السياسة والاقتصاد من سيدفع فاتورة خطة الإنقاذ؟! (3 من 3)
ترنيمة بوش الابن وديك تشيني وهما يُسيران الجيوش لإرهاب العالم وإجباره على دفع الإتاوة لما أسمته أمريكا حماية العالم الجديد. إن انتصار أمريكا في الحرب العالمية الثانية واحتلالها لليابان وألمانيا والحرب الباردة بعد ذلك قد أخرس اليابان وأوروبا والعالم الرأسمالي عام 1971 عندما نقضت أمريكا معاهدة برتن وود ورفضت استبدال الدولار بالذهب بعد أن أغرقت العالم بالسندات والدولارات الأمريكية. ثم جاء سقوط الاتحاد السوفيتي وحرب الخليج الأولى عام 1991 لتمهد لأمريكا عصرا ذهبيا قطف ثمرته الرئيس السابق بل كلينتون. ثم جاءت حرب الخليج الثانية التي انتهت باحتلال العراق فأعطى أمريكا هيمنة عالمية لم يؤثر فيها ترويج وتدليس المنظرين المتفلسفين المتباكين على سقوط سمعة أمريكا "العادلة" التي لم يتعد عدلها حدودها الجغرافية قط.
لم تبن أمريكا الجيوش ولم تخض الحروب لتَخدم من لاقت ولكن لتُخدمها. وقد أدرك بوش أن كون الدولار عملة الاحتياط بدلا من الذهب ستستحيل معه عودة الكساد العظيم الذي حدث عام 1929 وذلك بوجود منجم الذهب الذي لا حدود له في واشنطن "الاحتياطي الفيدرالي". ولقد استوعب بوش الابن درس أبيه جيدا، فما كان ليدع خلفه القادم جمهوريا كان أو ديمقراطيا ليقطف ثمرة السياسة العسكرية والاقتصادية العنيفة أو المتهورة أو القوية أو المتغطرسة "سمها ما شئت" بعد أن شرب الصبر وعانى الأمرين في مخاضها،
فلم يكتف بوش بتحميل العالم أجمع كلفة الإنفاق على الشعب الأمريكي، بل جعل العالم يشكر من بعد ذلك لأمريكا فضلها ومنتها. وما كان له أن يحقق ذلك إلا بعد أن أرهب العالم بكابوس الفقر واعتمد على إرجاف المرجفين، فقاد زعماء أوروبا كالقطيع خلفه لا يملكون حولا ولا قوة.
بدأت خطة الإرهاب الاقتصادي الأمريكي بالسماح لبنك ليمان براذرز بالسقوط دون تدخل من الحكومة الأمريكية التي كانت قد أنفقت آلاف المليارات قبل انهيار بنك ليمان وبعده (1.2 تريليون لإنقاذ البنوك و300 مليار لإنقاذ أصحاب البيوت من فقدان منازلهم كما أوضحت سابقا)
فما منع الحكومة الأمريكية إذن من إنقاذ بنك ليمان؟ يا ترى هل انشغل قادة أمريكا بالمعايدات، أم أن دوامهم ينتهي الساعة الثانية ظهرا أم أنها إجازة آخر الأسبوع، أم أنهم لا يبالون بما حدث طالما أنهم لم يشعروا بذل الدين ومرارة الفقر، أم أنهم ينتظرون مبادرة من هنا أو هناك فيستنسخونها؟
الجواب بأن هذه أمور لا مكان لها لمن يقود شعبا يحاسب قادته في حياتهم ومن بعد مماتهم.
أسباب ثلاثة أسقطت بنك ليمان فلم تشفع له هويته الأمريكية. الأول، السبب الرسمي المعلن وهو عدم استحقاق بنك ليمان للمساعدة عقوبة لتهوره وسوء سياساته الاستثمارية. والسبب الثاني الذي (ذُُكر ولم أتثبت من صحته) هو
أن معظم ديون البنك واستثماراته كانت أجنبية، ما جعل بنك ليمان مناسبا لجر أوروبا والعالم لهذه المعمعة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى أنه ما كان لأمريكا أن تنقذ أموال الأجانب على حساب شعبها. وأما السبب الثالث، الذي أعتقد أن هو السبب الرئيس هو أن بوش ومستشاريه كانوا يريدون تفجير الأزمة
وكان بنك ليمان أنسب بنك للتضحية وذلك من أجل تمرير خطة الإنقاذ ولإرهاب العالم من أجل الصمت والتنازل عن الأموال التي تلاشت واختفت ولكي تكثر الأراجيف وتنتهي الأزمة بتنفس الصعداء وليسجل التاريخ الأمريكي محمدة أخرى للرئيس بوش،
وليزداد العالم ثقة وإيمانا بقوة اقتصاد أمريكا ودولارها الذي وجه الضربة القاضية لليورو بإثبات تبعيته وتبعية زعمائه للدولار ولزعماء الدولار في هذه الأزمة بعد أن كان الدولار قد أثخن اليورو بالجراح خلال السنوات الثماني الماضية والتي كان لانخفاض الدولار فيها أمام اليورو أثر قوي ومباشر في إدخال أوروبا في دائرة الانكماش الاقتصادي لتدني تنافسية منتجاتها.
