تواصل اسعار النفط العالمية الارتفاع بقوة لتقترب من الأرقام القياسية التي سجلتها في العام 1979 إذا أخذنا في الاعتبار عامل القوة الشرائية، إلا أن أزمة النفط الأخيرة هذه تبدو أخف وطأة بكثير من سابقاتها.

ولاحظنا على مدى الأعوام القليلة الماضية استقرار التوقعات الخاصة بأسعار البترول عند مستوى لا يتجاوز 25 دولاراً للبرميل منذ العام 2000 وحتى نهاية العام 2004 عندما تجاوزت الأسعار الفعلية مستوى 50 دولاراً للبرميل، غير أن الفجوة بين التوقعات والاسعار الفعلية أخذت في التراجع في الآونة الأخيرة.

ومن المهم هنا أن نتساءل عن العوامل الفعلية وراء الارتفاع الأخير في الاسعار وان كانت تقتصر بالفعل على الأسباب التي اعتدنا الحديث عنها من ارتفاع الطلب في آسيا وخاصة من قبل الاقتصاد الصيني والقصور المؤقت في أداء معامل تكرير النفط والأعاصير الموسمية المعتادة.

ويمكن القول إن هناك ثلاثة جوانب رئيسية تستوجب الاهتمام في ما يخص واقع ومستقبل اسعار البترول، وتتمثل هذه الجوانب في أسباب ارتفاع الاسعار ومستقبل الإنتاج وموارد النفط وأخيراً تأثير هذا الارتفاع المستمر في الاسعار في الاقتصاد العالمي.

ويرجع الخبراء الارتفاع الحاد الأخير في سعر الذهب الاسود على عوامل جيوسياسية وقضايا التغير المناخي، وهم يرون أن الارتفاع المستمر في اسعار النفط يمكن أن يسهم في واقع الامر في الحد من الاعتماد على البترول على المدى الطويل.

لكن التحدي الاقتصادي الذي يواجهنا في الوقت الحاضر ويتطلب سرعة المعالجة يتمثل في الطلب العالمي على البترول والذي يواصل النمو منذ العام 2003 بمعدل يصل الى ما يزيد على ضعف خطى النمو على مدى العقد السابق، وكما نعلم فإن القسط الاكبر من هذا الطلب الاضافي يتركز في الصين والهند، فالدولتان استحوذتا على نحو 35% من حجم الاستهلاك الاضافي للنفط الخام، على الرغم من ان حصتهما من إجمالي الناتج العالمي لا تتجاوز 15%.

ويتوقع المحللون ان يواصل استهلاك النفط النمو في الصين والهند وغيرهما من الدول النامية مع استمرار دخل الفرد في النمو وفي ظل التحول الكبير في أنماط الاستهلاك، وتشير التقديرات الحديثة الى امكانية نمو الطلب العالمي على النفط الخام ليرتفع بمعدل 50% تقريباً بحلول 2020.

وعلى الرغم من أن البيانات الحديثة تشير الى تراجع نسبي في الطلب على البترول الخام في الصين في الآونة الأخيرة إلا أن التوجه العام يؤكد استمرار ارتفاع الطلب العالمي على النفط على المدى المتوسط.

وتكمن المشكلة الرئيسية في تزايد المخاوف الخاصة بالعرض، ويصل حجم النفط الذي يتم توزيعه يومياً الى ما يتراوح بين 83 و84 مليون برميل في اليوم، ولا تتجاوز طاقة الانتاج الاحتياطية في الوقت الحاضر بضعة مئات الآلاف من البراميل، غير أن هذه الظروف ليست بالجديدة فالعالم اعتاد على محدودية العرض مقابل النمو المستمر في الطلب على النفط الخام، لكن المخاوف الجديدة ترجع الى القلق حيال امكانية “نضوب النفط”.

ويتوقع البعض ان يصل انتاج النفط العالمي الى أقصى مستوياته خلال الفترة من الآن وحتى العام 2008 في حين يتكهن البعض بأن تتحقق مخاوف نضوب النفط في الفترة ما بين العامين 2010 و2020 لكن غالبية خبراء القطاع يتفقون على أن الانتاج سيصل الى درجته القصوى في وقت ما خلال العقد المقبل أو نحوه.

وهناك عدد من الأسباب التي أدت الى تنامي المخاوف العالمية حيال نضوب النفط في الوقت الحاضر ومن ضمنها التحسن الكبير في التقنيات المستخدمة في جمع البيانات الجيولوجية وتحليلها، اضافة الى قلة الاحتياطات الجديدة التي تم اكتشافها من خلال عمليات التنقيب ما أدى الى تزايد المخاوف حيال مستقبل الاستكشافات الجديدة خاصة أن أغلب النفط المستغل في العالم يأتي من حقول رئيسية باتت أقل قدرة على الإنتاج.

وبالرغم من أنني لا أتفق في الرأي مع من يؤكد أننا على وشك مواجهة نضوب كامل في مواد البترول الخام، إلا أنني اعتقد أن العالم سيواجه في المرحلة المقبلة مشكلة في رفع الانتاج الى مستويات تفي بحجم الطلب العالمي المتنامي على البترول الخام على المدى المتوسط.

