حاول كتاب الفكر التنموي وضع نظريات لعملية النمو, والمقصود بالاستراتيجيات هنا النظريات أو القواعد العامة أو المتطلبات التي يجب مراعاتها في تنفيذ عملية التنمية, وهناك ثلاث استراتيجيات مشورة في هذا الصدد يعتبرها بعض الكتاب نظريات وهي في رأينا لا ترقى إلى مرتبة النظريات ولكنها في الواقع آراء في استراتيجيات التنمية.
1. استراتيجية الدفعة القوية:
يرى صاحب هذه الاستراتيجية (بول روزنشتاين (Paul Rosenetien) إن الخروج من حالة التخلف لا يمكن تحقيقه إلا بدفعة قوية (Big Push) تتمثل في قدر كبير من الاستثمارات ورؤوس الأموال تستطيع أن تحقق عملية النقل من الجمود إلى النمو. فالاقتصاد القومي وهو في حالة التخلف يمكن تشبيهه بالطائرة الجاثمة على الأرض أو المتحركة ببطء فهي لا تستطيع الصعود إلى الجو إلا إذا سيرت بسرعة كبيرة جدا على مدرج الصعود (وهو ما يسمى بـ (The Take-off) فالسرعة الفائقة هي التي تعطيها الدفعة القوية التي ترفعها من الأرض إلى الجو وبدونها لا يمكنها التحليق والانطلاق إلى طبقات الجو العليا, ونشاهد في ألعاب القفز والوثب العلي أن اللاعب لا يستطيع تخطي الحواجز إلا إذا أقبل عليها بسرعة غير عادية والاقتصاد القومي إذا شبهناه بلاعب الوثب العالي لا يستطيع تخطي حواجز التخلف إلا بدفعة مماثلة. والواقع أن هذه النظرية تصدق مع الواقع وتؤيدها التجارب المعاصرة, وأقربها لنا تجارب دول الخليج العربية وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية التي حظيت بمثل هذه الدفعة القوية خلال السبعينات الميلادية والتي حققت للاقتصاد القومي عملية الانتقال السريع من مرحلة التهيؤ إلى مرحلة الانطلاق. ولا يعيب هذه النظرية أنه قلما تتوفر للدول النامية موارد غير عادية تمكنها من تخصيص قدر كبير (Big Portion) من الاستثمارات لتحقيق تلك الدفعة القوية والدليل على ذلك كما سبق القول أن الدول التي أتيحت لها هذه الفرصة استطاعت تقصير فترات التحول, كما أن تلك الدفعة تساعد على قطع كثير من الدوائر الخبيثة. كما يرى نيركس, إذ أن الاستثمار في عدد من الصناعات والأنشطة المختلفة يؤدي إلى زيادة الإنتاج والدخول والعرض والطلب والادخار والاستثمار.
2. استراتيجية النمو المتوازن:
تقول هذه الاستراتيجية إن التنمية تحتاج في مرحلة تصحيح الاختلال إلى تحقيق التوازن في توزيع الاستثمارات بين مختلف القطاعات حتى يكون نموها متوازناً (Balanced Growth) بحيث لا تتم تنمية قطاع أو قطاعات بذاتها على حساب قطاع أو قطاعات أخرى فيؤدي ذلك إلى نمو قطاعات بمعدلات تفوق معدلات نمو القطاعات الأخرى مما يؤدي إلى عرقلة النمو العام للاقتصاد كله, ويضربون مثلاً بالدول التي اهتمت بالصناعة وأهملت الزراعة فأضر ذلك إضراراً بليغاً بالتنمية. ويقول أصحاب استراتيجية النمو المتوازن إن البلاد المتخلفة تحتاج إلى مشروعات متنوعة في قطاعات عديدة:
1- لأنها تفتقر في المقام الأول إلى الوفورات الخارجية السابق الإشارة إليها والتي تنتج عن تسهيلات رأس المال الاجتماعي (Social Overhead Capital) كالطرق ووسائل النقل ومحطات القوى والموانئ...الخ. وعرض مثل هذه المشروعات غير قابل للتجزئة, بمعنى أنها تحتاج إلى حد أدنى من الاستثمارات إذ لا يمكن تشييد نصف كوبري أو محطة قوى أو إعداد ميناء أقل من الحجم الاقتصادي المطلوب, يضاف إلى ذلك أن هذه المشروعات ترتبط بعضها ببعض.