مما سبق سرده تتأكد حقيقة أن السياسة والاقتصاد هما وجها عملة واحدة عند التنظير على المستوى الاستراتيجي. وهذه العملة هي التي سيُدفع بها فاتورة خطة الإنقاذ الأمريكية كما دُفعت الفواتير السابقة وكما ستدفع بها الفواتير اللاحقة.
العالم أجمع مساهم في ذلك، سواء الأفراد المستثمرين أو الشركات أو الحكومات وهذه هي هيمنة الدولار عملة الاحتياط بديل الذهب، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا:
لماذا إذن توجه تهمة دفع مصروفات أمريكا وتخصص في اليابان والصين والسعودية؟ في اعتقادي أن سبب ذلك هو أن حكومات هذه الدول، ممثلة في بنوكها المركزية، لا تشتري السندات والدولارات الأمريكية لسبب استثماري بحت، بل لحل مشكلة نقدية أو مالية خاصة بها. وقبل الخوض في ذلك، فيستحسن توضيح مصطلح ما يسمى بالصندوق السيادي، فقد يطلق على استثمار الدول في السندات الأجنبية مسمى صناديق سيادية تجاوزا. وفي رأيي أنه يجب أن يطلق عليها موجودات أو استثمارات أجنبية فقط، لأن استثمار الحكومات في الأسهم الأجنبية هي في الواقع الذي يصلح أن يطلق عليه مصلح صناديق سيادية وهي التي يعارضها الكونجرس الأمريكي وعلى رأسهم
هيلاري كلينتون التي جن جنونها لمجرد تفكير الحكومة السعودية في إنشاء صندوق سيادي من الأسهم الأمريكية، رغم أن أبو ظبي والكويت وسنغافورة وغيرهما لديهما صناديق سيادية ضخمة من هذا النوع (ولعل هذا مؤشر بأن السعودية ليست بالحليف المهادن). وأما السندات الأمريكية التي تشتريها اليابان والصين والسعودية فلا يطلق عليها (في رأيي) استثمارات، بل هي موجودات أجنبية. فهذه الدول لم تشترها طوعا لغرض الاستثمار بل لإغراض أخرى اختصرها و أوجزها هنا بأن البابان والصين تشتريانها من أجل المحافظة على تنافسية عملاتهما ومن ثم تنافسية بضائعها فلا يقعان في فخ ارتفاع قيمة العملة كمنطقة اليورو.
وأما السعودية فتشتريها لامتصاص فوائضها النفطية حتى استخدامها حين الحاجة. ولنا وقفة في مقال آخر حول هذا الموضوع و حول الصناديق السيادية.
وهذا ينقلنا لمصير الموجودات الأجنبية لمؤسسة النقد، التي كانت قد بلغت 1400 مليار ريال، أي ما يقارب ثلاثة أضعاف الميزانية السعودية الأخيرة. إن ارتفاع قيمة الدولار في الوقت الحالي والسياسة النقدية الخارجية التي تنتهجها مؤسسة النقد يمليان على المتأمل الجزم بأن موجوداتنا النقدية قد ارتفعت قيمتها الاسمية والحقيقية بعد الأزمة المالية الحالية. فمن المعروف أن مؤسسة النقد تتبع سياسة متحفظة جدا في موجوداتها وسياساتها النقدية الأجنبية بشكل عام، ما ينبني عليه أن معظم هذه الموجودات الأجنبية هي في الواقع سندات الحكومة الأمريكية المتوسطة والطويلة الأجل. وفي الأزمات المالية عامة والائتمانية منها خاصة يلجأ العالم بشقيه الحكومي والخاص إلى شراء هذه السندات من أجل الحصول على ملجأ آمن من تقلبات الأزمة المالية وتداعياتها، فتتحول الأموال إليها فيزداد الطلب عليها فترتفع قيمتها بينما تنخفض قيمة السندات الأخرى، وهذا أحد أهم الأسباب التي تفسر ارتفاع قيمة الدولار أمام العملات الأخرى في هذه الأزمة. وهناك سبب آخر نفسي وهو أن الدولار قد أثبت مرة أخرى أنه العملة الأقوى بلا منازع، وأثبت اليورو أنه سيظل التابع الضعيف الذي يتتبع خطوات ما يمليه عليه زعماء الدولار.
فلم إذن لا تبشر مؤسسة النقد الناس بذلك؟ ولم تكتف فقط بالتطمينات العامة؟ الجواب بإيجاز هو أن ثقافة مجتمعنا وتعقيداته هما ما أجبرا المؤسسة على أن تصمت. وتفصيل ذلك وتبيين الخاسر الأكبر من هذه الأزمة والدروس المستفادة أدعها للأسبوع المقبل، إن شاء الله، فقد طال هذا المقال وتشعب.
http://www.aleqt.com/article.php?do=show&id=10917
المفضلات