التقرير الاقتصادي الخليجي 2005 - 2006
(3)
عطش الاقتصاد العالمي للطاقة يبقي على الأسعار العالية للنفط
أصدر مركز الخليج للدراسات التابع لدار الخليج للصحافة والطباعة والنشر “التقرير الاقتصادي الخليجي 2005 2006” تحت عنوان “اتفاقيات التجارة الحرة لدول الخليج” وتضمن استهلالاً حول مدى قدرة الاقتصادات الخليجية على التعامل مع الفوائض النفطية، واشتمل على عدة محاور حول التطورات الاقتصادية في دول مجلس التعاون الخليجي، وأسواق النفط، وارتفاعها، وهواجس الخوف التي تهيمن على الأسواق، والنفط والفيدرالية.
كما تناول التقرير الذي يقع في 217 صفحة من القطع المتوسط اتفاقيات التجارة الحرة الثنائية لدول مجلس التعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية، وآثارها المتوقعة في اقتصادات دول مجلس التعاون، وبحث كذلك أوضاع التجارة البينية لهذه الدول وخصائصها وتطوراتها.
وأفرد التقرير ملفات خاصة لكل من اقتصادات العراق واليمن وإيران.
وفي هذه الحلقة يتناول الدكتور وليد خدوري اسواق النفط بشكل مفصل، من حيث زيادة الطلب، والخوف من شح الامدادات، وارتفاع الأسعار.
رفع طاقات التكرير هو الحل لإعادة التوازن إلى الأسواق
الاضطرابات السياسية والأعاصير عززت من مخاوف شح الإمدادات
يعتبر عام 2005 مفصلاً مهماً في تاريخ صناعة النفط العالمية. فقد ارتفعت أسعار النفط الخام إلى مستويات قياسية فاقت 70 دولاراً للبرميل الواحد، أو زيادة نحو 50 في المائة عما كانت عليه في أواخر العام الماضي. ويعزى السبب في ذلك، من ناحية، إلى الزيادة المستمرة في الطلب العالمي على النفط في الدول الصناعية الكبرى (الولايات المتحدة والصين)، والنمو الاقتصادي المتصاعد في الدول النامية. ومن ناحية أخرى، هناك التخوف الذي طغى على الأسواق منذ بداية العام حول احتمال شح الإمدادات، وبالذات في الربع الرابع من العام. وعزز هذه المخاوف الاضطرابات السياسية في بعض الدول المنتجة، والحرائق والعطل الذي أصاب المصافي الأمريكية في فترات متلاحقة، وأخيراً الدمار الذي لحق بصناعة النفط الأمريكية نتيجة إعصار كاترينا في نهاية شهر آب (أغسطس).
وتدل معظم المؤشرات المتوفرة حالياً إلى احتمال استمرار بقاء الأسعار على مستويات عالية الى حين توفر السعة اللازمة لدى المصافي العالمية في تكرير المنتجات البترولية المطلوبة، وبالذات النفوط الثقيلة العالية الحموضة والتي تشكل الجزء الأكبر من النفوط الجديدة، أو انخفاض الطلب على النفط الخام نتيجة الارتفاع السريع في مستوى الأسعار وآثاره السلبية في النمو الاقتصادي العالمي.
وبرزت في عام 2005 ظاهرتان جديدتان غير مألوفتين في الصناعة النفطية العالمية. فالمفروض أن ينخفض الطلب على النفط بعد سنتين من الأسعار العالية، لكن الذي حدث خلال هذا العام هو غير ذلك. فاستمر الطلب في الارتفاع، وللسنة الثانية، وعلى الرغم من الأسعار القياسية. كما أنه كان من المفروض أن تستقطب الأسعار العالية، والتي استمرت لمدة سنتين، الاستثمارات المالية اللازمة لتطوير طاقة إنتاجية نفطية جديدة أو طاقات بديلة ينتج عنها فائض في الأسواق يؤدي تدريجياً إلى انخفاض الأسعار. لكن هذا لم يحصل. فعلى سبيل المثال، أعلنت شركة شل، ثالث أكبر شركة نفط في العالم، في نيسان (أبريل) الماضي أنها استطاعت تعويض نصف ما أنتجته فقط خلال ،2004 على عكس ما كان يحدث سابقاً عندما كانت الشركات تعوض كامل إنتاجها خلال العام المنصرم. ولم تكن نتائج الشركات النفطية الأخرى أحسن بكثير من نتائج شركة شل.
ارتفاع أسعار النفط
تميزت ظاهرة ارتفاع أسعار النفط الخام خلال عام 2005 بعامل أساسي، ألا وهو اقتناع معظم المسؤولين في الدول المستهلكة والمنتجة أن السبب وراء هذه الزيادة هو ارتفاع الطلب، والاهتمام المتزايد بالمنتجات القليلة الكبريت، وليس نقص إمدادات النفط الخام عموماً.
فبعد سنوات من قوانين بيئية شديدة ومتعددة في الدول الصناعية الغربية، شرعت الهند هذا العام أنظمةً تتطلب خفض مادة الكبريت في البنزين وزيت الغاز (الغاز أويل) من 1000 و2500 جزء من المليون إلى ،500 وكذلك في الصين من 800 و2000 إلى 500. والمشكلة هي أنه لا تتوافر في مصافي هذين البلدين الكبيرين الإمكانات لتنفيذ هذه القوانين البيئية.
