منتديات أعمال الخليج
منتديات أعمال الخليج

النتائج 1 إلى 10 من 10

الموضوع: العولمـــة ظاهــرة قديمــة تختفي ثم تعــود بأشـكال أخـرى

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    6-Jun-2002
    الدولة
    موزمبيق
    المشاركات
    88

    العولمـــة ظاهــرة قديمــة تختفي ثم تعــود بأشـكال أخـرى

    كتاب لـ جون ميكل ثوايت وأدريان وولدريج تنشره "الشرق الأوسط" على حلقات

    هذا الكتاب هو أول تفحص شامل لأهم انقلاب في عصرنا: العولمة، ودراسة في الأسلوب الذي سيواصل به هذا الانقلاب تغيير حياتنا.

    وقد فاز المؤلفان جون ميكل ثوايت وأدريان وولدريج (وهما مراسلا مجلة "الإيكونوميست" اللندنية)، بجائزة صحيفة "فاينانشيال تايمز" ومؤسسة يوز آلين هاملتون جلوبال بزنس لأحسن كتاب في قضايا الاستراتيجية والقيادة، عن مؤلفهما السابق الموسوم "The Witch Doctors".
    ويعمل المؤلفان في كتابهما الجديد "المستقبل التام.. أساسيات العولمة"، على توسيع حقل الرؤية، ابتغاء تحليل واستجلاء وكشف القوى الكونية (المعولمة) التي تعيد صياغة عالمنا. ويسهب المؤلفان في تفصيل طبيعة التحدي الذي تمثله العولمة، وطبيعة الوعد الذي تنطوي عليه للأفراد والأعمال والحكومات. ينطلق البحث، هنا، من أسئلة جوهرية:

    هل تنتفع الأعمال من الدخول في العولمة؟ وهل نحن بصدد خلق مجتمعات ينفرد فيها الفائز بكل المكاسب؟ وهل ستوطد العولمة انتصار الثقافة الدونية؟ وأي مصير ينتظر مستقبل الأفراد؟
    يجمع المؤلفان القرائن والتفاصيل من زوايا المعمورة كلها، من أحياء الصفيح في سان باولو إلى صالات شركة جنرال إلكتريك، ومن الحدود الروسية ـ الإستونية المتوترة، إلى ازدهار صناعة الجنس في سان فيرناندو فالي. وفي هذا استجواب في ثنايا العولمة، يقدم لنا المؤلفان التكنوقراطي الكوني أعضاء نخب رجال الأعمال والمعلومات، وطبقة الدبلوماسيين، الذين ينشئون بنشاطهم النظام العالمي الجديد. ويشخص المؤلفان القاطرات الثلاث للعولمة، ويصفان سبل إدارة الأعمال وتسيير دفة الحكم في حقبة العولمة الجامحة.

    وهنا، كما في كتابهما السابق، لا يدّخر المؤلفان جهدا في تفتيت الأوهام والأساطير، والأحكام المسبقة، فارزين بذلك قشرة الآمال الزائفة عن لبّ الحقائق الناشئة. والكتاب، علاوة على ذلك، تجوال علمي في الاقتصاد الكوني، وتقييم مذهل لتبعاته ونتائجه المحتملة، بعيداً عن أي تفاؤل رومانسي، أو تشاؤم سوداوي.



    في عام 1914كان بمقدور ساكن لندن أن يطلب وهو يرتشف شاي الصباح في سريره كل منتجات الأرض

    الرساميل تنتقل اليوم في رحاب العالم بيسر كبير

    يبدو السياح الأميركيون فرحين بركوب قطار اليوروستار من لندن إلى باريس، بقدر فرح كينز بركوب القطارات في إيطاليا

    في الثلاثينات سعى ماركس إلى إحلال العولمة الشيوعية محل العولمة الرأسمالية


    هذا الكتاب هو أول تفحص شامل لأهم انقلاب في عصرنا: العولمة، ودراسة في الأسلوب الذي سيواصل به هذا الانقلاب تغيير حياتنا.

    وقد فاز المؤلفان جون ميكل ثوايت وأدريان وولدريج (وهما مراسلا مجلة "الإيكونوميست" اللندنية)، بجائزة صحيفة "فاينانشيال تايمز" ومؤسسة يوز آلين هاملتون جلوبال بزنس لأحسن كتاب في قضايا الاستراتيجية والقيادة، عن مؤلفهما السابق الموسوم "The Witch Doctors".

    ويعمل المؤلفان في كتابهما الجديد "المستقبل التام.. أساسيات العولمة"، على توسيع حقل الرؤية، ابتغاء تحليل واستجلاء وكشف القوى الكونية (المعولمة) التي تعيد صياغة عالمنا. ويسهب المؤلفان في تفصيل طبيعة التحدي الذي تمثله العولمة، وطبيعة الوعد الذي تنطوي عليه للأفراد والأعمال والحكومات.
    ينطلق البحث، هنا، من أسئلة جوهرية:

    هل تنتفع الأعمال من الدخول في العولمة؟ وهل نحن بصدد خلق مجتمعات ينفرد فيها الفائز بكل المكاسب؟ وهل ستوطد العولمة انتصار الثقافة الدونية؟ وأي مصير ينتظر مستقبل الأفراد؟
    يجمع المؤلفان القرائن والتفاصيل من زوايا المعمورة كلها، من أحياء الصفيح في سان باولو إلى صالات شركة جنرال إلكتريك، ومن الحدود الروسية ـ الإستونية المتوترة، إلى ازدهار صناعة الجنس في سان فيرناندو فالي.
    وفي هذا استجواب في ثنايا العولمة، يقدم لنا المؤلفان التكنوقراطي الكوني أعضاء نخب رجال الأعمال والمعلومات، وطبقة الدبلوماسيين، الذين ينشئون بنشاطهم النظام العالمي الجديد.

    ويشخص المؤلفان القاطرات الثلاث للعولمة، ويصفان سبل إدارة الأعمال وتسيير دفة الحكم في حقبة العولمة الجامحة.

    وهنا، كما في كتابهما السابق، لا يدّخر المؤلفان جهدا في تفتيت الأوهام والأساطير، والأحكام المسبقة، فارزين بذلك قشرة الآمال الزائفة عن لبّ الحقائق الناشئة.
    والكتاب، علاوة على ذلك، تجوال علمي في الاقتصاد الكوني، وتقييم مذهل لتبعاته ونتائجه المحتملة، بعيداً عن أي تفاؤل رومانسي، أو تشاؤم سوداوي.


    الجــــزء الأول

    عودة إلى عالم بلا حدود

    الفصــــل الأول

    سقوط العولمة ونهوضها

    في مارس (آذار) من عام 1906، قام شاب إنجليزي، قُدّر له أن يغدو واحداً من عمالقة القرن العشرين، بأول عطلة له خارج بلاده، من دون أن يثنيه عن ذلك والداه. أمضى الشاب جلّ عطلته في إيطاليا، التي امتدح أطباق طعامها، لكنه اعتبر شبابها "مثيرين للاشمئزاز جسدياً"، ولعله كان في قوله هذا مرائياً. وعلى أيّ حال، كانت الرحلة، في نظر المسافر الشاب، تجلياً لمسرّات العولمة. فلم يكن بحاجة إلى جواز سفر لزيارة البلدان الأجنبية، أما ليراته الذهبية فكانت قابلة للتحويل، بصورة شاملة، إلى كل العملات المحلية بأسعار صرف ثابتة. وجد الرجل أن رباط العالم قد توثق بفضل سكك الحديد والسفن البخارية، وأن بمقدوره النزول في فنادق مريحة أينما عنّ له البقاء، واستخدام مكاتب البريد حيثما أراد أن يبعث رسالة إلى الوطن.

    في ذلك الوقت كان الموقع الذي تحتله بريطانيا في العالم يوازي الموقع الذي تحتله الولايات المتحدة اليوم، فهي عملاق اقتصادي، ومارد عسكري، ومرجع ثقافي. فالسلع البريطانية تغزو أسواق العالم. والنقود البريطانية تغذي الأعمال في أرجاء العالم. والجبروت الاقتصادي البريطاني يحمي طرق التجارة العالمية. وكانت الثقافة البريطانية تبلغ مبلغاً من القوة بحيث أن الأجانب باتوا يمارسون أكثر الألعاب الرياضية خصوصية، الكريكت. وتقبّل العالم، بمعظمه، انجيل التجارة الحرة والعولمة البريطاني.
    وما كان هناك مدافع عن هذا المذهب أشد من المسافر الشاب، جون مينارد كينز، أحد ألمع الأفراد في ألمع جيل في التاريخ البريطاني. فاز كينز، وهو ابن مدير جامعي بارز، بزمالة للدراسة في جامعة ايتون أولاً، ثم كلية كينجز في كامبردج. وسعى، بشيء من التسرع، إلى الفوز بزمالة كلية كينجز عقب تخرجه، فقيل له أن ينتظر.

    وعلى حين أن كينز كان ابن المؤسسة، إلا أنه لم يكن قطعا من صنعها. فقد كان مثالياً في عصر لم تكن فيه هذه الخصلة موضع الرضا على الدوام، وكان ينتمي إلى جيل، أو بالأحرى إلى زمرة من زمر هذا الجيل، ونعني بها جماعة بلومزبري، متمرد تمرداً صريحاً بهذا القدر أو ذاك على يقينيات الحضارة الفكتورية. ويقول كاتب سيرة كينز، روبرت سكيدلسكي، عنه إنه أمضى فترة مع الرسام دنكان جرانت في باريس، وهو في طريقه إلى إيطاليا، كما أمضى فترة مع ليتون ستراتشي في جنوا، حيث أمضى الرجلان الساعات، حسب تعبير كينز، وهما "يأكلان البيض المخفوق المقلي، ويناقشان موضوع الأخلاق والشذوذ" (1).

    بعد ذلك وضع ستراتشي كتابه "فيكتوريون بارزون"، الذي وجّه ضربة ماحقة للنزعة الفيكتورية.
    ولكم أن تتخيلوا أن كينز تمرد على الاقتصاد الفيكتوري تمرده على الأخلاق الفيكتورية. كانت حماسته للتجارة الحرة في تلك الفترة مطلقة، فمنذ أيام دراسته الجامعية، هاجم نزعة الحماية الجمركية خلال النقاشات الطلابية. وكتب إلى صديقه يقول "إنني أبغض كل القساوسة ودعاة الحماية الجمركية"، وأثنى على "التجارة الحرة والفكر الحر". الواقع أن قضية التجارة الحرة، كما يعتقد، هي القضية السياسية الوحيدة التي حفزت الشاب كينز. وكتب راعداً "ينبغي أن نتمسك بالتجارة الحرة، بمعناها الأوسع، باعتبارها عقيدة ثابتة، لا سماح لأي خروج عليها. ينبغي أن نتمسك بالتجارة الحرة كمبدأ للأخلاق الدولية، لا مجرد مذهب في المنفعة الاقتصادية" (2).

    هناك ثلاثة مؤلفات أقنعت الشباب من أمثال كينز بفضائل التجارة الحرة: كتاب "ثروة الأمم" لآدم سميث 1776، وكتاب "في مبادئ الاقتصاد السياسي والضرائب" لديفيد ريكاردو 1817، وكتاب "عناصر الاقتصاد السياسي" لجيمس ميل 1821. كانت فكرة سميث القائلة إن الاقتصاد يؤدي خير أداء حين يُترك إلى "أيدي السوق الخفية" قبل كل شيء، وجيزة في فضائل التجارة: أما الحمائية فليست إلا أكثر أشكال تدخل الدولة ضلالاً. وأكد ميل على فكرة سميث هذه، مجدداً، بسجاله مع فكرة التجاريين (التي لا تزال سائدة حتى اليوم على نطاق واسع) القائلة إن هناك نوعاً واحداً حميداً من التجارة، هو التصدير. ردّ ميل على ذلك بالقول إن السبب الوحيد لتصدير سلعة ما هو الحصول على النقود لاستيراد سلع أخرى. وقال "إن المنفعة المستمدة من مبادلة سلعة بأخرى، تنبع في كل الأحوال من السلعة المتلقاة، لا السلعة المعطاة". (3)
    اما ريكاردو، فقد طور مفهوم "المنفعة النسبية"، القائل ان التجارة الحرة تقدم لكل البلدان، غنيها وفقيرها، فرص الكسب بالتخصص في خير ما تجيده.
    وتنبع المنافع النسبية احيانا من امور اساسية كالجغرافيا والمناخ (لم يأخذ احد صناعة الانبذة البريطانية مأخذ الجد حتى وقتذاك)، لكنها تنشأ عموما من المهارات والانتاجية المحلية. واكد ريكاردو ان البلدان الاكثر انتاجية تنجذب الى الصناعات التي تتميز فيها بافضل منفعة، وتترك الفرص الاخرى للاخرين. وطالما دأبت البلدان الاكثر انتاجية وقريناتها الاقل تطورا على المتاجرة بحرية، فان الزمرتين تنتفعان من هذا التخصص. ولا ترضى العولمة، جدلا، بأكثر من ان تسمح لهذا التخصص بالتحقق.

    لم تكن هذه المفاهيم، في نظر كينز الشاب، محض حجج منطقية، بل كانت المنتصر في اشرس معركة فكرية في القرن التاسع عشر. حيث قدم فيها سميث وميل وريكارد، الركن الاقوى لهدم قوانين حماية الحبوب (التي تحمي المزارعين بالابقاء على ارتفاع سعر القمح بصورة اصطناعية).
    لقد ادى هذا الصراع، الذي لم يحقق نجاحا الا عام 1846 بعد ان خان السير روبرت بيل peel حزبه، حزب المحافظين حيث الغى القوانين المذكورة الى دفع الكثيرين الى الخروج من مآدب العشاء في سخط عاصف، او الى تأسيس المجلات. (4) وبقيت النزعة العالمية، حتى بعد مضي وقت طويل على خمود الضجيج حول قوانين الحبوب، اكثر من مجرد طريقة لتكديس الثروة بنظر الفيكتوريين، فقد كانوا يرون العالمية واجبا اخلاقيا يحملونه تجاه بقية البشرية، وطريقة لنشر الفضائل، ليس فقط فضيلة التجارة الحرة، بل ايضا فضيلة المؤسسات الحرة والاخلاق المسيحية.
    وكان كينز يرى بريطانيا بوصفها قاطرة نظام التجارة الحرة الذي بات يغطي ارجاء متعاظمة من المعمورة. هناك اقتصاديون عديدون اثبتوا اخيرا زيف الفكرة القائلة بان الاقتصاد العالمي كان قبل قرن مضى "اكثر عولمة" مما هو عليه الآن. فثمة اليوم تجارة اكبر في الخدمات مما كان عليه الحال قبل قرن مضى، كما ان هناك تجارة اوسع بين الشركات المتعددة الجنسية، واسواق مال اوسع بكثير (5). مع ذلك كانت هناك درجة مذهلة من التكامل: فحركة رؤوس الاموال ونقل الارباح كانت تمضي بدون عائق، والحكومات تمارس نفوذا اقل في شأن توزيع الثروة، بينما كان معيار الذهب يوفر لكامل العالم الصناعي، والكثير من بلدان العالم النامي، وسيلة للتبادل خالية من اي احتكاك.

    وبحلول عام 1913، بلغ اجمالي ارصدة الاستثمار الاجنبي الطويل الامد نحو 44 مليار دولار، وكان زهاء 60% من السندات securities المتداولة في لندن ذات منشأ اجنبي. (6)
    هناك جانب حيوي كان فيه العالم، على الارجح اكثر تكاملا مما هو عليه اليوم، ونعني به: حركة البشر. كانت المواطنة تمنح للمهاجرين دون قيد، وكان الناس ينتقلون عبر البلدان دونما حاجة لجواز سفر، ناهيك من اذونات العمل. وكانت اميركا تفتح بابها لكل شخص لا يمتهن الدعارة، وليس من ارباب السوابق، وغير مصاب بلوثة عقلية. ثم وسعت الاستثناء، بعد عام 1882، لمنع الصينيين. واجتذبت الولايات المتحدة زهاء الثلثين من مجموع 36 مهاجرا غادروا اوروبا على مدى الخمسين سنة التي سبقت الحرب العالمية الاولى، بحثا عن ارض زهيدة الثمن في العادة. (بل ان عددا اكبر من هذا هاجر من انحاء معينة في آسيا الى انحاء اخرى فيها، رغم ان كثرة من هؤلاء كانوا عمالا متعاقدين، او عمالا غير ماهرين). (7)
    لكن هناك دغلا ضارا في هذا البستان، كما كان كينز يعرف تماما. فاوروبا القارية عموما كانت قليلة الحماس للتجارة الحرة قياسا الى العالم الانجلوساكسوني. وزحفت التعرفات الجمركية لتتزايد في معظم بلدان اوروبا خلال الفترة بين عامي 1875 و1913، ويرجع ذلك جزئيا الى "غزو الحبوب الكبير" من روسيا والولايات المتحدة.

    اما ايطاليا البلد الذي كان كينز يزوره، فكان يدعي لفظيا تمسكه بالليبرالية الاقتصادية التي ارساها كاميليو بنزو، الكونت كافور، في خمسينات القرن التاسع عشر. غير ان اصحاب المصالح الكبرى وبخاصة اصحاب صناعة الفولاذ اخذوا يميلون بقوة منذ الحرب التجارية المزعجة مع فرنسا في ثمانينات القرن التاسع عشر الى رفاهية العيش في ظل الحماية الجمركية وباتوا علاوة على ذلك يعتمدون في النجاح على النفوذ السياسي لا جودة المنتجات.
    في غضون ذلك ادى العداء المستحكم ضد فرنسا الى افتتان الايطاليين بعامة بكل ما هو الماني، وتبني المشاركة في الاسهم معهم، بما في ذلك المصارف. واخذ الاقتصاديون ذوو النزعة الحمائية يكسبون مواقع صلبة في الجامعات الايطالية، بل ان احد هؤلاء ويدعى لويجي لوزاتي اصبح رئيسا لوزراء ايطاليا، بعد اربع سنوات من رحلة كينز اليها.
    وما كان العالم الانجلوساكسوني صلبا صلابة الصخر كما قد يلوح للوهلة الاولى. ففي اميركا انقلبت الحملة المناهضة للبارونات اللصوص التي انطلقت في البداية بدافع القلق من الممارسات المناوئة للتنافس لتأخذ طابعا معاديا للرأسمالية.
    وفي بريطانيا، انقلب جوزيف تشيمبرلن، احد المع السياسيين من جيل شباب حزب المحافظين، ليعتنق فكرة "التفضيل الامبراطوري" اي تفضيل البضائع الواردة من الامبراطورية (مما دفع كينز الى ان يقول امام اتحاد كامبردج ان حركة حزب "المحافظين" ماتت، لتولد ثانية في صورة حيوان وضيع) (8).

    وسخر الاشتراكيون من امثال سيدني وبياتريس ويب من المثل الاعلى الفيكتوري عن "الدولة كحارس"، مجادلين بان المستقبل سيكون للتخطيط العقلاني لا للمنافسة الحرة.
    وباختصار ليس من الصعب القول بان عناصر التراجع في فترة ما بعد الحرب كانت اصلا قائمة قبلها، غير اننا نسجل هذه الملاحظة بفضل الفاصل الزمني المنصرم.
    اما بالنسبة الى كينز واقرانه، فان العقد الاول من القرن العشرين كان بمثابة صيف هندي قائظ. وبعد ان رفع جوزيف تشيمبرلن صولجان الحمائية عام 1903، ارسل استاذ كينز في الاقتصاد، الفريد مارشال، على سبيل المثال، بيانا عن التجارة الى صحيفة "التايمز" جاء فيه بكل ثقة، ان زيادة الواردات لن تسبب اي بطالة، وان الاعتقاد بخلاف ذلك يشي بجهلك للنصوص التأسيسية في علم الاقتصاد.

    واكتسب كتاب نورمان انجيل، الموسوم: "الوهم الكبير" الذي صدر عام 1911، اعظم التأثير من بين سائر كتب هذه الحقبة، وقد اقترب الكتاب من القول (كما يقترب بعض المعلقين الاميركان عن العولمة في يومنا هذا من القول) بان نشوب حرب كبرى بات مستحيلا نظرا لأن العالم قد اوغل كثيرا في الاعتماد المتبادل بكل بساطة.
    كانت تلك الفترة فترة نجاح بالنسبة الى كينز، فبعد خمس سنوات من عودته من ايطاليا، عين زميلا دائما في كليته القديمة. وبدأ نجمه بالسطوع لا كاقتصادي فحسب، بل ايضا كمستشار حكومي وصحافي. وانتقل في صيف عام 1909 الى جناح من الغرف في كمبردج يطل على البوابة المفضية من شارع كنجزلين الى شارع ويبز كورت، وهو جناح قالت عنه فيرجينيا وولف، انه امتع ما رأته في حياتها.
    وصور كينز، بعدئذ هذا العالم المتلاشي، المعولم بصورة لم يسبق لها مثيل، تصويرا حيا في واحد من اكثر المقاطع الجياشة في كتابه الاول العظيم المعنون: "العواقب الاقتصادية للسلام". والمقطع جدير بالاقتباس بشيء من الاسهاب:
    "اي فصل خارق من فصول التقدم الاقتصادي للبشر ذاك العصر الذي بلغ نهايته في آب (أغسطس) 1914. كان بمقدور ساكن لندن ان يطلب على الهاتف وهو يرتشف شاي الصباح في سريره، شتى منتجات الارض بأسرها، بكل ما يرغب من كمية، وان يتوقع بصورة معقولة وصولها مبكرا الى عتبة داره، كما كان بمقدوره في اللحظة ذاتها وبالوسيلة نفسها، ان يغامر بثروته في الموارد الطبيعية والمشاريع الجديدة في اي بقعة في العالم، وان يحصل على نصيبه دون اي مجهود او عناء، من ثمارها ومنافعها المرتقبة، او كان بوسعه ان يصنع ثروته بثقة تامة، في عهدة سكان مدينة اي بلدة كبيرة في اي قارة مما يصور له الخيال او المعلومات.. الاهم من ذلك انه يعتبر هذا الوضع طبيعيا، مؤكدا، وثابتا، ما عدا السير نحو الاحسن، مثلما يعتبر اي انحراف عن ذلك امرا شاذا وشائنا، بل يمكن تحاشيه. اما مشاريع وسياسة العسكرة والامبريالية، وسياسات التنافس العرقي والثقافي، والاحتكارات، والتغييرات، والمنع، التي لعبت جميعا دور الافعى في هذا الفردوس، فلم تكن تزيد عنده على مواد مسلية في صحيفته اليومية، دون ان يبدو انها تمارس ايما تأثير اطلاقا في السير المعتاد للحياة الاجتماعية والاقتصادية، التي يكاد تدويلها عالميا يقترب من الاكتمال في الممارسة" (9).

    ثلاثة اصوات

    يمكنك ايها القارئ ان تمضي بعيدا في الشوط باتجاه فهم تاريخ العولمة عبر مقارنة وصف كينز للعالم قبل عام 1914، بتجربة الكثير من الناس في عالم اليوم: فلقد قطعنا دورة كاملة. فرؤوس الاموال اليوم تتنقل من جديد في رحاب العالم بيسر كبير، ومديرو الارصدة (الصناديق) يشترون الاسهم ويبيعونها يسهولة نسبية، دون كبير عواقب، رغم بعض الشكاوى من قضايا التسوية في سري لانكا. وعاد الملايين من الأوروبيين الى اكتشاف مسرات السفر من دون جواز سفر، واستخدام عملة مشتركة، ويبدو السياح الاميركيون فرحين بركوب قطار اليوروستار من لندن الى باريس، بقدر فرح كينز بركوب القطارات في ايطاليا.
    ان مثل هذه القراءة دقيقة تماما، ومتطابقة مع الاحساس الحالي بأن العولمة قوة لا مرد لها. مع ذلك فمن الجدير بالقول ان الفترة الفاصلة شهدت اندلاع حربين عالميتين، وانتشار الشيوعية، واستعار حرب باردة مطولة، والكساد الكبير، وفترات ركود كبرى عديدة، وحروبا تجارية وفيرة، وتأميم معظم الصناعات الكبرى في العالم، وما لا يحصى من الشواهد الوفيرة على ان تدويل العالم لم يستحوذ تماماً على سلوك الجمهور. يمكن بالطبع نبذ كل هذه الأمور باعتبارها شاذة، غير ان سبعين عاما من الشذوذ مقدار عظيم القيمة. كما ان هذا الشذوذ لم يكن من صنع مضللين جهلة. فخلال القرن العشرين برزت كثرة من أناس موهوبين فكريا لتنقلب مراراً على العولمة.

