عندما تربّطت الحكومة .. ازدهر الاقتصاد!

الاقتصادية ـ د. أنس بن فيصل الحجي 28/04/2009

كثيرا ما تخدع الحكومات نفسها عندما تستخدم أرقاماً ونسباً عن دور القطاع الخاص في الاقتصاد من دون وضع هذه الأرقام "المجردة" في إطارها الصحيح. إن شرط وجود ازدهار اقتصادي لفترة طويلة من الزمن, هو سيطرة القطاع الخاص على الاقتصاد في ظل حكومة إحدى مهامها تأمين الحريات، بما في ذلك الحرية الاقتصادية. ضمان هذه الحريات يمتد إلى الضرب بيد من حديد على العابثين بالأمن الاقتصادي، بما في ذلك النصابون، والمختلسون، والسارقون، والمزورون، والمرتشون، وهو الأمر الذي أقره الإسلام لتعزيز حرية الأسواق. ولكن في ظل العبارة السابقة، لا بد من توضيح ما يلي:

1 ـ المقصود بالقطاع الخاص أعلاه, هو القطاع الذي لا يعيش على فضلات الحكومة. ليس المقصود به هنا القطاع الذي إذا أعطته الحكومة إعانات الشعير أصبح فلاحاً، وإذا أعطته إعانات العقار أصبح بنّاء، وإذا أعطته إعانات الورش أصبح ميكانيكيا أو حدادا، أو نجاراً، أو إذا أعطته إعانات التصنيع بنى المصانع واستورد الآلات. المقصود هو القطاع الخاص الذي يولّد الأفكار والخطط، ويقبل المخاطرة، ويكتشف، ويخترع، ويسوّق، وينجح محليا وعالميا. باختصار، لا يمكن لقطاع خاص "طفيلي" أن يبني أمة، أو أن يسهم في ازدهارها, لهذا فإن من أهم مواصفات الاقتصادات التي تعاني قطاعا خاصا طفيليا, هو اقتصار أغلب القطاع الخاص على استيراد المواد الاستهلاكية، والسمسرة، بما في ذلك الخدمات المالية، والعقار. ومن المواصفات أيضا التذبذب المستمر في نشاط هذا القطاع، وانتشار الاحتكارات، وهجرة رؤوس الأموال الكبيرة إلى الخارج. ومن مواصفات اقتصاد كهذا انتشار الرشوة والاختلاس والفساد الإداري، وهدر المال العام.

2 ـ يمكن للتدخل الحكومي أن يسهم في النمو الاقتصادي، وهناك بعض الأدلة والبيانات التي تبين ذلك في عدد من دول العالم، ولكن النمو شيء، والتنمية شيء آخر, النمو شيء، والازدهار شيء آخر. نريد أن نرى بيانات النمو، ولكن نريدها مقرونة ببيانات إنتاجية العمال والموظفين. نريد أن نرى بيانات النمو الاقتصادي، ولكنها مقرونة بتقارير كفاءة المدارس والجامعات والمستشفيات. نريد أن نرى بيانات النمو، ولكنها مقرونة بمؤشرات اجتماعية أخرى, مثل معدلات الطلاق والجريمة ونسبة الفقر.

3 ـ هناك أدلة على أن التدخل الحكومي قد يؤدي إلى نمو اقتصادي، ولكن علينا أن نتذكر أن هذه الأدلة والبيانات تشير إلى الوضع الحالي مقارنة بما مضى، وتشير إلى ما يحدث، ولكنها لا تشير إلى "ما يمكن أن يكون", ولا إلى عائد جميع الإمكانات البشرية والطبيعية وعائد رأس المال. مثلا، الاقتصاد ينمو بمعدل 4 في المائة حسب الوضع الحالي، ولكن هناك فرصاً أخرى قد تؤدي إلى زيادة نمو الاقتصاد من الموارد نفسها بمعدل 6 في المائة! هذه الخسارة في النمو الاقتصادي هي تكلفة التدخل الحكومي. والمثال الثاني هو التاجر الذي يحصل على عائد من رأسماله قدره 10 في المائة سنويا ويعدّ نفسه ناجحا ومتميزاً بسبب هذه الأرباح، ولكن هناك تاجرا آخر يحصل على عائد قدره 30 في المائة من كمية رأسمال المال نفسها. هذا يعني أنه رغم النمو، إلا أن التاجر الأول خسر عوائد كبيرة، وهو يظن نفسه "شهبندر التجار". باختصار، مؤشرات النجاح ليست كافية إلا إذا قورنت بالفرص الأخرى.

4 ـ المنطق يحتم علينا أن نربط النمو الاقتصادي بالرفاه، لأن التدخل الحكومي قد يؤدي إلى نمو اقتصادي، ولكن الأدلة قليلة على أن التدخل الحكومي في الأسواق يسهم في النمو الاقتصادي والرفاه في الوقت نفسه، خاصة إذا كان التدخل الحكومي يؤدي إلى الازدواجية في الاقتصاد ويسهم بشكل مقصود في وجود الاحتكارات. من أهم نتائج الازدواجية في الاقتصاد والاحتكارات تضخم فجوة الدخل في الأغنياء والفقراء، الأمر الذي يؤدي إلى زيادة الجرائم، وانتشار الفساد الإداري، وهذه الأمور ليست من علامات الرفاه.