وهناك أيضاً الطلب المتزايد على الوقود في الصين. فعلى سبيل المثال، استوردت المنطقة الساحلية من شرق الصين التي تضم شانغهاي وشاندونغ خمسة ملايين طن من زيت الوقود (الفيول أويل) في ،2004 أو زيادة 100 في المائة عن ،2003 وتحتاج هذه المنطقة إلى 50.4 مليون طن إضافية في 2005. ومعظم هذا الوقود سيستعمل لتوليد المحركات التي استوردت لتوليد الكهرباء بسبب عجز الشبكة الوطنية في البلاد عن سد العجز الحاصل نتيجة ارتفاع مستوى المعيشة والاستهلاك المتزايد للكهرباء في الآونة الأخيرة. وفي مجال الطيران، استعمل 120 مليون نسمة الطائرات في الصين في ،2004 بزيادة مقدارها 38 في المائة عن ،2003 ويتوقع ان يرتفع المعدل في 2005 نحو 15 في المائة.
لقد وفت الدول المنتجة بوعودها في تزويد الأسواق بما تحتاجه من نفط خام، رغم الارتفاع المستمر في الطلب. إلا أن الخوف الذي لازم الأسواق النفطية والمالية طوال العام، والذي استغله الكثير من المضاربين وصناديق الاستثمار لتحقيق أرباح خيالية، هو تصور وجود شح في الإمدادات. وبالفعل حدث شح في المنتجات البترولية في الولايات المتحدة في أوائل شهر ايلول (سبتمبر) بسبب الدمار الذي تركه إعصار كاترينا في الحقول النفطية الوسطى والشرقية في خليج المكسيك ومصافي التكرير في ولاية لويزيانا.
النمو العالمي
ويعود السبب الرئيسي في ارتفاع أسعار النفط إلى نحو 70 دولاراً إلى النمو المستمر للاقتصاد العالمي والذي لم يؤثر فيه بشكل كبير الارتفاع المستمر في الأسعار حتى كتابة هذه السطور. ويعود السبب في ذلك إلى النمو الكبير الذي حصل في الاقتصاد العالمي خلال العقود الماضية، والدور البارز لقطاع الخدمات والتقنية، ومن ثم النسبة الأقل لحجم النفط في مجمل الاقتصاد العالمي. كما يفسر هذه الظاهرة نمو حجم الإنتاج والصادرات للسلع الاستثمارية والاستهلاكية في التجارة العالمية ومن ثم عدم بروز ظاهرة التضخم على الصعيد الاقتصادي العالمي نتيجة أسعار النفط العالية. وهناك الكثير من الأدلة على أهمية هذه المؤشرات.
فعلى سبيل المثال، تشير أرقام إدارة معلومات الطاقة التابعة لوزارة الطاقة الأميركية إلى أن الطلب على النفط في الولايات المتحدة ارتفع 2 في المائة خلال الربع الثاني، مقارنة بالربع الأول من عام 2005. والأهم من ذلك، أن استهلاك البنزين في الولايات المتحدة في شهر حزيران (يونيو) وصل إلى 48.9 مليون برميل يومياً، وهو أعلى مستوى له في تاريخه. وقد ارتفع مستوى الاستهلاك هذا في حين وصلت أسعار البنزين إلى نحو 15.2 دولار للجالون، وارتفعت لاحقاً في نهاية فصل الصيف إلى فوق 3 دولارات للجالون في بعض الولايات، وهو رقم قياسي بالنسبة للولايات المتحدة، يقارن بنحو دولار واحد للجالون قبل ثلاث سنوات. كما أن معدل استيراد النفط الخام وصل إلى 5.10 مليون برميل يومياً، أي نصف مجموع الاستهلاك الأميركي البالغ 21 مليون برميل يومياً. لكن أكثر ما يثير القلق في الأوساط النفطية العالمية استمرار تشغيل المصافي الأمريكية بمعدلات تفوق 95 في المائة من طاقتها القصوى، وهذا يعني أنها لا يمكن أن تستمر على هذه الوتيرة دون توقع حوادث صناعية وأعطال وحرائق بين فترة وأخرى. وعندما تحدث هذه الحوادث الصناعية، ترتفع الأسعار خوفاً من شح الإمدادات.
لكن السؤال المهم هنا هو: لماذا هذا الارتفاع في الأسعار ما دام هناك توازن في ميزان العرض والطلب؟ ولماذا هذا الارتفاع في الاسعار في حين ان مستوى المخزون التجاري في الولايات المتحدة (أكثر دولة مستهلكة للنفط في العالم) قد ارتفع في شهر شباط (فبراير) 2005 إلى أعلى مستوى له في هذا العقد، وأن هناك نحو 300 مليون برميل نفط خام و300 مليون برميل منتجات بترولية، أي معدل شهرين من الواردات الأمريكية. كما أن هناك في مجمل دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (الدول الصناعية الغربية واليابان) أكثر من 50.2 بليون برميل من المخزون التجاري، ناهيك عن الكمية المتوفرة في المخزون الاستراتيجي الأمريكي والتي وصلت إلى حدودها المرسومة لها وهي 700 مليون برميل.
ادعاءات
لقد سادت في السنوات الأخيرة، وبالذات في السنتين الماضيتين، ادعاءات كثيرة مفادها أن الإنتاج النفطي قد وصل إلى قمته، وأن الاحتياطات المتبقية لا تفي بالزيادات الجديدة المتوقعة في الطلب. وادعى أصحاب هذه المدرسة، وأبرزهم المستشار المالي الأمريكي مات سيمنز، أن احتياطي النفط السعودي قد وصل إلى قمته في الإنتاج، وهكذا الأمر في بقية الدول المنتجة. ويذهب سيمنز إلى القول انه ما دامت الولايات المتحدة وبقية دول العالم الصناعي معتمدة بصورة أساسية على الطاقة الإنتاجية في المملكة العربية السعودية وبقية دول أوبك، فمن الأجدى على هذه الدول أن تفصح بشفافية اكثر عن حجم الاحتياطي المتوفر لديها وعن خطط تطوير حقولها النفطية. وجواب الرياض وبقية عواصم دول أوبك هو أن هذه معلومات صناعية وتجارية لا تفصح عنها الدول السيادية أو الشركات النفطية، ومن ثم فإن دول أوبك غير ملزمة بالكشف عن أرقام الاحتياطي المتوفر لديها.