    وما من أحد يجسد هذا الحال خيرا من كينز. فلقد كان نصيرا متقدا للتجارة الحرة قبل الحرب العالمية الأولى، ثم انقلب الى الحمائية أواخر العشرينات من القرن الماضي، ثم عاد ليعتنق العولمة، باحتراس، خلال الحرب العالمية الثانية، ولكن "الكنزية" (التي لم تتفق دوما مع تفكيره، إن أردنا ان نكون منصفين) بقيت حتى بعد موت كينز عام 1946 المنطق السائد في ارجاء العالم، إلا انها لم تكن تبدي الود دوما، ازاء العولمة.
    سنحاول في ما تبقى من هذا الفصل، ان نسرد قصة العولمة من موشور حياة كينز نفسه. ولسوء الحظ لا يمكن لأكثر الكتاب عبقرية ان يجعلوا الانسان ـ أو نفوذ هذا الانسان بحق ـ يعيش أكثر مما فعل هو. ولهذا سنلتفت في القسم الأخير من هذا الفصل، الى ثلاثة مفكرين كان كينز يعرفهم خير معرفة، وهم: سيدني وبياتريس ويب، اللذان صبا عليه حمم النقد من جهة اليسار، وفريدريك آ. فون هايك الذي هاجمه (وانتصر عليه آخر المطاف) من جهة اليمين.
    ان تركيزنا على رجال ونساء الفكر هؤلاء لا يرمي إلى اختزال التاريخ الى سلسلة حكايات عن الحياة الفكرية في صالونات لندن، فصعود وسقوط العولمة، كما سنرى، ينطوي على اشياء فعلية، مثل مغاسل الاعضاء التناسلية والجزم العسكرية، والترابانتس Trabants، والبديل المقزز الذي صنعته الهند محل الكوكا كولا. غير ان الافكار، كما نعتقد، ظلت حاسمة. والمثال الجلي في ذلك هو كارل ماركس الذي سعى الى احلال العولمة الشيوعية محل العولمة الرأسمالية (سنتناول ماركس بعمق في استخلاصاتنا). غير ان القامة العملاقة للماركسية لا ينبغي ان تلقي بظلالها على السجالات البارعة التي جرت بين المفكرين الذين التقوا في انجلترا خلال النصف الأول من القرن العشرين. فمن مفارقات القرن العشرين ان بريطانيا، رغم افولها التدريجي، مارست تأثيرا مفرطا في الفترات التي حددت العولمة. وينطوي هذا على درس وتحذير في آن. اما الدرس فهو اننا لسنا فريدين كما نتمنى ان نعتقد بذلك، فاغلب القضايا التي تحير عقولنا اليوم قد حيرت عقول اجيال سابقة. واما التحذير فهو ان العولمة ليست صيرورة ذات مسار واحد، فقد نكصنا عنها في الماضي، ويمكن ان نعود عنها القهقرى من جديد.

    فلننتج السلع في دارنا

    دعونا نقفز قدما في مسار حياة كينز وصولا الى محاضرة قدمها في الكلية الجامعة في دبلن، في ابريل (نيسان) 1933. كان كينز، وقتذاك، قد ترجم بشائر النبوغ في شبابه فحقق انجازا مذهلا. وكان مؤلفه "العواقب الاقتصادية للسلام"، الذي شجب معالجة الحلفاء لما أعقب الحرب العالمية الأولى، واحدا من الكتب النادرة التي صاغت تفكير جيل كامل. اما كتابه الآخر "أطروحة في النقود" 1936 فقد رسخ سمعة كينز بوصفه الممارس الابرز لهذا العلم الكئيب، علم الاقتصاد. واخذت الحكومات من شتى التلاوين تتطلع الى كينز طلبا للنصح. ومن دلائل مكانة كينز البارزة، انه لما جاء الى الكلية الجامعة لالقاء محاضرته، هرع للاستماع اليه كل سياسيي ايرلندا البارزين، بمن فيهم رئيس وزرائها الجديد ايمون دي فاليرا. (10)
    كان دي فاليرا ومرؤوسوه خائفين مما سيقوله كينز، ان لم يكن لسبب فلأنهم قد بدأوا لتوهم شن حرب تجارية ضروس على بريطانيا العظمى. ولكن عوضا عن شجب جنون التعرفة الجمركية، راح كينز يلقي حممه على الايمان الفيكتوري بالتجارة الحرة. وارتأى، بقدر ما يتعلق به الأمر، ان المستقبل يكمن في الكفاية الذاتية للبلاد.

    وعرض كينز اربع حجج. ركزت الأولى على ان منافع تقسيم العمل العالمي أخذت تتضاءل يوما بعد آخر: فكلما زاد اعتماد شتى البلدان على الانتاج الكبير، زادت معقولية حصر "المنتج والمستهلك في نطاق تنظيمات اقتصادية ومالية وطنية واحدة". أما الحجة الثانية فتقول ان التجارة الحرة، وبخاصة تلك المقترنة بحرية حركة التداخل ـ رأس المال ـ مرشحة على الأرجح لاستثارة حرب بدلا من حفظ السلام. وقال في عبارة طارت شهرتها في الحال: "انني اتعاطف... مع الذين يعظمون الى اقصى حد، لا مع الذين يعظمون الى اقصى حد، التداخل الاقتصادي بين الأمم".
    وأضاف "ان الافكار والمعرفة والفن، وكرم الوفادة، والسفر، أمور عالمية بطبيعتها. ولكن لندع السلع تنتج في الدار حيثما كان ذلك ممكناً بصورة معقولة ومناسبة، وليكن التمويل قبل كل شيء، وطنياً بالأساس".
    أما حجة كينز الثالثة فتقول ان من الضروري ان يتوفر كل بلد على أكبر قدر ممكن من التنوع والتجريب. وقال "يحبذ كل منا ان يجرب تدبير خلاصه... ولا نحب ان نكون تحت رحمة قوى تدبر، أو تحاول ان تدبر، نوعا من توازن متعادل حسب المبادئ المثالية لرأسمالية المنافسة الحرة". وبهذا القول بلغ قناعته الأخيرة ومفادها: ان نظام الحساب الاقتصادي السائد قد قلب "ممارسة الحياة بأكملها" الى "محاكاة هزلية لكابوس محاسب".

    لقد كان هناك من يعتقد ان من المبرر تدمير الريف البريطاني وطرد سكان الريف من الأرض ابتغاء خفض سعر رغيف الخبر عُشر بنس. لكن كينز، الذي انقلب في منتصف العمر الى ما يشبه عمدة ريفي، لم يعبتر نفسه واحداً من هؤلاء.
    لم يكن انقلاب كينز مباغتا كما بدا لبعض مستمعيه. فقد كان يتساءل، طوال أكثر من عقد، عما اذا كانت المجتمعات الديمقراطية قادرة على التكيف مع التغيرات الفجائية في دفق السلع ورؤوس الاموال، وعلى أي حال فإن خطابه سرعان ما تحول على غرار اغاني البوب، الى مجرد كلمة بعنوان "الكفاية الذاتية للبلاد". لكن الخطاب كان مثيرا لشدة ابتعاده عن الفرضيات الاساسية لأبطاله القدامى، ريكاردو وسميث وجيمس ميل. كيف يمكن بحق السماء، لرجل كان يعتبر ان قضية التجارة الحرة تبلغ من الرسوخ المكين مبلغاً يعد معه أي اعتراض عليها دليلاً على نوع من "الخلل الخلقي في العقل"، ان يتحول الى نصير لانتاج السلع محليا؟ (11)
    يعكس فقدان كينز للايمان بالتجارة الحرة مجرى الأحداث، من نواح عدة. فالاقتصاد المتكامل لسنوات ما قبل الحرب لم يسقط دفعة واحدة، بل تهاوى على دفعات. وشهدت فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى قيام الحكومات باختراع طائفة من المسوغات البارعة لاقامة الحواجز الجمركية من كل شاكلة (12) فالقيود التي فرضت على الهجرة خلال فترة الحرب، بقيت سارية، بل اكتست احياناً طابعا عنصريا. كانت الصناعات الجديدة التي نمت خلال الحرب بحاجة الى الحماية من صدمات المنافسة، اما البلدان التي انبثقت من حطام الامبراطورية النمساوية ـ المجرية فقد كانت بحاجة الى ان تنعم بفرصة منصفة لكي تبدأ، بينما راح الصناعيون في البلدان الأكثر استقراراً (شأن صناعيي الفولاذ الاميركان عام 1999) يطالبون بالحماية من "الفارق في السلع الرخيصة"، أي ارتفاع صادرات البلدان ذات العملات التي تهاوت قيمتها.

    بذل انصار التجارة الحرة محاولات شجاعة لقلب هذا المدّ الكارثي. وصدرت قرارات من سلسلة مؤتمرات عالمية عقدت في مدن مثل بروكسل وجنوه، تعارض فرض التعرفات الجمركية. اما في بريطانيا الملتزمة تقليديا بالمنافسة، فقد تمسك الحزب الليبرالي وحزب العمال بمبدأ التجارة الحرة، في حين ان المحافظين باعوا أرواحهم لتفضيل السلع الامبراطورية. مع ذلك اثبت المدّ الحمائي انه أقوى بما لا يقاس. ففي ايطاليا فرض بنيتو موسوليني التعريفة على القمح عام 1925 ـ بالتفخم المعروف عنه، اذ وصف ذلك بانه "معركة القمح" ـ وحذا الفرنسيون حذوهم في السنة التالية. وأضاف هذان البلدان في ما بعد، تعريفات جمركية على السيارات.
    ووعد الرئيس الأميركي هيربرت هوفر، في حملته الانتخابية عام 1928، بزيادة التعريفة الجمركية لمساعدة المزارعين الذين يعانون الأمرين من هبوط الأسعار.
    وفي يونيو (حزيران) 1937، اي بعد ثمانية اشهر من الانهيار المالي في وول ستريت، فرض قانون تعرفة سموت وهولي التعرفات الجمركية ليس فقط على المنتجات الزراعية، بل على طائفة كاملة من السلع الصناعية ايضا، مما استثار اجراءات ثأرية مقابلة في العالم كله. وتراجعت الدول التي شكلت اطراف المحور في الحرب العالمية الثانية، قدر ما تستطيع، مبتعدة عن الاقتصاد العالمي، واقتصرت احيانا على التجارة في ما بينها، ولكنها اتبعت سياسة الاكتفاء الذاتي. وقرع ناقوس موت النظام الاقتصادي القديم عام 1931، بتبني البريطانيين، اخيرا، للحمائية، ففرضوا تعرفة بنسبة 10في المائة على سائر السلع المستوردة من خارج الامبراطورية.

    وكان كينز، يتأرجح خلال هذه الفترة كلها، ويمكن وصف موقفه الابتدائي بأنه موقف ليبرالي نفعي (براغماتي). فقد ساند التجارة الحرة من جانب، ولكنه رأى ان هناك حالات لا مناص فيها من التعرفة الجمركية، وخلال العشرينات خشي كينز من ان تكون التجارة الحرة غير موائمة لبريطانيا، بما فيها من سوق عمل جامد Rigid، وبطالة متنامية، والتزام رسمي بمعيار الدفع بالذهب. وأصر كينز في مقال صحافي نشره عام 1931، ونوقش كثيرا، أصر انه بمقدار ما تؤدي الحمائية الى احلال السلع المنتجة وطنيا محل السلع المستوردة من قبل، فإنها ستزيد فرص العمل في هذه البلاد (13). واسهمت الاحداث، بدورها، في تقويض ايمان كينز بالتجارة الحرة. فقد شهدت بريطانيا، ليس فترة كساد واحدة بل فترتان خلال سنوات ما بين الحربين: كساد 1920 ـ 1922، الذي أدى الى انهيار الاسعار والانتاج وفرص العمل على نطاق لم تشهده البلاد منذ حروب نابوليون، ثم الكساد الكبير خلال سنوات 1929 ـ 1932. بلغت البطالة قرابة 10 في المائة، اما الشيء الذي كان يعتبر نتاج هبوط دورة الاعمال بدا الآن وكأنه حقيقة ثابتة من حقائق الحياة.

    بل ان فشل رأسمالية السوق الحرة بدا اكثر سطوعاً في اميركا. ففي السنوات التي سبقت الانهيار الكبير عام 1929، كان المداحون يتبجحون بأن اميركا اكتشفت سر النمو الدائم، ذلك ان ارتفاع اسهم البورصة كان مطردا بلا هوادة، اما تقدم البلاد في صناعات "الاقتصاد الجديد"، كالسيارات، فكان هائلاً بلا مراء. غير ان سوء معالجة المؤسسة للانهيار الكبير في وول ستريت هدد بتحويل النمو المستديم الى افقار دائم. وبحلول عام 1933 ـ وهي السنة التي تولى فيها فرانكلين روزفلت الرئاسة والقى فيها كينز محاضرته المذكورة ـ كان 13 مليون اميركي يبحثون عن عمل، بينما كانت المصارف تغلق ابوابها، في طول البلاد وعرضها(14).
    من هذا المنظور، بدا لكينز ان من المنطق وجود حاجة الى تدخل الحكومة حيثما يفشل السوق، لضخ القنوات وخلق الطلب اللازم.
    والحق، ان فكرة التدخل الحكومي هذه اصبحت الاساس الصلب ليس فقط لبرنامج "الصفقة الجديدة" الذي طرحه الرئيس روزفلت، بل وللفكر الكينزي نفسه ايضاً. واصبحت الحمائية، لا محالة، جزءاً من خلطة التدخل الحكومي، رغم ان كينز بقي يحتفظ بقدر من الليبرالية يكفي لاثارة قلقه منها.

    وبدا خطابه في دبلن، حتى في هذه الظروف، ملتوياً. فهل يمكن للفن ولكرم الوفادة ان يظلا حقاً عالميين، بينما تغدو الصناعة والتمويل وطنية بالقوة؟ هل يتناقص كسب شتى البلدان، حقا، من التجارة الحرة حين تزداد اقتصاداتها تطوراً؟
    لا ريب في ان كينز كان سيشعر بالتقزز لو ان كلية كينجز ابتاعت خمورها من كورنوول، وحثت اعضاءها على قضاء العطلة في ويلز.
    والحق، ان الحواجز الجديدة التي احاطت بالاقتصادات الوطنية لم تفعل شيئاً غير ان تطيل أمد الركود العالمي وتزيده حدة، وتدفع التكامل الكوني الى الوراء. فبين 1890 و1913 تضاعفت التجارة العالمية بل زادت على الضعف، اما خلال سنوات ما بين الحربين فقد اصابها الركود، بل انها انحدرت فعلاً في بعض البلدان (15). فبين اعوام 1929 و1938، على سبيل المثال، هبط تناسب التجارة الخارجية الى الانتاج المحلي بنسبة 10 في المائة في بريطانيا، ونسبة 20 في المائة في كندا، و25 ـ 40 في المائة في اليابان والمانيا وايطاليا (16) اما خلال السنوات الست (بين 1927 و1933) فقد تدنى الاقراض العالمي بنسبة تزيد على 90 في المائة. اما الانخفاض في تدفق البشر فكان مدوياً بالمثل. ونلاحظ ان نحو 14 مليون شخص هاجر الى الولايات المتحدة من عام 1899 حتى عام 1914، في حين ان خمسة ملايين ونصف المليون لا غير هاجروا على مدى الخمس عشرة سنة اللاحقة، بسبب قيود الحد من الهجرة. اما في الثلاثينات فقد هبط عدد المهاجرين الى أقل من مليون.

    وباختصار، فإن العالم الذي اثار اعجاب كينز الشديد في العقد الأول من هذا القرن، قد بلغ من الانحلال مبلغاً بحيث انه بدا لحظة اندلاع الحرب العالمية الثانية ان المهنة الكونية الوحيدة الباقية هي التقتيل. وكتب كينز في يونيو (حزيران) 1940، في جزع وقنوط "نستطيع ان نرى في ما يجري الساعة الدمار النهائي لليبرالية المتفائلة التي ارساها جون لوك... وها نحن الآن، لأول مرة منذ قرنين، نجد ان رسالة هوبز تخاطب حالنا أكثر من لوك".
    غير أن الحرب، باسلوبها المروع، مقرونة بالمآسي الاقتصادية للثلاثينات من القرن العشرين، ارغمت زعماء العالم، بمن فيهم كينز، على اعادة النظر. صحيح ان قضية العولمة لم تثبت صوابها بما لا يقبل الشك، لكن قضية الاكتفاء الذاتي انهارت اصلاً. فقد بدأ السياسيون والمفكرون، حتى قبل انتهاء الحرب، يلهجون بفكرة العودة الى تكامل الاقتصاد العالمي. فهل ثمة مخرج من السياسات الاقتصادية لفترة الثلاثينات القائمة على شعار "إفقر جارك"؟ وهل يمكن ارساء النظام المصرفي العالمي على اسس سليمة؟ وكيف ينبغي اعادة بناء أوروبا؟ التمس الكل النصح، وكان كينز أول من يطلب منه النصح.

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    6-Jun-2002
    الدولة
    موزمبيق
    المشاركات
    88

    الحلقة الثانية

    على أبواب العولمة: اسقاط آيديولوجية الدولة القومية بمدفعية الاقتصاد



    خرجت الأمم المتحدة إلى الوجود بميثاق حمل النبرة الأميركية منذ كلماته الافتتاحية "نحن، شعوب العالم.."
    لم يحبذ الكونغرس الأميركي ولا وزارة الخارجية فكرة وجود منظمة دائمة للتجارة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية

    هناك عائقان عرقلا تكامل الاقتصاد الكوني بعد الحرب الأبرز هو الستار الحديدي والثاني كان الاجماع في الغرب على التمسك بتدخل الدولة

    رفضت معظم الحكومات الغربية عدا الولايات المتحدة على مدى 45 سنة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية أن تترك الأعمال لحال سبيلها

    مال الكينزيون إلى الحلول القومية لا العالمية وكانوا يؤمنون بأن الدولة الدولة القومية لعبت دورا حاسما في انقاذ النظام الرأسمالي من نفسه

    المتخرجون في معاهد مثل "كلية الإدارة الوطنية" الفرنسية اعطوا لمواطنيهم لا كهرباء ومرافق صحية افضل فحسب بل شقوا لهم طرقات وسكك حديدية وشبكات هواتف حديثة وخدمات اجتماعية وسيارات زهيدة الثمن

    في أواخر الخمسينات والستينات أخذ سياسيو العالم الثالث من تشيلي إلى الكويت يصادرون الشركات الأجنبية خاصة في قطاعي النفط والتعدين وينشئون شركات مؤممة لحماية اقتصادات بلدانهم

    الاقتصاد الأوامري السوفياتي وصل بالتدريج إلى نقطة الهمود وتجسد عقمه بموت بحيرة آرال التي كانت رابع اكبر منبع للمياه العذبة في العالم بعد أن دمرتها تدميرا لا قيام من بعده مصانع الدولة التي كانت تنتج قطنا رديئا

    كان أهالي برلين الغربية يتداولون نكتة وهم يتبخترون بسياراتهم الفارهة تقول: "كيف تضاعف قيمة سيارة الترابانت (التي تنتجها المانيا الشرقية) الجواب: ان تملأ خزانها بالبنزين"

    من مدريد إلى مدراس تحولت الصناعات المؤممة إلى إعلانات صاخبة عن انعدام الكفاءة وهكذا عاشت الهند بفعل السياسات الحكومية وهي محرومة من الكوكا ولا تذوق إلا نسخة هندية ملفقة منها
    في السبعينات كانت الفروع القومية لشركة زيروكس Xerux منفصلة عن بعضها بل كانت تتنافس في ما بينها أما في الثمانينات فقد رأت زيروكس ان فرصتها الوحيدة لهزيمة المنافسة تكمن في التصرف كمنظمة واحدة متكاملة

    أدى سقوط الحواجز التجارية وتحسين وسائل الاتصال إلى تخفيض تكاليف إقامة وإدارة نظم إنتاج عالمية وأصبحت مايكروسوفت قوة عالمية من دون ان تحرك أياً من مواردها في "مقرها الكوني" قرب سياتل



    يا له من إنسان بديع ورائع

    يعتبر اجتماع بريتون وودز (في نيوهامبشير) لرسم خريطة المستقبل المالي للعالم، هو اعلى نقاط مساهمة فيلسوف الاقتصاد الانجليزي جون مينارد كينز في العولمة. بحلول عام 1944، بلغ كينز شأوا عظيماً لا تحظى به سوى القلة في كل قرن. ولم يكن كينز الرئيس المحتوم للوفد البريطاني الى المؤتمر فحسب، بل كان أصلاً احد الأسباب المقررة لعقد هذا المؤتمر في مكان مجهول مثل هذا. كان كينز يعاني من مرض خطير في القلب، وظن ان هواء نيوهامبشير العليل موائم لوضعه الصحي. (الواقع انه تعرض لنوبة قلبية خفيفة خلال المؤتمر، لكنه واصل بجلد).
    كان اجتماع بريتون وودز حلقة في سلسلة من اللقاءات التي عقدت خلال المراحل الختامية من الحرب العالمية الثانية، وفي السنوات التي اعقبتها. (بلغت كثرة الاجتماعات حدا بحيث ان المذكرات الأولية للبنك الدولي اشتكت من ان العاملين في البنك لم يستطيعوا اداء اعمالهم لكثرة ما يقضونه من وقت في الاجتماعات الدولية). وكان الغرض المتوخى من هذه اللقاءات، ليس انشاء حكومة عالمية، بل ارساء منظومة حكومات قومية لحل المشكلات العالمية بتوحيد الموارد لمنع تكرار الحرب التي خلفت وراءها 55 مليون قتيل و35 مليون جريح. وورد تعبير "الأمم المتحدة"، لأول مرة، في مسودة معاهدة صاغها الاميركان، في يناير (كانون الثاني) 1942، وتعهدت 26 دولة، بموجبها، القضاء على دول المحور. وخرجت الأمم المتحدة الى الوجود في 26 يونيو (حزيران) 1945، بالتئام شمل مندوبين عن 50 دولة في سان فرانسيسكو، للتوقيع على الميثاق الذي حمل النبرة الأميركية منذ كلماته الافتتاحية "نحن، شعوب العالم..".

    أما المؤسسات التي انشئت في بريتون وودز فكان مقررا لها ان تصبح جزءا من منظومة الأمم المتحدة، على ان تكون خاضعة لها اسمياً. وقد كان لهذه المؤسسات اثر مباشر، كما يقال، في ازدهار ما بعد الحرب بفعل ظهورها وقتذاك.
    غير ان هذه المؤسسات لم تكن في نظر كينز تحديدا، مجرد مسألة بناء مالي، بل مسألة فلسفة سياسية، ومسألة تتعلق بتراثه هو. لقد سادت روح كينز في ثنايا اعمال المؤتمر في نيوهامبشير. وقال ليونيل روبنز، عضو الوفد البريطاني، الذي سبق ان تصادم بحدة مع كينز يوم انقلب هذا الاخير على التجارة الحرة: "لقد هيمن على المؤتمر من أوله الى آخره".
    وحين غادر كينز قاعة المؤتمر في يوم الاختتام، راح المندوبون ينشدون له "لأنه انسان بديع ورائع".
    كان الهدف المعلن لاجتماع بريتون وودز هو ارجاع هوبز الى صندوقه، ونفخ الحياة مجدداً في "الليبرالية المتفائلة التي ارساها لوك". واقترح كينز تحقيق ذلك عن طريق ربط العالم برؤيته الجديدة للعولمة، حيث يسمح للتجارة بأن تمضي دون عائق، على ان يصار إلى تقييد حركة رأس المال.

    ناقش 730 مندوبا في فندق ماونت واشنطن خطة معينة، كانت في واقع الامر ثمرة مفاوضات بين كينز وهاري ديكستر وايت، مساعد وزير الخزانة الاميركي استغرقت عامين. اقترح كينز ووايت ازالة الحواجز المعيقة للتجارة الخارجية، بموازاة فرض قيود شديدة على تدفق رأس المال المضارب. والسبب ان رأس المال المضارب، حسب تعبير كينز يستطيع "ان يتنقل بسرعة البساط السحري (بساط الريح)، موقعاً الاضطراب في كل الاعمال التجارية المنتظمة"، فكان لا بد من ربط وثاق البساط السحري لاجل توفير بيئة مستقرة للاعمال التجارية المنتظمة. اما اسعار صرف العملات فسوف تثبت بمعدلات يتفق عليها، على ان تربط بالدولار الاميركي، بموازاة فرض ضوابط شديدة على حركة رأس المال الاستثماري.
    وينص الاقتراح على ايجاد "صندوق استقرار" للاشراف على سير هذا النظام (صار هذا يعرف في ما بعد باسم صندوق النقد الدولي)، واقراض النقود للبلدان التي تقع في مصاعب مالية مؤقتة، وضبط البلدان التي تنتهج سياسات هوجاء، وتعديل اسعار صرف عملات البلدان التي عانت من دمار اقتصادي دائم. ان البنك الدولي للتعمير والتنمية (الذي صار يعرف باسم البنك الدولي) سوف يسهم في اعادة بناء الاقتصادات التي دمرتها الحرب، وتمويل الاستثمارات في البلدان النامية، على المدى البعيد.

    غير ان تأثير كينز المباشر في الذراع الثالثة للنظام الاقتصادي لعالم كان متدنيا. فقد استبد به المرض في سنواته الاخيرة، وتوفي عام 1946. فكانت اتفاقية بريتون وودز هي الارث الذي تركه للعالم. لا ريب انه كان يفضل تلقائيا، ان يدير انجليز متجردون هذا النظام على ان يقع تحت هيمنة واشنطن.
    حتى انه حاول ان يضع صندوق النقد الدولي في نيويورك لكي يبعده عن النفوذ السياسي المباشر. مع ذلك فقد خلف لنا إرثاً هو نظام معولم بدرجة اكبر من نظام ما قبل الحرب، رغم ان تدخل الحكومات فيه بقي المعيار السائد.
    اما مشروع انشاء هيئة للتجارة العالمية فقد ارجئ حتى عام 1948، حين اجتمع ممثلو 57 دولة في هافانا لتأسيس منظمة التجارة العالمية. وارسيت المنظمة على مبدأ ثوري (هو العلاقات المتعددة الاطراف) يلزم كل المشاركين في المعاهدة بمراقبة وضبط بعضهم بعضا. وحزن الاميركان، لا اعتراضا على التجارة الحرة (فقد قدمت الولايات المتحدة بالعون بموجب مشروع مارشال إلى اوروبا شريطة ان تمضي القارة في الخفض المطرد لحواجزها الجمركية الداخلية بوجه التجارة) بل على الآليات التي تعمل بها المؤسسة. ولم يحبذ الكونغرس ولا وزارة الخارجية فكرة وجود منظمة دائمة للتجارة.
    ولحسن الحظ، استخدم الرئيس ترومان صلاحياته التنفيذية لانشاء منظمة "مؤقتة" تشرف على "الاتفاقية العامة للتعرفة والتجارة" (جات) التي وقعها مندوبو 23 دولة صناعية في هافانا. وقدر لهذه المنظمة "المؤقتة" ان تستمر 47 سنة، بعد ان اصبحت "منظمة التجارة العالمية".

