الشارع المصري.
من أهم الشوارع العربية ومن أكثرها عدداً، ومن أعلاها صوتاً، ومن أهمها تأثيراً. وهو شارع تسيطر على معظمه القوى الدينية الأصولية، وعلى رأسها جماعة الاخوان المسلمين. وجماعة الاخوان المسلمين هي التي وقفت إلى جانب نظام صدام في حرب الخليج الثانية في العام 1991 وكان ذلك هو المفصل السياسي الهام بين الجماعة وبين السعودية بحيث تحول الإخوان من عزاء إلى بلاء كما قال وزير الداخلية السعودي. وجماعة الاخوان بكوادرها الكبيرة والكثيرة في الشارع المصري تنتهز مناسبة حرب الخليج الثالثة لكي تثأر من السلطة المصرية القائمة التي حرمتها من العمل السياسي الشرعي والرسمي، ورفضت الاعتراف بها حتى الآن. فهي تنتقم من السلطة في هذا وتسدد بعض فواتيرها معها.
وتنتهز جماعة الاخوان وباقي الأحزاب السياسية الأخرى الصغيرة في الشارع المصري الذي يعاني من ضيق هامش الحرية، والديمقراطية المُقننة، ومن زيادة معدلات البطالـة، وتدني مستوى المعيشة، والفساد السياسي والمالي، ونهـب مصر (35 مليار دولار) من قبل بعض المستثمرين المصريين والهروب بها إلى الخارج، مناسبة حرب الخليج الثالثة لكي توصل رسالتها الاحتجاجية للسلطة المصرية ونقمتها على الحال والمآل الذي انتهى اليه المصريون الآن.
فالمتظاهرون المصريون في الشارع المصري، يبكون على حالهم وعلى أنفسهم قبل أن يبكوا على نظام صدام.
فهم كمن كان يبحث عن جنازة لكي يلطم فيها.
وحرب الخليج الثالثة هي الجنازة الكبرى.
وهي الفرصة العظيمة لكل صوت مكتوم، ولكل حنجرة مقموعة، ولكل عنصر حزبي ضاقت به المنابر، ولكل جائع غير ملتفت اليه، ولكل عاطل عن العمل مهمل، ولكل عريان لا كسوة له، ولكل حزبي لا منبر له.
وأصبح الشارع المصري منبر من لا منبر لهم.
وقد حاولت السلطة الحاكمة الالتفاف حول هذا الشارع واستيعابه، بأن قامت في الفترة الأخيرة بما سُمّي بمظاهرات "الفنجان" على حد تعبير نبيل شرف الدين، فجمعت مئات الآلاف من مناصري الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم الوحيد منذ نصف قرن - تحت مسميات مختلفة - في استاد القاهرة لكي يزايدوا على مظاهرات الشارع المصري التي تقودها جماعة الاخوان المسلمين وباقي الأصوليين، وحفنة من الأحزاب الأخرى الصغيرة.
إذن، الشارع العربي يريد جنازة كبرى لكي يلطم فيها، ويبكي فيها على نفسه لا على الآخرين، وينوح فيها على أيامه، لا على ايام الآخرين!
وقد كانت حرب الخليج الثالثة تلك الجنازة الكبرى التي يستطيع الشارع المصري على وجه الخصوص أن يفرغ فيها معظم أحزانه وشكاواه المريرة، شكاوي المصري الفصيح، ودموعه المحبوسة منذ زمن.



د. شاكر النابلسي