وتضيف الدول المنتجة، أنها قد استجابت بسرعة وبمصداقية في كل الأزمات التي حدثت خلال السنوات الماضية، وبالذات عند إضراب العمال في فنزويلا والانقطاع شبه التام للامدادات من هناك في نهاية 2002 وبداية ،2003 ونقصان الصادرات من نيجيريا في أوائل 2003 بسبب الصراع الاثني والقبلي، وتوقف الإنتاج العراقي لشهور عديدة بعد الاحتلال الأمريكي في ربيع 2003.
كما أن الدول الأعضاء في منظمة أوبك بدأت بزيادة الانتاج تدريجياً منذ أوائل عام ،2004 عندما تبين حجم ارتفاع الطلب في الصين، وغضت النظر فعلياً عن اتفاقية الانتاج المعلن عنها في حينه في اوبك، ولبت حاجات السوق من النفط الخام. ولكن المشكلة، كما رددت مراراً وتكراراً خلال عام ،2005 هي نقص سعة المصافي، وبالذات المتخصصة منها في النفوط الثقيلة ذات الحموضة العالية، ومن ثم زيادة الاسعار.
وما زاد الطين بلة في هذا الوقت الحرج بالذات الدمار الذي خلفه إعصار كاترينا في أواخر شهر آب (أغسطس) في ولاية لويزيانا الأميركية وإغلاق نحو 50.1 مليون برميل من الطاقة التكريرية لنحو أسبوع من الزمن، ومن ثم استمرار إغلاق طاقة تكريرية في أربع مصافٍ بسعة 880 ألف برميل يومين لمدة شهرين على الأقل، أو حتى أكثر. هذا ناهيك عن إغلاق نحو مليون برميل يومياً من سعة المصافي في ولاية تكساس لمدة أسبوعين من الزمن، وحتى أكثر، في منتصف شهر أيلول (سبتمبر).
أسباب
ويوجه المراقبون أصابع الاتهام لمنظمة أوبك لعدم استطاعتها زيادة الطاقة الإنتاجية في دولها الأعضاء إلى أكثر من 30 مليون برميل يومياً منذ منتصف السبعينات. ويتبين للوهلة الأولى أن دول أوبك لم تضف أي طاقة جديدة خلال العقود الماضية. ولكن السبب في عدم زيادة مجمل هذه الطاقة يعود لسببين رئيسيين.
أولاً: هو فقدان الطاقة الانتاجية في العديد من الدول نتيجة خراب ودمار الحروب والمقاطعة الأمريكية والدولية والنزاعات السياسية الداخلية ومن ثم لم يتم بناء طاقة إنتاجية إضافية، بل تقلصت الطاقة الانتاجية إلى نصف أو ثلث ما كانت عليه قبل عقود، في عدد من الدول الاعضاء. وهناك أمثلة العراق (من 8.3 مليون برميل يومياً في 1979 إلى 2.2 مليون برميل يومياً في 2005) وإيران (من 6 ملايين برميل يومياً في 1978 إلى 4 ملايين برميل يومياً في 2005) وليبيا (من 3 ملايين برميل يومياً في 1970 إلى 6.1 مليون برميل يومياً في 2005) وفنزويلا (من 1.3 مليون برميل يومياً في 2002 إلى 6.2 مليون برميل يومياً في 2005) ونيجيريا (إخفاقها في الوصول إلى طاقة إنتاجية بمستوى 3 ملايين برميل يومياً في منتصف هذا العقد كما كان مخطط له واستقرارها حالياً على مستوى 6.2 مليون برميل يومياً).
ثانياً: ان بقية الدول الاعضاء في منظمة أوبك قد بنت طاقة انتاجية جديدة وأضافت إلى منشآتها الأرضية ومعداتها التصديرية، إلا أنه وصل الأمر بهذه الدول بعد انهيار الأسعار في 1986 ومن ثم 1998 أنه كان لدى منظمة أوبك نحو 5 ملايين برميل يومياً من الطاقة الانتاجية الفائضة. ولم تجد هذه الدول أي حافز مالي او استراتيجي يدفعها الى صرف المليارات من الدولارات على تشييد طاقة انتاجية فائضة وعاطلة وباهظة الثمن. ولم تساعد الدول الصناعية المستهلكة للنفط في هذا الأمر، إذ أنها رفضت التعاون مع الدول المنتجة والمساعدة في ضمان الطلب وزيادته، كما هي تطالب باستمرار الدول المنتجة في ضمان الإمدادات وارتفاعها.
وما فاقم الأمور في هذا المجال هو ترديد الدول الصناعية الغربية، وبالذات الولايات المتحدة، في كل مناسبة ممكنة أن الاستراتيجية الطاقوية الأساسية للدول الصناعية هي فك الاعتماد عن نفوط دول الخليج والبحث عن مصادر نفطية جديدة وطاقوية اخرى. وكان آخر مثال على هذا ما تردد من خطب معادية لدول أوبك أثناء مؤتمر الحزب الديمقراطي في بوسطن في صيف 2004.
