جلطة تطوي صفحة خالد بن محفوظ الإنسان مثير الجدل
الأمير خالد الفيصل يقدم واجب العزاء لأسرة ابن محفوظ
جدة: وائل مهدي، ابتسام الجفري
قليل هم أولئك الذين تختلف النظرة إليهم من داخل بلدانهم عنها من خارجها ومن بينهم الراحل الشيخ خالد بن سالم محفوظ الذي انطوت أول من أمس مع وفاته صفحة حياته المليئة بالأحداث المالية والتي كانت من أكثر الصفحات إثارة للجدل في تاريخ المصرفية السعودية.
داخليا وخارجيا
ففي الداخل لا أحد يعلم عن الشيخ خالد – رحمه الله – سوى أنه كان رمزاً من رموز البنك الأهلي التجاري الذي أسسه والده الشيخ سالم بن محفوظ في 26 ديسمبر من عام 1953 ميلادية ليكون أول بنك سعودي النشأة والذي نما رأس ماله من 30 مليون ريال (8 ملايين دولار) إلى 15 مليار ريال في 2008 ليصبح أكبر بنك عربي بأصول تصل إلى 221.8 مليار ريال.
أما في الخارج فقد كان اسم الشيخ خالد من بين أكثر الأسماء جدلاً في العالم المصرفي وخاصة في نظر الأمريكان بسبب ارتباطه بالعديد من القضايا الجدلية مثل قضية بنك الائتمان والتجارة الدولي الذي واجه اتهامات كثيرة متعلقة بتمويل المنظمات المشبوهة وغسيل الأموال وتجارة السلاح وكان الشيخ من بين كبار الملاك له.
وفي عام 1999، وبعد خمسين عاماً كاملة من مولده في مدينة جدة التي كانت محطة والده الثانية في المملكة بعد مكة المكرمة، استقال الشيخ خالد من منصبه كرئيس تنفيذي للبنك الأهلي التجاري بعد أن باع حصته فيه إلى الحكومة السعودية بسبب وعكة صحية ألمت به في تلك الفترة لتنتهي بذلك مسيرة الشيخ المصرفية التي شغلت الإعلام الأمريكي كما شغلت البورصات العالمية.
ما بقي من الإمبراطورية
ولم يتبق من إمبراطورية الشيخ خالد المصرفية سوى مجموعة استثمارية في جدة يديرها ابناه عبدالرحمن وسلطان، والتي كان يمتلك من خلالها حصصاً كبيرة في شركات تطوير عقاري وشركات أخرى داخل وخارج المملكة، بما فيها كابيتال إنفستمنت القابضة في البحرين، إضافة إلى حصص في مصارف لبنانية وأردنية.
وتتضمن محفظته الاستثمارية حصصاً في شركة الثريا للاتصالات الإماراتية. وهو أيضاً مستثمر في وورلدسبيس في الولايات المتحدة الشركة الرائدة في الاتصالات الفضائية والمدرجة في ناسداك والتي أعلنت إفلاسها العام الماضي.
بداية القصة
وتبدأ قصة الشيخ خالد قبل مولده بأعوام كثيرة وتحديداً في عام 1912م عندما قدم والده الشيخ سالم مع إخوته إلى الحجاز من حضرموت ماشياً على الأقدام وكان حينها في السادسة من العمر.
وبعد عدة أعوام لاحظ الشيخ سالم أن معظم الأعمال التجارية كانت تتم في مدينة جدة، فانتقل إليها عام 1935م واستقر بها. وأسس بعدها هو وصالح وعبد العزيز كعكي شركتهم التي تعنى بالمعاملات المصرفية، ثم تم تحويلها إلى "البنك الأهلي التجاري" بعد اجتماعه بوزير المالية حينها الشيخ عبد الله سليمان واقتراحه عليه بأنه قد حان الوقت لأن تتحرر المملكة من سيطرة البنوك الأجنبية ليكون لها مصرفها الخاص، ومن وقتها كان تأسيس البنك الأهلي عام 1953م.
طفولة ومرض ودراسة
وفي عام 1949م ولد للشيخ سالم المكافح ابناً اسماه خالد، والذي كان ترتيبه الثاني بين إخوته. وكان خالد الابن المفضل عند والدته التي كانت تحبه كثيراً، وقد يرجع ذلك إلى كونه مصاباً بمرض السكري منذ صغره.