5 ـ لو أخذنا نسبة القطاع الخاص من الاقتصاد ككل في العالم العربي، وعدّلنا هذه النسب بناء على الأمور التي سبق ذكرها, لوجدنا أنه "ميت" أو في الرمق الأخير، خاصة إذا تضمنت البيانات وضع قطاعي الصحة والتعليم. والأنكى من ذلك، لو عدلنا النمو الاقتصادي بناء على "الأخلاق" و"طرق التعامل مع الآخرين"، و"احترام القانون, "لوجدنا أننا في حالة "كساد مزمن" رغم وصول أسعار النفط إلى نحو 150 دولارا للبرميل.

أطول فترة ازدهار في تاريخ أمريكا

تميزت فترة التسعينيات بازدهار الوضع الاقتصادي في الولايات المتحدة بشكل لم يسبق له مثيل. تلك الفترة لم تكن أطول فترة ازدهار اقتصادي في تاريخ الولايات المتحدة فقط، بل فترة تميزت بأن أكبر عجز في الموازنة الفيدرالية تحول إلى أكبر فائض خلال فترة زمنية قصيرة. هناك تفسيرات متعددة لما حدث، يمكن تقسيمها بسهولة وفقا للتوجهات السياسية والفلسفية, فالجمهوريون يرون أن سياسات الرئيس رونالد ريجان الانفتاحية في الثمانينيات، التي تضمنت إلغاء سياسات التسعير الحكومي التي سادت في السبعينيات، وتخفيض الضرائب، وإعادة هيكلة النظام المالي على أثر انهيار بنوك الادخار والقروض, أسهمت بشكل كبير في تحقيق الازدهار الاقتصادي فيما بعد. أما الديموقراطيون فيرون أن سياساتهم هي التي أسهمت في تحقيق الازدهار الاقتصادي، التي تضمنت حرية الأسواق والعولمة (حيث تم توقيع اتفاقيتي نافتا ومنظمة التجارة الدولية في عهد الرئيس بيل كلينتون). المثير في الأمر أن كلا الفريقين يرى، بطريقة أو بأخرى، أن تحرير الأسواق كان سببا في الازدهار الاقتصادي. المشكلة في هذه الشروحات أنه يمكن نقضها بسهولة لأسباب نظرية وعملية، ولوجود أدلة تاريخية تعارضها.

رغم ذلك، فإن حرية الأسواق وعدم تدخل الحكومة بشكل كبير في الأسواق, كان سببا في الازدهار الاقتصادي، ولكن ليس بالشكل الذي يصوره كلا الفريقين. إن سبب الازدهار في تلك الفترة هو عدم قدرة الحكومة على التحكم في الأسواق لعدة سنوات بسبب سيطرة الديمقراطيين على البيت الأبيض والجمهوريين على الكونجرس ومجلس الشيوخ, فكلما قدم الرئيس مشروعا جديدا رفضه الكونجرس، وكلما قدم الكونجرس مشروع قانون جديد رفضه الرئيس، الأمر الذي كتف أيدي الحكومة بشكل أنعش قطاع الأعمال بشكل لم يسبق له مثيل. ونتج عن الصراع بين البيت الأبيض والكونجرس توقف الحكومة عن العمل وإغلاق مكاتبها عدة مرات بسبب عدم موافقة الكونجرس على الموازنة الإضافية حتى تتمكن الحكومة من الإنفاق في الفترات الأخيرة من العام المالي. وبالطريقة نفسها يمكن تفسير ما حصل في عهد الرئيس جورج بوش: سيطر الجمهوريون على البيت الأبيض ومجلس الشيوخ والكونجرس واستطاعوا تمرير قوانين مؤثرة أسهمت في "تربيط" الاقتصاد فانتكس عام 2001 ولم ينتعش إلا بعد حادثة 11 أيلول (سبتمبر) بسبب الإنفاق الحكومي الضخم على الجيش والأمن، ولكن حتى هذا الانتعاش كان محدوداً وانتهى بالكساد الحالي. لم تتغير الأمور كثيرا بانتخاب الرئيس باراك أوباما, حيث يسيطر الديمقراطيون على البيوت الثلاثة: البيت الأبيض، مجلس الشيوخ، والكونجرس، ويمرّرون القوانين كما يشاءون، ويربّطون الاقتصاد بشكل لم يسبق له مثيل. إن سبب تأخر الانتعاش الاقتصادي، وضعف الانتعاش عندما سيأتي، يعود إلى التدخل الحكومي في الولايات المتحدة وغيرها، الذي جعل الحكومة أحد أكبر ملاك البنوك في العالم، وقريبا، قد تكون أكبر مالك لمصانع السيارات. نعم، عندما تتربط الحكومة يزدهر الاقتصاد، وعندما تزدهر الحكومة، يتربط الاقتصاد!