رحلة مع أخطاء الآخرين
للكاتب الدكتور / عبدالعزيز الزوم
ويركز فيها على الدين العام ، وهذه نص المقالة منقولة من صحيفة الرياض السعودية
جمعني بعد التقرير الجريء الذي أصدره البنك السعودي الأمريكي عن وضع اقتصادنا وعن تداعيات التنامي المتزايد لديننا العام لقاء مع بعض زملاء المهنة، وأبدى بعضهم تخوفاً كبيراً من هذا النمو المتفاقم، وأبدى آخرون تفاؤلاً.. رغم قناعتهم بخطورة الوضع، ببرامج التخصيص التي ستكون كفيلة.. بحسب رأيهم بحل الإشكال بما ستوفره من مداخيل ستتسبب في موازنة الميزانيات القادمة وتقليل ،.. بل ربما إزاحة الدين العام.
وراح أحد أشد المتفائلين منهم الى ابعد من ذلك بالقول إننا لن نجد من قنوات الصرف ما يكفي لاستيعاب مداخيل التخصيص القادمة!!!!
وبدا لي من خلال الحوار أننا نحن الاقتصاديين أصبحنا كالباعة الجوالين الذين انحصر همهم في تصريف بضاعة اليوم وصاروا كما وصف أبو الطيب المتنبي "مفتحة عيونهم نيام" حيث لم يعد من مواهبهم الاهتداء بالتاريخ وبتجارب الأمم وقوانين الطبيعة!!!
وحتى ترى ما يفعله الدين العام بالاقتصاد وأثر برامج التخصيص، أسوق لك مثالاً واقعياً لدولة تشابه في ظروفها وفي مواردها الى حد ما ظروفنا ومواردنا، ألا وهي الأرجنتين، التي تعد ثاني أكبر اقتصاد في أمريكا اللاتينية، وتتمتع بموارد طبيعية هائلة، واقتصاد منوع، على العكس منا، وكانت في الثلاثينيات الميلادية في طبقة الدول العشر الأغنى بين دول العالم بمقياس نصيب الفرد من الناتج المحلي. ثم جاءت سنين الثمانينيات الميلادية التي بدأت معها الأرجنتين تعاني من عجوزات متتالية في ميزانياتها، لجأت أثناءها إلى الاستدانة داخلياً وخارجياً،.. ثم وجدت نفسها مضطرة مع بداية التسعينيات وبإرغام من الجهات الدولية المانحة وعلى رأسها صندوق النقد الدولي الى اجراء اصلاحات اقتصادية جذرية. أسهمت هذه الإصلاحات ومن خلال برامج التخصيص السريعة والشاملة في حل المشكلة مؤقتاً، حيث عززت مداخيل التخصيص ومستويات النمو التي وصلت 4% من مقدرة الدولة في دفع تكاليف الدين العام الذي وصل الى 150مليار دولار عام 2001م، ثم عادت المشكلة في العامين الماضيين بعد أن تراجعت أعداد المؤسسات المخصصة،... حيث أصبحت الدولة تستدين مرة لسداد العجز وأخرى لدفع تكاليف الدين، وأجبرت هذه المتوالية الهندسية السلطات على اعلان عجزها عن الوفاء، فكانت الخطوة المتوقعة وهي التخبط في سياسات تحوطية نقدية ومالية في محاولة لإسعاف ما يمكن إسعافه، فأوقفت ربط عملتها بالدولار وجمدت الودائع، وفقد الناس مدخراتهم التي جمعوها في حياتهم، لتهوي الدولة في ترتيبها العام إلى الدولة رقم 80 بين دول العالم ،... أي تراجعت إلى مصاف دول العالم الثالث الفقيرة!!!
ولاشك أن انحراف الآليات الاقتصادية عن مسارها الصحيح وغياب المعايير الواضحة التي تسري بنودها على الجميع للتعامل مع إفرازات الدين المتفاقم وخدماته المتزايدة هو الذي أدى الى تفاقم الديون والاندفاع غير المنضبط في هذا الاتجاه.