درس خالد بمدارس الفلاح بجدة ثم أكمل دراسته في لبنان وقيل إنه درس بـكلية (فكتوريا) بمصر، ثم أرسله والده إلى المملكة المتحدة ليدرس بمدرسة (Copford Glebe School)، وهي مدرسة معروفة ببريطانيا كان يدرس بها أبناء زعماء بعض الدول مثل جمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية (سابقاً) وغيرهم بالإضافة إلى أبناء الشخصيات الكبرى ببريطانيا فضلا عن أبناء بعض العائلات السعودية المعروفة كأبناء الميرة وبن لادن.
تحمل المسؤولية في سن مبكرة، حيث تزوج في العشرين من عمره وهو مازال في بريطانيا، ثم انتقل إلي مدينة نيويورك الأمريكية ليتدرب في (Bank of America) لمدة سنتين أو ثلاث ليعود بعدها إلى جدة ويعمل متدرباً في قسم العلاقات الدولية بالبنك الأهلي.
الحياة العملية
وتدرج الشيخ خالد بعد ذلك في السلم الوظيفي بالبنك حتى تقلد منصب الرئيس التنفيذي للبنك الأهلي في الثمانينات. وصعد نجم الشيخ خالد عندما قدمه الشيخ سالم بن لادن إلى الملك فهد شخصياً لتتوسع دائرة علاقاته الشخصية بشكل كبير بعدها، حتى يقال إنه هو الذي صنع البنك الأهلي بعلاقاته الواسعة.
وكان من رواد الصناعة المصرفية، وكان ذا عقلية متفتحة وصاحب خبرة طويلة كما ذكر البروفيسور عبد الرحيم ساعاتي المتخصص في الصيرفة والتمويل.
قرار جريء
ومن أهم القرارات التي اتخذها الشيخ خالد في تاريخ البنك الأهلي التجاري هو قراره الجريء بتحويل إدارته من مؤسسة عائلية ذات مسؤولية محدودة تلعب فيها العلاقات والمصالح الشخصية دورا رئيسياً إلى شركة مساهمة تدار بشكل مؤسساتي منظم بحيث إن لمجلس الإدارة كامل الصلاحيات في اتخاذ القرارات التي تصب في مصلحة البنك.
الشائعات والمحاكم
ورغم النجاحات التي حققها الشيخ خالد إلا أن القضايا المالية بدأت تطارده. واجهه في حياته الكثير من الشائعات التي تتهمه بدعم الإرهاب, وكانت صحيفة "ميل أون صنداي" قد نشرت مقالة صحفية في أكتوبر عام 2002 م بعنوان «مصرفي من تكساس تابع لابن لادن يطارد بوش» في ملحق "فايننشال ميل أون صنداي"، زعمت فيه وجود علاقة مصاهرة بين خالد بن محفوظ وأسامة بن لادن، وأنه –رحمه الله - شارك في تمويل أنشطة بن لادن الإرهابية.
فرفع عدة دعاوى على متهميه وكسب عام 2004م واحدة من القضايا المرفوعة في المحاكم البريطانية والبلجيكية ضد صحفيين وكتاب اتهموا بالقذف والتشهير بحقه.
وأعلنت المحكمة العليا في لندن عن التعويض المالي والاعتذار الكامل المقدمين من ناشر صحيفة "ميل أون صنداي" البريطانية ومسؤول التحرير بيتر رايت، والصحفي جيرمي بيتون، وذلك كتسوية نهائية للدعوى القضائية المرفوعة ضد الصحيفة بالقذف والتشهير بحقه، إضافة إلى نشر اعتذار رسمي في الصحيفة.
ورفعت ضده العديد من القضايا التي تتهمه بتمويل الإرهاب لارتباطه بمؤسسات مالية وتجارية وضعتها الولايات المتحدة على القائمة السوداء مثل صندوق "الموفق" الخيري الذي كان يديره المليونير ياسين القاضي ومصنع الشفاء في السودان الذي يمتلكه رجل الأعمال صلاح إدريس والذي بدأ مسيرته التجارية من البنك الأهلي التجاري.
وقد نفى الشيخ خالد مراراً ما تردد بأن له أي اتصال مع تنظيم القاعدة أو أن يكون البنك الأهلي التجاري يقوم بتمويل القاعدة. وقد كسب العام الماضي قضية في المحكمة البريطانية العليا برأ فيها اسمه وأثبت فيها أنه لا علاقة له بالإرهاب على الإطلاق، وذلك بعد أن اكتشفت المحكمة أن الكتب التي كتبتها الكاتبة راشيل اثيرنفلد قد لفقت له ولأبنائه قصصاً غير صحيحة.