أما بالنسبة للجانب الثالث والمتعلق بانعكاسات الارتفاع المستمر في اسعار النفط على أداء الاقتصاد العالمي فمن الملاحظ ان ارتفاع الاسعار لم تكن له الى اليوم انعكاسات حادة على نمو الاقتصاد العالمي ويرجع ذلك لثلاثة أسباب رئيسية، فأسعار البترول المرتفعة تعكس في واقع الأمر قوة الطلب العالمي، وخاصة من قبل الولايات المتحدة والصين، كما أن دول العالم المتقدمة تستهلك اليوم أقل من نصف النفط اللازم لكل وحدة من الناتج المحلي مقارنة بما كانت تحتاج في السبعينات.

وأخيراً اسهم ارتفاع عائدات البترول في حفز أنشطة الاستثمار في المزيد من المشاريع الإنتاجية التي أسهمت في إنعاش الاقتصاد، وتشير التقديرات الى نمو واردات الدول المنتجة للنفط بنحو 32% العام 4002 وبنحو 22% اضافية في الربع الاول من العام الجاري. وبالاضافة الى ذلك، فقد سعت الدول التي لديها فوائض ضخمة في ميزان المدفوعات لاستثمار أموالها في الأسواق العالمية وبخاصة في الولايات المتحدة وأسواق الرساميل العالمية وساعد ذلك على تعزيز إمكانية الحفاظ على معدلات فائدة منخفضة على المدى الطويل.

لكن هذا لا يمنع أن الوضع مازال يدعو إلى القلق، فارتفاع أسعار البترول العالمية أدى إلى ارتفاع الانفاق في الولايات المتحدة الى ما يزيد على 2،7% من إجمالي الناتج المحلي على مدى العامين الماضيين.

وازدادت الأعباء المالية لتثقل ايضاً كاهل القارة الافريقية التي تعتمد بدورها على واردات النفط، حيث نما الانفاق في افريقيا ليصل على مدى السنتين الماضيتين إلى 2،3 % من إجمالي الناتج المحلي أو ما يعادل 32 مليار دولار.وعلى افتراض ان قرارات الاعفاء من الدين الأخيرة التي اتخذتها دول مجموعة الثماني الصناعية المتقدمة سوف توفر لدول افريقيا المثقلة بأعباء لا تحصى قرابة 1،5 مليار دولار سنوياً، لكن لا يتوقع أن يسهم ذلك كثيراً في تخفيف الأعباء الحالية عن كاهل هذه الدول.

وبالاضافة الى ذلك زاد ارتفاع اسعر البترول تكاليف استيراد النفط بالنسبة لليابان ودول اوروبا وآسيا وأمريكا اللاتينية بما يتراوح بين 1،7 و2% من إجمالي الناتج المحلي.

صحيح ان عوامل عدة ساعدت على تخفيف وطأة الآثار المحتمة لهذا الارتفاع في الاسعار، إلا أن هناك مخاوف متزايدة حيال ما يمكن أن يحمله المستقبل للاقتصاد العالمي في حال حافظت الاسعار على ارتفاعها على المدى المتوسط.

ويمكن القول ان استمرار الاسعار فوق 60 دولاراً للبرميل لعام آخر من الممكن أن يؤدي إلى تراجع اجمالي الناتج المحلي بمعدل يتراوح بين 1 و2% في كوريا الجنوبية وتايوان وتركيا وجنوب افريقيا وبنحو 1% في الصين وغالبية دول أوروبا واليابان والولايات المتحدة.

وبالاضافة الى ذلك ستؤدي الضغوط المتنامية على أوضاع الحسابات الجارية المتدهورة أساساً في الولايات المتحدة الى ارتفاع العجز بنحو 1% من اجمالي الناتج المحلي. وبالطبع سيكون الأثر محدوداً على الدول التي تتمتع بفوائض في حساباتها الجارية مثل أوروبا واليابان والصين.

وبحسب التقديرات الحديثة ينتظر ان تصل التحويلات الإجمالية الصافية من مستهلكي النفط الى الدول المنتجة الى 1،5 مليار دولار بحلول العام ،2007 ويعادل هذا الرقم 3،5% من اجمالي الناتج المحلي العالمي. وغني عن القول ان من شأن ذلك أن يؤدي إلى تفاقم التعقيدات على الصعيدين الاقتصادي والسياسي.

ووسط كل هذا، كان من الطبيعي أن يزداد القلق حيال “نضوب النفط” وان تتنامى المخاوف من امكانية استدامة الارتفاع الأخير في سعر البترول، فهناك من يرى ان الارتفاع الأخير في الاسعار لا يعكس في واقع الامر النمو الكبير في الطلب على النفط الخام من قبل الصين والولايات المتحدة بقدر ما يعكس الاختلال الكبير بين العرض والطلب، والاختلال الذي من شأنه أن يبقي اسعار البترول على ارتفاعها ولأجل طويل.

ومن هذا المنطلق يمكن القول ان الاقتصاد العالمي بصدد مواجهة أزمة نفطية لا يستهان بها ما لم تتدارك الدول المنتجة الموقف وتبادر إلى رفع الإنتاج بما يسهم في سد الطلب المتنامي.



* الكاتب كبير خبراء الاقتصاد لدى بنك “يو.بي.اس” الاستثماري

والمقال نشرته صحيفة “فاينانشيال تايمز