أزمة ائتمان في سوق الرهونات العقارية
د. عبد العزيز الغدير:
المواطن السعودي المتزوج حديثا يتجه لسوق الإيجار ليستأجر شقة بمتوسط 20 ألف ريال شهريا (في المدن الرئيسية) بما يعادل أكثر من ثلث دخله السنوي على اعتبار أنه حديث عهد بوظيفة، بينما يتوجه المواطن الغربي لسوق الرهن العقاري لشراء شقة بالأقساط بقسط شهري لا يتجاوز ثلث دخله الشهري، وبعد عشر سنوات نجد المواطن السعودي يدفع أكثر من 30 ألف ريال إيجارا سنويا لتلك الشقة حيث يقع تحت رحمة ارتفاع الإيجارات ولا يملك أي نسبة فيها، مقابل المواطن الغربي الذي ما زال يدفع القسط الشهري نفسه ويملك نحو 50 في المائة من تلك الشقة التي يقطنها، وبعد نحو 20 سنة يكون المواطن السعودي قد دفع نحو 600 ألف ريال (بفرض ارتفاع الإيجار) لشقة لا يملك حتى 1 في المائة منها، مقابل المواطن الغربي الذي دفع نحو 600 ألف ريال لشقة يملكها بالكامل قد تصل قيمتها لأكثر من هذا المبلغ لتعاظم قيمتها بمرور الزمن بسبب سيادة التطوير المؤسساتي على التطوير الفردي.
في بريطانيا يمثل سوق الرهن العقاري أكثر من 95 في المائة مقابل أقل من 3 في المائة في السوق السعودية التي تقدم الإيجار المنتهي بالتملك، فمن الرابح في الحالتين المواطن البريطاني أم المواطن السعودي؟ بالتأكيد المواطن البريطاني الذي استطاع ادخار أقساطه على شكل وحدة سكنية يملكها بمرور الزمن مقابل مواطن سعودي ضيع إيجارات دفعها لسنوات طوال دون أن يتمكن من رسملة هللة واحدة منها بعد مرور أي مدة كانت، فهل يعاني الاقتصاد البريطاني أزمة رهونات عقارية؟ بالتأكيد لا، بل على العكس فإن الاقتصاد البريطاني ينعم بفوائد كبيرة لا حصر لها من تطبيق نظام الرهن العقاري الذي مكن مواطني بريطانيا من شراء المسكن الملائم في الوقت المناسب من العمر بأقساط شهرية لا تتعدى ثلث دخولهم الشهرية ، كما وفر للاقتصاد البريطاني قوة مالية قادرة على تحريك جميع الأنشطة الاقتصادية الأخرى الموفرة للفرص الوظيفية والمنوعة لمصادر الدخل فضلا عن توفيرها لوسادة مالية قادرة على امتصاص الأزمات المالية الحادة .
ويقول قائل – كما هو حال الكثير من الكتاب الذين ولجوا هذا الموضوع دون عميق علم - إذا نجح نظام الرهن العقاري وحقق أهدافه في جميع الدول الغربية التي طبقته، لماذا يفشل في الولايات المتحدة ويسبب لها أزمة مالية حادة طالت إضافة إلى أسواقها أسواق المال العالمية؟ والإجابة في رحم الخبر الذي يقول إن أمريكا تعاني أزمة مالية نشأت وتطورت في سوق الرهونات العقارية عالية المخاطر، حيث تم إقراض مواطنين ذوي سجلات ائتمانية ضعيفة ، وهو ما يشير بوضوح إلى أن الأزمة هي أزمة ائتمان، حيث تم التساهل في تمكين مواطنين ضعيفي دخل من شراء مساكن لهم بضمانات ضعيفة جدا لا تتعدى قيمة المسكن المبالغ في قيمته أصلا، ولا شك أن أهداف هذا التمكين المعروف النتائج لا يعرف أسرارها العميقة إلا الراسخون في علم السياسات الاقتصادية الأمريكية المرتبطة ارتباطا وثيقا بالطغيان الأمريكي والرغبة في الهيمنة على الأسواق العالمية، وكل ذلك بطبيعة الحال لا ينفي نجاح نظام الرهن العقاري في أمريكا من رفع نسبة تملك المساكن إلى نسب عالية جدا لا نحلم بالوصول لها في ظل الآليات القائمة حاليا في بلادنا.