2- كما أن البلاد المتخلفة تكون في حاجة ماسة إلى الاستثمار في عدد كبير من الصناعات لأن وجود صناعة واحدة لا يحل مشكلة الطلب فإنشاء مصنع لتعليب الأغذية أو صنع الملابس الجاهزة يتطلب توفير طلب لهذه المنتجات ولا يتحقق ذلك إلا بإنشاء العديد من الصناعات وزيادة عدد أصحاب الدخول من العمال الذين يوفرون الطلب اللازم لمنتجات مصنعي الملابس الجاهزة والمعلبات.
3- كما أن تنويع مصادر الإنتاج والدخل يؤدي إلى زيادة الإدخال القومي الذي هو المعين الأول للاستثمار في مختلف المجالات. ويمكن القول باختصار أن استراتيجية النمو المتوازن ترمي إلى الاستفادة من توسيع حجم السوق بصفة عامة بتعدد مجالات الإنتاج والاستثمار وتحقيق هذا الهدف يحتاج في المقام الأول إلى الدفعة القوية التي سبق الكلام عنها لأنه لا يمكن للدول المتخلفة انتهاج هذا الأسلوب إلا إذا توفرت لها الموارد الكافية لتحقيقه.
3. استراتيجية النمو غير المتوازن:
واجهت استراتيجية النمو المتوازن انتقادات شديدة في كثير من الاقتصاديين, لأن النمو المتوازن بما يتطلبه من إنفاق استثماري كبير يكون في غالب الأحوال فوق طاقة الدول المتخلفة, ومن ثم يكون لا مناص أمام هذه الدول من أن تعطي اهتماماً أكبر لبعض القطاعات دون بعضها الآخر في ضوء الموارد المتاحة للاستثمار, لأن الكثير من هذه الدول لا تبدأ عملية التنمية من فراغ فقد يتوفر لها بعض مرافق رأس المال الاجتماعي بالإضافة إلى القطاع الزراعي الذي قد يكون عريقاَ في القدم ويتولى بالفعل مهمة إعالة الجانب الأكبر من قوة العمل والسكان, ومن ثم يرى القائلون بالنمو غير المتوازن وجوب الاهتمام بالصناعة وتكريس قدر أكبر من الاستثمار لها لتصحيح الاختلال في الهيكل الإنتاجي الأمر الذي لا يمكن تحقيقه بغير ذلك لامتصاص البطالة المقنعة من القطاع الزراعي وزيادة نصيب الصناعة من الناتج المحلي والدخل القومي. ويرى فريق من الكتاب أنه ليس من الضروري أن يكون الاقتصاد في حالة توازن أثناء عملية التنمية, إذ أن حالة التوازن هذه لا توجد إلا قبل بدء عملية التنمية أي في مجتمع ساكن وأن أفضل وسيلة لتحقيق النمو هو خلق اختلال متعمد طبقاً لاستراتيجية مرسومة بحيث تتم عملية التنمية في شكل تتابعي يبعد عن التوازن بحيث يستفيد كل مشروع مما سبقه من مشروعات ليفيد ما سيليه من مشروعات في ضوء الموارد المتاحة للاستثمار.
4. الاستراتيجية المناسبة للظروف:
لكل نوع من الاستراتيجيات الثلاث السابقة مزاياها وعيوبها فالدفعة القوية إذا أتيحت للبلاد المتخلفة لا يمكن أن يختلف اثنان على أهميتها فهي الحل الأمثل لمشكلة التخلف, والنمو المتوازن مرغوب إذا توفرت الموارد اللازمة لتحقيقه حتى لا تكون التنمية في بعض القطاعات على حساب القطاعات الأخرى. والنمو غير المتوازن هو اختيار لا مناص منه إذا لم توجد تلك الدفعة القوية أو الموارد الكبيرة اللازمة لتحقيق النمو المتوازن. ومن هنا نصل إلى استنتاج منطقي هو أن اختيار استراتيجية التنمية لا يخضع لنظرية أو استراتيجية بذاتها ولكنه يرتبط بجميع الظروف التي تكتنف التنمية وحجم الموارد الاستثمارية المتاحة لها وحالة القطاعات الرئيسية وعلى الأخص حالة هيكل البناء الأساسي وغير ذلك من الظروف.