    دشنت نهاية الحرب، وتقديم نحو 45 الف تنازل عن التعرفات الجمركية من خلال المفاوضات خلال الجولة الاولى من منظمة جات (GATT) حقبة جديدة من التكامل الاقتصادي المذهل، وباتت التجارة العالمية تنمو على مدى ربع قرن (من عام 1948) بمعدل سنوي قدره 25.7 في المائة بعد ان كانت تتقلص فعليا بنسبة 3 في المائة خلال ثلاثينات القرن العشرين.
    ولما كانت بلدان عديدة تعاني من نقص حاد في اليد العاملة، فقد بدأت الهجرة في الاتساع، خاصة في اوروبا. واخذت الاعمال تنتشر من جديد في ارجاء العالم. وما ان حل عقد الستينات حتى صارت كلمة "متعدد الجنسيات" اشبه باليمين الذي يحلف به الناس.
    في غضون ذلك اخذ ارباب مثل هذه الشركات من الامبرياليين الاميركان يتبجحون علناً بوهم ان شركاتهم صارت كونية إلى حد يوجب عليهم ان يجدوا لها مقراً في جزيرة غير مأهولة تعبيراً عن واقع انها لا تحمل اي جنسية حقيقية.
    غير ان هذا الادعاء كان محض خيال. فالاعمال بقيت قومية مع سبق الاصرار، رغم التوسع في التجارة. ولما تمكنت شركات كبيرة مثل جنرال موتورز وفورد من اعادة بناء شبكتها العالمية، اكتشفت بعد سنوات الاضطراب والتعرفات، ان فروعها المحلية غدت مستقلة ذاتيا، بهذا القدر او ذاك، بانتاجها الخاص وذائقتها الثقافية. فالشركات التي انتجتها شركة فولسهول، وهي الفرع البريطاني لجنرال موتورز، صنعت على مقاس ذوق الطبقة الوسطى في دالويتش وليس في ديترويت. اما فروع الشركات العملاقة الاميركية متعددة الجنسية في البلدان النامية فكانت اوهى من ان تسمى كونية. فقد كانت تنشط كشبكة توزيع للمنتجات الاميركية لا اكثر.

    ويقال ان الشركات الاوروبية الكبرى كانت ذات طابع متعدد الجنسيات، بدرجة اكبر، خاصة الشركات ذات الجنسية المزدوجة، مثل رويال دتش اشيل، ويونيلفر. لكن كما يعترف موظفو يونيلفر، لم يخطر لهذه الشركة قط ان تنظر إلى العالم بوصفه سوقا واحدا وان هذه النظرة جاءت اول مرة في منتصف الثمانينات، اما دمج الانتاج على اساس عالمي شامل فلم يبدأ حقا قبل التسعينات.
    ما الذي منع رجال الاعمال عن ذلك؟
    ان القول بوجود تخلف تكنولوجي ليس بالجواب المقنع بتاتا. فمديرو الشركات في فترة ما بعد الحرب كانوا ينعمون بنمط من التكنولوجيا لم يرد حتى في احلام اكبر الامبراطوريات التجارية ضخامة في اواخر القرن التاسع عشر.
    تخيلوا للحظة، على سبيل المثال، ما كان بوسع جون جاكوب استور ان يحققه لو كان الهاتف موجودا. الواقع ان هناك عائقين عرقلا عودة تكامل الاقتصاد الكوني وهما عائقان سياسيان. ذلك ان التجارة، مثل الماء، تتدفق حيثما يسمح لها بذلك. العائق الابرز هو الستار الحديدي الذي حجز ثلث سكان العالم في دائرة اكتفاء ذاتي اقليمي. اما العائق الثاني فكان عنيدا بقدر مماثل: انه الاجماع في غرب ما بعد الحرب على التمسك بتدخل الدولة.
    فقد رفضت معظم الحكومات الغربية، عدا الولايات المتحدة (رغم ان كثرة من النقاد تدرج الولايات المتحدة ايضا) رفضا قاطعا، على مدى 45 سنة في الاقل بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، ان تترك الاعمال لحال سبيلها. ولم يخطر على بال احد، لدى تبني هذا الاجمال على التدخل الحكومي، انه يناقض روح اتفاقية بريتون وودز، التي وضعت لتحرير نظام التجارة العالمي بطريقة مقيدة بعناية.

    (زد على هذا، كان هناك اعتقاد بأن اتفاقية بريتون وودز هي من بنات افكار اشهر دعاة التدخل الحكومي في العالم). وكانت الحكومات تبتغي تقديم افضل حياة ممكنة لشعوبها التي ضحت بالكثير الكثير خلال الحرب، كما ان المثقفين ما فتئوا ينصحون هذه الحكومات بأن مقدارا محسوبا من تدخل الدولة هو خير من اللعب الحر لقوى السوق العالمي في توليد الازدهار.
    وينبغي لهم ان ينسبوا الفضل في هذا ليس إلى كينز وحده، بل ايضا إلى سيدني وبياتريس ويب، اللذين اندمجت افكارهما بافكار كينز لتقدم الكثير من الدعم لاجماع ما بعد الحرب.

    لعنة الفابيين

    كان الزوجان ويب، وهما الابوان الروحيان للاشتراكية البريطانية، شخصيتين محدودتي الافق قياسا إلى كينز. الواقع انهما كانا غريبا الاطوار بعض الشيء ـ كانت هي باهرة الجمال وكان هو نقيضها في ذلك بالمرة ـ وكانت الاوساط الفكرية تعرفهما كشخصين يتميزان بجدية شديدة تتجاوز حدود انعدام حسن الفكاهة. وغالبا ما كان عشاء الزوجين يتألف من بضعة وريقات خس مغسولة بالماء. وكانا ينفران من قادة النقابات باعتبارهم "مغفلين" وايضا "سكيرين". وقف الزوجان ويب، بشكل محتوم، موقف الاعتراض من مجموعة بلومزيلي. "اعترف كينز بأنه تناول غداء "روحيا عميقا" مع بياتريس عام 1913، لكنه لم يكرر التجربة حتى عام 1926. ورغم هذه المعوقات الاجتماعية، استطاعت الجمعية الفابية التي اسسها الزوجان ويب ان تكسب إلى صفوفها الكثير من الكتاب البارزين في مطالع القرن العشرين، منهم جورج برنارد شو و هـ. ج. ويلز.

    ان كان آل ويب قد ناصرا شيئا في حياتهما، فان هذا الشيء تمحور حول الفرضية القائلة بان "معرفة الحكومة" اسمى من معرفة السوق، وان الخبراء النزيهين (المقيمين في العواصم الوطنية) يجيدون توزيع السلع والخدمات خيرا من رجال الاعمال الانانيين، وخيرا من المستهلكين قصيري النظر. وكان الزوجان يساجلان، عبر سلسلة من الكتب، ان الرأسماليين لا يزيدون على مخبولين حاسري النظر، كما جاء مثلا في كتابهما "تفسخ الحضارة الرأسمالية" (1923)، وعليه فإن خير سبيل لبلوغ الكفاءة الاقتصادية يكمن في تسليم القرارات الى مفكرين اذكياء واخيار مثلهما. (وصفت بياتريس نفسها ذات مرة بأنها "اذكى فرد في اذكى عائلة، من اذكى طبقة اجتماعية، في اذكى امة في العالم"). واسس الزوجان "مدرسة الاقتصاد اللندنية" LSE لتخريج الخبرات المطلوبة، كما اسهما في تشكيل حزب العمال البريطاني، لأجل وضع افكارهما موضع التطبيق.

    ولا ريب ان بعض احداث الثلاثينات من القرن العشرين ـ ناهيك من انهتاك ستر الكابوس الجاثم وراء الستار الحديدي ـ دفعت الاوروبيين الى الانقلاب على الاشتراكية، لكن التاريخ القريب، من منظور الكثير من الاوروبيين في عام 1945، قد اثبت صواب الزوجين ويب بصورة قاطعة. فهناك انهيار وول ستريت الذي دمر الايمان بعقلانية السوق. اما الاتحاد السوفياتي، الذي دأب الزوجان ويب على تأليهه في كتابهما: "الشيوعية السوفياتية، حضارة جديدة"، فكان ينعم بمعدلات نمو اقتصادي عشرية وتشغيل تام لليد العاملة. وعملت الحكومات، خلال فترة الحرب، على السيطرة على الصناعات الاساسية، مما اثبت في نظر الكثير من المتحمسين لذلك جدارة الدولة في ان تدير الصناعات بفكاءة اكبر من القطاع الخاص. وزعم جيمس بورنهام في كتابه "الثورة الادارية" (1941)، الذي كان من احسن الكتب مبيعا في فترة الحرب، ان "التنظيم الرأسمالي للمجتمع قد دخل سني حياته الاخيرة". كما ان تجربة الحرب ذاتها، التي دفعت الجميع الى التكاتف خدمة للصالح الوطني العام، افعمت الآمال بقيام مجتمع اكثر عدلا ومساواة.

    تناغمت الافكار السياسية الفابية مع الافكار الاقتصادية الكينزية التي سرعان ما تحولت الى العقيدة القويمة في جامعات الغرب ووزارات ماليته بعد الحرب العالمية الثانية. كان كينز ذاته يتعاطف، دوما، مع دعوة الزوجين ويب الى اعتماد الخبراء (اشارت بياتريس بشكل قاطع "لا ثقة لنا بالانسان العادي الحسي. ولا نؤمن بأنه قادر على ان يفعل شيئا اكثر من ان يصف ما نزل به من حيف") (20). وعمل اتباع كينز، بعد الحرب، على توسيع فكرته القائلة بأنه كان بمقدور الحكومة ان تمنع وقوع كارثة ما بين الحربين بزيادة الانفاق، فصاغوا فكرة حاجة الاقتصاد الى الادارة على المستوى المحلي (المايكرو)، على ان يتولى "الخبراء" الاقتصاديون تحريك العتلات المناسبة. ومال الكينزيون الى الحلول القومية لا العالمية. وكانوا يؤمنون بأن الدولة الدولة القومية لعبت دورا حاسما في انقاذ النظام الرأسمالي من نفسه، وينظرون بريبة كبيرة الى كل ما يهدد بانتزاع سلطة الحكومات القومية.
    والحق، ان النزعة الاقتصادية القومية سرعان ما غدت واحدة من اركان اجماع ما بعد الحرب. وعلى حين ان الحرب عرّت سوءات النزعة القومية الخبيثة لدول المحور، فإنها بررت في الآن ذاته النزعة القومية الحميدة للحلفاء. راحت الحكومات، في طول اوروبا وعرضها، تؤمم الصناعات الاستراتيجية ابتغاء تسييرها لخدمة الامة جمعاء، لا المضاربين العالميين، كما انها بسطت سيطرتها على صناعات الاعلام حتى تمنع إضعاف الهوية القومية.
    شادت حكومة حزب العمال، ارض الميعاد، التي اكتسحت وينستون تشرتشل واقصته عن سدة الحكم عام 1945، بتأميم صناعة الفحم، التي كانت تزود البلاد بـ90% من حاجتها الى الطاقة، وتأميم صناعة الفولاذ، والخدمات، وسكك الحديد. وأكد قادة حزب العمال ان التأميم سيسبغ على هذه الصناعات السعة اللازمة للتنافس في العالم الحديث، ويحل الادارة المهنية للخبراء محل ارباب العمل قصيري النظر، ويتيح للحكومة تحقيق وعدها بالتشغيل التام لليد العاملة.
    ليس من المستغرب اذاً ان تفترض الكثير من الحكومات ـ خاصة في العالم الثالث ـ ان الحق في حماية بعض الصناعات المختارة جزء جوهري من ميراث المدرسة الكينزية. وجادلت بلدان عديدة، مثل الهند والبرازيل والارجنتين، بأنها لن تتوفر على فرصة التحول من بلدان منتجة للمواد الاولية الى دول صناعية متطورة إلا اذا قامت بحماية "صناعاتها الوليدة" من منافسة الشركات الراسخة، متعددة الجنسية. وقيل ان هذه الحماية ستكون تدبيرا موقتا، يترك حالما يأتي الاوان المناسب للعودة الى الارتباط بالاقتصاد العالمي، لكن هذا الاوان المناسب لم يأت، وغدت الحمائية، خاصة في البلدان النامية، الركيزة الثالثة للاجماع في فترة ما بعد الحرب، الى جانب الركيزتين الأخريين، النزعة القومية، والذكاء القدسي لموظفي الحكومة.

    مغاسل وجزم عسكرية

    يلوح مما تقدم ان الاجماع كان كارثيا منذ البداية. ما ابعد ذلك عن الحقيقة. فسيطرة الدولة على ما اسماه لينين "المذرى المهيمنة" للاقتصاد حققت على ما يبدو نجاحا كبيرا. وحاول بعض الاقتصاديين الليبراليين ان يعيد كتابة تاريخ المعجزة الاقتصادية لليابان والمانيا في فترة ما بعد الحرب لأجل تقليل اهمية دور الدولة. غير ان الكتابة عن هذين المثالين تضمنت اكداسا مكدسة من الوقائع عن تدخل الدولة، والقومية، والحمائية. وكانت هناك افكار مماثلة تكمن وراء "الثلاثين المجيدة" من سنوات فرنسا بين عام 1945 و1975.
    حين اخذ الفرنسيون يرون تغيرات مذهلة في مستويات عيشهم. ففي نهاية الحرب، كانت باريس اشبه بمزبلة من المراحيض (التي لم تزد في العادة عن فناء مشترك للخلاء، تستعمله عدة شقق) الى المصابيح (التي تحرق صمام الامان اذا زاد عددها على اثنين)، الواقع ان باريس لم تتطور قيد أنملة منذ بداية القرن العشرين، لكن البيروقراطيين النزاعين للتدخل الحكومي، والمتخرجين في معاهد مثل "ايكول ناسيونال دو ادمنستراسيون" (كلية الادارة الوطنية)، غيّروا هذا الوضع برمته، واعطوا لمواطنيهم لا كهرباء ومرافق صحية افضل فحسب، بل شقوا لهم طرقات وسكك حديدية، وشبكات هواتف حديثة، وخدمات اجتماعية وسيارات زهيدة الثمن.

    انتشرت نزعة التدخل الحكومي في ارجاء العالم، لتتخذ في كل بلد من البلدان المضيفة لونا خاصا، من سيطرة الجزم العسكرية في اميركا اللاتينية، الى الرعاية الابوية المفصلة في الهند. وابدت بعض الحكومات، مثل حكومة كوريا الجنوبية، حصافة معقولة في استخدام مواردها لبناء صناعات تصدير، مثلما ابدت قسوة نسبية في اسقاط المشاريع التي تعجز منتجاتها عن التصريف في ما وراء البحار. غير ان اغلب الحكومات ركز على الدفاع اكثر من الهجوم.
    عمل جواهر لال نهرو، اول رئيس وزراء في الهند المستقلة، على ادخال نظام التخطيط القومي الشامل، الذي تكرس فيه صفوة الاداريين الحكوميين مواهبها لتوجيه رجال الاعمال الدونيين بما ينبغي ان يفعلوه. وتعامل هؤلاء الاداريون مع التجارة الدولية باعتبارها الشيطان مجسدا، لأنها تهدد، سلطتهم، من جانب، وتهدد الاستقلال الذي انتزعته الهند بشق الانفس، من جانب آخر.

    اما في اميركا اللاتينية، فقد برز جيل من الاقتصاديين الذين طوروا ما اسموه "نظرية التبعية" التي رأت ان التجارة الدولية أداة للاضطهاد، لا قاطرة للازدهار، وان العالم الغني يعامل العالم الفقير باعتباره مصدرا للسلع الرخيصة، ويحتفظ بالوظائف التي تدر قيمة مضافة اكبر لنفسه، وان السبيل الوحيد امام العالم الفقير، كي يتحرر من استمرار عبودية انتاج السلع يكمن في دفع الحكومات الى فرض التعرفات الجمركية والتراخيص لتوجيه التجارة. لم يقتصر اصحاب "نظرية التبعية" على ممارسة نفوذ طاغٍ على زعماء اميركا اللاتينية، من خوان بيرون الارجنتيني الى سلفادور الليندي التشيلي، بل تعدوا ذلك الى تحويل اقسام من الامم المتحدة الى ادوات دعاية لترويج نظريتهم.
    وشهدت اواخر الستينات والسبعينات موجة الافكار المعادية للعولمة تكتسح كل ما يعترضها في العالم النامي. وان الاحفاد الايديولوجيين المشعرين، المتحدرين من الزوجين ويب، جادلوا قائلين ان العالم الثالث يخوض صراعا معاديا للاستعمار ضد اسياده الامبرياليين، وان ازمة النفط لعام 1973 تبين ان هذا الصراع قد انتهى اخيرا لصالح من كانوا مستعمَرين في السابق. واخذ سياسيو العالم الثالث، من تشيلي الى الكويت، يصادرون الشركات الاجنبية على نطاق واسع، خاصة في قطاعي النفط والتعدين، وينشئون شركات مؤممة لحماية اقتصادات بلدانهم من ضواري الشركات متعددة الجنسية. اما في العالم المتطور، فإن معظم الاقتصادات الكبيرة بدأت بتشديد ضوابط الهجرة، وخلق مؤسسات قومية رائدة في مجال الكومبيوترات، والطيران والطاقة النووية لحماية هذه "القطاعات الاستراتيجية". الواقع ان رئيس الوزراء البريطاني هارولد ويلسون، الذي فاز في اربعة انتخابات برلمانية في الستينات والسبعينات، وضع متاعبه على كاهل من اسماهم "صيارفة زيوريخ"، وأثنى ثناء حسنا على التأميم باعتباره وسيلة "تمكن الناس من محاسبة سلطة تلك الشركات التي تبدو غفلا، بلا هوية، وكثيرا بلا وجه، وغالبا بلا روح، سواء كانت هذه الشركات وطنية ام متعددة الجنسيات".
    غير ان هذ المدَّ اخذ ينقلب بالتدريج ـ لا مع صعود مارغريت تاتشر ورونالد ريغان، فحسب، بل قبله. المعروف ان فرانسوا ميتران، الذي فاز في معركة الرئاسة الفرنسية في مايو (ايار) 1981 على اساس برنامج مضاد للعولمة، انطلق في تأميم 12 من اكبر عشرين شركة في فرنسا، وتأميم النظام المصرفي. الا انه لم يرض بالفوضى الاقتصادية التي نشأت عن ذلك. ولكي لا يتعرض للمزيد من المهانة على يد المضاربين العالميين بالعملات، ربط الفرنك الفرنسي بالمارك الالماني، وعلق مصير فرنسا على تكامل اوروبا وهكذا بدأ اجماع ما بعد الحرب العالمية الثانية بالانهيار.

    طريق الخروج من القنانة

    كان تدخل الدولة، رغم نجاحاته الاولى، يمنى بفشل جلي وتجلت اسطع الامثلة على ذلك في اوروبا الشرقية. فالاقتصاد الاوامري السوفياتي وصل، بالتدريج الى نقطة الهمود، وتجسد عقمه بموت بحيرة آرال، التي كانت رابع اكبر منبع للمياه العذبة في العالم، بعد ان دمرتها تدميرا لا قيام من بعده مصانع الدولة التي كانت تنتج قطنا رديئا، لم يجد له اي سوق للتصريف عدا ما كان يأمر به البيروقراطيون. واخيرا لم يسع الاتحاد السوفياتي ان يتحمل اعباء التحدي الذي رماه رونالد ريغان بوجهه حين امر بزيادة الانفاق العسكري. غير ان البؤس المدقع في العالم الشيوعي كان جليا امام انظار معظم الناس في الغرب حتى قبل سقوط جدار برلين بكثير. ولعل المانيا الغربية كانت ما تزال، خلال السبعينات، تشعر بالحسد ازاء الانجازات الرياضية الكبرى لالمانيا الشرقية في الالعاب الاولمبية (رغم انها كانت معززة بالعقاقير المنشطة)، الا انها كانت مع ذلك تجد عزاء كبيرا وهي ترى رثاثة البزات الرياضية والملابس العادية التي كان يرتديها المنافسون الشرقيون. وكان اهالي برلين الغربية يتداولون هذه النكتة وهم يتبخترون بسياراتهم الفارهة من طراز بي أم دبليو BMW كيف تضاعف قيمة سيارة الترابانت (التي تنتجها المانيا الشرقية) الجوانب: "ان تملأ خزانها بالبنزين".

    اما خارج اوروبا، فإن اولئك الذين سبقوا ان رحبوا باجماع ما بعد الحرب، اخذوا يرتابون في ان هذا الاجماع قد لا يكون اكثر من صيغة مخففة من المرض السوفياتي، ذلك ان الحل الكينزي في ادارة الحكومة للطلب، لم يفلح في إزالة الركود الناشئ عن قلة الاستثمار الخاص، بل راح يضغط بشكل خانق على المستثمرين الخاصين، كما لم يفلح هذا الحل في تيسير حركة الدورة الاقتصادية، بل اذكى نار الازمات المتكررة بفعل انفلات التضخيم.
    واخذت الحكومات تلتهم مقادير متعاظمة من الدخل القومي، مقترضة الاموال التي تعجز عن اعتصارها من دافعي الضرائب، مع ذلك بقيت عاجزة عن الوفاء بالتزاماتها. ومن مدريد الى مدراس، تحولت الصناعات المؤممة الى اعلانات صاخبة عن انعدام الكفاءة وهكذا عاشت الهند، اواسط الثمانينات، بفعل السياسات الحكومية، وهي محرومة من الكوكا ولا تذوق الا نسخة هندية ملفقة منها (ذات طعم رديء تبدو معه الكوكا كولا الاصلية شرابا من الجنة)، ولا تقود سوى سيارات اوستن عتيقة توقف انتاجها في بريطانيا منذ الخمسينات، ولا يجد خريجو جامعاتها العلمية المتفوقون من سبيل سوى التسرب الى خارج البلاد بحثا عن وظائف.

    لقد كرر التاريخ نفسه، ولكن بأسلوب ألطف، فمثلما كانت الحرب العالمية الثانية البرهان النهائي، الدامي، على عقم السياسات الاقتصادية للعقدين السابقين للحرب، جاء الركود التضخمي والصراع الاجتماعي والمنتجات المزرية في السبعينات لتقدم الدليل على افلاس اجماع ما بعد الحرب: فسيارات الاوستن القديمة في شوارع بومباي، وموجة الاضرابات والتظاهرات التي اكتسحت اوروبا تؤلف بمجملها دلائل على ان النظام في مرحلة تفسخه الاخير. ولكن ما البديل؟

    الواقع ان هناك شابة انجليزية قدمت جوابا نابضا، نوعا ما، في اجتماع لقسم الابحاث في حزب المحافظين عقد في ساحة سميث سكوير، على مقربة من مبنى ويستمنستر (البرلمان البريطاني). كان احد العاملين في الحزب يجادل قائلا ان على حزب المحافظين ان ينتهج طريقا وسطا بين اليسار واليمين ـ وهي الحكمة الشائعة وقتذاك ـ حين انتهرته مارغريت تاتشر، التي انتخبت لتوها زعيما للحزب، قالت ان احياء الاجماع الكينزي لا مستقبل له، ثم تناولت حقيبة يدها لتخرج نسخة من كتاب هايك المعنون "دستور الحرية" وقالت وهي تومئ الى الكتاب في مباهاة: "هذا ما نؤمن به".

    ولد فريدريك فون هايك في فيينا عام 1899، وهو ابن لعالم نبات شهير، وله ابناء عمومة الفيلسوف لودفيج فيتجنشتاين. كان هايك رجلا طويل القامة، ومثقفا متقشفا، خدم في المدفعية خلال الحرب العالمية الاولى، وحولته هذه التجربة الى اعتناق الاشتراكية. وحين عاد لاستئناف الدراسة، اخذ يمر بتحول فكري بطيء، ومؤلم، ليخرج آخر المطاف داعية متقدا لحرية السوق. استمد هايك وقدة حماسه من منبعين: الاول، انهيار الامبرارطورية النمساوية ـ المجرية الذي خلف فيه ازدراء للسياسيين، والثاني تأثير استاذه لودفيج فون مايسس، عميد المدرسة الاقتصادية النمساوية، الذي علم تلاميذه ان نظام السوق ينطوي على منظومة تعديل ذاتي تفوق ذكاء اي طائفة من الخبراء. احتل هايك مقعد بروفسور في "مدرسة الاقتصاد اللندنية" LSE عام 1931، حيث اعلن عن وجوده بكتابه مراجعة نقدية حادة لكتاب كينز "اطروحة في النقود".

    وهكذا بدأت علاقة غريبة بين الرجلين كان هايك وكينز على وفاق تام في علاقتهما الشخصية، وكانا يتراسلان عن المواضيع المشتركة المثيرة للحماسة، مثل الكتب القديمة النادرة. لم يكن هايك بمنجى من سحر كينز الفكري، وقد كتب باعجاب عن "جاذبية اللبق، اللامع، بما عنده من اهتمامات واسعة، وصوت ساحر".
    وابدى كينز بدوره ضروبا من السخاء والكرم ازاء خصمه، فرتب له امر الانتقال من لندن الى كيمبردج خلال فترة الحرب، كما رشحه لعضوية الاكاديمية البريطانية. لكن سجالاتهما الاكاديمية كانت مريرة.

