للأثرياء فقط
علي سعد الموسى

في كتابه الآخذ بالألباب (كلمة الحق القوية)، يوجه الصادق النيهوم هذه الرسالة إلى تجار الجشع وأثرياء الأنانية رغبة في إيقاظ ضمير ميت بالسكتة: يقول النيهوم لهم:
هل تقرؤون الشعر؟ وهل سمعتم أن ثماني جامعات في الولايات المتحدة تنفق عليها المؤسسات التجارية.. وأن أحد التجار أنشأ سبعين معهداً لإيجاد علاج للسرطان، وأن نصف الأدوية التي تأكلونها الآن تم ابتكارها في هذه المعاهد؟ هل سمعتم مرة عن رجل اسمه شميلنج أنشأ ثلاثة آلاف مدرسة لتعليم العمال الألمان، وأن ألمانيا بفضل هذا الرجل لا تحتوي أميا واحداً الآن. وهل تعرفون مرض السل فقد تم إيجاد علاجه في معهد روكفلر، الذي كان تاجرا مثلكم. ولم يكن مصابا بالسل. ورالف سكوت ذلك تاجر أحمق آخر بدد ثروته في تعليم مواطنيه الأمريكان في القرن الماضي، وقد تخرج من إحدى مدارسه العمالية، ولد اسمه غراهام بل واخترع التليفون الذي تعرفون سماعته الآن وتقولون هاللو والصنداي تايمز أنشأها أحد تجار اللبن. والهيرالد تريبيون أنشأها شيطان آخر. والمكتبات العامة التي تمتد بين شارع سان باول هي هامبورغ وبين شارع لابينتا في ميلانو أنشأها كلها التجار ولم تشتر أي من الدول كتابا واحدا فيها. وحديقة سبيليوس في الأرجنتين بناها تاجر سويدي باعتبارها هدية من السويد إلى أمريكا اللاتينية. فلماذا فعل ذلك؟ لماذا لم يسافر إلى القاهرة ويكتر شقة في الزمالك ويملؤها، وجائزة نوبل تنفق عليها مؤسسة تجارية. وقد كان نوبل تاجرا مثلكم، وقد اخترع الديناميت ثم أنشأ جائزة للسلام. هل تعرفون ذلك؟ وشركة أسو التي تدورون حول مائدتها، تنفق ربع أرباحها على المعاهد العلمية في بلادها، وفي أحد هذه المعاهد نبتت فكرة السفر إلى القمر، وتخرج المهندسون الذين قاموا بتنفيذها.
انتهت جمل النيهوم وسأبدأ جملتي لسادتي أثرياء ساحتنا المحلية، وهم سادتي بالفعل طالما أن المال يصنع لهم كل هذه السيادة: تتحدث مجلة - فوربز - أن أباطرة المال المحلي يحتلون 11 مقعداً من مقاعد النخبة المئة على رأس أثرياء الكون، وتتحدث التقارير أيضاً أن ألف ثري عربي يمتلكون وحدهم 90% من المال الدارج. وعلى النقيض يتحدث الواقع المر عن مساهمات اجتماعية من صفر باستثناء بعض الشوارد التي تناثرت هنا أو هناك مثل نجوم ظلت طريقها إلى منتصف نهار.
أيها الأثرياء: كلمات الحق القوية لا تصرع ولكنها قد توقظ وقد تهز الأجساد المترهلة مثل رعشة الكهرباء في علاج الانفصام. ذرعت هذا الوطن الهائل العملاق طولاً وعرضاً وشاهدت منه بكل اتساع الأحداق لكنني لم أشاهد منكم ما يحجب طرف العين حتى وإن كان سور مدرسة. ذرعت كل مسافات هذا الوطن فوجدتكم في كل مكان تقهرون الدنيا، وهو الحق المشروع الحلال، ولكنني لم أشاهدكم تعمرون الآخرة، وتبنون للحياة وكم هم الأثرياء الذين مروا علينا ثم رحلوا وقد قبرنا معهم كامل أسمائهم وكل عناوينهم وألبوم صورهم وسيرة حياتهم: لم أشاهد منكم أحداً يطلع علينا من القبر بإضاءة خالدة تبقي ذكره بيننا حياً عامراً وكل ذكرياتكم لدينا لا تدوم أكثر من كل الدموع المصطفة للنساء والأولاد خلال أيام ثلاثة من سنة العزاء وكم هم منكم الذين انتهوا من كل عمل أو ذكريات أو ذاكرة بعد أن ترحل القدم الأخيرة من جموع المشيعين في سور المقبرة.
أيها الأثرياء الكرام، واقرؤوا معي كامل كتاب الصادق النيهوم في كلمات الحق القوية: من هو منكم الذي اشترى منديلاً مزيفاً كانت تحمله أم كلثوم بالملايين الخمسة، ومن هو بينكم الذي يفاخر بعشر من النوق اشتراها بخمسين مليون ريال، ناهيك عن ثالثكم الذي ابتاع لوحة سيارة بالملايين السبعة؟ من هو فيكم الذي اشترى القصيدة الواحدة بالمليون ثم دفع رديفه إلى أغلى الحناجر الذهبية كي يتحول المليون إلى أغنية وقد كان للمنديل والناقة ولوحة السيارة وللقصيدة والأغنية أن تنقذ آلاف الأسر من موت البؤس في منازل الصفيح وآلاف الأطفال من سوء التغذية وهم يحلمون كل الحياة بقطعة من البسكويت، وآلاف الأمهات الذين تنقطع بهم نياط القلب وهم يشاهدون أطفالهم بلا فسحة مدرسية. أيها الأثرياء الكرام: أقسم لكم بالله بعدد أصابعكم مجتمعة أنني عرفت أماً تتظاهر بالنوم كي لا يحرجها فلذة كبدها ذات صباح بقطعة خبز ناشفة أو بطلب ريال واحد وحيد تضعه في جيبه وهو ذاهب للمدرسة.
أيها الأثرياء الكرام: عفواً فليستيقظ الضمير قبل خصام الورثة. نحن لا نطلب منكم جامعة ولا مدرسة ولا معهداً ولا دعماً لبحث ينتج حبة من الأسبرين. نريد منكم فقط أن تعرفوا أن الصدقة تطفئ غضب الرب وأن هؤلاء الفقراء الكادحين هم من يزرع حبة القمح لكي تأكلوها مدهونة بالعسل والزبدة. نريد منكم أن تعرفوا فقط أن قيمة مرطبات الجلد الوثير الناعم تستهلك منكم في اليوم قوت عائلة لشهر وأن كوب القهوة في استراحة النجوم الخمسة هي فسحة طالب لشهر وأن ثمن العطر في حقائبكم وحدها يصنع أمل عائلة. نريد منكم شيئين لا ثالث لهما: أن يتعرف كل واحد منكم على عائلة فقيرة كي يعلم فارق الحياة بين الهامش والمحور، وأن يقرأ كل فرد فيكم كتاب الصادق النيهوم كي يعرف أن للدنيا ألف وجه فيما للآخرة فقط وجهان، وليختر كل منكم وجهه الذي يناسبه.


http://www.alwatan.com.sa/news/writerdetail.asp?issueno=2690&id=4336&Rname=22