يتفق غالبية خبراء الإقتصاد بالعالم على أن الدولار مقبل على مرحلة (تصحيح) تاريخية، واختلافهم الوحيد يكمن في شدة هذا التصحيح (أو الإنهيار)، فبعضهم يؤكد أن العملة الأمريكية في طريقها للإنهيار، والبعض الآخر يرى أن الإنخفاض سيكون تدريجيا ولن يزيد عن 30-50% من سعر الدولار الحالي مقابل العملات العالمية الأخرى.
ورغم هذا الإتفاق بين الإقتصاديين الذي يكاد يصل لدرجة الإجماع على حتمية إنخفاض الدولار على المدى القريب والمتوسط، ما زال مسؤولو السياسة النقدية في المملكة بقيادة محافظ مؤسسة النقد السعودي يصرون على التمسك بربط ثروات الوطن بالكامل بالعملة الأمريكية المتهالكة، بل أن حمد السياري محافظ المؤسسة خرج مؤخرا
ليصرح بأن الدولار مقيم (بأقل) من قيمته الحقيقية، ورغم أن هذا الرجل يقف على أهم مؤسسة اقتصادية في الوطن إلا أن تصريحه يدل على جهل (أو تجاهل) شديد بأبسط مباديء الإقتصاد والنظام المالي العالمي، ويدل أيضا على أن الثقة بالعملة الأمريكية أصبحت مسألة (إيمانية) أكثر من كونها ثقة مرتبطة بالتحليل المنطقي المبني على أسس اقتصادية صحيحة.
وعندما نتحدث عن (ربط) الريال بالدولار، فإننا لا نقصد تثبيت سعر الريال مقابل الدولار، فهذا أمر ثانوي، ويمكن تعديله بأي وقت تقرره المؤسسة ولا يحتاج لأكثر من (جرة قلم). ولكن المقصود بالربط هو الإستثمارات الضخمة للاحتياطيات النقدية الفائضة للبلد والتي عادة ما تكون بالدولار. فقد دأبت مؤسسة النقد على شراء سندات الخزانة الأمريكية وتكديس الدولار منذ عشرات السنين، وزاد هذا التكديس في السنوات الأخيرة بسبب الفوائض النقدية الهائلة بعد إرتفاع أسعار النفط، وهذا يعني أن جميع الثروات الفائضة التي لم يستفاد منها حتى الآن ستفقد نسبة كبيرة من قيمتها بسبب كبرياء المؤسسة ورفضها لتنويع احتياطياتها بين عملات وأصول دولية مختلفة، فبنوك دول العالم المركزية بدأت منذ عدة سنوات عملية تنويع مستمرة لاحتياطياتها من الموجودات الأجنبية، ابتداء من الصين وروسيا وحتى بعض دول الخليج ممثلة بالكويت وقطر والإمارات.
لماذا سينخفض الدولار؟
العملة الأمريكية كانت مقيمة بأكثر من قيمتها الحقيقية لسنوات طويلة، والسبب هو مركزية الإقتصاد الأمريكي وأهميته (الإستهلاكية) بالنسبة لمنتجي العالم مثل اليابان والصين وغيرهم من الدول التي يتركز تصديرها للولايات المتحدة، وكان ما يحدث على الساحة الإقتصادية العالمية يشبه لعبة الكراسي، فالكل يعلم أن الدولار لا يساوي نصف قيمته، ولكنهم ينتظرون اللحظة التي يهربون فيها من هذه العملة بعد أن يمتصون كل ما باستطاعتهم من مستهلكي مركز العالم الإقتصادي - أمريكا.
وتتلخص أسباب الإنخفاض المتوقع للدولار بالتالي:
1- العجز القياسي في الميزان التجاري الأمريكي:
منذ أكثر من ثلاثين سنة دخلت الولايات المتحدة الأمريكية في عجز تجاري إستمر في الإزدياد بشكل مضطرد ليصل العجز السنوي الى أكثر من 700 مليار دولار في سنة 2007. والعجز التجاري بكل بساطة يعني أن الشعب الأمريكي يستهلك من العالم أكثر مما ينتج لهم. والسبب الرئيسي في زيادة الإستهلاك بين الشعب الأمريكي هو ضعف نسبة الإدخار بين المواطنين، حيث وصل معدل (نسبة الإدخار) للشعب الأمريكي ككل لأقل من (سالب واحد -1%)، وهي اقل نسبة إدخار للشعب الأمريكي منذ الكساد الكبير عام 1933
(المصدر). وعندما يستهلك الشخص أكثر من دخله فإنه لا خيار له إلا أن (يقترض) أو (يبيع) من أملاكه. واذا استمر هذا الشخص بالإستهلاك (الزائد) عن دخله فإنه يصل لمرحلة لا يجد فيها أملاكا يبيعها ولا مقرضا يستدين منه، وهذا هو بشكل مبسط ما يحدث للاقتصاد الأمريكي، فدول العالم بدأت تأخذ حذرها من الدولار وتقلل من تكديسه أو شراء سندات خزانته مما أدى لانخفاض الطلب عليه وبالتالي انخفاض قيمته، بالإضافة إلى تردد المستثمرين في شراء أصول أمريكية وذلك لقلقهم من وضع الدولار المتذبذب.