    اعتبر هايك تأثير كينز في علم الاقتصاد "اعجازيا ومأساويا في آن" واختصم الاثنان خصومة عنيفة حول ركود الثلاثينات. فكينز ارتأى ان الانفاق الحكومي هو السبيل الوحيد لأنقاذ الرأسمالية من نفسها، اما هايك فقد ارتأى ان هذا الحل لن يفعل شيئا الا ان يديم اختلال التكيف الاساسي في الاقتصاد. ووصف كينز احد كتب هايك "السعر والانتاج" (1931) بانه "واحد من اكثر الكتب تشوشا مما طالعه في حياته".
    واضاف معلقا: "ان هذا (الكتاب) مثال ساطع يبين لنا كيف ان المنطق المتصلب، حين يبدأ من غلطة يمكن ان ينتهي الى مستشفى المجانين". وكتب على نسخة من مسودة مقال آخر "هذا افظع هراء شهدته".

    حين توطدت الثورة الكينزية، دفعت هايك الى الهامش، بلا رجاء وكان الرأي السائد يطري كينز باعتباره العبقري الذي انقذ الرأسمالية من نفسها، وينبذ دعاة السوق الحر الخالصة باعتبارهم مجانين اليمين. غير ان هايك لم يعبأ بذلك وواصل دأبه. ونشر كتابه "الطريق الى القنانة" في نفس سنة انعقاد مؤتمر بريتون وودز، فكان بمثابة النفير لكل من اضافة تنامي سلطة الدولة. بعد موت كينز، اخذ هايك ينظم المعارضة بكل جدية. فأخذ يعقد لقاء منتظما لـ"جمعية مونت بليرين" التي ضمت 36 زميلا مرتحلا، بمن فيهم ميلتون فريدمان الشاب، الذي ارتبط مع هايك باواصر دعم متبادل. وفي عام 1950، انضم هايك الى ميلتون فريدمان في جامعة شيكاغو، حيث البيئة اكثر تعاطفا، رغم انه عمل استاذا في قسم العلوم الاجتماعية والسياسية، لا في قسم الاقتصاد.

    كانت الفكرة المركزية في الاجماع الاقتصادي لفترة ما بعد الحرب تفيد ان الاسواق اكثر عرضة للفشل من الحكومات. اما هايك فقد طرح النقيض في سيل كتبه وابحاثه. نعم يمكن للاسواق ان تفشل، لكنها تظل مع ذلك اكثر قدرة وكفاءة من سائر البيروقراطيين، الذين لا يفقهون عادة ما يدور حولهم، ناهيك بالقدرة على التكهن بما يحمله المستقبل. وهم يقصون المشاريع المنتجة عن طريق الضرائب والتدخل. بل ان اكثر اشكال التدخل الحكومي خفوتا ـ اي الضوابط ـ عرضة لأن تصبح اسيرة المنتج، نظرا لأن القيمين على الضوابط يتحولون، باستمرار الى أدوات بيد اصحاب المصالح الوطيدة. كانت التجارة الحرة جزءا مهما من هرطقات هذه العقيدة الجديدة. وقال هايك ان البلدان بحاجة الى تخفيض تعرفتها الجمركية لكي تعرض صناعاتها الى تأشيرات التنافس المنشطة، ورحب مرارا بأماكن من شاكلة هونغ كونغ، حيث تؤدي ليونة الضوابط الى تحويل صخرة جرداء الى مركز تجاري اقليمي عملاق.
    لم يقتنع الاكاديميون الآخرون بذلك وحتى حين حاز هايك اخيرا، جائزة نوبل في عام 1974، فان تكريمه اعتمد اعماله في العشرينات والثلاثينات، واثار غضب العديد من الاقتصاديين علنا. اما أول بلد يضع افكار هايك بوعي، موضع التطبيق، فهو بلد منبوذ عالميا: تشيلي فبعد استيلاء اوغسطو بينوشيت على السلطة في انقلاب عسكري عام 1973، لجأ الدكتاتور الى مجموعة "فتيان شيكاغو" طلبا للنصح. في البدء ارتكب حواريو هايك بعض الاخطاء الفادحة، اذ باعوا شركات الدولة باسعار ارخص من اللازم. الا ان برنامج الاصلاح العام المطبق ـ من الخصخصة الى رفع الضوابط، والدخول في الاسواق الكونية ـ بدأ يفعل فعله. وازدهرت الشركات العائلية في تشيلي نتيجة ارتباطها بالسوق العالمي، في حين ان شركات الدولة في السابق كانت تضطر الى التخلص من اليد العاملة الفائضة، وتنهج سياسات تجديد.

    في غضون ذلك دفع سياسيان آخران كلاً من فريدمان وهايك وآخرين الى مقدمة انظار العالم، نعني بذلك رونالد ريغان، وبدرجة أكبر، مارغريت تاتشر. ورغم ان تاتشر لم تكن من نوع السياسي الحائز الاجماع، الا انها أخذت تزداد قوة كلما ازدادت هستيريا اعتراض المؤسسة البريطانية. الواقع ان 364 اقتصاديا تجشموا، عند نقطة معينة، عناء الكتابة الى صحيفة "التايمز" اللندنية ليطالبوا الحكومة بتغيير سياستها. كانت تاتشر تؤمن ايمانا راسخاً بأن بريطانيا لن تستعيد عظمتها السالفة الا اذا فتحت اقتصادها امام المنافسة الكونية. وكان أول اجراءاتها ان الغت الضوابط المفروضة على حركة رأس المال العالمي. ثم جاءت سلسلة متعاقبة من اجراءات التخصيص لتفتح الصناعات، التي كانت تعد بمثابة انصاب قومية، أمام التملك الأجنبي. وجادلت تاتشر مرارا بالقول ان نجاح بريطانيا في اجتذاب الاستثمارات، من اليابان، هو دليل على حيوية البلاد.

    ولما أخذت التاتشرية والريغانية في ما بعد، تفعل فعل سحرها العجائبي، القاسي في الغالب، حذت حكومات أخرى حذوهما في لبرلة (اشاعة الليبرالية) في اقتصاداتها، حتى لو كانت هذه الليبرالية تناقض أعمق غرائزها. ففي الصين، مثلا، راح زعيمها دنج هسياو بنج، الذي يسجد خشوعاً لماركس، يعقد الصفقات تلو الصفقات مع الشركات متعددة الجنسية. ولما اقتحمت التاتشرية هدفا سهلا مثل بكين، اكتسحت بعد ذلك بوابات باريس. (لم يتقبل الفرنسيون الخصخصة، لكنهم ارسلوا لها قبلاتهم في الهواء). وتحركت اعداد كبيرة من الاقتصادات الناشئة لتحذو حذو هؤلاء. وفي عام 1989 انتخب الارجنتينيون رئيسا بيرونيا، غريب الاطوار، مهدوي النزعة، يدعى كارلوس منعم، بدا وكأنه تواق لتأميم كل المرافق وطباعة النقود بغزارة، ولكن ما ان تسنم زمام السلطة حتى باع كل مشاريع الدولة، وشكل هيئة للعملة في سبيل القضاء على التضخم.

    ومثلما يفعل الجيش الغازي حين يجد ثغرة صغيرة في سور قلعة، تدفق رجال الاعمال عبر هذه الكوة التي فتحها السياسيون. وارتفعت قيمة السلع المصنعة المستوردة والمصدرة من 2 تريليون دولار عام 1986، الى 5.2 تريليون دولار بعد عقد لا غير. وبحلول مطلع التسعينات، تزايد عدد الشركات متعددة الجنسيات، كما قاسها مؤتمر التجارة والتنمية للأمم المتحدة (أونكتاد)، الى 37 ألفا، بعد ان كان عددها 7 آلاف في الستينات، وبدأت المتعددة الجنسية تتصرف كمنظمات كونية متكاملة وليس كمنظمات قومية ذات علائق رخوة، لا مشترك بينها سوى الاسم. ففي السبعينات مثلا، كانت الفروع القومية لشركة زيروكس Xerux منفصلة عن بعضها ولا يجمع بينها جامع، بل كانت تتنافس في ما بينها، اما في الثمانينات، فقد رأت زيروكس ان فرصتها الوحيدة لهزيمة المنافسة تكمن في التصرف كمنظمة واحدة متكاملة. في غضون ذلك، أدى سقوط الحواجز التجارية وتحسين وسائل الاتصال الى تخفيض تكاليف اقامة وادارة نظم انتاج عالمية. وأصبحت مايكروسوفت، على سبيل المثال، قوة عالمية من دون ان تحرك أياً من مواردها في "مقرها الكوني" قرب سياتل.

    وتطورت، على وجه العموم، علاقة تكافل بين السياسيين الحريصين على اقامة مناطق تجارة حرة، ورجال الاعمال الحريصين على استغلالها. وبحلول نهاية التسعينات ابرمت نحو مائة معاهدة تجارية اقليمية في حين لم يكن عدد مثل هذه المعاهدات ليزيد عن 25 في عام 1990. وتضمنت قائمة القادمين الجدد منطقة التجارة الحرة في دول آسيان وتعرف بـ (أفتا) AFTA التي تأسست في يناير (كانون الثاني) 1993، بهدف تخفيض الحواجز التجارية في آسيا، ومنع الدول الأعضاء من جز أعناق بعضها البعض بالتنافس على الاستثمارات الاجنبية المباشرة. كما تضمنت القائمة معاهدة ميركوسور، التي شملت الارجنتين والبرازيل والباراغواي والاوروغواي عام 1991، واتفاقية التجارة الحرة لاميركا الشمالية (نافتا) ) NAFTA التي شملت الولايات المتحدة وكندا والمكسيك عام 1994).

    غير ان الأبرز في هذا كله هو السوق الموحد للاتحاد الأوروبي عام 1992. وجاء السوق الموحد، شأن العملة الموحدة التي أتت في اعقابه، الى الوجود بفعل ارادة الزعماء السياسيين في فرنسا والمانيا، باعتباره جزءا أساسيا من "المشروع الأوروبي". مع هذا فإن القسط الأكبر من هذا الزخم جاء من نخبة رجال الاعمال في القارة. وبات عام 1992 بمثابة المحفز العقلاني لما لا يحصى من الاستيلاء على الشركات وإعادة التنظيم، علاوة على كثرة كاثرة من المؤتمرات المملة. وتحرك رجال الاعمال ايضا على تخويف الحكومات لدفعها الى ارخاء قبضتها على الصناعات، لكي تتمتع هذه بحرية أكبر للتنافس. وشهد العقد الذي تلا عام 1985 خصخصة بعض "الانصاب القومية" كلا أو جزءا، وشمل ذلك شركات كبرى مثل فولكس فاجن ولوفت هانزا، ورينو وألف أكويتان، وإيني ENI ودويتش تليكوم. وامتلأت النوادي الليلية في لندن بالممولين "الأوروبيين الحثالة" الذين يرتدون بدلات من صنع دار أزياء جوتشي الايطالية، وكان أغلب هؤلاء يعملون لصالح شركات اميركية ويابانية لم تكن أقل حرصاً منهم على التعامل مع القارة كوحدة واحدة

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    6-Jun-2002
    الدولة
    موزمبيق
    المشاركات
    88

    الحلقة الثالثة

    التكنولوجيـا بوصفها حريـة.. أولى قاطرات العولمة

    أسرع نمو في امتلاك الهواتف النقالة يجري في البلدان النامية وسط قطاعات بعيدة عن الثراء


    ما الذي يحرك العولمة؟

    ان قرار السياسيين التدريجي بالابتعاد عن طريقها منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، اتاح لشتى القوى التجارية بأن تبرز الى المقدمة: الانترنت، سوق العملات الاجنبية، اندماج الشركات، الاستثمار الاجنبي المباشر، قد يجادل البعض (عن حق، لكن من دون فائدة كبيرة)، ان عصفات الريح هذه ليست سوى اجزاء من الاعصار المدمر نفسه المسمى بالرأسمالية المعاصرة. وقد اخترنا ان نفرز هذه الجوانب وغيرها في زمر مستقلة تحت ثلاثة عناوين، حيث سنعالج كل زمرة معالجة منفصلة في الفصول الثلاثة التالية وهي: التكنولوجيا، اسواق المال، والإدارة.
    إن كل واحدة من هذه القوى جبارة بذاتها، غير أن ما يكسبها المنعة العاتية التي تميزت بها في السنوات الأخيرة، انها تنسجم مع بعضها كل الانسجام. فالتدفق الحر لرؤوس الأموال يسهل على الشركات، في أقصى بقاع العالم وأكثرها عزلة، أن تشتري ما تشاء من التكنولوجيا الجديدة. والتكنولوجيا الجديدة تسهل انتقال رؤوس الأموال إلى اقصى بقاع العالم. أما الإدارة management، ونعني بها انتشار طرق مشتركة للإدارة، ونمو صناعة الإدارة بما فيها من شركات استشارية ومدارس للأعمال، وتطور كادر جديد من المديرين المحترفين للشركات متعددة الجنسية، فإنها تنبه الشركات إلى الطرق الذكية التي تستطيع ان تستخدم بها الرأسمال والتكنولوجيا.
    وان الشركات التي تجيد تنظيم صفوفها أفضل من منافساتها سرعان ما تتوسع خارج حدودها القومية، فتضغط بذلك على الشركات الأقل كوزموبوليتية لتدفعها إلى السير في اثرها أو المجازفة بالهلاك، وهكذا دواليك.

    سائح من بولتن

    يرتبط اسم فيرانتي، عند معظم البريطانيين، بالماضي لا بالمستقبل. كانت عائلة فيرانتي على مدار القرن الماضي، أبرز الأسر البريطانية في مجال الإلكترونيات. غير أن الحكومة البريطانية اضطرت إلى التدخل لإنقاذ الشركة في السبعينات، وأنقذتها فعلاً، إلا أنها انهارت آخر المطاف بعد فضيحة في الحسابات. ولعل بوسع الزائر لمنزل عائلة ماركوس دي فيرانتي في بولتن، أن يشاهد صور العائلة ليتأكد من هذه الصورة المتطلعة إلى الخلف. ترسم صور العائلة لوحة رحلة متوقعة في مسار المؤسسة البريطانية، من أيام مدرسة ايتوك، إلى حفلات التزلج. ان قطعة التكنولوجيا الوحيدة التي يمكن ان يراها الناظر لا تزيد عن جهاز كومبيوتر في غرفة مكتبة فيرانتي. وتظهر على الشاشة صورة جزيرة اسكوتلندية، غير مأهولة، حيث كان يرغب فيرانتي أن يبني بيتاً. أما بالنسبة إلى فيرانتي نفسه، فهو يتسم بسحر إنسان لم يحاول قط أن يبذل أي جهد في شيء. العب معه التنس وستجده يضحك حين يخسر، رغم أنه أنفق ثروة صغيرة لتحسين أدائه في هذه اللعبة.
    الواقع، أن حياة فيرانتي في المهنة ليست تقليدية، نوعاً ما، رغم أنها تبدو الآن ثورية بقضها وقضيضها. تخرج فيرانتي في جامعة أدنبرة عام 1982، ليصبح طياراً حربياً يقود مقاتلة، وهي مهنة تقوم على جدارة القلة بصورة تثير قلق طلاب مدارس ايتون الكسالى، لأنها ترفض تسعة من كل عشرة متقدمين.

    بعد ذلك أمضى سنتين عمل خلالهما في شركة لتصنيع البرامج تابعة لشركة "جي اي سي" GEC، عملاق صناعة الدفاع البريطانية التي قامت، ويا للمفارقة، بنهش لحم شركة عائلة فيرانتي، قبل أن تعرض عليه وظيفة مذهلة: عامل في وحدة شكلتها حكومة المحافظين لفك الضوابط المقيدة للصناعة البريطانية.
    في البدء، كانت وسائل الوايتهول (الحكومة) الغريبة تسلّي فيرانتي، لكنه سرعان ما وجد أن هذه الوظيفة محبطة. فحكومة المحافظين، التي فقدت شعبيتها، ترتعد من المضي شوطاً أبعد لزيادة المنافسة. غير أن فيرانتي رأى أن فك الضوابط لم يتحقق بالقدر الكافي، خاصة في مجال الاتصالات اللاسلكية. وكلما سأل رؤساءه عن سبب استمرار المحتكر القديم، أي شركة بريتش تليكوم، ثابتا في موقعه المسيطر، قيل له بأنه ساذج، ألا يعرف أن المحافظين بسبيلهم إلى أن يخسروا الانتخابات، في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) 1996، أي قبل ستة أشهر من سقوط المحافظين، ترك فيرانتي الوحدة، وذهب للعمل مع أخيه، رجل الأعمال.

    وفي شهر يونيو (حزيران) 1997، جاء صديق يدعى ريتشارد اليوت إلى بولتن لتناول كأس بعد التنس. واليوت شاب طويل، من تلاميذ المدارس الحكومية، اراد دوما أن ينشئ شركته الخاصة. انضم اليوت إلى الجيش ثم دخل في متاهة مدينة المال (سيتي) في لندن، وراح فيرانتي يلحف بالسؤال تلو السؤال عن عدم كفاءة الأسواق، خاصة

    الأسباب التي تقف وراء ارتفاع تكاليف المكالمات الخارجية أو ما السبب في عدم وجود سوق يتاجر فيه الناس
    بزمن الهاتف؟
    وعرض فيرانتي فكرة اقامة بورصة على الانترنت ترسل إليها شركات الاتصالات اللاسلكية عروضها الغفل لشراء أو بيع دقائق فترة المكالمات الهاتفية، بين أية نقطتين. أبدى اليوت دهشته من هذه الفكرة وتساءل من أين سيأتي فيرانتي بالمال اللازم للبدء بمبادلة هذه السلع. كان ذهنه معتاداً على فكرة وجود مبنى يأتيه المتبادلون للمساومة. شرح فيرانتي الفكرة بقوله ألا حاجة هنا لآجر ومدق، فكل ما تحتاجه البورصة هو برنامج كومبيوتر وموقع على شبكة الانترنت. قدم اليوت في نهاية يونيو (حزيران) استقالته إلى رؤسائه في كلاين فورت بنسون الذين سعدوا بها وبدأ العمل في شركة باند ـ اكس التي أنشأها مع فيرانتي في غرفة المطالعة في بيت هذا الأخير.
    لو نظرنا من موقعنا الحالي إلى تلك الأيام، لوجدنا ان اكبر رصيد في شركة باند ـ اكس، كان جهل مؤسسيها بواقع شركات الاتصالات اللاسلكية. الواقع ان اثنين من المديرين المحنكين في هذه الصناعة ممن طلب فيرانتي مشورتهم قبل ان يبدأ مشروعه، نصحاه بأن يتخلى عن الفكرة في الحال. نعم، اتفق الخبيران معه على انه من السهل هذه الأيام تحويل المكالمات من شركة ناقلة إلى شركة ناقلة أخرى. ثم، نعم، ان هناك شركات ناقلة كبرى تمتلك طاقة فائضة، لكن معظم المكالمات الهاتفية لا تزال محكومة بأسعار محددة بموجب معاهدات دولية معقدة، وان نحو 10 في المائة من هذه المكالمات يباع بأسعار السوق. أجرى فيرانتي بعض الحسابات، وأجاب بأن هذه النسبة توفر سوقا بقيمة 60 مليار دولار. أقر المديران بأن ذلك صحيح، لكنهما قالا إن بيع "الوقت" مجهد. نعم، تستطيع أن تبيع ذلك، لكن من خلال سماسرة متمرسين يطلبون عمولة بنسبة 20 في المائة. هنا أجاب فيرانتي بأن بورصته ستطلب عمولة %1 فقط، وبما ان كل الأطراف تستطيع أن ترى العروض أو المناقصات، فإن كل طرف سيدرك أنه قد يحصل على أفضل سعر "يا لك من ساذج"!
    الواقع ان شركة باند ـ اكس نمت نمواً سريعاً بفعل بساطتها بالذات بحلول أغسطس (آب) 1997، انضم إلى هذه البورصة مائتا عضو، وبرهنت بشكل ملموس إلى أي مدى يمكن للأسعار أن تنخفض في السوق الحرة.

    أخذت هذه البورصة تبيع دقيقة المكالمة بين نيويورك ولندن بسبعة سنتات، وهذا يبلغ السدس من تعرفة بريتش تليكوم، ويساوي تكلفة مكالمة محلية في لندن. وكان فارق الأسعار على الخطوط الأخرى أكبر بكثير. وتدفق سيل من مديري شركات الاتصالات اللاسلكية في الطابور، عبر غرفة جلوس فيرانتي (اضطر رئيس شركة اسكندنافية تابعة للقطاع العام أن يمضي وقته باللعب مع الأطفال بانتظار دوره).
    بحلول يونيو (حزيران) 1998، اجتذبت شركة باند ـ اكس نحو ثلاثة آلاف عضو، من البوسنة إلى بنغلاديش، وأصبحت أشبه ببورصة بعد أن فتحت لها بداية خاصة في بدالة لندن المركزية، نيلي هاوس، مما أتاح لها عقد الصفقات وترتيبها، وسهّل لها ذلك ان تقوم بالمتاجرة آنياً، أي أن تبيع الدقائق الفائضة لحظة توفرها، وليس قبل ذلك.
    أدى هذا الترتيب إلى توسيع الأعمال إلى درجة دفعت شركة باند ـ اكس إلى مغادرة غرفة مكتبة فيرانتي، وحصلت في عام 1999 على تمويل بقيمة 101 مليون دولار من رأسمالي مغامر من شيكاغو، في صفقة قدرت قيمة باند ـ اكس بأكثر من 30 مليون دولار. هذا ما أشار إليه أحد العاملين في وول ستريت عام 2000. مع هذا، ظل للشركة نشاط تجاري يثير الإعجاب. وتعرض شركة باند ـ اكس خدماتها على شبكة الإنترنت اعتماداً على شركة إلكترونية مقرها الرسمي في كندا. اضافة إلى هذا، ان بوسع الرجلين الانجليزيين، اللذين أسسا باند ـ اكس، أن ينسبا لنفسيهما دوراً صغيراً في الظاهرة التي أطلق عليها فرانسيس كارينكروس، في صحيفة "الايكونومست"، تعبير "موت المسافات".

    قبل أن يشرع الفني فيرانتي بتحدي الأساليب القديمة، كانت تكاليف المكالمة الهاتفية من نيويورك إلى لندن تساوي دولارين في عام 1996، مقارنة بثلاثمائة دولار في العام 1930 (مقارنة بأسعار 1996). ولو عنّ لك اليوم، أيها القارئ، أن تتجول في الهند، لوجدت أيادي وعيونا وأصواتا وعقولا أرخص تكلفة وهي تؤدي أعمالاً مذهلة: تدقيق طلبيات التأمين، إدارة المكاتب الخلفية لشركة الطيران السويسرية، الاتصال بمن يستخدمون بطاقات الائتمان الأميركية لشركة جنرال موتورز، بل حتى حراسة مباني بعض الشركات في كاليفورنيا (بمراقبة صور التلفزيونات الأمنية المرسلة عبر الأقمار الصناعية). وتتوفر الآن، بفضل مزيج من التكنولوجيا وفك الضوابط، فرصة مغرية بخفض كلفة المكالمة الهاتفية إلى درجة الصفر عملياً.

    لعل هذه الثورة أبعد بعض الشيء مما يأمله الناس. وهناك على أية حال، وفرة من الشخصيات الأكثر شهرة من فيرانتي واليوت. غير أن أثرهم ملحوظ تماماً. فالمستهلكون في أرجاء العالم يستخدمون قوائم باند ـ اكس عن التكاليف الحقيقية للاتصالات بهدف مهاجمة الاحتكارات القديمة. وان العقول الذكية في هذه الصناعة تفكر في إنشاء سوق للفروع الثانوية للتجارة بوقت الاتصالات اللاسلكية. ولا حاجة بنا إلى القول إن فيرانتي واليوت لا يزالان هادئين بصدد دور باند ـ اكس في هذه الثورة. لقد خرّب نجاح باند ـ اكس حياتهما الاجتماعية، كما يقولان. فمثلا ان فيرانتي اضطر إلى إرجاء خططه لبناء المنزل في الجزيرة الاسكوتلندية. اما اداؤه في التنس، الذي كان على وشك ان يشهد قفزة نوعية لحظة تأسيس الشركة، فلم يتحسن بالمرة! إن فكرة استحقاقهما شرف خفض تكاليف المكالمات الهاتفية، ناهيك من "قتل المسافات"، تشعرهما بالسرور. ويقول فيرانتي وهو يتطلع إلى شاشة الكومبيوتر بشيء من التأسي "كان بوسع أي ساذج أحمق أن يفعل ذلك، عاجلاً أم آجلاً".

