من خلف الدموع التي تدور في الأجفان كان ينظر إلى الأمام يبحث عن فضاء واسع كي يمتد فيه البصر إلى أقصى مدى … وللأسف لم يجد … فكلما أتجه ببصره إلى مكان أنقلب إليه بصره وهو حسير … يرجع بصره الكرة تلو الكرة ولكن دون جدوى … فالمكان محاط بسجن كبير من العمارات الشاهقة … والأبنية المتراصة … إنهم يطلقون عليها الحضارة …

مسكين أبو الموت ظن نفسه في أفغانستان … فأراد أن يطلق لبصره العنان … أدرك أبو الموت أن الأسوار تحيط به من كل مكان كإحاطة السوار بالمعصم … الشوارع مكتظة بالأنعام وهي تسير في كل اتجاه على غير هدى … مستسلمة للشيطان تماما …

مسكين أبو الموت لأنه أصولي متشدد … إنه يرى ما فوق الركبة عورة فلا يجوز للرجل أن يكشف فخذه …

جال أبو الموت ببصره إلى السماء ، وجال به في الأرض … فأرتد إليه وهو حسير … فلم يكن بد من أن ينظر إلى تلك الأفخاذ وهي تسير … مسكين أبو الموت لأنه أصولي والنساء هناك لا يحترمن أصوليته …

الأنعام هنا وهناك … الضحكات تتعالى من كل مكان … صخب وضجيج وأصوات …

الأنعام تصبح على نباح ( البوب ميوزك ) وتمسي على نهيق ( الروك ) …

الدخان يرتفع من كل جهة … من الأفواه … من السيارات … من القطارات … ومن الحياة المحترقة … الرائحة النتنة تتصاعد … تزكم الأنوف … إنها رائحة الجنس … إنها رائحة أهل التنور في جهنم … لا فارق هناك … المرأة رجل … والرجل امرأة … والأنثى ذكر … والذكر أنثى … الزوجة أم … واللازوجة أم … والزوج أب … والأعزب أب …!!

مسكين أبو الموت إنها بلاد الكفار … مسكين أبو الموت إنه سجين همومه وضيق صدره … أبو الموت سجين الحضارة … أبو الموت سجين بلاد الكفار .

أبو الموت جلس يحتسي الشاي … مقهى جميل وجذاب … محترم نوعا ما .. لا يكثر فيه العهر … وكذلك ( مايكل جاكسون ) أخف ضررا من ( مادونا ) … والكاسيات العاريات … أقل فتنة من العاريات العاريات …

قرر أبو الموت أن يدفع ثمن الشاي … فهو لا يجرؤ أن يمشي بدون المال . فوضع يده في جيبه فأخرج المال … ووجد كتابا … نظر أبو الموت إلى الكتاب فعرف أنه قرآن …

مسكين أبو الموت إنه يعاني من النسيان …

فتح أبو الموت القرآن فقرأ فيه ( إهداء من أبي جهاد إلى أبي الموت ) …

بكى أبو الموت وسال الدمع من عينيه كالماء المنهمر … فأبو جهاد كان خليله لا يفارقه أبدا … قد كانا متحابين في الله … لكن الله اصطفاه بجواره …

مسكين أبو الموت أزداد حزنه واشتد بكاؤه … رأى أثار الدماء مطبوعة على المصحف … فأخوه أبو جهاد قتل والمصحف بين يديه …

أزداد أبو الموت هما على هم … وغما على غم …

دم أبي جهاد له ريح المسك … أبو الموت لا يجد سوى ريح ( الهامبرغر ) …

مسكين أبو الموت … إنه يعاني من النسيان … فتلك بلاد ( الباكوروبان ) والـ ( وان ما شو ) وليست بلد المسك …

مسكين أبو الموت … فإنه يشعر بأنه سجين في جلده … مسكين أبو الموت … فالدم يغلي في عروقه كالمرجل … مسكين أبو الموت فدماغه يكاد يتناثر من رأسه … لقد شعر أبو الموت بأنه غريب …