إن التركيز على فرضية عدم الاعتماد على إمدادات نفوط الخليج شوه التفكير الاستراتيجي للدول الصناعية وألقى الكثير من الشك والظلال على السياسات الطاقوية التي تم تبنيها.
فعلى سبيل المثال، لم تأخذ هذه الدول بشيء من الجدية الزيادة الهائلة في الطلب على النفط خلال السنتين الماضيتين، ولا الحيز الضئيل لدول النفط في الاقتصاد العالمي ومن ثم تأثيره في التضخم، وبالذات في فترة انتعاش الصادرات من الدول ذات الاستهلاك الأوسع للنفط مثل الصين والولايات المتحدة. كما غضت هذه الدول النظر عن بعض الأخطار الحقيقية لأمن الإمدادات النفطية، وبالذات الأعاصير في خليج المكسيك حيث تكمن 25 في المائة من سعة المصافي الأمريكية، والدمار الذي من الممكن أن يحصل نتيجة هذه الرياح العاتية الموسمية، وآثارها في الأسعار في الولايات المتحدة وبقية دول العالم، وبالذات في الوقت الذي فيه شح في سعة المصافي كما حصل في خريف 2005.
سياسة واضحة
ورغم هذه الظواهر، ورغم الاتهامات المتكررة، كانت سياسة جميع دول الأوبك، دون استثناء، واضحة في هذه الفترات، ألا وهي تزويد الأسواق بما تحتاجه من النفط الخام. ولم يختلف الوضع في 2005. وبالفعل، فقد وصل إنتاج الدول الاعضاء إلى نحو 28 - 30 مليون برميل يومياً منذ بداية العام.
وفي الاجتماع الوزاري نصف السنوي في اصفهان في شهر آذار (مارس) اتخذ اعضاء المنظمة قراراً ، بضغوط امريكية شبه علنية، بزيادة الانتاج من أجل تهدئة مخاوف الأسواق من شح في الإمدادات في نهاية العام، رغم قناعة معظم الوزراء بعدم الحاجة إلى ذلك في حينه.
ولكن اتضح بعد ذلك أن قرار اصفهان كانت له أبعاد اخرى. فقد قررت المنظمة، وبالذات السعودية ذات الحجم الأكبر على الساحة النفطية، تزويد مستودعات التخزين في الدول المستهلكة بالنفوط الخام اللازمة منذ وقت مبكر وعدم الانتظار إلى الربع الرابع من العام حيث يرتفع الطلب على النفط. والغرض من هذا الإجراء توفير النفط الخام مبكراً وفي مستودعات التخزين القريبة من الدول الصناعية وإطلاقه بسرعة إلى أماكن الاستهلاك في حال الحاجة إليه. ولكن رغم هذه الخطوة التطمينية، استمرت الاسعار في الارتفاع وذلك بسبب الزيادة المستمرة في الطلب على النفط.
وتشكل خطوة أوبك هذه نقلة نوعية في طريقة اتخاذ القرارات في المنظمة.
ففي الأعوام الماضية، وبالذات في عام ،2004 عكست قرارات أوبك إلى حد كبير الأرقام والتوقعات التي كانت تصدر عن وكالة الطاقة الدولية. وفحوى التقارير والدراسات التي صدرت في حينه أشارت إلى انخفاض الاعتماد على نفط أوبك، وزيادة الإنتاج من الدول غير الاعضاء في المنظمة، وانخفاض معدل نمو الطلب العالمي على النفط. وعليه، وبناء على هذه الفرضيات، اتخذ مجلس وزراء المنظمة سلسلة من القرارات التي تعكس هذه التوقعات السلبية والمتشائمة، وبالذات في الربع الأول من العام الماضي.
بمعنى آخر لم تزد أوبك رسمياً في اتفاقية نظام الحصص وجدول الإنتاج في مطلع عام 2004 على رغم ارتفاع الأسعار تخوفاً من تقلص الطلب المستقبلي. ولكن الذي حصل بالفعل أن الكثير من الدول رفعت من مستوى إنتاجها بناء على زيادة الطلب الفعلي في حينه، رغم التنبؤات المتشائمة.
شبح جاكرتا
ومما زاد من مخاوف الدول الأعضاء شبح “جاكرتا”، إشارة إلى اجتماع المجلس الوزاري للمنظمة في تشرين الثاني (نوفمبر) 1997 في العاصمة الإندونيسية عندما قررت أوبك زيادة الإنتاج على رغم بدء مسلسل الأزمة الاقتصادية في آسيا مما أدى إلى انهيار أسعار النفط إلى ما دون 10 دولارات للبرميل.
إن قرار أوبك زيادة الإنتاج في أصفهان على الرغم من توازن العرض والطلب، وعلى الرغم من المخزون التجاري على مستواه في عام ،2004 يعود بالدرجة الأولى إلى تحملها مسؤولية عدم حدوث نقصان في الإمدادات النفطية في الأسواق العالمية، وبالذات التخوف من زيادة الطلب على العرض في نهاية عام ،2005 واحتمال ارتفاع الأسعار إلى مستويات عالية تؤذي الاقتصاد العالمي، وبالذات دول العالم الثالث.