    الإطلال على الماء

    ينبغي اعتبار قصة نجاح شركة باند ـ اكس على أنها ردّ مفحم لنمطين من الناس. الأول يتمثل في سائر أصحاب الحتمية من التكنوقراط ممن يعتقدون أن وجود الآلة يكفي بحد ذاته ليكون أثرها شاملاً. فمثلا ان اندي جروف من شركة انتل يقول إن "التغير التكنولوجي وما يولده من آثار، أمر محتوم، وأن صدّ هذا التغير وآثاره ليس بالخيار الصحيح".
    ان الفكرة القائلة بأن التقدم وصولاً إلى "عالم خال من الاحتكاك" بسيطة بساطة تغيير إشارات المرور في بالو التو، غير أنها تلوح خاطئة بالكامل. قد تكون هذه الفكرة مجرد تعبير عن نزعة لودية Ludism، (ونظل نحن نمطا من الصحافيين الذين يقضون من الوقت في نقل تقرير اخباري إلى لندن، أكثر مما يقضون وقتاً في كتابته أصلا)، غير أن العالم حافل بالأمثلة الوفيرة على مدى تعقيد وتناقض الصلة بين التكنولوجيا والعولمة، إلى درجة مثيرة لليأس.
    اما النمط الثاني من الناس، فيضم سائر الليبراليين المتحجرين الذين يعتبرون التكنولوجيا بمثابة "الأخ الأكبر" Big Brother، أي بمثابة المقيد للحرية الفردية. فالآلات في نظرهم وسيلة لاقتناص المعلومات عن الناس، وارغامهم، بل التجسس على "أعداء الدولة"، من الجو. الواقع ان الطريقة العشوائية، غير المتوقعة، التي تنتشر بها التكنولوجيا في أرجاء العالم، هي التي تجعلها تدميرية إلى هذا الحد. التكنولوجيا تتيح لأرباب العمل مثل فيرانتي حرية تحدي الشركات العملاقة، وتحطيم كل تمركز للسلطة، كما أن التكنولوجيا تمنح الناس القدرة على عقد الصلات في أرجاء المعمورة، وتسمح لهم بالإفلات من طغيان المكان.

    حين يفكر معظم الناس في تأثير التكنولوجيا على العولمة، فإنهم يرونها في الكومبيوترات والهواتف، لكن هناك، كما يقال، اختراعات عادية تركت آثارا أعظم، غير أن قلة منها كان تأثيرها فائقا لكي تسمح للناس بالإفلات من سطوة المكان. خذ مثلا على ذلك، مكيفات الهواء. لقد شيد أول منزل مكيف الهواء على يد مليونير من مينيا بوليس عام 1914، لكن تأثير هذه الاداة في حياة المجتمع لم يبدأ إلا بعد الحرب العالمية الثانية. وهناك عدة أشخاص، في الولايات المتحدة، ممن يزعمون ان لتكييف الهواء تأثيرا كبيرا في التكامل مع الجنوب، شأنه شأن حركة الحقوق المدنية. وكما قال استاذ التاريخ رايموند ارسينولت، فإن شركة "جنرال الكترينك برهنت انها غاز مدمر اكثر من الجنرال شيرمان".
    وما يصح على مدينة سفانا يصح على مدن ساو باولو واشبيلية وشانغهاي. ويقول لي كوان يو رئيس وزراء سنغافورة "تاريخياً، ازدهرت الحضارات المتقدمة في المناخات الأخف حرارة، إلا أن نمط حياتنا الآن أصبح شبيها بالمناطق المعتدلة، ولم يعد ثمة ما يدعو الحضارة في المناطق الاستوائية إلى التخلف عن الركب". لقد أدى تكييف الهواء إلى توحيد أجواء المكاتب وغرف الفنادق (المستقران الأساسيان لحياة رجال الأعمال) في كل مكان.

    وفي غضون ذلك، مهد تكييف الهواء الطريق لنشوء "السوق الكبير" المول، الذي يعتبر مسرح اللامكان المثير للهزل. وحين تقف في باسيفيك بليس في هونغ كونغ، أو في ميتروسنتر في جيتس هيد، ستجد ان أوجه الشبه تتعدى أسماء المحلات المتكررة (مثل محلات بنيتون ومحلات بودي شوب) إلى المناخ اللطيف، الجاف، وعديم الحياة نوعاً ما.
    وهناك اختراع بسيط لا يزيد على صندوق معدني طوله 20 قدما، ترك أثرا أكبر في العولمة. كان عدد كبير من العمال الذكور، في أغلب المدن الكبرى، يعملون على أرصفة الموانئ لتحميل وتفريغ البضائع، من الشاحنات الى المستودعات أولا، ثم من المستودعات إلى السفن ثانيا، لكن أحد الناقلين من كيب فير، في كارولينا الشمالية، يدعى مالكولم مالكين، عرض على أصحاب سفن الشحن عام 1956، ان ينقل عرباتهم على مركبة "ايديل اكس"، التي تبحر من نيويورك في نيوجيرسي إلى هوستون، بعد أن طورها خصيصا لكي تحمل مقطورات الشحن. وسرعان ما أدرك أصحاب السفن ألا ضرورة لأن تكون المقطورات بعجلات. هكذا ولدت الحاويات، التي أخذت، بعد عقد من ذلك، تملأ جنبات سفن الشحن لتمخر عباب الأطلسي. وبهذا اختفى عمال النقل اليدوي من الأرصفة والذين صورت حياتهم خير تصوير في فيلمي "مشهد من الجسر" و"على جبهة الماء".

    وبدلا من المئات من عمال التحميل على الأرصفة، لم تعد هذه الحاويات في حاجة إلى أكثر من بضع أياد، وبهذا صارت الحاويات تلقب باسم توابيت عمال الموانئ الأشداء.
    ولما كانت الحاويات تصون السلع بصورة افضل، اخذ الصناعيون يتشجعون على استيراد اجزاء صغيرة دقيقة من المصنوعات (يصعب علينا والحالة هذه ان نتخيل مارلون براندو وهو يدمدم بأنه متمرد، فيما هو يحمّل اقراصا مدمجة (كومباكت ديسك) في عنبر سفينة).
    الواقع ان 40 في المائة من صادرات اميركا ووارداتها لم تكن في بداية القرن العشرين، أكثر من "أغذية خام" و"مواد خام". أما اليوم فإن %80 من الصادرات هي سلع مصنعة من هذا الصنف أو ذاك.
    وفي السبعينات، فرضت ثورة النقل البحري، تحولات مماثلة على البر. وبدأت الحكومات، بمبادرة من أميركا، بتخفيف القواعد المقيدة لصناعات الشحن والبريد، مما سمح للشاحنات بأن تنقل الحاويات من وإلى الموانئ، ومنح خدمات البريد الخاصة مزيدا من الحرية. واستجاب الناقلون بتوحيد الجهود مع سكك الحديد، بل حتى شركات الطيران، فأصبح نقل الحاويات متعددة الوسائل بحق، وباتت الصناديق تتحول بسرعة من وسيلة نقل إلى أخرى. وغدت السفن تقضي، في العادة، 24 ساعة لا غير في الميناء، بعد ان كانت تجثم فيه ثلاثة اسابيع. أما على البر، فإن تكلفة الشحن بالقطارات الأميركية هبطت بين أعوام 1986 و1996، بمقدار الربع. وتقوم شركة ايدفيكس، بمفردها، بنقل نحو ثلاثة ملايين طرد ورزمة في أرجاء العالم.

    من جديد قد يبدو ذلك محض مسكّن، لكنه غيّر رؤية العديد من الصناعيين للعالم. فالنقل الأرخص والأسرع فتح أسواقاً جديدة، وشجع حتى الشركات الصغيرة على الانتقال إلى الكونية، كما سمح للشركات بأن تبحث عن "مصادر" مكونات مصنوعاتها حتى لو كانت في أقاصي العالم، وأن تجرب أساليب صناعة المنتجات "في الوقت المضبوط". ولما خف اعتماد التصنيع على المصانع والمستودعات الضخمة، باتت الأعمال ارشق، واخذت الشركات تسند شبكات التجهيز إلى اختصاصيين في الجوستيات "اي النقل والخزن والتموين". فمثلا تدير شركة فيدايكس شبكة توزيع شركة ناشنال سميكوندكستر، وتعمل على تنسيق عمليات تجميع اجهزة كومبيوتر ديل Dell في ماليزيا، وتتولى كل أعمال التخليص الجمركي.
    ويبدو أن أي تجديد يطرأ على تكنولوجيا النقل يدعم العولمة، بطرق حاذقة ومواربة تماماً. فالطائرات الأسرع (ناهيك من تخفيف الضوابط المقررة لهوية مسيّرها، وموعد انطلاقها)، تعني ألا وجود لأي مصنع يبعد، مهما نأى، أكثر من نهار ونصف النهار، مما يحد من قدرة أي مدير محلي، مهما بلغ استقلاله، على تحدي الإدارة في المركز، كما أن الكثير من الأفراد يبدون الاستعداد التام لإرسالهم إلى الخارج إن كانوا يعرفون ان بمقدورهم العودة بسرعة إلى بيوتهم. ترى كم من الازواج الممتنعين أُقنعوا بأن مكان ايفادهم ليس بعيدا كما يبدو؟ فقبل عشرين عاما لا غير، كان مجرد التفكير في ركوب الطائرة من نيويورك الى لندن خلال عطلة نهاية الاسبوع لحضور حفل زفاف صديق يعتبر قمة التسيب. اما اليوم، فإن كل موظفي السكرتارية والسباكين يفعلون ذلك!

    الثالوث المحترم

    لا يؤلف الكومبيوتر والهاتف والتلفزيون كل قصة التكنولوجيا، لكن هذه الاجهزة الثلاثة هي التي تبرز في المقدمة. ويرجع ذلك، جزئياً، إلى أنها تجتذب معظم الاستثمارات. ويلاحظ عشرة في المائة من ميزانية شراء الاجهزة في 7 شركات اميركية، كان ينفق على تكنولوجيا المعلومات في عام 1980، اما اليوم فإنها تنفق ما يقرب من نصف هذه الميزانية على تكنولوجيا المعلومات. غير ان هذه الاجهزة الثلاثة هي حجر الزاوية لعصر المعلومات (ان جاز لنا خلط استعارة من الحقبة ما قبل الصناعية بشعار من العصر ما بعد الصناعي). ولما كنا

    سنتناول أثر التلفزيون في العولمة من الفصل العاشر، فإن علينا معالجة الكومبيوتر والهاتف، فإلى أي مدى يساهم هذان في دفع العولمة؟
    لا جهاز من هذين الجهازين غض العود فعمر التليفون يزيد على قرن. أما عمر الكومبيوتر فأطول، إذا اعتبرنا آلة تشارلز باباج الحاسبة أول كومبيوتر. وحتى لو آمنا بأن عصر الكومبيوتر لم يبدأ إلا بظهور آلتير 8800، فإن أول كومبيوتر شخصي دخل الرواج قد بلغ الآن خريف العمر. يقال إن كلا الجهازين لم يتحولا إلى الكونية إلا في التسعينات. ثمة الآن نحو ربع مليار جهاز كومبيوتر على كوكب الأرض، أي جهاز واحد لكل 24 شخصا على وجه التقريب. صحيح ان 40 في المائة من هذه الاجهزة موجودة في اميركا، فإن هذه النسبة في هبوط. وذكرت بعض الاحصائيات المحلية، في عام 1998، ان هناك عائلة واحدة من كل عشر في شنغهاي وبكين تمتلك جهاز كومبيوتر (يبلغ ثمن الجهاز زهاء نصف الاجر السنوي، لكن الصيني، المعروف بتقتيره، واطفاله ـ الاباطرة الصغار المدللين ـ يلحون في طلب الكومبيوتر).

    غير أن هذه الشمولية في الحضور لا تعني الكثير من دون شيئين آخرين: وجود الاجهزة الرقمية بشكل عام، ووجود الانترنت بشكل خاص. ففي أيامنا هذه، يمكن تحويل اي شيء عملياً، من الاصوات على الهاتف، إلى الصور على الشاشة، إلى قرارات هيئات المديرين، إلى آحاد وأصفار، أي إلى صيغة رقمية قابلة للتخزين والبث. نعم هناك شيء اسمه لغة عالمية، والحق يقال. وهذه اللغة ليست انجليزية، بل ثنائية. فالكومبيوتر الصيني يلهج بلغة الكومبيوتر الاسباني نفسها، بل لغة الهاتف الرقمي الاسباني.
    وفي عام 1990، لم تكن هناك سوى قلة من الاكاديميين قد سمعت بوجود شيء اسمه الانترنت، اما في عام 1999، فقد كان هناك 200 مليون شخص يستخدمونه. ان الشبكة العالمية الواسعة (www) لا تكتفي بأن تتيح للجمهور دخول أكبر مستودعات المعلومات في أي بقعة في العالم، بل تسمح لشتى ضروب الأعمال التجارية بأن تعبر حدود الدول، فتصير بلا حدود. وقد عبر جون تشيمبرز، رئيس شركة سيسكو سيستمز، عن جبروت الانترنت خير تعبير بقوله الوجيز: "سيغير الانترنت طريقة حياة الناس، وعملهم ولعبهم وتعليمهم. لقد جمعت الثورة الصناعية الناس والآلات في المصانع، أما ثورة الانترنت فسوف تجمع الناس بالمعرفة والمعلومات في مصنع افتراضي. وسيعزز الانترنت العولمة بوتيرة اعجازية، غير أن هذه الثورة لن تستغرق مائة عام، كما حدث في الثورة الصناعية، بل ستتحقق في سبع سنوات".

    عند هذه النقطة بالذات يتدخل الشك، فقبل سبع سنوات لا غير، كان العديد من المتحمسين للتكنولوجيا يتحدثون بحماس قائلين ان كل اسرة سوف تطلب جهاز فيديو قريباً. الواقع ان اكثر من نصف مستعملي الانترنت يعيشون في بلد واحد، الولايات المتحدة، وهذا يعني ان دوره الكوني محدود، بل الانترنت لم يغير الاعمال التجارية، حتى في الولايات المتحدة، ذلك التغيير العميق، كما تخيله تشيمبرز. اذا رغب المستهلك بشراء الكتب أو الكومبيوترات، أو حتى بعض الأسهم، فإن بمقدوره استخدام الانترنت، لكن الكثير من الشركات لا تزال تعتبر الانترنت بمثابة دمية.
    ومن الأسباب المباشرة لهذا التوجس، ان هناك نقصا في سعة نطاق الموجات اللازم لتقديم العديد من الخدمات.
    وهناك عراقيل اخرى تنبع من الضوابط المقيدة ومن ذهنية الشركات، كما تنبع من التكنولوجيا. ونجد، على سبيل المثال، ان الحكومة الاميركية قامت بإلغاء الضوابط المقيدة لسوق الاتصالات المحلية في عام 1996، لكن بدلا من ان يحفز ذلك إنشاء شبكات تعتمد الألياف البصرية، او انشاء شبكات تلفزيون الكابلات، راحت الشركات التي تسمى "صغار بيلز" Baby Bells، تنفق معظم وقتها منذ ذلك الحين، لشراء بعضها بعضا.
    وبعد ان اقتحمت شركة "اي تي اند تي" AT&T، السوق بشراء معظم شبكات تلفزيون الكابلات الأميركية، برزت بوادر على بدء التحرك. غير أن الميل الأخير الموصل إلى المنازل، لم يكتمل بعد.

    وتبدو مواطن الخلل هذه جلية للعيان حين يتذكر المرء مدى تقدم أميركا في هذا المضمار قياساً إلى بقية ارجاء العالم. وتمتاز أوروبا بنقاط قوة: اذ تمتلك فنلندا اعلى نسبة لتغلغل الانترنت في العالم. غير ان القارة (شأن اليابان) تنفق على التكنولوجيا مبالغ اقل مما تنفقه اميركا. وقد بلغت نسبة الكومبيوترات في اوروبا، عام 1996، نحو 52 جهازا لكل مائة موظف "اوروبي"، وبهذا لا تكاد تبلغ نصف النسبة الاميركية. وتعاني انحاء كثيرة من العالم النامي نقصا مزمنا في عدد الهواتف، ناهيك من اجهزة الكومبيوتر. فمثلا ان واحدا من كل عشرة برازيليين، وواحدا من كل 300 افريقي يمتلك خط هاتف ثابتا. ويقل عدد الهواتف في افريقيا السوداء عن عددها في مانهاتن، كما لا تتوفر الا على القليل من البنى التحتية (الهياكل الارتكازية). ويتوجب على المكالمات الهاتفية بين لاغوس وابيدجان ان تمر عبر الشبكة الاوروبية. وهكذا تغدو الشبكة العالمية للانترنت www مجرد دمية اميركية بعيدة المنال.

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    6-Jun-2002
    الدولة
    موزمبيق
    المشاركات
    88

    تابع الحلقة الثالثة

    حتمية النمو التدريجي

    لن تتغير الاحوال بالسرعة التي يأملها انصار التكنولوجيا، لكنها ستتغير لا محالة. ويرى آرثر كلارك ان الناس عموما تغالي في تعظيم التأثير قصير الامد للتغير التكنولوجي، مثلما تقلل من شأن التأثير بعيد الامد، حصل ذلك ايام انتشار الكهرباء، ويمكن ان يتكرر ذلك مع الانترنت.
    لقد بنى توماس اديسون محطته الاولى لتوليد الطاقة الكهربائية عام 1882، لكن استخدام المحركات الكهربائية لتدوير الآلات اقتصر على 3 في المائة من المصانع الاميركية حتى مطلع القرن العشرين، ثم ارتفعت هذه النسبة الى ثلث المصانع في عام 1919. ويقع اللوم، من ناحية، على حرب المقاييس التي نشبت بين التيار المتناوب والتيار المباشر، غير ان المشكلة الاكبر ان الصناعيين، مثل مايتاج، رائد صناعة الغسالات الكهربائية، لم يستخدموا هذه التكنولوجيا الاستخدام المناسب. كانت الكهرباء تستخدم عادة لتدوير محور فولاذي واحد على خط الانتاج، وتتشعب منه احزمة تحريك عديدة. ولم تتحسن الانتاجية باستخدام الكهرباء إلا بعد ابتكار طرق جديدة لاستخدام هذه الطاقة لتحريك كل ماكينة بصورة منفردة، وهو ما حققه مايتاج في منتصف العشرينات. ويشير المؤلفان بوب ديفز وديفيد ويسل في كتابهما "الازدهار"، الى ان اي عامل من عمال مايتاج كان ينتج من الماكينات، عام 1926، ما يزيد بنسبة %48 عن نظيره في عام 1923. وبالطبع فقد تنامت الارباح ايضا.

    لا ريب ان الانترنت سينتصر، على المدى البعيد، بفضل مزيج من التكنولوجيا وزخم الاندفاع. وباضطراد تحسن المواصلات، بوسع زوج من الالياف لا يزيد سمكها عن شعرة الرأس ان تنقل كل الاصوات المارة عبر الاطلسي في اية لحظة، سيزداد الضغط على اصحاب المناصب لكي يحركوا ساكنا. وبدلا من قابس الى قابس SWITCH، ستعوم حزم المعلومات الرقمية او الصوتية عبر شبكات غير مربوطة، معتمدة على بروتوكولات الانترنت، من دون ان تترتب على ذلك تكاليف اكثر من اجرة الدخول على الخط، والمتناقصة ابدا، وان هذا النموذج لا يعني بالنسبة لشركات الاتصالات اللاسلكية ضرورة ضخ استثمارات هائلة جديدة فحسب، بل يعني ايضا تبني هيكل ربح جديد كل الجدة. وقد بدأ هذا بالتحقق، ففي اميركا تتحدث شركات "صغار بيلز" عن الحاجة الى ان تحول نفسها في المدى البعيد الى "كيانات شاملة" ـ اي شركات اتصالات ضخمة، متكاملة ـ قبل ان تواجه الانقراض. وفي فرنسا والمانيا، خيار المستهلك يفعل فعله اخيرا. وتحركت معظم البلدان النامية، في هذه الاثناء لتعفي شركاتها البريدية من مسؤولية خطوط الهاتف، وتقفز بسرعة للحاق بالعالم الغني وصولا الى المستقبل اللاسلكي.

    ثمة ظاهرة اخرى تحدث اليوم ـ وان يكن ببطء ايضا ـ وهي ان الكثير من اشباه مايتاج اليوم بدأوا باستخدام الانترنت. فمثلا يمكن اتهام شركة جنرال الكتريك بالتأخر في الاعتراف بقدرات الانترنت، غير ان صاحب الشركة، جاك ويلس، قذف بشركته في عام 1999 في ما اسماه "اكبر تغيير رأيته في حياتي". وقد ارسل تحت العنوان الالكتروني التالي:"شركة دمرّ شركتك"، فيضا من المذكرات الرسمية، والخطب والبريد الالكتروني، حمل رسالة واحدة جازمة: "ان لم تغيروا نموذج اعمالكم، جاء غيركم ليفعلها".
    شرعت شركة جنرال الكتريك في شراء بعض تجهيزاتها عبر المزادات المفتوحة على شبكة الانترنت. ودخلت طائفة اخرى من المواد ـ مثل كراريس التوجيه الخاصة باستعمال محركات الطائرات، والرسوم الملونة للبلاستيكيات ـ على خط الانترنت بسرعة. لكن التحدي الحقيقي يكمن في استعمال الانترنت لتجديد الاعمال وليس لجعلها انسيابية فحسب. وتتركز الكثير من الافكار الاولى لشركة جنرال الكتريك على الاتصال المباشر بالمستهلكين. فمثلا ان فرع منظومات الكهرباء في جنرال الكتريك تنزع الى ان تصبح "المجهز الكامل للمنزل".

    ويعني هذا انها مستعدة لأن تقدم للمستهلكين خدمات منزلية عبر الانترنت تشبه خدمة ادارة الكهرباء التي تقدمها لشركات توزيع الطاقة الكهربائية. نقصد انها مستعدة لأن تشتري الكهرباء لمنزلك بأرخص تكلفة متاحة في السوق، وفي ارخص اوقات النهار، وتراقب اجهزتك الكهربائية في المنزل عن بعد (منبهة اياك الى ان الثلاجة بحاجة الى فحص مثلا)، فتتيح لك توصيل او قطع التيار الكهربائي لاجهزتك عبر الانترنت.
    من شأن ذلك كله تعجيل خطى العولمة ولعل من بين خصائص الانترنت البارزة، كما هو الحال مع الكثير من الابتكارات التكنولوجية السابقة، قدرته على تقليص اهمية الجغرافيا. وقد رأينا مثالا مبكرا على ذلك حين استطاعت شركة نيت سكيب Net Scape ان تصدر برنامجها الى ارجاء العالم من دون ان تغادر كاليفورنيا، مثلما رأينا مثالا آخر عندما استطاعت شركة "امازون. كوم" Amazon.com ان تتحول الى مجهز وطني للكتب في عموم اميركا من دون ان تغادر ولاية واشنطن. وان معظم زبائن شركة انفوسيس Infusys من الولايات المتحدة علما ان الشركة تعتبر اكبر منتج لبرامج الكومبيوتر في الهند. كل ما في الامر ان مكتب هذه الشركة في اميركا يقوم في نهاية يوم عمله، بأن يبث بالبريد الالكتروني الى مكتب انفوسيس في بانجالور احصاء بقضايا المستهلكين، فيعمل فنيو الشركة على حل هذه القضايا بينما يغط الاميركيون في نومهم ليلا. ترى ما الذي يحدث عندما تستخدم استوديوهات هوليوود شبكة الانترنت لتوزيع افلامها على دور السينما مقابل ثمن زهيد؟ او حين تبدأ المدارس ببث دروسها التعليمية عبر الحدود؟ المعروف ان الجامعة المفتوحة في بريطانيا، المتخصصة في تعليم الكبار الذين فاتهم قطار الدراسة الجامعية النظامية، تدير اكبر مدرسة تجارية في اوروبا، بفضل الانترنت جزئيا. ويرى كريج باريت من شركة انتيل Intel ان الانترنت ستخلق قارة سابعة قوامها مليار كومبيوتر مرتبطة بالشبكة.
    اما اكبر واعظم تأثيرات الانترنت فسيمس الاسعار. وهناك حتى الآن عدد من المواد، كالذهب والنفط، ترتكز الى اسعار مقررة عالميا، وهناك فرص ممكنة في ان تحذو مواد اخرى كثيرة حذو الذهب والنفط بموازاة اتساع الانترنت. ويسمح الكومبيوتر على أسوأ تقدير، بأن يقارن الناس بين شتى الاسعار خارج الحدود الوطنية، فيما هم يتبضعون من معروضات كتب دار أمازون، او السراويل الكاكية من شركة كاب Gap، ويسمح لهم، بأن يشتروا من افضل مصدر اينما كان في العالم، مما يقضي بالتدريج على الافراط في التسعير وانعدام الكفاءة باقصائهما عن السوق. ولا تحتاج الانترنت الى ان تتمتع بحضور كلي حتى يفرض سلطان قانون "السعر الموحد". ففي الولايات المتحدة، لا توجد إلا نسبة قليلة من الذين يشترون السيارات او الاسهم من باعة افتراضيين (على الشبكة)، مع ذلك فإن المستهلكين عامة يستخدمون الاسعار المعروضة على الانترنت لمطالب الباعة الحقيقيين في المحلات بأسعار اقل.

    غزو المكان الموضعي

    احتلت الانترنت عناوين الصحف الرئيسية بشكل واسع كاد يغطي على تفرع آخر من ثلاثي الهاتف، التلفزيون، الكومبيوتر، وهو تفرع يكاد يترك اثرا اعظم على العولمة: الهاتف النقال. (لعل مرد ذلك ان الولايات المتحدة تتصدر العالم كله في الكومبيوترات، لكنها متخلفة عنه تخلفا مريعا في الهواتف النقالة)، واذا كان هبوط اسعار الهواتف وتطور الانترنت يتركزان على وأد المسافات، فإن انتشار الهاتف النقال يعتبر مبشرا بـ "غزو المكان الموضعي".
    لعل من افظع سلبيات طغيان المكان ان المرء، في عصر المعلومات هذا، يفقد سلطته كلما غادر المنزل او ترك المكتب. بقي هذا سائدا حتى فترة قريبة. وكان المرء يغدو مثل ذلك الابله في فيلم وودي الن، آني هول، الذي يتصل بمكتبه، فور دخوله مطعما ما، ليخبرهم بمكان وجوده. اما اليوم فإن شركات الهواتف النقالة، مثل شركة نوكيا Nokia تتحدث عن قدرة اي انسان على الحياة داخل "كرة شفافة شخصية" من المعلومات، واصطحابها معه اينما حل او رحل.
    والمثير اكثر من ذلك، ان الناس الآن، وحتى العالم الناشئ حاليا، يستخدمون الهواتف النقالة للهرب من العزلة، بل ولربما حتى من الفقر. طلعت الهواتف النقالة بادئ الامر كدمية بيد "اليوبي" اي اصحاب المهن الحضريين من الشباب، الصاعدين، إلا انها تزود الفقراء بأفضل اداة للاتصال بسوق العمل الكوني بحثا عن فرص عمل جديدة.

