يمكن القول بحق إن بن بيرنانكي، أحد أفضل خبراء السياسة النقدية في جيله، يعيش هذه الأيام أهم فترة في حياته، فقد تدرج من قمة العمل الأكاديمي إلى قمة العمل المصرفي بعد ترشيحه لرئاسة مجلس الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي) خلفا لـ''آلان جرينسبان 79 عاما'' المقرر أن يتنحى عن منصبه يوم 31 يناير المقبل بعدما كاد أن يحقق رقماً قياسياً بالبقاء في منصبه لمدة تزيد على 18 عاماً تعاون خلالها مع خمسة رؤساء اميركيين·
يوصف رئيس البنك المركزي الأميركي بأنه ثاني أقوى رجل في واشنطن بعد الرئيس، فهو يسيطر على الآليات التي تحكم تحرك تريليونات الدولارات وما يستتبعها من تراجع أو انخفاض في أسعار الأصول بمختلف أنواعها، ويستطيع بكلمة واحدة -سواء كانت قصداً أو عمداً - أن يغير مسيرة الاقتصاد الأميركي بل والعالمي كله· أي أننا نتحدث عن رجل يمكن أن يؤدي أي خطأ يرتكبه إلى كارثة دولية·
وبالفعل فإن هذه المؤسسة الخطيرة تتحمل مسؤولية اثنتين من كوارث الاقتصاد الكلي في القرن العشرين، أي الكساد الكبير في الثلاثينات والتضخم الكبير في السبعينات· ولذا لم يكن مستغربا أن تتوقف أنفاس العالم عندما أعلن الرئيس الأميركي جورج بوش عن ترشيح بيرنانكي (51 عاما) لرئاسة البنك المركزي·
صحيح أن بيرنانكي يستحق التهنئة لترشيحه لهذا المنصب لكن البعض يشفقون عليه بسبب ما ينتظره من تحديات هائلة بدأت ملامحها تتضح منذ لحظة ترشيحه لخلافة جرينسبان الذي يوصف عهده بأنه العصر الذهبي للتوسع الاقتصادي الاميركي· كيف سيتعامل بيرنانكي مع التضخم؟ وكيف يستطيع وقف عجز الميزانية التي يرى البعض أنها مؤشر على ضعف أقوى اقتصاد في العالم؟· وهناك من يرى أن أبرز مساوئ هذا المنصب انه سيتعين على بيرنانكي الإدلاء بشهادته بصبر وأناة أمام الكونجرس عدة مرات سنوياً لمناقشة أعضاء يرى البعض ان: ''ربات المنازل يفهمن أكثر منهم في شؤون الاقتصاد''·
يؤكد روبرت روبن وزير الخزانة الأميركي السابق أن بيرنانكي يواجه عدة عقبات يتعين في البداية أن يجتازها ''حتى قبل أن يبدأ العمل خاصة وانه سيخلف رجلاً شهد له الجميع بالكفاءة''· صحيح أن هناك نماذج ناجحة لاقتصاديين أكاديميين تحولوا إلى واضعي سياسات اقتصادية ناجحين مثل ميرفين كينج، رئيس بنك انجلترا لكن على الرئيس الجديد أن يظهر قدرة كبيرة على قراءة البيانات الاقتصادية ووعياً قوياً بأوضاع الاقتصاد الكلي والتزاماً عميقاً بسياسات الاقتصاد الكلي وأيضا حصافة بنفسية الأسواق وقطاع الأعمال وإحساساً بالتيارات السياسية في واشنطن وتوجهات مجتمع السياسات المالية على الصعيد الدولي·· فمن الصعب للغاية أن نجد شخصاً تتوافر فيه كل هذه الصفات·
خبرة الاسواق
؟ وهنا تظهر اولى التحديات التي تنتظر بيرنانكي وهي انه يفتقر خبرات جرينسبان خاصة في الأسواق المالية، ومن غير المتوقع أن يظهر قدرة كبيرة على استخلاص معلومات من البيانات المجردة، ولذا سيتعين على بيرنانكي أن يعتمد أكثر على قدرات ومهارات الآخرين في استقراء أوضاع أسواق المال أي انه سيكون عليه تحويل عمليات وقرارات البنك إلى مفهوم الفريق الواحد·
وكان جرينسبان يشتهر بأنه يراقب طائفة واسعة من المؤشرات قبل أن يصدر قراراته·· كل المؤشرات بداية من أسعار الذهب إلى المعروض النقدي إلى مؤشرات التضخم وصولاً إلى أسعار الحديد الخردة· ولا يعرف احد إن كان بيرنانكي يمتلك نفس هذه القدرات· ورغم أن استراتيجية جرينسبان كانت ناجحة فإنها لم تكن خالية تماما من العيوب والقصور· وكان جرينسبان يوصف بأنه المعلم الاقتصادي للولايات المتحدة ولعب دوراً بناءً ومعلماً للشعب في مزايا تنويع المحافظ الاستثمارية وكيفية تفادي المخاطر المالية وما إلى ذلك وصولاً إلى فوائد تقليص الضرائب على المكاسب الرأسمالية· ولذا فسيصغي الجميع السمع لبيرنانكي عندما يتحدث عن أي شيء·