وفي الاجتماع الوزاري الاستثنائي التالي لمنظمة أوبك في حزيران (يونيو) ،2005 استطاعت المنظمة إيصال رسالة مقنعة للعالم أن المشكلة في ارتفاع أسعار النفط هي قلة عدد المصافي لتكرير النفط الخام وليس نقص الإمدادات. لكن الرسالة الأخرى التي وصلت إلى الرأي العام هي أن الطاقة الإنتاجية المتوفرة لدى أقطار أوبك في الوقت الراهن قد اضمحلت، وأن أي قرار لزيادة الإنتاج فوق مستوى 28 مليون برميل للدول العشر الأعضاء (باستثناء العراق الذي هو خارج نظام الحصص) يعتبر “خطوة رمزية” لا أكثر ولا أقل. وتكررت الرسالة نفسها في اجتماع وزراء المنظمة في شهر أيلول (سبتمبر) عندما قرر المجلس الوزاري الاستغناء عن نظام الحصص لمدة ثلاثة شهور من أجل تلبية الطلب في الأسواق العالمية بعد إعصار كاترينا، رغم أن نظام الحصص توقف العمل به فعلياً منذ أوائل عام 2004.
وتوصلت الأسواق إلى استنتاج في ظل المعطيات المتوفرة، من نمو اقتصادي مستمر، ووصول الطاقة الانتاجية إلى الحالة القصوى، والتوقعات بزيادة الطلب في الربع الرابع من العام، وبلوغ المصافي حدها التكريري الأقصى، أن الأسعار ستبقى مرتفعة خلال عام 2005. وهيمن السؤال عند المراقبين والرأي العام الذي أخذ يشتكي تدريجياً ولكن بهمسات تكاد تكون مسموعة: ما هي الحدود القصوى للأسعار؟ هل هي 100 دولار للبرميل؟ وافترض معظم المراقبين، وبالذات في النصف الثاني من العام، أن الأسعار لن تنخفض عن مستوى 50 دولاراً للبرميل الواحد.
هاجس الخوف
هيمن نوعان من الخوف على الأسواق خلال عام 2005 مما كان لهما أثرهما في زيادة الأسعار.
الأول: مفاده أن الطاقة الإنتاجية الفعلية المتوفرة لدى دول الأوبك في الوقت الحاضر قد نفدت ولا يتوفر إلا نحو 50.1 مليون برميل يومياً لدى السعودية وأقل من ذلك بكثير لدى الإمارات والكويت. أما بقية الدول، فلا طاقة إنتاجية فائضة لديها. والأنكى من ذلك، أن الطاقة الإنتاجية الفائضة لدى السعودية هي من النوع الثقيل والحامض، بينما تحتاج الأسواق نفطاً خفيفاً وقليل الحموضة.
الثاني: هو الخطاب الذي طالما يردده المسؤولون في الدول المنتجة هو أنه حتى لو توفر النفط الخام، فلا توجد المصافي الكافية المتخصصة والمتطورة التي تستطيع معالجة النفوط الثقيلة والحامضة المتبقية هذه الأيام. وما يشهد على ذلك هو أنه تتم تلبية حاجة الشركات من طلبات لكميات إضافية من النفوط ولم نسمع عن شكاوى من الشركات في رفض حاجتها من النفط الخام.
دفعت هذه المناظرات العلنية على صفحات النشرات البترولية المتخصصة المضاربين وصناديق الاستثمار إلى ولوج سوق النفط من خلال شراء البراميل الورقية والاستثمار في الأسواق الآجلة. ويشتري ويبيع هؤلاء المضاربون براميل النفط الورقية من أجل الربح المالي البحت، من دون أي مسؤولية في الاستثمار في الصناعة. فهؤلاء يدخلون ويخرجون من الأسواق المالية النفطية بين لحظة وأخرى اعتماداً على الأرباح التي يمكن أن يجنوها من هذه العمليات. والمشكلة هنا أنه عندما يرون أن من الممكن جني أرباح أكثر من التلاعب في سوق النفط، بدلاً من الأسهم والسندات، مثلاً، كما هو الوضع في ،2005 يهجمون كالقطعان على هذا السوق، وبهجومهم الجماعي يدفعون الأسعار إلى الأعلى من دون أي عوامل أساسية اقتصادية لذلك. وقد درت هذه الاستثمارات الضخمة، والتي تقدر بتريليون دولار، ارباحاً مجزية على أصحابها، وبالذات في وقت كانت فيه أسواق الأسهم والسندات في حال من الركود في العديد من أسواق الدول الصناعية. إلا أنه مع تعاظم الأموال المستثمرة في الأسواق الآجلة، وارتفاع الطلب الحقيقي والورقي على النفط، اندفعت أسعار النفط إلى الأعلى أكثر فأكثر غير آبهة بعوامل العرض والطلب.
وما ساعد على تراكم هذه الظاهرة ونموها هو عدم ظهور آثار سيئة لارتفاع الأسعار في الاقتصاد العالمي لفترة طويلة، وعدم بروز شكاوى حقيقية من قبل المستهلكين بشكل قيام المظاهرات والاحتجاجات والضغوط الخارجية. ويعزى سبب رئيسي وراء ظاهرة السكوت هذه، والتي سيطرت على الموقف إلى أن لحق الدمار بساحل لويزيانا في أواخر شهر آب (أغسطس)، إلى المعرفة التامة للدول الصناعية الغربية أن الدول النفطية تنتج بكامل طاقتها ولا تحجب برميلاً إضافياً في حال الحاجة إليه عن الأسواق.
إلا أن مخاوف الأسواق الأخرى بقيت ملقية ظلالها على أسعار النفط، وهي عوامل حقيقية وليست وهمية.
فالخوف من نشوب اضطرابات سياسية في الدول المنتجة قد تغلق الطاقة الإنتاجية المتوفرة هنا أو هناك في ظل ميزان العرض والطلب الدقيق. وهذه حقيقة واقعة لا يمكن نكرانها، وبالذات مع النقصان الانتاجي الفعلي الحاصل في العراق، وهيمنة الملف النووي الايراني على العلاقات بين إيران من ناحية وأوروبا والولايات المتحدة من ناحية أخرى، والاضطرابات الإثنية والقبلية في نيجيريا، والصراع المتصاعد بين حكومة هيوغو شافيز في فنزويلا وواشنطن.