    غير ان مثل هذه الافكار السامية لا تدور قط في اذهان اولئك الذين يحومون زرافات خارج مخزن يودوباشي كاميرا في شين جوكو، المنطقة الاكثر ازدحاما وحركة في سائر طوكيو. ويسدد بعض هؤلاء نظرات مولهة الى التلفزيونات ذات الشاشات المسطحة المعروضة في المخزن، والى الكومبيوترات النقالة النحيفة، الرقيقة. غير ان الكل يحدق في الهواتف النقالة المصنوعة بكل الوان قوس قزح، من الابيض بلون اللؤلؤ (المفضل لدى الطالبات) الى الفضي (الذي يحبذه الموظفون) الى الاخضر المبقع الذي يشبه الوان التمويه العسكري. وهناك "جزرات كهربائية" لمن لا يريد اكثر من ان يتجاذب اطراف الحديث، وهناك "لوحات جيب" لمن يحب ان يتبادل الرسائل الموجزة. وهناك "هواتف ذكية" مثل آي ـ مود I-Mode التي تتيح لك بأن تنظم حياتك (بدفاتر عناوين، وجداول مواعيد في الاقل)، وان تتصل بالانترنت طلبا لمعلومة، وان تتابع بريدك الالكتروني.
    الواقع ان اغلب من لديهم استعداد لرؤية هذه المعروضات يملكون هواتف نقالة اصلا. فالموظفون يحملونها في اغلفة مجلدة معلقة بأحزمة سراويلهم، والطالبات يعلقنها حول اعناقهن.

    وتقول احداهن وهي تكركر: "هاتفي هو جزء من جسدي"، غير ان بعضهم يبحث عن اقتناء احدث موديل او يتمناه على الاقل، بينما يريد آخرون اضفاء طابع شخصي على الهواتف التي يملكونها ويعرض المخزن في مباهاة جهاز الحان يتيح لك ان تغير نغمة رنين الهاتف، فتضع مثلا آخر صيحة في اغاني البوب، مثل اغنية "يا فتيات كن طموحات"، المفضلة في عام 1999.
    ويتميز اليابانيون بغيرة متقدة تحمسا لهواتفهم النقالة، لكنهم ليسوا الوحيدين في ذلك، فالالمان يطلقون على هواتفهم النقالة اسم "الصانع"، اما اهل سنغافورة فيسمونه "القريدس" لأن موديلا شائعا منه يشبه القريدس حقا حين يفتح، اما الفنلديون فيسمونه "كانيكا" او "كاني"، وتعني هذه الكلمة استطالة اليد. هناك ثمانية بلدان يملك فيها ثلث السكان هواتف نقالة، وتصل النسبة الى %100 تقريبا وسط الذكور الاسكندنافيين في العشرينات من اعمارهم. اما في هونغ كونغ، فإن صناعة الهواتف تروج لفكرة ان على الشخص الممثل تمثيلا جيدا ان يحمل هواتف نقالة مختلفة باختلاف المناسبات. قبل عقد لا غير، كان عدد الهواتف النقالة لا يزيد على 10 ملايين، اما بحلول عام 2004، فيتوقع ان يصل عددها الى مليار، لتزيد بذلك على عدد الهواتف السلكية الثابتة.
    وتتحول صناعة الهواتف النقالة باضطراد من استخدام التكنولوجيا الرقمية الى الرقمية الفائقة السرعة والمرتبطة بالانترنت. وستشهد السنوات الثلاث القادمة دمج ثلاثة اجهزة: الهاتف النقال، الكومبيوتر، والمنظم الشخصي، بهدف حمل جهاز واحد يقوم بهذه الخدمات جميعا.

    وبازدياد عدد الأجهزة اللاسلكية المرتبطة بالانترنت، يتوقع ان تترك هذه الاجهزة تأثيرا دراماتيكيا على توسيع شبكة الانترنت في بقاع مثل اليابان. ورغم بطء الارسال، وصغر حجم الشاشات، وصعوبة التعامل مع مفاتيح الاحرف والارقام في العديد من هذه الاجهزة، فإن القدر الاكبر مما يتدفق عن طريق الهاتف النقال هو من المعلومات لا الكلام. ويميل المراهقون الفنلنديون الى الاتصال بالرسائل القصيرة (زهيدة الثمن بشكل خارق) لا بالحديث الصوتي. وفي اليابان، تمتلئ موجات الاثير عند الساعة العاشرة، لدرجة الانغلاق لحظة تبادل المراهقين والمراهقات تحية المساء.
    وتتيح الهواتف الذكية لاصحابها تغيير سبل استخدامها للاماكن الموضعية. ولما كانت هذه الهواتف تعرف أين أنت، فإنها تستطيع ان تزودك بالمعلومات عن ذلك المكان. زر مركزا من مراكز التبضع في هونغ كونغ، وسيخبرك هاتفك اين بالضبط يمكن لك عقد افضل الصفقات لشراء اي شيء، من الوجبات الى احذية جوتشي المميزة. توجه الى حانة، وسيقول لك الهاتف ـ شريطة ان تكون قد سجلت اسمك في مكتب خدمات المواعيد ـ ان كان هناك ما يناسب ذوقك. وستطرح هذه المنتجات على نطاق كوني، قريبا.
    عند حساب الحصيلة ثمة ما يدعو للحماس للهواتف النقالة، اكثر من الانترنت المعتمد على الكومبيوتر المكتبي.
    ينبغي لدعاة الحتمية التكنولوجية ان يتريثوا ويلاحظوا ان الميدان خاضع، بالمثل، لسطوة تدخل الحكومة. وبالطبع فإن الاجهزة باتت اصغر، وارخص، وأعمّ فائدة، إلا ان شغف اليابان بها يرجع، على سبيل المثال، الى عام 1994، وهو عام الغاء قانون سخيف كان يحظر على اليابانيين امتلاك هواتف خليوية، مما ارغم أولئك الراغبين فيها على استئجارها لقاء اسعار باهظة، محبطة، تزيد على آلاف الدولارات سنويا. ويرتبط انتشار الهواتف النقالة ايضا بمقدار المنافسة. ففي ستة من أكبر تسعة أسواق ضخمة في آسيا هناك خمس شركات للهواتف الخليوية. بالمقابل نجد أن اسعار المكالمات الخليوية في اميركا اللاتينية تبلغ عشرة اضعاف سعر المكالمات المحلية السلكية، لان الحكومات تعزف عن المساس بالاحتكارات الراسخة.

    وان اردت ان تطلع على مؤشر يكشف لك الى أي حد تعطل الضوابط سير العولمة، فما عليك الا ان تلقي نظرة على الولايات المتحدة، دون ان تذهب بعيدا. فاميركا تؤلف أكبر سوق منفرد للهواتف النقالة في العالم، حيث كان يتوفر فيها 80 مليون مشترك بنهاية 1999، غير ان هذا الرقم منخفض جدا، ان أخذناه بالتناسب مع عدد السكان (30%). غير ان الاميركيين يتحملون عبء خدمات هاتفية رديئة (وبخاصة في المدن الكبرى وقت الذروة) وعبء اسعار "عالية" بشكل باهظ، كما ان عليهم (وهذا ما يثير الضحك في هلسنكي) ان يدفعوا ثمن المكالمات الصادرة وان يدفعوا ايضا شيئا لقاء المكالمات الواردة. وهكذا نجد ان محطة توليد التقدم التكنولوجي في العالم متخلفة بمسافة عامين الى اربعة أعوام عن كسالى أوروبا، وهو ما تجلى في عام 2000 بالاندماج القياسي بين شركة فودافون البريطانية ومانزمان الالمانية.
    يقع اللوم في هذا التخلف على سلسلة من القرارات الغريبة. فقد استغرق الكونغرس عدة سنوات لبيع اطياف رقمية بالمزاد في النصف الاول من التسعينات. وبدل توحيدها في معيار رقمي قياسي، كما هو الحال مع نظام GSM الاوروبي، اصبحت لاميركا عدة نظم متنافسة. وبينما تعمل كثرة من البلدان الاخرى على اصدار تراخيص قومية للهواتف الخليوية، خلقت لجنة المواصلات الفيدرالية FCC نحو 734 سوقا خليويا حين عرضت الاطياف الرقمية للمزاد اول مرة، ثم اضافت لها 544 سوقا آخر في المرة الثانية.

    وينطوي ذلك كله على ان آرثر سي كلارك محق من جديد: إن غزو المكان الموضوعي ما يزال بعيدا، لكنه سيتحقق مع ذلك. ولعل ايريديوم Iridium، وهي أكبر شركة خدمات هاتفية كونية تعتمد الاقمار الصناعية، اكبر شركة قاهرة للمسافات في التسعينات. والتصور الذي ألهم هذه الشركة هو ان تتيح للناس ان يبقوا على اتصال اينما كانوا في العالم، وهي فكرة ليست بعيدة عن التحقق. فالصناعة في هذا المجال تطالب بمعيار جديد لـ "الجيل الثالث" من الهواتف الرقمية، الصالحة للاتصال في أي مكان في العالم. الواقع ان الوقت لن يطول كثيرا حتى يبطل استعمال تعبير "الهاتف النقال"، لسبب بسيط هو انه لن يكون هناك نوع آخر من الهواتف في العالم. ويرى الكثير من الشباب اصلاً ان لا معنى لدفع رسوم تأجير خط ثابت وهم يعيشون حياة متنقلة، ويزداد هذا الميل الشبابي اتساعا ليشمل بقية السكان ايضا بتناقص الفارق بين اسعار خطوط الهاتف الثابت وخطوط الهاتف النقال. وان اليوم الذي سيستغرب فيه الناس الاتصال بمكان معين لأجل التحدث الى شخص معين، ليس ببعيد.

    ليقتاتوا بفضل النقال

    في غضون ذلك، تتيح التكنولوجيا اللاسلكية لبعض فقراء العالم ان يتصلوا بالاقتصاد الكوني، محققين مزايا ومنافع هائلة لتحسين مستويات معيشتهم. ان اربعة أخماس المشتركين بالهواتف النقالة لا يزالون في العالم الغني، غير ان اسرع نمو في امتلاك هذه الهواتف يجري في البلدان النامية، وسط قطاعات بعيدة عن الثراء.
    في العالم الغني، يميل الناس الى اقتناء الهواتف النقالة لانها مريحة ومناسبة، اما في اغلب بقاع العالم النامي، فان الناس يستخدمونها لانها الانواع الوحيدة المتاحة. فهناك نحو 40 مليون انسان ينتظرون الحصول على خط هاتف ثابت. وهناك بقاع في روسيا ومولدافيا، يصل معدل الانتظار فيها الى 10 سنوات، اما في المناطق المعزولة، فإن الانتظار ابدي، لانه لا توجد اي جدوى اقتصادية، بالنسبة لاية شركة، كي تمد خطوط هاتف ثابتة لخدمة حفنة من الناس.
    وقبل فترة ليست بالبعيدة، لم يكن احد يتوفر على هاتف في الصين. اما اليوم فإن الصين تعتبر ثاني اكبر سوق للهواتف النقالة، ووصل عدد المشتركين فيها نحو 50 مليوناً بنهاية عام 2000. وينفق الصيني نحو 400 دقيقة، في المتوسط، على المكالمات شهريا، وهذا المقدار يزيد ثلاث مرات على ما ينفقه الاميركي في المتوسط.
    وعلى خلاف شركات الهواتف السلكية، الارضية، لا يتوجب على شركات تشغيل الهواتف الخليوية حفر الحفر، وشق الانفاق لمد الاسلاك الباهظة التكاليف من أجل الوصول الى زبائن قليلين أو معزولين. يقول نيب ماييبا، رئيس هيئة رقابة الاتصالات اللاسلكية في جنوب افريقيا "ان كل ما تحتاجه هو ان تنصب بعض الهوائيات لتبدأ اعمالك".
    وفي الارجنتين، استغرقت شركة لوسنت تكنولوجيز خمسة اشهر لا غير لنصب 800 محطة بث في بعض البقاع النائية في البلاد، بما يكفي لايصال الخدمات الهاتفية الى نصف مليون انسان كانوا معزولين عزلة تامة في السابق. وتبدي شركات المواصلات اللاسلكية الاجنبية استعدادها للاستثمار حتى في تلك البلدان التي لا تدرجها الاستشارات الاستثمارية في قائمة الدول الصالحة للاعمال، مثل كمبوديا، وجمهورية الكونغو الديمقراطية ورواندا.

    وتنسجم الهواتف النقالة بسهولة مع اسلوب حياة الفقراء. فبدلا من اصدار فواتير شهرية، كما هو حال الهواتف الثابتة، تعمل الشركات اللاسلكية على اساس مبدأ البطاقات المدفوعة سلفا. صحيح ان جهاز الهاتف النقال لا يزال مرتفع الثمن، الا ان كلفته واجور ربط الخطوط اقل من تكاليف مدّ خط ثابت، في الكثير من البلدان النامية (ان توفر لك ان تحصل على خط ثابت اصلاً). اضافة الى هذا فإن تكاليف النقال ـ شأن كل الاجهزة الرقمية ـ تهبط باستمرار.
    ان بنغلاديش صحراء حقيقية من ناحية الهواتف. فهناك خط تلفوني ثابت واحد لكل 275 شخصا (مقابل خط لكل خمسين شخصا في الجارة، الهند)، كما ان نحو 90 في المائة من قرى البلاد البالغة 68 ألف قرية لا تتمتع بأي خط هاتفي من أي نوع، ويتغير هذا الوضع بفضل صنف جديد من ارباب الاعمال هو: "سيدات الهاتف" اللواتي يؤجرن لك الوقت على الهواتف النقالة. تشتري السيدات احدث انواع الهواتف الخليوية بمبلغ قد يصل الى 375 دولاراً، معتمدات على قرض ميسر من بنك جرامين، وهو مؤسسة خاصة تقدم القروض الصغيرة، الميسرة. ومنذ ان بدأ هذا البرنامج في عام 1997، استطاع ان يجهز 300 قرية بالهواتف. وبعد 5 سنوات من الآن يتوجب على كل شخص في البلاد ان يكون على مقربة كيلومترين من هاتف نقال.
    وتعمل الهواتف النقالة، بالنسبة للمزارعين في بنغلاديش، على تحريرهم من الوسطاء. فبدلا من قبول سعر السمسار الوسيط، يلجأ المزارعون الى "سيدات الهاتف" ليستطلعوا الاسعار العادلة للارز والخضر. اما مزارعو الكاكاو والبن في ساحل العاج فقد اعتادوا على بيع منتجاتهم للوسطاء في ابيدجان وياموسكرو بكسر من قيمة منتجاتهم في السوق، نظرا لأن العزلة والأمية تمنعانهم من معرفة اسعار افضل. وتجدهم الآن يتكاتفون لشراء هواتف نقالة حتى يدققوا الاسعار السائدة للكاكاو والبن في سوق السلع بلندن، ويعقدون صفقة أفضل.

    النقال لا يكلّ

    لعل من المغالاة الادعاء بان كل عناصر التكنولوجيا التي تقرب العالم الى بعضه موجودة في دكان جاكسون توبيلا للهواتف في سوويتو، لكن اغلبها حاضر هناك، بشكل أو بآخر. فالدكان نفسه، اذا ابتدأنا به، هو رمز اساسي، وان يكن قديماً، من رموز العولمة، فهو معمول من حاوية قديمة للسفن. ورغم ان صاحب المحل توبيلا، الذي يبلغ العشرينات من العمر واسنانه الذهبية، وبدلته الرياضية ماركة اديداس، لا يستطيع شراء وحدة تكييف هواء، فان لديه مروحة كهربائية على الاقل. ويزدان محله بصور شخصيات مثل، وو ـ تانج كلان، وتوباك شاكور مما سيحمل بعض الاميركيين على الظن بأنهم في غرفة مراهق.
    ولسبب غامض فإن كثيرا من الزبائن الذين يتزاحمون على محله من مضيف ومضيفات شركات الطيران، الذين يرتدون ملابس أنيقة تذكره بأهمية النقل وبالطبع فإن كل قطعة من المنتوج الرئيسي للمحل مربوطة بسلسلة، وموضوعة في خانة، انه: هاتف نقال.
    تضم سوويتو عددا ملحوظا من محلات الهواتف، التي تؤجر الوقت على الجهاز. كان توبيلا يقدم خدماته بهواتف سلكية ثابتة، الا انها كانت تتعطل (لأن اللصوص كانوا يسرقون اسلاكها النحاسية في غالب الاحيان) ولأن المحتكر القديم للخطوط السلكية الارضية، الشركة تلكوم، لم تكن تعبأ بارسال من يصلح الأجهزة. ويرى توبيلا ان الهواتف النقالة افضل بكثير. بعد انتهاء دوام المدارس، يصل الطابور احياناً الى عشرة اشخاص على كل هاتف.

    وتوفر هذه الخدمات مورد رزق معقولاً لتوبيلا (يزيده ببيع السجائر المفردة) كما تجتذب آخرين لبيع ما عندهم. هناك اسكافي فتح دكاناً مقابل الحاوية، والى جواره رجل في ثياب اسلامية الطابع يبيع قطع حلوى.
    حين منحت حكومة جنوب افريقيا التراخيص لشركتي فوداكوم وموبايل تلفون نتوركس، لتقديم خدمات هاتفية رقمية عام 1993، اصرت على ان تنصب هاتان الشركتان 30 ألف هاتف عمومي في المناطق المحرومة من الهواتف، على مدى السنوات الخمس اللاحقة. وتقدر شركة فوداكوم انها اوجدت، في مجرى ذلك، نحو 5 آلاف وظيفة في التجمعات المحلية، بل ان الشركتين نصبتا هواتف مناطق نائية لا سبيل لشحن الهواتف فيها إلا ببطاريات السيارات والطاقة الشمسية.
    ولا تقتصر سوويتو على امتلاك شبكة واسعة من محلات الهواتف (يقع افضل دكان منها قبالة بيت نيلسون مانديلا الأول) بل ان عدداً متزايداً من السود اشتروا هواتف نقالة خاصة.
    ان براتي مغوتي ليست بالمرأة الثرية. لقد ربت بناتها الاربع بعرق جبينها وحدها، وهي تدير الآن حانة رياضية وخدمات توزيع مأكولات. وهي تحمل هاتفها النقال الخاص (من نوع موتوريلا) مثلها مثل بناتها الاربع، حتى أصغرهن التي لا يزيد عمرها عن تسع سنوات. وتقول: "الهاتف النقال ضروري اذا كان الشخص مشغولاً".

    ويتيح لها الهاتف ان تتلقى مكالمات الزبائن اثناء تجوالها خارج البيت، وان تعرف حركة بناتها من والى المدرسة، وبخاصة في حال بقاء الصغيرة لأخذ دروس اضافية حتى وقت متأخر.
    وهناك من هم افقر من مغوتي، مع ذلك فإنهم يملكون هواتفهم الخاصة. ويجد المرء في كثير من احياء جوهانسبرغ ان الشوارع تحفل باعلانات مكتوبة بخط اليد عن خدمات شتى، من دهان البيوت، الى رعاية وتشذيب الحدائق المنزلية، لكنها جميعا تحمل ارقام هواتف نقالة، وكثيرا ما يتكاتف عدد من الفقراء لشراء هاتف نقال وبطاقة مكالمات. ويستطيع هؤلاء تلقي المكالمات مجاناً، حتى بعد نفاد قيمة البطاقة.
    تقع سوويتو على مسافة بعيدة من بيت ماركوس دي فيرانتي. ففي سويتو تخور الجياد والابقار في الازقة الفردية، في حين ان اغلى السيارات تنهب وتتسابق الى محلات التفكيك لأخذ قطع الغيار. مع ذلك فإن فيرانتي وتوبيلا هما جزء من الثورة الواحدة نفسها.

    والحق، ان زبائن فيرانتي لا يقتصرون على شركات الهواتف من العالم الثالث، بل يشملون ايضا اقرب معادل غربي لمحلات الهواتف: شركات صغيرة، تستقر في مدن تعج بالمهاجرين، كما في برادفورد، وتقدم خدمات هاتفية خاصة وبطاقات مكالمات مدفوعة الاجر للاتصال بأوطانهم.
    لقد اكتشف فيرانتي وتوبيلا، في الجوهر، شيئاً مشتركاً، وهو ان بمقدورهما الحصول على عدد ملحوظ من الزبائن بتسويق التكنولوجيا الحديثة، ومعارضة المؤسسات القديمة للاتصالات اللاسلكية. وينظر كل واحد منهما الى نفسه باعتباره منظم عمل اساساً، يعمل من منزله، أو من حاوية في الشارع، بدل ان يصير موظفا مطيعا في شركة. ويستخدم الاثنان التكنولوجيا نفسها، بطرق متباينة، لجعل العالم مكاناً أصغر.

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    6-Jun-2002
    الدولة
    موزمبيق
    المشاركات
    88

    الحلقة الرابعة

    من سيئول إلى طوكيو: الرقص على ارتفاع صندوق النقد الدولي

    جيرينوفيسكي لكلينتون في موسكو: دولاركم قذر.. وهذه القذارة تلوث العالم كله


    الذهاب إلى كوريا الجنوبية في نهاية 1998، يشبه زيارة صديق كان ذات يوم فخورا بنفسه، فوقع فريسة أزمة هوية حادة. فقبل 18 شهراً لا غير، كانت كوريا الجنوبية تتباهى باقتصادها، باعتباره واحداً من ألمع الاقتصاديات في العالم، وأن مجمعاتها الصناعية العملاقة، تشايبول Chaebole، كانت موضع الثناء والتقدير بوصفها نماذج جديدة على تطور الشركات. وما ان حلت نهاية عام 1997، حتى هبطت قيمة العملة الكورية الجنوبية (الوان) إلى النصف، في أعقاب انهيار ثاي بات، أما "التشايبول" (المجمعات الصناعية)، فكانت تلتمس القروض من المصرفيين، بينما اضطرت الحكومة إلى استجداء 58 مليار دولار من صندوق النقد الدولي. وتواصل البؤس على امتداد عام 1998: تقلص الاقتصاد بنسبة %8 تقريباً، وأفلست بعض أشهر الشركات في البلاد، وتعرض الإنتاج الصناعي إلى أكبر تدهور له منذ أن بدأ بنك كوريا يصدر الإحصائيات في عام 1953.

    ولعل أكثر المواضع التي حملت آثار أزمة الهوية الناجمة عن ذلك، هو خطر الحدود مع كوريا الشمالية. فالجنوب احتفظ بخير وجوهه للحدود، والطريق من سيئول إلى المنطقة منزوعة السلاح، هو من أفضل الطرق في البلاد، فهو طريق سريع بممرات متعددة يراد لها أن ترمز إلى الجبروت الاقتصادي للجنوب، كما أن الإيمان بأن البلاد لا بد أنت تتوحد آخر المطاف. وتمتلئ أجواء الحدود بأصوات أغاني البوب المرحة، الطروب، المشتبكة مع الأناشيد العسكرية المتجهمة للشمال. وهناك لوحة ضخمة تحمل شعارا يعلن أن الجنوب "ارض الفرص" الواعدة. وهناك إعلان آخر مقتضب يقول: "عشرة ملايين سيادة".

    حتى ديسمبر (كانون الأول) 1998، لم يكن بين الزوار الجنوبيين للمنطقة المنزوعة السلاح، من يكترث قط بدعوات كيم جونج ايل، التي تبثها مكبرات الصوت كل بضع دقائق: "تعالوا والتحقوا بنا في الجنة".
    مع ذلك فإن الوجه الذي طلعت به كوريا الجنوبية صوب الشمال، لم يعد شجاعاً مثلما كان قبلئذ. فالدليل السياحي إلى منطقة الحدود يعترف بشيء من الخجل والحرج ان بلاده قد أزالت إعلاناً يتبجح بأن معدل الدخل القومي للفرد يزيد على عشرة آلاف دولار. ويقرّ الجنود الشباب بأنهم يشعرون بالقلق على مستقبلهم. فبعد الفراغ من الخدمة العسكرية والتخرج في الجامعة، يتوقع الواحد منهم عشاً مضموناً في "التشايبول". أما الآن، فإنهم يعتقدون أن أفضل الفرص تكمن في الحصول على وظيفة في إحدى الشركات الأجنبية. ولدى الجنود كثير من الأصدقاء ذهبوا إلى مصير لم يكن معروفاً في البلاد قبل عام لا أكثر.

    العيش على صدقة المعونة الحكومية للعاطلين

    تتجلى أزمة الهوية هذه في طول البلاد وعرضها، ففي لحظة، ترى الحي المالي الجديد، النظيف، الأنيق، وفي لحظة أخرى ترى محطة سيئول، هذا الصرح الهائل من حجر الجرانيت، الذي يؤوي أعداداً غفيرة، متزايدة من المشردين بلا مأوى. ويحفل المناخ العام بقصص مؤلمة: توجه العاملون في أحد المستشفيات للعمل في مستشفاهم ليجدوا أنه قد أفلس، وأن الدائنين صادروا كل ما فيه، حتى الأسرة. ويتأرجح عامة الناس بين الزهو والامتهان، بين ضرب الأجنبي، وعبادته، تأرجحاً متناوباً سريعاً. يلوم الكوريون، أحياناً، الأجانب على ما أصابهم، خاصة المضاربين بالعملات والصيارفة منهم، لكنهم يعتقدون، من جانب آخر، أن الأجانب يحملون مفاتيح حل مشكلات البلاد. وأخذ عدد التلاميذ في صفوف دراسة اللغات الأجنبية يتزايد تزايداً حاداً منذ اندلاع الأزمة الاقتصادية.