بالطبع لا أحد يجادل في أن بيرنانكي من أفضل خبراء السياسة النقدية في العالم حالياً وكان المرشح المفضل لكثير من المراقبين، ويبدو خياراً مثالياً للمنصب، فخلال وجوده في البنك المركزي ومشاركته في أعمال ''لجنة السوق الاتحادية الحرة'' أظهر بيرنانكي قدرة فائقة على محاورة جرينبسان ''نداً لند'' في المسائل المالية الحيوية· ومع ذلك فإنه ليس بالرجل الكامل، فقد أمضى الجانب الأكبر من حياته في النواحي الأكاديمية ولذا فهو يفتقر للخبرة المطلوبة من التعامل بشكل يومي مع أسواق المال، خلافاً لما كان عليه جرينسبان الذي وصفه البعض بأنه مولود في أسواق المال· ومثل هذه الخبرة تكون حاسمة لمن يجلس على كرسي الرئاسة في أهم بنك مركزي في العالم· ويتحدث آلان ميلتزر، المؤرخ المتخصص في البنك المركزي الاميركي عن هذه المقارنة قائلا :''بيرنانكي اقتصادي نقدي خبير للغاية لكنه يفتقر الخبرة السياسية والعملية التي نالها جرينسبان· من الظلم أن نعقد مقارنة حالية بين الاثنين بل أن نقارن بيرنانكي حاليا بما كان عليه جرينسبان قبل 18 عاماً''·
الاستقلالية السياسية
؟ ثانيا: يتعين على بيرنانكي أن يظهر استقلاليته السياسية عن الإدارة الاميركية والحزب الجمهوري، وهو ما يتطلب منه في بعض الأحيان مخالفة الرجل الذي عينه في منصبه الحالي، فهو رئيس البنك المركزي للشعب الاميركي كله· وبالفعل فإن بيرنانكي يتمتع بسمعة طيبة بين الجمهوريين والديمقراطيين على حد سواء بحيث لا يمكن وصف اختياره بأنه قرار سياسي صرف· ومن الأخطاء القليلة التي ارتكبها جرينسبان التأييد الذي قدمه لتخفيضات الضرائب التي أقرها بوش، إذ لا يتعين لمن يجلس في هذا المنصب أن يخرج عن دائرة اختصاصاته، فرئيس البنك يستطيع أن يتحدث كيفما يشاء عن السياسات النقدية القوية لكنه يخرج عن الحدود المقبولة عندما يتطرق إلى الضرائب والإنفاق· والخوف أن بيرنانكي الذي عمل مع بوش في البيت الأبيض قد لا يستطيع أن يقول له : لا مثلما كان يفعل جرينسبان·
الشفافية
؟ ثالثا: جعل البنك المركزي أكثر شفافية وان يتحرك وفق معايير مؤسساتية لا بأسلوب التجربة، هي خطوة ترحب بها كل الأسواق لأن أي خطوة واحدة في الاتجاه الخاطئ ربما تكون كافية لتوجية ضربة عنيفة لأي اقتصاد ناهيك عن أقوى اقتصاد في العالم· وسيتعين علي بيرنانكي أن يجعل سياسات أسعار الفائدة الاميركية أكثر شفافية· وربما يساعد بيرنانكي على ذلك نقطة الاختلاف الرئيسية بينه وبين وجرينسبان وهي وضع هدف محدد للتضخم وتحريك أسعار الفائدة للدفاع عنه، وتوجيه البنك نحو نظام المملكة المتحدة الذي يحدد هدفاً رسمياً للتضخم بخلاف ما كان عليه الحال في عهد جرينسبان· فرغم أن جرينسبان نجح في كبح التضخم، فإن السمة الأساسية لعهده كانت صعوبة تحديد كيف يعمل اكبر بنك مركزي في العالم لأنه ليس لدينا فهم واضح بما فيه الكفاية عن خططه· فقد ظل جرينسبان
(79 عاما) طيلة فترة توليه الرئاسة التي امتدت 18 عاماً يرفض وضع هدف نقدي على أساس أن العلاقة بين الأموال والإنفاق توقفت في الثمانينات وأوائل التسعينات، وكان يكتفي باستقراء أوضاع الاقتصاد لتحديد مستويات التضخم وأسعار الفائدة المطلوبة· ورفض جرينسبان بشدة وضع أهداف للتضخم على أساس أنها قيود·