ويبدو ان هذا حل مكانه تفاؤل مفرط لدى الاقتصاديين بأن هذه القروض وما تتيحه من تحسين للبنية التحتية سيزيد الإنتاجية بما يكون كافياً لتسديد مخزون من الديون في تزايد مستمر!!!، وتناسى هؤلاء الاقتصاديون في غمرة تحليلهم المتفائل المخاطر المحتملة بل ربما المؤكدة التي تطرأ على استخدام المال العام في الدول النامية المكبل بظواهر الفساد وكل الظروف السلبية لتعطيل الإنتاجية.
ونحن هنا في بلدنا رغم أن مديونيتنا وصلت في حجمها الى حجم الناتج الوطني، وهو ما لم يحدث حتى في الأرجنتين.. لم نسأل أنفسنا عن مخاطر هذا التمادي اللامبرر لتزايد الدين العام؟ ولم نستطع أن نكسر حاجز الخجل، أو حساسية الإشارة الجريئة إلى مصادر الخلل في سياستنا المالية؟ ورضي المكلف منا بأن يبقى قابلاً لدفع فاتورة خدمة أعباء الدين العام بما يعانيه من تدهور في الخدمات العامة التي حوله دون أن يتبع وتيرة نمو فكري منطقي بالتساؤل عن الأسباب التي ادت الى هذه العجوزات اللامتناهية واللا منضبطة للميزانية؟.
ولا انقسام في الرأي فيما ألحظه بين العقلاء من اقتصاديينا بأن الأمر اصبح جداص خطير، وأن لولبية المديونية ستوقعنا في عجز مالي دائم، وأننا خطونا في اوائل الطريق للدخول في حلقة مفرغة لا تستطيع أية سياسة تكييف بنيوية أو هيكلية أن تكسرها.
ولا أظن أن أحداً سيقدر على التهوين من مخاطر دين يصل الى 650مليار ريال، أو ما يقارب 100% من إجمالي الناتج المحلي، ومخاطر انخفاض قدره 17% في احتياطياتنا الأجنبية خلال عام واحد فقط!!! إلا من انطلت عليه هذه الآليات الاقتصادية الشاذة التي حتماً ستجعل من الدين الحالي المتصاعد ضريبة على أي مشروع من مشاريع التنمية المستقبلية!!! وستضمن لكل محاولة من محاولات الإصلاح الاقتصادي بأن تولد ميتة أو أن تبقى تتحرك في مكانها.
ومنعاً لأي تصرف قد ينمو معه الوهم بقدراتنا الخارقة وخصوصيتنا المفرطة في مواجهة ديننا العام، فإن علينا أن ندير عقارب المنطق الاقتصادي للسير في الاتجاه الرشيد الذي يقدم الحلول الحالية قبل ظهور النتائج غير المستحبة!!، ولعل من أهم هذه الحلول في نظري ان نعيد تشكيل المسار الرقابي والتشريعي لإجازة أي عجز مستقبلي في الميزانية ، وأن يدخل في معادلة الإجازة هذه جهات كالمجلس الاقتصادي الأعلى، ومجلس الشورى اضافة الى وزارة المالية. وأن ينشأ جهاز مستقل يرتبط مباشرة بولي الأمر لمتابعة ووضع التشريعات الملزمة لآليات تقليل الدين العام!!!
وحتى لا نقع في تشخيصات فاسدة لظواهر اقتصادية لدينا كمشكلة الفقر وتدني الاستثمارات الأجنبية فعلينا أن نتبع الحكيم في معالجة الرأس قبل علل الجسد اليسيرة فالجميع يدركون ما يمكن أن تكون عليه دخول الأفراد لو تضخمت وانفجرت مشكلة الدين العام؟...، والجميع كذلك يدركون ما يفكر به مستثمر أجنبي يسعى الى عوائد صحية يعلم أنها لا تكون آمنة في جو عرضة للاختناق بتداعيات أزمات مالية محتملة وتصاعد في نسب المديونية!!
المفضلات