    وهناك مؤسسة أجنبية واحدة تتركز عليها كل مشاعر البغض، ان خير وسيلة لكي يلاقي المرء حتفه المبكر في سيئول ان يدخل إحدى الحانات في الهزيع الأخير من الليل ويذكر، بشكل عابر، أنه يعمل في "صندوق النقد الدولي". وحين بادر الصندوق إلى تطبيق أول مشروع إنقاذ، تحركت جموع غفيرة من المضربين، وبعضهم يضع مناديل مبرقشة تحمل شعار: صندوق النقد الدولي IMF ـ "أنا خائف" I AM FIRED ـ لتملأ شوارع المدن الكبرى، (وتفيد التقارير أن العدد تضاعف 3 مرات)!.
    ويصف الصحافيون فترة المهانة القومية هذه، بأنها "عهد صندوق النقد الدولي". أما علماء نفس العامة فقد شخصوا وجود حالة اسمها "رُهاب صندوق النقد الدولي".
    من جهة أخرى، بدأ الكوريون يتأسون، بوضوح، على المؤسسة التي أنزلت بهم هذا القدر الكبير من البؤس، ويتأثرون بها. وبدا الحال كما لو أن كل مطعم ومخزن في سيئول يرفع لافتة لا تحمل من الحروف الرومانية سوى IMF، أي صندوق النقد الدولي. فالمطاعم التي ترفع إعلان: أطباق طعام آي إم إف، تعني انها تقدم أرخص الوجبات، و"مخازن آي إم إف"، تعني مخازن تنزيلات الأسعار. أما "موعد آي إم إف"، فهو أرخص المواعيد، لأن كلا من الحبيبين يدفع "حسابه من جيبه". وهناك مطعم يقع في مواجهة محطة سيئول غيّر اسمه بالكامل إلى "آي إم إف".
    الزائر الغريب يضطر إلى الاعتراف بأن مرض الانفصام (الشيزوفرينيا)، الذي أصيبت به البلاد، أمر منطقي تماماً. فهناك كل ما يحمل كوريا الجنوبية على الاعتقاد بأن أصدقاءها الماليين في الغرب قد ركلوها ركلاً على الوجه وهشموا أسنانها. في عام 1960، بلغ نصيب الفرد من الناتج المحلي في كوريا مثيله في الجزائر، وكانت ثالث أكبر منتوج في صادراتها هو الشعر المستعار. وتدرجت كوريا الجنوبية، على مدار العقود التالية، لتحتل المرتبة الحادية عشرة بين أكبر الاقتصاديات في العالم، وأصبح دخل الفرد موازياً لنظيره في البرتغال. وتم قبول كوريا الجنوبية عضوا في منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي OECD، التي تعتبر نادي الأثرياء. ولم يدخر صندوق النقد الدولي وسعاً، على امتداد منتصف التسعينات، عن إبداء ضروب الثناء لكوريا الجنوبية، أما البنك الدولي فكان يسرف في امتداح نظامها التعليمي، بل ان أسواق المال العالمية كانت تمنحها ثقة في الاقراض أكبر مما تمنحها لصندوق النقد الدولي نفسه.

    من هذه الزاوية، يبدو أن الشيء الوحيد الذي تغير في عام 1997، هو أن بلداً آسيوياً آخر، تايلاند، بدأ يعاني من المتاعب، أما أصحاب المصارف الأجانب، الذين كانوا يتزاحمون من قبل لاقراض التشايبول الكوري، أصيبوا بالفزع. الواقع ان الأساس الذي كان يقف عليه الاقتصاد الكوري لم يتغير، وان "التشايبول" لم يتغير، لكن النمر الاقتصادي الكوري، الذي كان موضع الإعجاب، أصبح رمزاً لرأسمالية المحسوبية للأعوان، ولم يكن ثمة سبب لهذا التحول في التسمية سوى أن الأسواق تغيرت بغتة. فضلوع "التشايبول" (المجمعات الصناعية) في الفساد السياسي، الذي لم تأت تقارير صندوق النقد الدولي الزاهية على ذكره بالمرة، صار يبرز فجأة إلى المقدمة مغطياً على كل الأرقام الباهرة عن ارتفاع نصيب الفرد من الدخل، وبلوغ انتاج الرقائق الإلكترونية رقماً قياسياً. وعلى حين غرة أيضاً، واجهت الشركات الكورية، المعروفة بقدرتها على سداد الديون بسهولة، مطالبة الدائنين بمضاعفة اقساط التسديد (لمجرد أن قيمة العملة الكورية، الوان، قد هبطت إلى النصف). وتساءل الكوريون الجنوبيون:

    كيف يمكن لأي شركة أن تبقى وتستمر في مثل هذه الظروف؟

    لم يكن سلوك السوق متقلباً، بل منافقاً على المكشوف. وقال الكوريون الجنوبيون، في جدالهم، انظروا إلى "إدارة رأس المال الطويل الأجل"، وهو صندوق أميركي محمي، انقذوا اصدقاءه في وول ستريت، وانظروا إلى الشركات الكورية النزيهة التي تُركت لمصيرها المشؤوم. وجاءت سياسات صندوق النقد الدولي لتزيد من تفاقم الأزمة، وتعبد الطريق أمام الشركات الغربية التي سارعت إلى شراء الشركات الكورية بسعر زهيد. وما أن حل عام 1999، حتى استعادت البورصة والعملة الكورية عافيتها، وهذا دليل ـ إن كانت ثمة حاجة لتقديمه ـ على أن أسواق المال العالمية فقدت صوابها لفترة وجيزة.
    ان الكثير من فصول هذه القصة عصية على التفنيد. فمن الواضح أن الأسواق غالت في تقدير جبروت كوريا أولا، ثم غالت، ثانيا، في تقدير ضعفها، كما أن صندوق النقد الدولي طبق تكتيكاته تطبيقاً سيئاً. وكان من الواضح ايضا، حتى في نظر الكوريين الجنوبيين أواخر عام 1998، ان اسواق المال الاجنبية ليست الطرف الوحيد الملام في هذا الأمر. فالأزمة المالية كشفت عن أن التفسخ والعفن قد استشرىا بعمق في كوريا، والكثير من الكوريين لم يكونوا راضين، منذ أمد بعيد، عن العقد الاجتماعي في البلاد، الذي تنازل معظم المواطنين، بموجبه، عن قدر معين من الحرية السياسية والاقتصادية مقابل الحصول على الأمان، الذي كفله نظام فاسد بعض الشيء. وبحلول ديسمبر (كانون الأول) 1998، تنامى الإدراك بأن النظام الحاكم لا يتميز بالفساد المكين فحسب، بل انه يفتقر افتقاراً مؤسسياً إلى الذكاء.

    حاول زعماء كوريا الجنوبية التلاعب بالنظام، أو ـ حسب تعبير عدة مراقبين ـ ان يمنعوا نصف الحمل، كانت كوريا قد فتحت اسواقها لرؤوس الأموال الاجنبية، لكنها لم تضع الضوابط المطلوبة وفقاً للمعايير الاجنبية، ولم تدع المصارف الاجنبية تستولي على المصارف المحلية. واتضح في عام 1996، ان مصارف كوريا الجنوبية تعاني من قروض معدومة تبلغ نحو %1 من إجمالي الاقراض في البلاد، مما ارغم الأجانب على التوجس بأن الرقم الحقيقي قد يكون أكبر بكثير. الواقع ان "التشايبول" (المجمعات الصناعية الكبرى) كانت قد استخدمت علاقاتها السياسية لإرغام المصارف على اقراضها نقوداً زهيدة اكثر من اللازم. وكانت هذه المجمعات قد نوّعت انتاجها إلى حد ممارسة نشاطات لا صلة لها بها ـ فما الذي يجمع مثلاً بناء المكاتب بإنتاج الملابس الداخلية؟ ـ أما حماسها لإنشاء فروع لا تنتهي، فكان يعني وضع حتى أكثر الشركات عافية على شفا التدهور بمجرد اعتلال فروعها. ولم يسمح للشركات الجديدة بأي مجال للنمو.

    وقدم كيم داي جونج، نقداً ذاتياً منصفاً، وان يكن قاسياً. المعروف ان داي جونج معارض قديم، حُكم عليه بالإعدام قبل عقدين، لكنه انتخب رئيساً للبلاد في اللحظة التي وصلت فيها موجات الأزمة في تايلاند إلى كوريا الجنوبية، ويتميز الرجل بالتزام تاتشري بإصلاح الجذر والفرع. شجب جونج "علاقة التواطؤ بين السياسيين ورجال الأعمال"، وانتقد "نفوذ الحكومة وسيطرتها على قضايا التمويل"، ووعد بإنهاء نظام "النمو الاقتصادي الخاضع لسيطرة الحكومة". وشن حملة واسعة لإشاعة الليبرالية الاقتصادية. ومدّ البساط الأحمر ترحيباً بالشركات الأجنبية، ونقل الصناعات التي تملكها الدولة إلى القطاع الخاص. وصدرت التوجيهات إلى "التشايبول" (المجمعات الصناعية)، لكي تركز انتباهها على أعمالها الأساسية، كما منحت الشركات الصغيرة التشجيع اللازم. وكانت الصراحة والانفتاح على رؤوس الأموال الأجنبية، في نظر كيم، ليسا مسألة تتعلق بالمال بل بالديمقراطية.

    البعض يحبها ساخنة

    لم يكن الكوريون الجنوبيون وحدهم في هذه المحنة، وسنتذكر طويلاً أن أقوى صور أواخر القرن العشرين هي صورة أناس يتصارعون بيأس مع منطق "الأسواق". فقد طلع علينا نورمان لامونت، بوجهه الشاحب، من مبنى وزارة المالية البريطانية في 16 سبتمبر (أيلول) 1992، وكأنه حيوان مطارد، ليقول ان اسواق رأس المال الكونية قد اخرجت الاسترليني المجيد من نظام النقد الأوروبي. أما رئيس البرازيل لجأ في 12 يناير (كانون الثاني) 1999، الى المرافق الصحية في مطار سان باولو، ليخرج هاتفه النقال ويخبر حاكم المصرف المركزي برفع العلم الأبيض، نظراً إلى أن قيمة العملة البرازيلية ستنخفض في صباح اليوم التالي.
    أما أفضل وصلة في مسرح الهواء الطلق هذا فقد جاءت من فلاديمير جيرينوفيسكي خلال زيارة بيل كلينتون إلى موسكو في سبتمبر 1998. إذ بينما كان الزوجان كلينتون يتهيئان للنوم في السرير، تجمع الرجعيون الروس خارج الفندق ليهتفوا بسقوطهما. وزعق جيرينوفيسكي بعدة شتائم مبتذلة عن كلينتون ومونيكا، ثم صرخ بأعلى صوته على أسماع الرئيس الذي كان يعاني من صداع السفر وتفاوت الوقت بين موسكو وواشنطن "دولاركم قذر، وهذه القذارة تلوث العالم كله".
    وأخرج جرينوفيسكي من جيبه ورقة من فئة الدولار وطلب من اتباعه حرقها.. ففعلوا.

    ويبدو أن كل ما يتعلق بأسواق رأس المال الكونية، يضرب رقماً قياسياً هذه الأيام. فحجم رؤوس الأموال المتداولة أكبر من ذي قبل. وسرعة انتقال رؤوس الأموال أكبر. ونسبة رأس المال إلى السلع في المتاجرة أكبر، وعواقب أي غلطة أفدح، لكن الأرقام، كما يتبين لنا من تجربة كوريا الجنوبية، قد تقلل من شأن تأثير أسواق رأس المال على العالم. فالأسواق لا تعني مجرد ربط الأسواق بأسلاك، وتعديل هياكل الشركات، بل تغيير كامل النظام السياسي. ما مدى حداثة هذه الظاهرة؟ وما مدى اكتمالها؟ وهل هي ظاهرة جديرة تصيب بالفزع أم تستحق الثناء؟
    لا ريب أن القدرة على الاتجار بالسلع قديمة، أما القدرة على تحريك مليارات الدولارات حول العالم بلمسة زر، فجديدة تماماً. ذلك أن التكنولوجيا احدثت في اسواق رأس المال انقلاباً أكبر مما في أي قطاع آخر من الاقتصاد.

    ما عليك إلا أن تدخل حجرة المعاملات لتجد أنها ليست اكثر من حشد من اجهزة الحواسب والهواتف. لعل البرامج الاخبارية لا تزال تزين تقاريرها بصور لاسواق المال يظهر فيها سماسرة يتنادون بأعلى الأصوات، لكن الصفقات الحقيقية بمجملها، تجري بلمسة زر في كومبيوتر. والواقع أن أحد أسباب موجة الاندماجات والاستيلاء التي اكتسحت قطاع المصارف ينبع من الحاجة إلى دفع المال الضروري للمعدات التكنولوجية المتطورة التي تلزم متطلبات الأعمال المالية الحديثة، مثلما تلزم الناس القادرين على فهم هذه المعدات.
    أدى هذا الوضع، بصورة محتومة، إلى أن تصبح شركات التمويل أكثر المؤسسات كونية في العالم. ويقضي أغلب المتعاملين وأصحاب المصارف معظم الوقت في الحديث على الهاتف مع أناس لم يلتقوا بهم قط، يعيشون على الطرف الآخر من العالم، أكثر مما يقضون وقتا في الحديث مع زوجاتهم. غير أن التدويل العالمي لم يكن، على الدوام، تلك التجربة المريحة. فقد خسر دويتشه بانك (المصرف الألماني) ثروة طائلة بسبب فساد احد مديري الارصدة في مكتب البنك بلندن، وخسرت عائلة بارينج مصرفها بسبب خطأ مدير آخر في سنغافورة. غير أن هذه الحوادث لم تزد نظرائهم إلا عزماً أشد.
    ويعتقد "سادة الكون" ان عولمة أعمال المال أمر محتوم. وحين اندمج سيتي بانك مع ترافلزجروب عام 1988، لتشكيل مجموعة سيتي جروب، كان المندمجون يفكرون بالوصول إلى المستهلكين الماليين في آسيا وأميركا اللاتينية وأوروبا، قدر تفكيرهم بالوصول إلى أمثال هؤلاء المستهلكين في الولايات المتحدة. وتساءل أحد المصرفيين، خلال مباحثات الاندماج، بصوت مسموع: "هل يستطيع كائن من كان أن يوقفنا؟"، خيم الصمت طويلاً، ثم تجرأ أحدهم على الكلام فقال "نعم، حلف الأطلسي".

    باختصار، يمكن أن نفهم مثل هذا الصلف في الكلام، فنحن في عالم تضطر معه حتى "صحيفة الشعب" اليومية الناطقة باسم الحزب الشيوعي الصيني، إلى أن تنشر ملحقاً مالياً كل أسبوع، لكن تحرير أسواق رأس المال، والحق يقال، نسبية وغير مكتملة. لقد نصت اتفاقية بريتون وودز على ربط الاقتصاديات الوطنية بتجارة السلع، أما تدفق رأس المال قد حصر في المجال الضروري لتمويل هذه التجارة. وأنشأت الكثير من الحكومات، في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، نوعين من الحواجز: الأول هو "ضوابط رأس المال"، وهو مصطلح يشير بالتحديد إلى الأشياء التي تمس حساب رأسمال البلاد في ميزان مدفوعاتها، كشراء الأجانب لبعض الشركات أو الأسهم في البلاد. أما الثاني فهو ضوابط العملة الصعبة، الذي يتعلق بكيفية استخدام المصدِّر للعملة الأجنبية التي يجنيها من صادراته.
    الأكثر ادهاشاً، أن الكثير من البلدان، كما رأينا في حالة كوريا الجنوبية، اضافت حاجزاً ثالثاً: جملة من الضوابط، الرسمية أو غير الرسمية، التي فرضتها على نظامها المصرفي. لقد اعتمد الاجماع الاجتماعي لفترة ما بعد الحرب على أن ينتهج رجال المال الإرادة القومية للبلاد. وتصرف المصرفيون بأسلوب أقرب إلى ناظري خزينة البلاط منهم إلى أسياد الكون. ووافقوا على العمل كأدوات لتحقيق السياسة القومية لبلادهم مقابل حمايتهم من المنافسة الأجنبية. ففي اليابان، وكما في مقلديها الآسيويين، ضخ المصرفيون المال على الصناعات الموجهة للتصدير، بل ان المصارف في الولايات المتحدة كانت أكثر اهتماماً بالشؤون الداخلية منها بالشؤون العالمية. وعلى سبيل المثال نجد ثمانية مصارف فقط من مجموع 13126 مصرفاً في الولايات المتحدة، كانت تتولى عمليات دائمة في الخارج عام 1960.
    ان هذا العالم الذي كان يفرض على المرء ان يختم جواز سفره لكي يحق له ان يحمل عملة اجنبية، استمر طويلاً. غير أن بعض البلدان أزاحت ضوابط العملة الاجنبية المتصلة بالتجارة خلال الستينات، وتدبر رجال المال أمر الالتفاف على الضوابط الأخرى بإنشاء أسواق أوروبية تتولى فيها المصارف جذب الودائع وتقديم قروض بالعملات الاجنبية، لكن حتى بعد انهيار نظام سعر الصرف الثابت للعملات في مطلع السبعينات، لم تخفف الدول الغنية من قيود الضوابط على رأس المال الا بعد عقد آخر ـ أي في نفس الوقت الذي قامت فيه بلدان اميركا اللاتينية بإعادة هذه الضوابط، لمعالجة أزمة ديونها. واستناداً إلى معطيات صندوق النقد الدولي، كان هناك 144 بلداً لا تزال تفرض الضوابط على الاستثمار الخارجي المباشر في عام 1997، وهناك 128 بلداً لا تزال تفرض القيود على الصفقات المالية العالمية.

    بل ان الحواجز المقيدة للمؤسسات المالية الأجنبية أكثر بكثير. وكوريا الجنوبية ليست سوى واحدة من بلدان عديدة امضت عقد التسعينات وهي تلتهم رؤوس الأموال الاجنبية وتقيد، في الوقت ذاته، دور المصارف الأجنبية في أسواقها الداخلية. وانتهجت تايلاند واندونيسيا هذه السياسة نفسها بالضبط. ولم يبلغ نصيب البنوك الأجنبية من القروض الداخلية، في منتصف التسعينات، سوى واحد من كل عشرين قرضاً، وهي النسبة نفسها في الهند. اما في اليابان فإن هذه النسبة أدنى بكثير. ووجدت العديد من حكومات آسيا، حتى بعد 1997 و1998 (حين كان نظامها المالي بحاجة ماسة إلى الدعم الأجنبي)، ان الضوابط السارية فيها تمنعها من السماح للأجانب بالاستيلاء على المصارف وأعمال السمسرة.

    حلم مخترع

    ما الذي تضيفه لنا هذه الوقائع؟، لو نظرنا من زاوية رجل الاقتصاد، فإنه لا يوجد سوق كوني واحد متكامل لرأس المال. ولو أخذنا عقد التسعينات، لوجدنا أن %10 من الاستثمارات في البلدان الصاعدة قد مولت من الخارج. والحق، ان بعض المؤرخين الاقتصاديين يستخدمون احصائيات الحساب الجاري للقول إن رؤوس الأموال اليوم اضعف حركة مما كانت عليه قبل مائة عام.
    اما اذا نظرنا من زاوية رجل التجارة، فإن هناك فجوات ايضا. فسوق العملة الاجنبية مفرط السيولة، على الأقل بقدر ما يتعلق الأمر بالعملات الرئيسية، كما ان اسواق الدين العالمي ليست ببعيدة عن هذا الحال. أما سوق الأسهم Equitie فلا يزال محبطاً بجمود سيولته: فالأسعار متقلبة والمعلومات معتمة، والصفقات صعبة التخليص. حتى المرض الآسيوي لم يكتسب نعت "الكوني" إلا بعد فترة. وعلى الرغم من وجود الأسواق التي تنشط على مدار الليل والنهار، احتاجت الرجفات والرعشات المنبعثة عن خفض قيمة العملة في بانكوك (في يوليو (تموز) 1997)، عاماً كاملاً، كي تسبب زلزالاً في موسكو، كما تطلبت عاماً ونصف العام لتمس البرازيل.

    لكن الميل واضح تماماً، من وجهة نظر رجل الأعمال أو المستثمر أو السياسي وهو كالآتي: فرأس المال يتنقل الآن، في أرجاء العالم، بسهولة أكبر من السابق بكثير. وان "القطيع الإلكتروني" (كما وصف توماس فريدمان من صحيفة "نيويورك تايمز" السوق) قد لا يستطيع أن يجري بالحرية التامة التي يريدها هو أو يتمناها غيره من المتفائلين، فهناك سياجات، بل حتى وديان سحيقة من الضوابط التي تقيد او تبطئ حركته، غير أن الرقعة التي صار بمقدور هذه السوق ان تطأها (أو تحرثها حرثاً منتجاً) قد اتسعت بالتأكيد.
    من أسباب ذلك أن أصحاب الضوابط المالية اكتشفوا، في البلدان الثرية على الأقل، أن من يزيل حواجزه يحقق ازدهاراً أسرع. وتنامى الضغط على مدار عقد الثمانينات على مدينة المال "سيتي" في لندن لكي تحذو حذو وول ستريت بأن تتبنى فك الضوابط المعروفة بـ "الانفجار الأعظم". وتكهن الكثير من اتباع المدرسة القديمة بحلول الخراب ان تخلت مدينة المال "سيتي" عن تمييزها التقليدي بين السماسرة والوسطاء.

    كما اعتبروا قاعة المبادلة الإلكترونية بدعة أميركية مزعجة. الواقع أن "الانفجار العظيم" أسفر عن ثراء عظيم أصاب الشراكات القديمة التي تدافعت لتبيع نفسها للغرباء، الأجانب في أكثر الأحوال، بأسعار خيالية (شهدت المناطق المحيطة بلندن موجة هائلة من بناء المسابح بهذه الأرباح)، وثراء عظيم أصاب مدينة المال "سيتي" أيضاً. وعززت لندن سطوتها على سوق العملات الاجنبية مثلما عززتها على الأسهم العالمية. إن قيمة المتاجر بالأسهم العالمية في البورصة يرقى إلى نحو تريليونين من الدولارات سنويا، ويزيد هذا بمقدار الثلث على مبيعات الأسهم البريطانية. بعد هذا، سارعت بورصات القارة إلى محاكاة هذا النجاح، وتقدمت فرانكفورت، لفترة، خطوة على لندن في هذا المضمار.
    وأصيبت اليابان بعدوى فك الضوابط، ويقول يوشيهيكو مياوشي "أخيرا تغير شيء ما في منتصف التسعينات".

    يبدو مياوشي، بمظهر المفكرين الذي يميزه وبنظارته، مثالا جيدا عن جنس من البشر نجدهم في أسواق المال في العالم، فهو ليبرالي إلا أن المؤسسة المالية في بلاده لم تعره آذاناً صاغية. فخلال الثمانينات، أي في قمة نجاح اليابان، كان مياوشي واحدا من رجال الأعمال القليلين الذين يتلمظون غيظاً من سياسة الضرائب اليابانية "شبه الاشتراكية" ومن انعزال مؤسستها المالية. أسس مياوشي شركة اوريكس الصاعدة، التي اجترحت الريادة في تمويل التأجير وتمويل المستهلك في اليابان، وهو ميدان أهملته المصارف الكبرى وبيوتات الأسهم والسندات. وبقيت اوريكس خارج النادي المالي في اليابان، مما اضطرها إلى القبول بكل أنواع المطالب الشاذة مثل عدم السماح لها باصدار اوراق تجارية لتمويل قروضها. الواقع ان نجاحها يرجع بدرجة كبيرة إلى مرونتها. فقد كانت اول شركة في اليابان تعرض على مديريها خيارات الأسهم، كما انها من المؤسسات المالية اليابانية القليلة المدرجة على جداول بورصة نيويورك.

    ولما خفت القيود عن الأسواق دخل مياوشي الى ميادين جديدة، فاقتنص ترخيصاً في مجال الأعمال المصرفية لدى شرائه قسماً من مؤسسة يامايشي سكيوريتيز، الميتة، والشروع في عملية مبيعات بالهاتف لبيع بوالص التأمين على الحياة. وبالتدريج تزايد منافسوه، لكن المنافسة لم تأته من البنوك وبيوت الأسهم اليابانية، ثقيلة الحركة، بل من شركات اجنبية مبادرة وطموحة على غراره، مثل شركة جي اي كابتال GE Capital، وفيدلتي انفستمنت (Fidelity Ivn.)، وميريل لينش (Merrill Lynch)، وهي اسماء جبارة حقا، إلا ان مياوشي لم يبد أي قلق، فهو يعتبر مجيء الشركات الاجنبية امرا طيبا من حيث المبدأ. (وبالفعل راح يشن حملة بهذا الاتجاه بوصفه رئيساً للجنة الحكومية الخاصة بفك الضوابط). وهو يرى ايضا ان سوق المال الياباني لا يزال متخلفاً تخلفاً مريعاً. فهناك شركة واحدة من كل عشر شركات يابانية تتجرأ على استخدام تمويل التأجير. ولا يزال معظم اليابانيين يودعون مدخراتهم، التي تناهز نحو 10 تريليونات دولار، في حسابات مصرفية لا تدر إلا النذر اليسير من الفوائد، بحيث أنها لا تزيد إلا قليلاً عن إيداع المال تحت السرير في البيت. ويرى مياوشي "أن هناك مجالا معينا لتحسين الوضع".