وللمفارقة فإن سياسة جرينسبان أبقت مستويات التضخم في أميركا منخفضة مثل الدول التي حددت أهدافاً رسمية· وتفيد إحصائيات صندوق النقد الدولي أن متوسط التضخم في أميركا خلال الفترة بين عامي 1997 و2006 كان مقارباً لمعدله في الدول التي فرضت أهدافاً رسمية حيث بلغ 2 %·
وتكتسب مسألة التضخم أهمية خاصة حالياً بسبب المخاوف من ارتفاع أسعار النفط العالمية· وطالب بيرنانكي في الفترة السابقة باستهداف معدل تضخم يتراوح بين 1 و2 %، مع عدم حرمان البنك المركزي من حقه في اتخاذ قرارات سريعة أو التحرك بمرونة في وقت الأزمات مثلا· وتظهر مواقف بيرنانكي المؤيدة لاستهداف معدلات للتضخم في محاضراته وكتبه حيث يرى أن هذا الاستهداف يساعد على ''توجيه السياسة'' ويشجع البنك المركزي على التركيز على تحقيق أهدافه طويلة المدى بإبقاء الأسعار ثابتة·
لكن بيرنانكي قد يجد صعوبة في تنفيذ توجهاته بسبب تبني بعض زملائه في مجلس إدارة البنك المركزي لأسلوب جرينسبان، وفي مقدمتهم دونالد كون، الذي كان مرشحا لرئاسة البنك المركزي· وكان كون قال في محاضرة التضخم عام 2003 ''اعتقد أن الولايات المتحدة اتبعت سياسة نقدية ناجحة جدا على مدى العقدين الماضيين· حققنا استقراراً في الأسعار وتوقعات التضخم منخفضة ومستقرة·''
ولذا فإن التباين بين الاقتصاديين تجاه الفكرة يجعل من غير المحتمل وضع معدل مستهدف للتضخم سريعا، لكن المؤكد أن الفكرة ستخضع لمناقشات حامية خلال عهد بيرنانكي· ويقول ادوارد جرامليش المحافظ السابق في البنك المركزي ''وجهات نظر بيرنانكي إزاء استهداف التضخم مثيرة للجدل إلى حد ما لكن بيرنانكي مرن جدا ومن غير المحتمل أن يفرض وجهات نظره على زملائه الذين يرفضون الفكرة بقوة''·
فقاعة العقارات
؟ رابعاً: التعامل مع فقاعة ''أسعار العقارات'': كان صندوق النقد قد حذر أميركا من مخاطر ''النمو غير الطبيعي'' في قطاعات تتقدمها سوق العقارات، وطالب بالإسراع بوضع سياسات حكيمة لإدارة هذه القطاعات لان أي هزة وتحديداً في سوق العقارات ستكون أعنف بكثير مما حدث نتيجة إعصار كاترينا· ويعتقد الصندوق أن المشكلة الحقيقية التي تواجه الاقتصاد الاميركي تكمن في سوق العقارات، فمنذ أواخر التسعينات وأميركا تشهد ارتفاعاً سريعاً ولكن بدرجات مختلفة من ولاية لأخرى· وتفيد إحصائيات الصندوق أن 18 ولاية تقدم أكثر من 40 % من إجمالي الناتج المحلي تشهد انتعاشاً لا سابق له في أسعار العقارات ومن ثم فإن الاقتصاد بوجه عام يشهد قفزة في هذا القطاع لأول مرة منذ عام ·1970 وتسببت هذه القفزة في ارتفاع قروض الرهن العقاري من 3 % من إجمالي الناتج المحلي عام 2000 إلى حوالي 8 % في أوائل ·2005 ويكشف هذا الارتفاع عدة عناصر أساسية للاقتصاد منها ارتفاع الأجور والثروات، وانخفاض معدلات الفائدة بحيث يجد الناس أن شراء منزل جديد أفضل من وضع المال في البنوك· ورغم أن القفزات في أسعار العقارات ليست بالضرورة تنتهي بكارثة فإن هناك هواجس من أن السوق يستعد لحركة تصحيحية لأي سبب مثل رفع أسعار الفائدة· وفي حين تخشى الأسواق من هذه الطفرة، فان بيرنانكي لم يبد قلقاً كبيراً خلال إفادته أمام الكونجرس قبل أيام حيث قال: ''من غير المحتمل أن تستمر أسعار المنازل في الارتفاع بمعدلاتها الحالية''·
ازمة العجز