اعصار كاترينا
وتأكدت أسوأ مخاوف الأسواق بشكل غير متوقع في نهاية آب (أغسطس) نتيجة الدمار الذي خلفه إعصار كاترينا. لقد سبب هذا الإعصار مشاكل مؤقتة وهيكلية في صناعة النفط العالمية خلال عام 2005.
فهو من ناحية، بالإضافة إلى إعصار ريتا في النصف الثاني من شهر ايلول (سبتمبر)، أغلق لأسبوعين على الأقل إنتاج نحو مليوني برميل من المنتجات النفطية، في وقت فيه شح عالمي لهذه المنتجات، بل نقص حقيقي في قسم منها. كما أغلقت الأعاصير، بسبب الفيضانات التي خلفتها والأضرار والعطل الذي حصل في المنشآت، بعض المصافي لأشهر عديدة. فسعة المصافي الأربع التي تم إغلاقها في لويزيانا، وهي بسعة 800 ألف برميل يومياً، تساوي تقريباً مجمل الطاقة التكريرية لدى دولة الكويت.
لقد كان ميزان العرض والطلب العالمي للمنتجات البترولية دقيقاً قبل كاترينا. واصبح حرجاً بل خطراً بعد الإعصار. ودخل العالم، لأول مرة، في أزمة شح منتجات بترولية، واضطرت الدول الاعضاء في وكالة الطاقة الدولية اللجوء إلى احتياطاتها النفطية والسحب من مخزون النفط الخام والمنتوجات البترولية لتعويض النقص في الولايات المتحدة والذي يقدر بنحو 40 مليون جالون يومياً من البنزين. واستطاعت هذه المساعدات حل الأزمة مرحلياً، إلا أن الخوف الآن هو من موجة برد قارس في نصف الكرة الشمالي، أو إعصار آخر، أو حريق في مصفاة مهمة، أو توقف الانتاج في إحدى الدول النفطية. وما يزيد الأمر خطورة هو النقص الذي حصل في إنتاج الغاز الطبيعي في خليج المكسيك خلال شهر أيلول (سبتمبر) أثناء إعصاري كاترينا وريتا حيث تم إغلاق نحو 8 بليون قدم مكعبة يومياً مما أحدث عجزاً في ميزان العرض والطلب الأمريكي على الغاز، ورفع بالأسعار إلى نحو 12 دولاراً لمليون وحدة حرارية، مقارنة بنحو 3 دولارات قبل سنوات قليلة.
وقد وعت الدول الصناعية للوضع الخطر الذي وصل إليه ميزان العرض والطلب العالمي واتخذت عدة خطوات لمعالجة الأمر، إلى جانب تزويد الولايات المتحدة بنحو 60 مليون برميل من النفط الخام والمنتوجات البترولية لمدة 30 يوماً، او ما معدله مليونا برميل يومياً. وهذه الكمية بالفعل هي أكثر مما تحتاجه الولايات المتحدة، وأكثر من النقص الذي حصل نتيجة لإعصار كاترينا، وأوسع من تهدئة مخاوف الأسواق. فالهدف من هذا البرنامج هو البدء بحملة عالمية لكسر شوكة الأسعار العالية. كما ضغط العديد من الحكومات الاوروبية، وبالذات فرنسا، على شركات النفط لتخفيض أسعار البنزين والديزل.
وطالب وزير المال البريطاني غوردن براون بهذا الخصوص في خطاب له في 12 أيلول (سبتمبر)، الدول المنتجة بزيادة الانتاج. ورد عليه وزير الطاقة القطري عبد الله العطية بأن الدول النفطية، منها قطر، مستعدة أن تستثمر في بناء مصافٍ جديدة في الدول الصناعية إذا فتح لها المجال لذلك. وكان وزير البترول السعودي علي النعيمي قد أعلن رسمياً في خطاب له في الولايات المتحدة قبل فترة عن استعداد المملكة بناء مصفاة في الولايات المتحدة. ولكن لم تحصل إي إجابات من مسؤولي الدول الصناعية على هذه الطلبات حتى الآن.
واعترف وزراء المال ومحافظو المصارف المركزية الاوروبية في اجتماع لهم في منتصف ايلول (سبتمبر)، ولأول مرة، أن المشكلة هي في عدم بناء مصافي التكرير طوال ربع قرن في الولايات المتحدة، أكبر دولة مستهلكة للنفط في العالم، وضرورة التعامل مع هذه الظاهرة بجدية، ناهيك عن انعدام شفافية معلومات الطاقة في الصين، ثاني أكبر دولة مستهلكة للنفط والطاقة في العالم.
النفط والفدرالية
شهد عام 2005 ظاهرتين جديدتين بخصوص طريقة اتخاذ القرار النفطي وتوزيع الثروات النفطية في البلاد العربية. ففي كانون الثاني (يناير) تم التوقيع على “بروتوكول تقاسم الثروة في الفترة الانتقالية التمهيدية والفترة الانتقالية” في السودان. ويعتبر هذا البروتوكول، والذي تم التوقيع عليه مبدئياً في نيافاشا في كينيا في كانون الثاني ،2004 أول وثيقة عربية من نوعها، يتم فيها تحديد السلطات والثروات النفطية بين العاصمة والأقاليم بهدف رسم السياسة البترولية واقتسام الثروة النفطية والتفاوض والاتفاق مع الشركات الدولية على الاستكشاف والانتاج.