أبو الموت مشتاق إلى وطنه … مدينة … قرية … بيت … أم … أب … أخ … زوجة … صديق … مال … شارع … حارة … جار …

كلمات لا تطفئ نارا ولا تذهب حزنا … ولا تشفي جرحا ولا تبعث دفئا … ولا تعني وطنا …

مسكين أبو الموت يشعر بالغربة … فهو في المنفى … ووطنه مفقود … فجلس يتذكر وقلبه يخفق … يكاد يزلزل جسده فيجعله حطاما …

المضافة كأنه خلية نحل … مجموعة من قندهار … وأخرى تغادر إلى بغمان … خوست بحاجة إلى مجاهدين فهناك مفرزة تتجهز للمسير إلى هناك … الجرحى في المستشفى بحاجة إلى مرافقين … مهاجرون يصلون اللحظة عن طريق الجزيرة … مجموعة ستذهب غدا إلى معسكر الفاروق … ازدحام على مكنة غسيل الملابس … أخ يصيح ( العشاء جاهز يا اخوة ) .

قرية بابي … بوابة التل … نهر جلال آباد … جبال جاجي … صحراء قندهار … ثلوج جرديز … قذيفة هاون … غبار المعارك … الخط الأول … رائحة الـ T.N.T … الكتيبة الخضراء … كتيبة الموت … المقدام يؤذن لصلاة المغرب … الطائرات تمخر عباب الجو تبحث عن أهدافها … عبد الكريم يوقد النار والدخان يزعجه فيبعده بيده … وهو عاقد حاجبيه … ذلك أبو صخر في أعلى الجبل وشعره يلامس كتفيه وابتسامته العريضة لا تفارق شفتيه … قتيبة يمازج أبا حافظ والجميع يضحك … أبو المنذر يختم دروس السيرة بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم والجميع كأن على رؤوسهم الطير … الشمس مشرقة والاخوة فوق الخندق يشربون الشاي … المعتصم يحزم أمتعته كي يغادر الجبهة والحزن يخيم على وجهه … مجاهد يقرأ رسالة من أهله … العدو يتقدم وأبو عنقاء يجري ليعانق سلاحه … أبو حازم يحمل أبا زهير وقد فقد قدميه … عبد الواحد جاثيا على ركبتيه وقد اخترقت قذيفة مضاد دبابات صدره وخرجت من ظهره … العدو يفر ويترك مواقعه … ومجاهد يتلو { سيهزم الجمع ويولون الدبر } …

سعد الجزائري … عبد الله التبوكي … أبو الشهيد القطري … أبو بصير المصري … أبو الحارث الأردني … معاذ الفلسطيني … أبو بلال العراقي … غريب الليبي … أبو حمزة السوداني … أبو محمد الحلبي … أبو احمد الإيراني .. طه ياسين التركي …

كلمات تطفي نارا … تذهب حزنا … تشفى جرحا … تبعث دفئا … كلمات تصنع وطنا …

مسكين أبو الموت أنه يعاني من النسيان … ولكن رؤية المصحف أثارت شجونه وأيقظت ونكأت جراحه …

خيم الظلام … وأرخى الليل سدوله … ورياح الغربة تعصف بالأشياء … الأنوار تنبعث من كل مكان … حمراء … زرقاء … صفراء … خضراء … أصوات الموسيقى تصرخ من كل مكان … تتعالى … ترتفع … تتقاطع … خطوات المخمورين تتعثر يمينا وشمالا … ونوادي قوم لوط تستقبل الرواد بتصريح من البرلمان …

مسكين أبو الموت يسير في الطريق وسط جاهلية القرن العشرين شارد الذهن طاويا همومه في صدره … يحمل أثقال الأرض على أكتافه … يكفكف دموعه … مختنقا بعبراته … خطواته متثاقلة من شدة الإرهاق … يحرك شفتيه وكأنه يتمتم ببعض الكلمات … أظنه يردد قول الشاعر …


هل بعد أن ترك النبي ديارهم ترضى بدور الكافرين ثراء ؟
أم ما علمت من النبي معالما أم ما سمعت من الدليل حداء ؟

[ عن مجلة الفجر ]