؟ خامساً: التعامل مع أزمة العجز في الميزانية: ساهمت قوة الاقتصاد الاميركي ومتانة أسواق رؤوس الأموال ودور الدولار بوصفه عملة المخزون الاحتياطي الدولي الأولى، في ظهور عجوزات اميركية بمستويات غير مسبوقة، وتجاوز العجز حاجز 400 مليار دولار العام الماضي مسجلاً رقماً قياسياً· ويرى بعض الاقتصاديين وفي مقدمتهم تيد ترومان، العضو السابق في مجلس إدارة البنك المركزي الاميركي انه يتعين على البنك أن يرفع أسعار الفائدة بشكل كبير قائلين إن مثل هذه الخطوة ستقلل نمو الطلب المحلي وتساعد على إعادة عجز الميزانية إلى مستويات مقبولة· ومن جانبه فإن بيرنانكي تحدث في وقت سابق هذا العام عن دور محدود يمكن أن يلعبه المجلس لمواجهة هذا العجز قائلا: يشهد الاقتصاد الدولي حالياً ما يمكن وصفه بأنه ''موجة ادخار عالمية'' أصبحت الدول الفقيرة بمقتضاها أقل إقبالا على الاستثمار ومن ثم تراجعت تدفقات رؤوس الأموال من الدول الغنية وبدأ يظهر تيار جديد تزداد في إطاره الأموال التي تتوجه من الدول الفقيرة إلى الغنية بهدف الادخار، وهو ما يؤثر سلبا على أرقام الميزانية والعجز· ويعتقد بيرنانكي أن مواجهة هذا العجز يتطلب بشكل أساسي تشجيع الاستثمار في الأسواق الناشئة لكي تستأنف رؤوس الأموال تدفقاتها من الدول الغنية إلى الفقيرة والنامية·
اسعار الفائدة
؟ سادسا: يتمثل التحدي السادس في أسعار الفائدة وما إذا كان سيقرر بيرنانكي المضي قدماً في حملة رفع أسعار الفائدة التي انتهجها جرينسبان· فمنذ يونيو 2004 والبنك المركزي الاميركي يرفع أسعار الفائدة في كل اجتماع من الاجتماعات الإحدى عشر للجنة رسم السياسات بمعدل ربع نقطة مئوية، لترتفع الفائدة من 1 % الى 3,75%· وتتوقع الأسواق أن يؤدي الاستمرار في هذه الحملة إلى وصول أسعار الفائدة إلى مستوى 4,5 % في فبراير المقبل، أي عندما يتولى بيرنانكي منصبه رسميا· ويرى المحللون أن 4,5 % يقترب من ''المستوى المتعادل'' الذي لا يحفز النمو ولا يعرقله في الوقت نفسه· وعندها سيكون على بيرنانكي أن يقرر ما إذا كان يتوقف ويخاطر بظهور تضخم أم يمضي قدماً في سياسة رفع الأسعار ويخاطر بضعف النمو!
ربما تكون الظروف آنذاك مناسبة لكي يكون الخيار واضحاً، لكن القرار سيكون صعبا للغاية إذا كانت البيانات متضاربة أو متقاربة· ويراهن مراقبون على أن بيرنانكي سيميل على الأرجح لرفع أسعار الفائدة لتأكيد استقلاليته السياسية وصورته كمحارب ضد التضخم وذلك خلال أول اجتماع يرأسه للبنك المركزي يوم 28 مارس المقبل·
سياسة الاقناع
؟ سابعاً: يتمثل أحد جوانب التحديات الضخمة التي تنتظر بيرنانكي في إقناع زملائه في لجنة سوق ''الاتحادية المفتوحة'' التي تقرر أسعار الفائدة بآرائه· وتتألف اللجنة من رؤساء البنوك المركزية الإقليمية إضافة إلى سبعة محافظين بالبنك في واشنطن (مجلس الإدارة)· ونادراً ما ظهرت خلافات خلال الأعوام الماضية بين أعضاء اللجنة وذلك لأسباب تتعلق أساساً بالاتفاق على اتجاه السياسة العامة وشخصية جرينسبان الكاريزمية· ويقول العالمون ببواطن الأمور إن جرينسبان كان يحرص على إشعار كل زملائه بأنه يهتم بآرائهم وكان لا يتردد في تغيير بيانات الاجتماعات للوصول إلى أي توافق أو إجماع مطلوب· ويشير البعض إلى أسلوب اتسم به عهد جرينسبان وهو انه كان يعمل على دفع زملائه للاقتناع بوجهة نظره من خلال عرض آرائه وتوصياته أولا وقبل الجميع· والأمر ليس سهلاً خاصة مع وجود دونالد كون وروجر فيرجسون، نائبي الرئيس المعروفين بآرائهما القوية والصريحة، ما قد يجعل بيرنانكي يواجه صراع قوة لكن المقربين من بيرنانكي وكون وفيرجسون يستبعدون حدوث مثل هذا الصراع، ويستدلون بذلك بأنه عندما كان بيرنانكي محافظاً بالبنك المركزي من 2002 إلى يونيو الماضي، كان الثلاثة على وفاق تجاه المسائل الرئيسية·