدأتا بانهيار بنك، وبالنسبة لاندلاع انفلونزا الخيول، فقد حدث ذلك عام ،1872 وكانت تبعاته واسعة النطاق على الاقتصاد الأمريكي، حتى أنه طال جوانب النقل الأمريكي، وتوقفت تماماً صناعة خطوط السكك الحديدية بالشوارع، ولم تعد مقطورات السكك الحديدية قادرة على مزاولة نشاطها لأن إمدادات الفحم والخشب توقفت تماماً، بل ووصل الأمر إلى خفض أعداد سلاح الخيالة الأمريكي، واقتصار تحركاته على القتال سيراً على الأقدام، ولم يقتصر الضرر على سلاح الفرسان بالجيش الأمريكي، بل وعانى منه الخصوم أيضاً الذين وجدوا أن خيولهم أصابها الوهن بما يستحيل معه خوض أي معارك على ظهورها، وقد أدى تفشي انفلونزا الخيول بهذه الصورة البشعة إلى قيام الرجال بشد العربات بأيديهم بينما ظلت القطارات والسفن وهي محملة بالبضائع دون أن يتم تفريغها، وظلت عربات الترام عاطلة، وتوقف توصيل السلع الأساسية الضرورية، وكان لهذا المرض تأثير واضح في الاقتصاد الأمريكي .
قانون سك العملة:
كان من ضمن مقدمات الأزمة الاقتصادية قانون سك العملة عام ،1873 فقد أدى إلى تغيير سياسة الولايات المتحدة فيما يتعلق بالفضة، فقبل صدور هذا القانون، كانت أمريكا تستعمل الذهب والفضة في سك عملتها حيث صدرت لها عملات دخل فيها المعدنان، ولكن القانون نقل أمريكا إلى معيار الذهب، بمعنى أنه لم يعد بمقدورها شراء الفضة بسعر قانوني، ولا تحويل الفضة إلى عملات فضية وتوقفت عن سك الدولارات الفضية اعتباراً من هذا الوقت، وقد أدى هذا القانون إلى تأثير فوري متمثلاً في هبوط أسعار الفضة، الأمر الذي ألحق الضرر بامتيازات التعدين الغربية التي أطلق أصحابها على القانون “جريمة عام 1873” وقد جرت موازنة هذا التأثير إلى حد ما بإدخال الدولار التجاري الفضي الاستخدام في الشرق، وباكتشاف ترسيبات فضية جديدة في فرجينيا سيتي بولاية نيفادا، بدأت هناك استثمارات جديدة في نشاط التعدين، ومع ذلك، فإن قانون سك العملة أدى إلى تقليل الإمداد النقدي المحلي الأمر الذي ألحق الضرر بالفلاحين، وأي أشخاص آخرين عليهم أعباء ديون ثقيلة، وقد أثار ذلك غضب الشارع وطرح بضعة تساؤلات حول الفترة التي قد تحتاجها السياسة الجديدة للاستثمار، وهذا الانطباع عن عدم استقرار السياسة النقدية الأمريكية تسبب في عزوف المستثمرين عن الالتزامات طويلة الأجل، وبصفة خاصة الصكوك طويلة الأجل .
كانت تلك مقدمات الأزمة، وتلاها بداية الأزمة بانهيار بنك فيلادلفيا في سبتمبر/أيلول ،1873 ثم دخول الولايات المتحدة في سلسلة من الانهيارات المالية التي أثرت في أوروبا، ثم الدخول في كساد طويل طوال فترة السبعينات من القرن التاسع عشر، فماذا حدث؟ هذا ما سنتابعه في الحلقة القادمة .
المفضلات