2- أزمة الرهن العقاري ونسبة الفائدة:
لقد كانت الطفرة العقارية في أمريكا سببا رئيسيا في زيادة الإنفاق الإستهلاكي، حيث أدت نسبة الفائدة المنخفضة إلى زيادة كبيرة في بناء وشراء المنازل، تبعه ارتفاع مضطرد في أسعارها، وبعد تخفيض نسبة الفائدة ووصول الطفرة العقارية لذروتها، انخفضت أسعار المنازل وارتفعت بنفس الوقت الأقساط المطلوبة من ملاك المنازل (الجدد)، واصبحوا عاجزين عن الإيفاء بها، ليفلس الملايين منهم، ولتواجه البنوك المليارات من الديون المعدومة التي تسببت بإفلاس أحدها قبل اسبوع. وأمام هذه العاصفة المالية والقلق من تباطؤ شديد يصيب الإقتصاد الأمريكي، لم يجد البنك الفيدرالي بدا من تخفيض نسبة الفائدة بشكل متسارع. والمعروف أن العلاقة بين سعر الفائدة وقيمة الدولار علاقة طردية، فإذا ارتفعت الفائدة الأمريكية ارتفع الدولار تبعا له، وإذا انخفضت الفائدة انخفض الدولار. ورغم أن الجميع كان (متيقنا) منذ أكثر من سنة أن البنك الفيدرالي سيقوم بعمليات تخفيض كبيرة للفائدة وبالتالي إنخفاض قيمة الدولار، إلا أن ذلك غاب أو غيب عن أذهان قادة المال العام في مؤسسة النقد في السعودية.
من المسؤول؟
يتردد في كثير من الأوساط أن الولايات المتحدة تؤثر على السياسات النقدية في المملكة، وأنها تمنعها عن التخلي عن الدولار حتى لا تتضرر عملتها. أعتقد أن ترديد مثل هذه النظريات يضر أكثر مما ينفع، فهو بشكل غير مباشرة يبرر القرارات الغير مسؤولة من قبل المحافظ ونائبه. ويجعلهم كالضحية العاجزة، بدل أن يكونوا في قفص الإتهام والنقد. ولا أتفق مع الرأي القائل بوجود ضغوط خارجية، واعتقد أن كل ما في الأمر أن سعادة المحافظ حمد السياري لديه قناعة مطلقة بالعملة الأمريكية، ولم تستطع الأرقام والبراهين والمتغيرات العالمية الإقتصادية أن تزحزح هذا الإيمان وكأنه حق منزل من السماء. ورغم أن لكل إنسان الحق أن يحمل آراءه ومعتقداته الخاصة، إلا أن من يتسنم المسؤولية العامة ويحكم مصير ثروات بلاد بأكملها يجب عليه أن يكون أكثر انفتاحا واحترازا، ويمكن للسياري أن يستثمر كل أمواله الخاصة في الدولار، ولكن ليس من حقه أن يضع ثروات الوطن في سلة واحدة (مهترئة) وهي سلة الدولار ويعرض مستقبل الأجيال القادمة للخطر بناء على قناعات شخصية لا ترتبط بالواقع بأي صلة. والإجراء المسؤول هو أن ينوع من الإستثمارات والاحتياطيات النقدية بشكل متوازن يقلل من المخاطرة ويعكس أيضا نسبة التبادل التجاري بين المملكة ودول العالم. أما اذا كان هناك ضغوط حقيقية تمنع المحافظ من إتخاذ القرار الصحيح، وتفرض عليه قرارات تضر باقتصاد الوطن، فإن أول ما يجب عليه عمله هو أن يقدم استقالته ويترك المنصب، لأننا لن نحمل غيره تآكل ثروات الوطن ما دام مستمرا في منصبه.
المصدر:
http://www.essamalzamel.com/?p=72
المفضلات