وتبع هذا الاتفاق رسم مسودة الدستور العراقي والاستفتاء عليه في 15 تشرين الأول (أكتوبر) ،2005 والذي ينص على المشاركة الكلية للأقاليم والمحافظات في رسم السياسة النفطية وتخصيص نسب معينة من الثروة البترولية للأقاليم المنتجة وتلك التي تضررت اكثر من غيرها في عهد النظام السابق. كما ينص الدستور، وبطريقة غامضة، على أن جميع الصلاحيات التي لم تحدد في بنود الدستور لصالح الحكومة الفدرالية تعني أن هذه الصلاحيات ستكون من مهام الأقاليم.
تنبع هذه السياسة الجديدة، من ناحية، من تغيير ميزان القوى في الدول المنهكة بالحروب وضعف الحكومة المركزية واضطرارها إلى تقديم التنازلات من أجل الوصول إلى اتفاق شامل مع الثوار، كما هي الحال في السودان، أو في انهيار نظام بكامله، كما هو الوضع في العراق، وقيام حكم جديد بقوى سياسية جديدة تحاول أن تضع يدها على مصادر الثروة. وما ساعد على الإصرار في كلا الحالتين على طريقة جديدة واسلوب جديد في رسم السياسة النفطية وتوزيع الثروات هو الاستئثار الواضح الذي انفردت فيه العواصم في اتخاذ القرار واحتكار الريع النفطي على حساب المناطق خارج العاصمة، وبالذات تلك المناطق التي تشكل وجوداً سكانياً مختلفاً إثنيا أو قومياً أو دينياً أو طائفياً. وما ساعد في تأليب هذا الموضوع أيضاً النفوذ الأمريكي المتزايد في العملية السياسية في البلدين، أكان هذا من خلال الدور الرئيس في مفاوضات السودان، أو احتلال العراق والتحالف الاستراتيجي مع الأكراد والسياسي مع الأحزاب ******ة.
وبرزت منذ البداية بعض المشكلات أمام النظام الجديد، وفي البلدين. فقد وقعت الأطراف الإقليمية في السودان والعراق على اتفاقات وعقود مع شركات مغمورة للبدء بالاستكشاف والتنقيب عن النفط من دون علم الحكومة المركزية ومن دون إذنها، وفي حال السودان في مناطق كانت الخرطوم قد منحتها لأطراف ثالثة. وهذا الأمر، كما هو معروف في الصناعة النفطية العالمية، يخلق مشكلات قانونية متعددة نتيجتها الوحيدة تعطيل تنمية وتطوير الحقول وخسارة البلد المعني فرصاً مهمة.
ويكمن الخوف الأساسي في تمييع القرار النفطي وتشتيته ما بين العاصمة والأقاليم والمحافظات إلى الدور المتزايد للقبائل والأحزاب الإثنية والطائفية والدينية في الأقاليم، وإلى شيوع الفساد وغياب الإدارة الرشيدة، وفقدان المحاسبة والمساءلة - أكثر بكثير مما هو مفقود في العواصم. ويتخوف أن تنعكس هذه المخاوف على عرقلة وتأخير القرار النفطي وتطوير الحقول الجديدة إلى فترة غير معروفة، وإلى حين يتم فيه استقرار هذا النظام، في حال استقراره، مما يعني تأخير القرار النفطي وزيادة الطاقة الإنتاجية في الفترة التي فيها حاجة لتزويد الأسواق النفطية العالمية بكميات أكثر من النفط الخام. كما إن الخوف، وبالذات في ظل غياب التجربة والقوانين اللازمة المحلية، من ضياع القرار في بيروقراطيات العاصمة والإقليم والمحافظة، والنزاعات الإدارية فيما بينها، والخلافات على رسم الحدود الداخلية وإعطاء الأولوية اللازمة لهذا المشروع أو ذاك على أسس رشيدة وليس ذاتية.
----
التقرير الاقتصادي الخليجي ... 2005 - 2006
( 4 )
أصدر مركز الخليج للدراسات التابع لدار الخليج للصحافة والطباعة والنشر “التقرير الاقتصادي الخليجي 2005 2006” تحت عنوان “اتفاقيات التجارة الحرة لدول الخليج” وتضمن استهلالاً حول مدى قدرة الاقتصادات الخليجية على التعامل مع الفوائض النفطية، واشتمل على عدة محاور حول التطورات الاقتصادية في دول مجلس التعاون الخليجي، وأسواق النفط، وارتفاعها، وهواجس الخوف التي تهيمن على الأسواق، والنفط والفيدرالية. كما تناول التقرير الذي يقع في 217 صفحة من القطع المتوسط اتفاقيات التجارة الحرة الثنائية لدول مجلس التعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية، وآثارها المتوقعة في اقتصادات دول مجلس التعاون، وبحث كذلك أوضاع التجارة البينية لهذه الدول وخصائصها وتطوراتها.
وأفرد التقرير ملفات خاصة لكل من اقتصادات العراق واليمن وإيران.
ويتناول الدكتور علي توفيق صادق في هذه الحلقة بالعرض والتحليل موضوع اتفاقيات التجارة الحرة الثنائية لمجلس التعاون لدول الخليج العربية مع الولايات المتحدة الامريكية.