ولقد حدثت لدينا أزمة ائتمان في سوق الأسهم السعودية، حيث قامت البنوك بتقديم تسهيلات مالية كبيرة للمواطنين بضمانات أسهم هزيلة وصلت إلى أسعار فلكية، وهو ما أدى إلى تبخر نحو 130 مليار ريال من جيوب المواطنين وأصبحت ديونا على ظهورهم مازالوا يسددونها من رواتبهم ومداخيلهم الشهرية، ولقد كادت أن تؤدي أزمة التسهيلات الائتمانية هذه ببعض البنوك المحلية، ولكن الله لطف، فهل نطالب هيئة السوق المالية بإغلاق سوق الأسهم لأن مؤسسة النقد لم تضغط على البنوك وتلزمها بعدم تقديم تسهيلات ائتمانية بضمان أسهم هزيلة؟ بالطبع لا حيث لا يمكن أن نعالج الخطأ بخطأ أكبر منه، ولكن علينا أن نشدد على مؤسسة النقد ونطالبها بتطبيق أقصى العقوبات بالمؤسسات المالية التي تتساهل في تقديم قروض كبيرة مقابل ضمانات هزيلة.
لذا فإنني أتوقع من الإخوة الكتاب الذين يقفون موقفا سلبيا من نظام الرهن العقاري في بلادنا، والذي بذل المفكرون الاقتصاديون والجهات التمويلية والشركات العقارية العملاقة جهودا كبيرة لحث الجهات المنظمة على إصداره وتوفير جميع متطلبات تطبيقه من أنظمة لازمة كنظام التسجيل العيني الذي بدأ يرى النور، أقول أتوقع من هؤلاء أن يطالبوا القطاعين العام والخاص وحتى مؤسسات المجتمع المدني بضرورة استكمال متطلبات إنتاج كميات كبيرة ومتنوعة من الوحدات السكنية عالية الجودة متعاظمة القيمة القادرة على تلبية الطلب المتزايد حال إصدار وتطبيق النظام الذي سيرفع من القوة الشرائية لتمكين المواطنين من تحويل إيجاراتهم الذاهبة إلى غير رجعة إلى أقساط شهرية تتراكم بمرور الزمن لتمكنهم من تملك المسكن الملائم في الوقت المناسب بما يحقق لهم الاستقرار المالي والنفسي والاجتماعي.
كما أنني أتوقع أيضا من صناع الفكر والرأي من كتاب ومحللين حث مؤسسة النقد العربي السعودي لعدم التساهل في تمكين أصحاب السجلات الائتمانية الضعيفة من شراء المساكن من خلال نظام الرهن العقاري محافظة على النظام ليمَكن الطبقة المتوسطة الأكبر من الاستفادة من هذا النظام الفعال، كما يحثون الحكومة على التكفل بتوفير المساكن الملائمة للطبقة الفقيرة من خلال برامج تمويل خاصة بهم مع مراعاة عدم عزلهم عن الطبقة المتوسطة حماية لهم من السكن في بؤر فقيرة قد تشكل مرتعا خصبا للجريمة والانحطاط الاجتماعي كما حصل في الدول المتقدمة التي مرت بهذه التجربة وصرفت المليارات للتخلص من آثارها السلبية، أما الطبقة الغنية فهي قادرة على توفير المسكن الفاخر في الوقت المناسب ولا خوف عليهم ولا يحزنون.
الرابط
http://www.mubasher.info/TDWL/News/N...D=173070&src=G
المفضلات