الخروج من البنك
وفي عام 1997 باع أكثر من 20 % تقريبا من حصته في البنك بقيمة 1.8 مليار دولار أمريكي لمستثمرين سعوديين، وبعدها قام ببيع 50 % من حصة العائلة لصندوق الاستثمارات العامة السعودي. وفي عام 2002م باعت العائلة مجدداً ما تبقى من حصتها لنفس الصندوق.
وكان الشيخ خالد رغم هذه الخطوة لا يزال يعتبر أحد كبار المستثمرين السعوديين داخل وخارج المملكة، حيث كانت له –رحمه الله- استثمارات في إفريقيا وأوروبا وأمريكا الشمالية وأمريكا اللاتينية وغيرها.
وكان جريئاً في اتخاذ قراراته، رافق والده وبذل زهرة شبابه في العمل. كما كان محاوراً جيداً، صبوراً لأقصى حد، يحب النكتة ويعشق الفروسية, وقد كان دائما – بحسب أحد زملائه المقربين رفض ذكر اسمه - يكرر قول: الحمد لله على كل حال.
الكرم والخير
كما عرف عنه كرمه وحبه للخير، ويذكر الأستاذ فاروق عيد -خبير مصرفي ومسؤول سابق بالبنك الأهلي- أن أحد المسؤولين في الشؤون الصحية طلب مقابلة الشيخ خالد ليسأله التبرع بمبلغ لإنشاء مركز للسرطان بجدة، فسأله الشيخ عن تكلفة المركز، فأجاب المسؤول أن المشروع سيكلف 70 مليون ريال سعودي، فأمر الشيخ خالد بشيك وصرف له المبلغ كاملا.
ويذكر أنه سأل مرة عن والد أحد موظفيه كان مريضا, فأجابوه أنه يحتاج إلى العلاج في الخارج، فأمر بنقله في طائرته الخاصة وتكفل بدفع نفقات علاجه كاملة من حسابه الخاص. هذا فضلا عن أعمال الخير الأخرى كإرساله الطلبة للدراسة في الخارج على نفقته دون مقابل، ومساهماته الاجتماعية والرياضية ودعمه الكبير للجمعيات الخيرية عامة.
شاعر مرهف
أولئك الذين لم يعرفوا خالد بن محفوظ الاقتصادي عرفوه شاعرا مجهولا ومعروفا في وقت واحد، فالكل يعرف الشاعر "الناصر" ولكن لم يكن ليخطر ببال البعض أنه الاقتصادي الشهير خالد بن محفوظ، وقد تغنى بأشعاره كبار الفنانين والمطربين أمثال الفنان محمد عبده والفنان أبو بكر سالم بلفقيه والفنان عبدالله الرويشد وغيره، وتميزت أشعاره بالدمج بين الواقعية والحداثة والبساطة في آن واحد، وتعتبر "ما في أحد مرتاح" إحدى أشهر قصائده التي تغنى بها الفنانان أبو بكر سالم والرويشد في دويتو متناغم.
رسالته إلى الغرب
وبسبب الاتهامات التي تعرض لها كان من آخر أعماله قبل وفاته إنشاء موقع على الإنترنت باللغتين الإنجليزية والفرنسية في إشارة واضحة إلى جمهوره المستهدف، يوفر من خلاله معلومات دقيقة للجهات الحكومية وللصحفيين الباحثين عن الحقيقة، ويتضمن الموقع قسماً خاصاً يتم تحديثه باستمرار لتصحيح المعلومات المغلوطة التي نشرت عنه، ويعود تاريخ أول تصحيح فيه إلى عام 2002م وحتى شهر يونيو من العام الجاري.
وفي السادس عشر من شهر أغسطس 2009م توفي الشيخ خالد بن محفوظ إثر جلطة دماغية أصابته ونقل على إثرها من منزله بشارع التحلية إلى العناية المركزة بمستشفى بقشان بجدة حيث توفي بعد عشاء يوم أول من أمس الأحد، وصلي عليه بعد صلاة الفجر ودفن بمقبرة الفيصلية بجدة، وحضر الصلاة عليه أكثر من ألف شخص، رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته.
المفضلات