أهدافها تشجيع التجارة وتحريرها عبر المزيد من الإعفاءات الجمركية
انتشرت في أعقاب الحرب العالمية الثانية التكتلات الدولية الهادفة إلى تقوية وتنمية العلاقات الاقتصادية بين أعضائها بهدف تحسين ظروف التنمية الاقتصادية فيها. وكانت الولايات المتحدة الأمريكية تعارض التكتلات الاقتصادية وتدعم الانفتاح الاقتصادي والتحرير التجاري في ظل سياسة وسيادة الأسواق من خلال مساندتها لنظام الاتفاقية العامة للتعرفة والتجارة ( الجات). ولقد وفرت الولايات المتحدة الأمريكية سوقا واسعة امام صادرات البلدان الأخرى من دون الإصرار على الحصول على معاملة مماثلة في علاقاتها التجارية. ففي الخمسينات والستينات من القرن العشرين كان الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي يقارب نصف الناتج العالمي، وكانت وارداتها ضئيلة نسبيا في حدود 5 - 3 في المائة من ناتجها المحلي الإجمالي. وقد تغير هذا الوضع، واصبحت الولايات المتحدة الأمريكية مع نهاية الثمانينينات من القرن العشرين واحدة من عدة دول ثرية، حيث تحول وضع أمريكا من مركز الصدارة إلى مركز قريب من المساواة مع غيرها من الدول الثرية.
وفي الثمانينات من القرن العشرين بدأت الولايات المتحدة الأمريكية تواجه مشكلة في ميزانها التجاري بسبب عجز صادراتها عن تغطية وارداتها، وظهر العجز في ميزانها التجاري، وفي حسابها الجاري أيضا. ويعزى تغير وضع الولايات المتحدة الأمريكية إلى تقلص الأسواق الخارجية أمام السلع والخدمات الأمريكية بسبب التقدم التكنولوجي وانتشاره في العديد من دول العالم. فالثورة الزراعية قلصت الأسواق أمام الصادرات الزراعية الأمريكية، والسلع ذات التقنية العالية التي كانت تنتجها امريكا ولم تكن تنتجها الدول الأخرى أصبحت تنتج خارج أمريكا، الأمر الذي يشير إلى أن الأسواق الخارجية للسلع الأمريكية أصبحت تنافسية، كما أن أمريكا تحولت من مصدر للنفط إلى مستورد كبير له.
وفي ضوء ذلك أصبحت الأسواق الدولية للصادرات تنافسية، وفي الوقت نفسه أصبحت الحكومات تسير وتدير التجارة الخارجية. لذا ففلسفة السوق أو رفع اليد لم تعد معروفة، فالتجارة الدولية في السلع الزراعية والأنسجة والسيارات تخضع لترتيبات معينة. ففي المجموعة الأوروبية ارتفعت حصة الواردات الخاضعة لقيود غير جمركية من نحو 20 في المائة عام 1966 إلى نحو 53 في المائة عام ،1986 وفي اليابان من نحو 31 في المائة إلى نحو 42 في المائة، وفي أمريكا من نحو 36 في المائة إلى نحو 45 في المائة.
واتبعت الولايات المتحدة الأمريكية في منتصف الثمانينات من القرن العشرين استراتيجية متعددة المسارات للمحافظة على مستوى التعاون الدولي. فقد استمرت نشطة في مفاوضات جولة الأوروغواي، التي بدأت في شهر سبتمبر/ أيلول ،1986 وانتهت بإنشاء منظمة التجارة العالمية عام ،1995 وأقامت مناطق تجارة حرة مع كندا عام ،1988 ومع “إسرائيل” عام ،1989 ومع كندا والمكسيك عام 1992. وفي يونيو/ حزيران عام 1990 أعلن الرئيس الأمريكي (جورج بوش الأب) عن مبادرة المشاريع للأمريكيتين الهادفة إلى تعزيز التعاون الاقتصادي مع دول أمريكا اللاتينية في مجالات التجارة والاستثمار وتخفيف الديون الخارجية. في ظل هذه المبادرة وقعت 29 دولة إطار اتفاقيات تجارة حرة مع الولايات المتحدة الأمريكية. وتلزم هذه الاتفاقيات الدول الموقعة بإزالة الحواجز الجمركية وغير الجمركية في مواعيد محددة، وتوفير الوصول إلى الأسواق لتجارة الخدمات، وتوفير معايير للتعامل مع الاستثمارات بما في ذلك إزالة متطلبات المكون المحلي والأداء، واتخاذ الإجراءات لحماية حقوق الملكية الفكرية، وتقييد نشاطات الحكومة فيما يتعلق بالدعم والقيام بالتجارة واستخدام تقييد الصرف الأجنبي والرقابة. ووقعت الولايات المتحدة الأمريكية اتفاقيات تجارة حرة مع ثلاث دول عربية هي الأردن عام ،2000 والمغرب والبحرين عام 2004. وبدأت مفاوضات مع كل من الإمارات العربية المتحدة وسلطنة عمان في شهر مارس/ آذار 2005 لتوقيع اتفاقية تجارة حرة مع كل منهما. وفي هذا الفصل نستعرض أولا، الاتفاقيات الثنائية وتشجيع التبادل التجاري من حيث الأهداف ومبادئ ارتكازها؛ ونستعرض ثانيا، العلاقات الاقتصادية والتجارية بين دول مجلس التعاون والولايات المتحدة الأمريكية؛ ونبين ثالثاً الملامح الرئيسية لإطار اتفاقيات التجارة الحرة الثنائية الأمريكية؛ ونناقش رابعاً الآثار المتوقعة لاتفاقيات التجارة الحرة الثنائية مع الولايات المتحدة الأمريكية في اقتصادات دول مجلس التعاون؛ وننهي الفصل بملاحظات ختامية حول كيفية التخطيط للاستفادة القصوى من هذه الاتفاقيات.
أهداف الاتفاقيات الثنائية
"يتبع"
المفضلات