    حرية الأرصدة المتبادلة

    يؤشر هذا الوضع باتجاه القوة الرئيسية الكامنة وراء نمو سوق الرساميل العالمي: أي المستثمر. قد تلوح المفاهيم من طراز "الرأسمالية الشعبية" و"ديمقراطية حملة الأسهم" فارغة وجوفاء في بلدان مثل كوريا الجنوبية، إلا أن اعدادا متزايدة من أناس فقراء نسبياً يقومون في أرجاء العالم المتقدم بشراء الأسهم وتحقيق نتائج طيبة.
    وحين تسألك النادلات، وهن يضعن لك قدح الكابوتشينو، ان كان عليهن شراء أسهم شركة ديل Dell لأجهزة الحاسبات الآلية، فإن ذلك يدفع إلى نبذ كل إيمان بالرأسمالية، لكن مهما سبّب ذلك جنون المتعاملين اليوميين على المدى القصير، فإن شراء الأسهم رخيص (الصفقة لا تكلف أكثر من ثمن ثلاثة اكواب كابوتشينو) وسهل ايضا في الوقت نفسه. ترى ما الذي يستغرقك وقتاً أطول؟ شراء مائة سهم من شركة "آي بي إم" IBM، على خط الإنترنت، أم برمجة جهازك لعرض الفيديو؟
    تضم الصناديق المتبادلة في أميركا، اليوم، أموالاً أكثر من أموال صناديق التقاعد وودائع شركات التأمين، أو أنها تضم قدر ما تحويه البنوك من أموال، وفي أوروبا، يزداد الناس اعتياداً على فكرة ان عليهم الادخار بأنفسهم لتقاعدهم بدلا من الاعتماد على دولة للرفاهية المرتفعة الكلفة أصلا، ويزداد معه الاهتمام بالأسهم equities، التي حققت أفضل النتائج على المدى البعيد. تزيد قيمة أسهم البورصة في أميركا حوالي مرة ونصف المرة عن قيمة اجمالي الناتج المحلي فيها، اما في اوروبا فإن قيمة كل سوق أسهم لا تزيد على نصف قيمة انتاج بلاده. وان حوالي 45 في المائة من الأميركيين يملكون أسهماً أو أرصدة متبادلة، اما النسب المماثلة فتبلغ %15 في فرنسا، واكثر من %10 في ايطاليا، وأقل من ذلك في ألمانيا.

    ولو ارتفع عدد حملة الاسهم في القارة الى المستوى البريطاني لا أكثر، حيث يحمل الأسهم واحد من كل اربعة اشخاص، فإن أسواق المال سوف تتسع اتساعاً هائلاً.
    وينبغي لذلك، بمرور الوقت ان يتقارب العالم. ورغم ان ذكرى الاضطرابات المالية لعامي 97 ـ 1998، لا تزال ماثلة في الأذهان، يبدو أنه من المرجح أن المستثمرين سيضخون، بالتدريج، المزيد من أموالهم خارج حدود بلدانهم. فالآفاق بعيدة الأمد للنمو في كوريا الجنوبية وجيرانها لا تزال متفوقة تفوقاً معقولاً على آفاق النمو في أميركا وأوروبا. واحتفظ المستثمرون في البلدان الأوروبية الرئيسية الأربعة بـ %85 من أموالهم في أوطانهم، وذلك قبل بدء تطبيق المنطقة الأوروبية الجديدة مطلع 1999. ونتيجة لذلك، لم يتوفر المستثمرون الألمان على أي أسهم في صناعة النفط، مثلما أن معظم الهولنديين لا يتوفرون على أسهم في صناعة السيارات، أما الآن فإنهم مرشحون لشراء رويال دتش/ شيل وداليمر ـ بنز على التوالي. ويقدر مصرف الاستثمار البريطاني "فليمنجز"، ان صندوق المال الجديد يحتاج إلى عقدين حتى يصبح أوروبيا بالكامل، متوقعاً أن تبلغ قيمته نحو 9 تريليونات دولار.

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    6-Jun-2002
    الدولة
    موزمبيق
    المشاركات
    88

    الحلقة الخامسة

    عندما تعاني أسواق المال من انفصام الشخصية

    جورج سوروش: بدلا من أن تتصرف أسواق المال مثل البندول تصرفت مثل كرة التهديم المعدنية وراحت تقوض دولة تلو الأخرى


    من منظور شخص يجلس، مثلا، في طابق بشركة "اس بي سي" و"اربورج ديلون ريد"، المخصص للتجارة، بمساحته الواسعة، البالغة 65 الف قدم مربع، والواقع في ستامفور بولاية كونيكتيكوت، من منظور هذا الشخص، سيلوح تفكيك الضوابط عن مراكز المال الغربية ونمو عدد المستثمرين بمثابة عنصر اضافي يزيد من جبروت تلك القوة التي لا تقاوم. غير ان هناك كثرة من الناس في شتى ارجاء العالم الناشئ لا تشعر بأي حماس للعولمة، كما ان هناك عددا مذهلا من النقاد في معابد الثراء هذا. وادلى جورج سوروش بشهادة لاذعة امام الكونغرس الاميركي فقال فيها:

    "بدلا من ان تتصرف اسواق المال مثل البندول، فانها تصرفت مثل كرة التهديم المعدنية، وراحت تقوض دولة تلو الأخرى"، وعليه فإن استخلاصنا الاخير بأن اسواق المال سوف تواصل تقريب العالم بعضه الى بعض، هو استخلاص مثير للجدل والخلاف. ومن حيث الاساس، لأن هذه الاسواق تنجح حتى في بلدان مثل كوريا الجنوبية.
    ان الحجج المطروحة عن تدفق رأس المال معقدة، الا انها تخلص في العادة الى موازنة حسنة جلية واحدة، مليئة بالكثير من السىئات والمؤهلات. اهم فضيلة او ميزة لليبرالية المالية هي الكفاءة. فالبلدان التي تتخلص من الضوابط المقيدة لرؤوس الاموال، وتشيع الليبرالية في نظامها المصرفي تشهد اكفأ الاستثمارات لأن الاسواق تخصص الاموال افضل مما يفعل البيروقراطيون، وتبين الابحاث التي اجراها معهد ميلكين Milken Instiute ان الاقتصاديات تؤدي خير اداء حين تكون الرساميل رخيصة، ووفيرة، ثم، وهذا مهم ايضا، مخصصة بعناية.

    ورتب المعهد الاسواق الناشئة بالتسلسل تبعا لدرجة انفتاح اسواق المال فيها. احتلت المراتب الثلاث الاولى الدول الاسيوية التي خرجت من الازمة المالية بأقل ضرر، وهي سنغافورة وتايوان وهونج كونج. اما المراتب الاربع الاخيرة فقد كانت من نصيب اندونيسيا وكوريا الجنوبية وروسيا وبلغاريا، وهي بلدان مزقتها الازمة تمزيقا، باستثناء بلغاريا.
    مع ذلك، فإن الدفاع عن التدفق الحر لرأس المال اقل صراحة واستعانة عن الدفاع لصالح حرية المتاجرة بالبضائع. ان اسواق السلع والخدمات قابلة للتنبؤ بشكل معقول، اما اسواق المال فمتقلبة على نحو فظيع. ويتوقف الشيء الكثير على مقدار المعلومات المتوفرة للمستثمر، بل ان اكثر القرارات اعتمادا على المعلومات الوفيرة غالبا ما يكون مدفوعا ليس بالاعتبارات الاقتصادية الاساسية وحدها، بل يكون مدفوعا ايضا بما يتصور بعض المستثمرين ان غيرهم من المستثمرين سيفعلونه، بتعبير آخر انهم يكونون مدفوعين بغريزة القطيع. لعل من المناسب القول جدلا، ان كوريا الجنوبية تعافت بسرعة كبيرة، لكن ذلك سيثير السؤال المحتوم التالي:
    < لماذا كان عليها اصلا ان تمر بهذا الجحيم المرعب؟ وهناك من يأتي بمثال تشيلي باعتبارها آية الكمال عن التجارة الحرة، رغم ما تحويه من بعض الضوابط المقيدة للاستثمارات قصيرة الأجل، لكن الصين شهدت نموا كبيرا من دون تخفيف ما تفرضه من ضوابط على رأس المال.

    والملحوظ هنا، انه على الرغم من صعوبة العثور على اقتصاد محترم واحد يعارض التجارة الحرة، فإن هناك كثرة منهم ـ خاصة داني رودريك من جامعة هارفارد وياجديش باجواتي من جامعة كولومبيا ـ ترتاب ارتيابا كبيرا في وجود فوائد من حرية حركة رأس المال. وهناك ايضا عدد كبير نسبيا من الناس، بمن فيهم بول كروجمان، ممن يعتقدون ان الضوابط المقيدة لرأسمال يمكن ان تكون علاجا مؤقتا جذابا لتلك البلدان التي تتخبط في ازمة نقدية. فهذه الضوابط توفر للبلد المعني الوقت اللازم لمكافحة الركود بتخفيف السياسات النقدية والضريبية، من دون التسبب في هروب جماعي للأموال الاجنبية.
    عند المفاضلة، لا نجد انفسنا في موقع المؤيد للضوابط المقيدة لرأس المال، خاصة حين تكون هذه الضوابط سياسة بعيدة الامد، غير ان الدفاع عن هذه القضية شائك. فأسواق المال (مثلها مثل الكوريين الجنوبيين بعد الازمة) تعاني من نوع من انفصام الشخصية. فالرأسمال، في وجهه الاول، كائن عقلاني على نحو بديع، بل صارم ايضا. ولقد شبه جورج ميلمان المتاجرين من امثال اندي كريجر والمستثمرين من امثال جورج سوروش بأنه اشبه بصيادي الجوائز التي كانت توضع لجز الاعناق في الغرب الاميركي القديم، و"الذين يطبقون القانون، لا حبا بالقانون، بل طمعا في الربح" والذين يفرضون "العدالة الاقتصادية" او حسب تعبير والتر ريستون، الرئيس السابق لمصرف سيتي بانك: "تذهب الاموال حيثما تريد، وتبقى حيثما تلقى معاملة حسنة". ان مشاهدة يوم الاثنين الاسود في بريطانيا تشبه مشاهدة فيلم "تيرمينيتور" (المهلك)، حيث تضيق الآلات ذرعا بضعف الانسان.

    لكن هناك وجها آخر، فهذا الكائن الروبوتي (الآلي) الذي لا يكل، يمكن ان يتحول الى كائن عصابي، مثله مثل اي شخصية اخترعها وودي آلن. فلا يسع احد ان ينكر ان اسواق المال يمكن احيانا ان تمنى بالاخفاق، الا اذا كان من اشد انصار السوق الحرة تفاؤلا مثل بانجلوسيان. فتاريخ الاسواق حافل بسعار المضاربة، ومن جنوب التوليب الهولندي في القرن الثامن عشر، الى سعار الانهيار الكبير عام 1929. وقبل قرن لا غير، كان وول ستريت الاميركي يهتز بالازمات حاله حال جكارتا اليوم. فالدفع بمعيار الذهب الذي استمر من عام 1870 حتى عام 1919، تعرض لهجمات مضاربة متكررة من المستثمرين، مثلما تعرض تثبيت اسعار هونج كونج بالدولار، وتعرض الدولار الاميركي الى الهجوم أخيرا.
    لقد اخفقت الاسواق مرارا في الحكم على الاقتصادات الصاعدة. والرساميل التي تدفقت على سيئول (مثل الاموال التي ضخت على موسكو وبانكوك) حفزت تشييد الكثير من المباني العملاقة، البازخة، واقنعت جيشا من مديري الشركات وبيروقراطيي الحكومة بأن بمقدورهم النجاة باقتراض الاموال قصيرة الأمد. وفي الوقت ذاته، نرى ان الاقتصادات الصاعدة (او الناشئة) مخلوقات ضعيفة حين تقارن بجبروت اسواق المال الكونية. ويحب بول فولكر ان يشير دوما الى ان كامل قيمة النظام المصرفي في الارجنتين لم تكن تزيد، منتصف التسعينات، عن اقل من ثلث اكبر مصرف في بتسبرج.

    لقد القيت اعنف دوامات عامي 1997 و 1998 على كاهل اكثر مؤسسات العالم المالي اسما على غير مسمى: صناديق الوقاية Hedge Funds. هناك ما يقارب اربعة آلاف صندوق من هذا الصنف، يعيش اغلبها في اسواق غير خاضعة للقوانين الضريبية off shore، غير مقيدة بالضوابط. وتتحكم هذه الصناديق بما مجموعه اربعة مليارات دولار من الاسهم ـ مما يسمح لها ان تقترض اربعة او خمسة اضعاف هذه القيمة ـ وتركز اعمالها على الصفقات قصيرة الاجل. ويشكل نشاط هذه الصناديق خطرا ليس على استقرار الاقتصادات الناشئة فحسب ـ يقال ان احد هذه الصناديق كان يسيطر على موقع وجيز في البهات تعادل قيمته خمس احتياطات تايلاند ـ بل حظر على اقتصاد الولايات المتحدة نفسها. وان الانهيار الذي سبق ان ذكرناه لصندوق LTCM (Long Term Capital Managment)، الذي كان يقامر بأرصدة تزيد قيمتها عن تريليون دولار، اثار فزعا كبيرا في وول ستريت وفي واشنطن الى درجة دفعت الى تأسيس كونسورتيوم من عدة مصارف كبيرة، بدفع من آلان جرين، رئيس "هيئة الاحتياطي الفيدرالي"، لانقاذ الموقف.

    ويشير ديفيد هاله، كبير اقتصاديي مجموعة زيوريخ، الى ان ظهور هذا النمط من الحواشي المتطرفة، المضاربة، ذات النفوذ الكبير، جديد كل الجدة على اسواق المال الكونية. لا ريب ان القرن التاسع عشر شهد الكثير من الازمات النقدية والذعر المالي، ولكن كان يتعذر، قرن ذاك، ضخ المال عبر الحدود بلمسة زر، بينما كان الاستثمار العالمي، الذي تحركه نحو 25 الف عائلة اوروبية، يميل الى التوظيف على مديات اطول، ويعتمد على ارصدة حقيقية، لكن ليس من الانصاف افراد "صناديق الانقاذ" والقاء اللوم عليها وحدها، فتبعات فضيحة ازمة صندوق LTCM، المذكورة آنفا، نبهت الاذهان الى ان ممارسات هذا الصندوق لم تكن مقصورة على عالم "صناديق الانقاذ"، فالمصارف وبيوتات الاسهم في ارجاء العالم كله تضارب بقدر مماثل من خلال عمليات ما يسمى بالمتاجرة (اقرأ: المقامرة) بحقوق التملك.
    هذا امر مفزع، غير ان ضباب الفزع الذي يخيم على مناقشة اوضاع اسواق المال، من شأنه ان يعمي عن رؤية عدة تمايزات مهمة. فمثلا ان من المضلل تماما ان نعامل كل النقود المتدفقة على الاسواق الناشئة، او الخارجية منها، المعاملة نفسها. ذلك ان "الاستثمار الاجنبي المباشر" ،اي بناء مصانع جديدة بأموال المستثمرين، اسهم، بلا ريب، في التوسع الاقتصادي المفرط في اسيا، وان ما تمخض عن ذلك من فيض القدرة الانتاجية هو السبب الكامن وراء الانكماش الذي يقض مضاجع المنطقة. ويصح القول ايضا ان "الاستثمار الاجنبي في السندات" ،اي شراء الاسهم، اسهم في انفجار الفقاعة الاسيوية بنفخ اسعار الاسهم المحلية في البورصة. الا ان السبب الرئيسي وراء مصائب اسيا ينبع من المصدر الثالث للرأسمال:

    الدين

    لقد افرطت الشركات الآسيوية في اقتراض اموال قصيرة الاجل، معظمها بعملات صعبة، لتمويل مختلف مشاريعها طويلة الامد. وحين اشتد القلق بالمصارف حيال انخفاض احتياطيات العملة الصعبة في البلدان المقرضة، ورفضت تأجيل سداد الديون، نشبت الأزمة. أما المستثمرون في الأسهم، بالمقابل، فلم يكن بمقدورهم المطالبة باعادة اموالهم، وما كان لهم من خيار سوى ان يبيعوا الاسهم، وهو ما فعله الكثيرون بخسارة. وان المسؤولين عن غلق الانابيب هم المصرفيون، وقد فعلوا ذلك بالطريقة نفسها المملة التي دأبوا عليها قرونا: كتابة الرسائل، وارسال الانذارات، تنبيها الى فقرات معينة في العقود. وسواء أخذنا حالة كوريا الجنوبية، ام حالة صندوق الانقاذ المنهار LTCM الذي سبق ذكره، فإن نظام ضبط القروض في المصارف يعتمد استراتيجية الخطر الداهم: الدب على باب خيمتك!
    (وهذه العبارة مستفادة من طرفة قديمة: ثمة رجلان في خيمة، يهزها الدب هزاً. همّ احدهما بارتداء حذائه، فقال له الآخر: "لن تستطيع صرع الدب"! فاجاب الأول "لا حاجة بي لأن اصرعه. كل ما اريده هو ان أهرب قبلك". هكذا راح كل مصرف يسارع الى اخراج امواله بسرعة أكبر من منافسيه الآخرين.

    هل تشجع اسواق المال المفتوحة على الاقتراض الحصيف؟ هناك، من حيث الجوهر، رأيان متعارضان. فثمة مدرسة ترى ان رأس المال صار خطيراً، لأن يحظى بحماية مفرطة. فافتراض البنوك ان صندوق النقد الدولي يكفلها، شجعها على اقراض شركات كوريا الجنوبية، كما أن ضمان الحكومة الاميركية للايداع شجّع المستهلكين الاميركيين على ايداع اموالهم دون ان يدققوا في ما اذا كان المصرف يقرض الاموال لكوريا الجنوبية. يبدو ان هذه الطريقة تمتاز بالنقاء الفكري، لكنها لا تتلاءم مع الواقع الفعلي في الحياة (فلماذا يفترض ان العمة أجاثا تعرف، بحسابها المصرفي، أي شيء عن كوريا الجنوبية؟) ولا تبالي باحتمال اخفاق المنظومة.

    وهناك، من جهة أخرى، اغراء واضح بالايغال في السير في الاتجاه المعاكس، والشروع في تأسيس كل انواع النظم المالية الجديدة. ويمكن حل الكثير من مشكلات الاقتراض المتهور اذا ما تبنت الحكومات مبدأ دقة العمليات المصرفية، وارغمت المصارف على فصل ذلك القسم من عملياتها الذي يتألف من أخذ الودائع المضمونة، عن القسم الآخر المؤلف من عمليات ذات مجازفة اكبر. وان وجود مجموعة حسابات نزيهة كان من شأنها ان ينبهها الى المخاطر، في الكثير من الحالات. وهناك تقرير كاسح عن الممارسات المحاسبية في آسيا وضعته الاونكتاد Unctad انتقد الشركات الكبيرة من مثل برايس ووترهاوس كوبرز Price water house cooper وآرثر اندرسون Arthur Anderson لانها صادقت على تقارير محاسبات لا تتوفر فيها المعايير العالمية. وكما عبر أحد المصرفيين المتضررين تضرراً كبيراً "لا غربي دقق الحسابات، ولا نقود غربية". غير ان مثل هذا القول يفترض ان المحاسبين سيكونون دقيقين.

    ان الارتقاء بمعايير البنوك والحسابات مفيد تماما للكثير من البلدان النامية، ولكنه ليس كافيا لوحده. فأولاً، تبين هذه الهموم ان الغرب الثري يحرص على التمسك بدولاره القذر (وهذا حق: فحصول انهيار مصرفي في كاليفورنيا، ناهيك عن اليابان، أخطر على النظام المالي الكوني من انهيار كامل الاقتصاد الماليزي). ثانيا، ان المعايير اعلاه لا تذلل الشكاوى الاساسية للبلدان النامية، وبخاصة شكواها من انها: فتحت اسواقها فتلقت لطمة على الوجه لقاء هذه الجهود.
    غير ان هذه النقطة الثانية مغلوطة، وان كانت مقبولة عاطفيا. وعوضا عن ان تخضع هذه البلدان نفسها لاحكام السوق، راح معظمها يبذل جهودا حثيثة لمقاومة هذه الاحكام، فأخذت تمعن في التمسك بسياسات معدلات صرف عملة تصعب ادامتها، والاقتراض اكثر من اللزوم، ثم، وهذا هو الأهم، الامتناع عن فتح نظم التمويل المحلي للمستثمرين الخارجيين. ان الاسواق تحتاج الى الانفتاح، لكن الكثير من الامور جرى خلف الابواب الموصدة. والاسواق تحتاج الى المنافسة، لكن الكثير من الامور تقرر على يد زمر متواطئة. ثم، وقبل كل شيء، تحتاج الاسواق الى معلومات لكن المتاح منها كان أقل من اللازم فهل كانت تايلاند ستنهار لولا تمسكها بسياستها لمعدل صرف العملة؟
    وهل كانت كوريا الجنوبية ستتخبط في مثل هذه الفوضى لولا انها اساءت معاملة رأس المال الاجنبي طويل الأجل (اساءة كبيرة)؟ وهل كانت روسيا ستتحطم على الصخور لولا انها سلمت زمام الحكومة الى طغمة نهابين؟ لا نظن انها كانت ستنهار.
    ان عذابات وآلام اعوام 1997 ـ 1999 لا تنفي الزعم بأن معظم البلدان المفتوحة كانت أكثر البلدان نجاحا.
    فمثال الهند والصين غالبا ما يذكر للتدليل على النجاح، لانهما تحاشتا الوعكة الآسيوية، لكنهما عانتا، عوضا عن ذلك، من امراض موهنة للقوى. وكما قال آلان جرينسبان في شهادته أمام الكونغرس سبتمبر (ايلول) 1998 فإن ما فقده اكثر اقتصادات شرق آسيا تضررا لم يزد عن سدس نصيب الفرد من النمو خلال العقد المنصرم، وان متوسط الدخل في هذه الاقتصادات بقي مع ذلك اكبر من متوسط الدخل في الصين والهند بمقدار مرتين ونصف المرة. فبدون الاموال الاجنبية والخبرة الاجنبية لا تنمو الاقتصادات الا ببطء شديد. وقد زاوجت تشيلي على الدوام بين ضوابطها المفروضة على رأس المال، وانفتاحها على الممولين الاجانب، وشفافيتها في قطاع المال، وهو وضع يختلف اختلافا بينا عن مثيله في البلدان الآسيوية. وان ملكية اكثر من نصف المصارف التشيلية تعود الى الاجانب.

    لكن هذه المعالجة تترك مسألة الضوابط المؤقتة. على الرأسمال، ولا تتناول ما اذا كانت هذه الضوابط قادرة على العمل عند نشوب ازمة. والجواب انها قادرة على ذلك. لكن المشكلة ان الكثير يتوقف هنا على مدى الذكاء في تطبيق هذه السياسة، مثلما يتوقف على ما تعنيه كلمة "مؤقت" يلاحظ ان تشيلي خففت ضوابطها حين كانت العدوى الآسيوية تطلق صفيرها في العالم. وحين قررت ماليزيا ان تطبق اطروحة كروجمان، فإن رجل الاقتصاد هذا تبرأ من هذا القرار، بدل ان يرحب به باعتباره انتصاراً للعلم الكئيب، قائلا ان الضوابط ينبغي ان تكون "عوناً للاصلاح لا بديلا عنه". (11) ولا يقتصر الأمر هنا على تعاظم خطر المحسوبية CORNYISM على المدى القصير (اذا عجز الناس عن سحب اموالهم قانونيا، فسيفعلون ذلك بطريقة لاقانونية)، بل يتعداه الى مشكلة الأثر طويل الأمد الذي يتركه ذلك على المستثمرين الاجانب وتجد ماليزيا الآن، حتى بعد ان الغت الضوابط، ان قلة قليلة من المستثمرين، من أي نوع كان، تستطيع ان تنسى كيف حُبست في الفخ ـ ثم ان هناك وفرة من الاماكن لضخ الاستثمار.

    دفاعا عن الرامي

    يترتب على ما تقدم ان اسواق المال هي، على العموم، قوة للانفتاح وتنسجم الاسواق المفتوحة مع الحكومة المنفتحة، والمجتمعات المفتوحة. لا نقصد بذلك ان الرأسمالية تفضل الديمقراطية بصورة تلقائية. فإن وقع الخيار بين نظام حكم تسلطي مستقر، ونظام ليبرالي مجلل بالازمات، فإن الشباب الجشعين الذين يعملون في قاعات البورصة سيحبذون ان يضعوا اموالهم في عهدة النظام التسلطي. وان الاسواق التي عاقبت الرئيس سوهارتو عام 90 هي نفسها التي امطرته بالذهب على مدى سنوات، قبل ذلك ولكن كما اكتشف سوهارتو. فإن الانفتاح والاستقرار السياسي يميلان الى التواؤم، عموما. فالنظام المفتوح للتحكم في الشركات يمنع المديرين من اتخاذ قرارات حمقاء. والنظام السياسي المفتوح يمنع أي زمرة حاكمة من نهب حصة كبيرة من موارد الأمة كما ان النظم المفتوحة تولد العنصر الاساسي الذي تحتاجه الاسواق لكي تسير سيرا صحيحا: المعلومات.

    ويمكن ان ننسب الى اسواق المال بعض الفضل في تحقيق عدد من البركات المألوفة حاليا في معظم البلدان المتطورة: تدني التضخم، وتدني معدلات الفائدة، وتقلص عجز الميزانية (لقد حققت الولايات المتحدة عام 1997 أول فائض في الميزانية منذ عهد نيكسون). وتقوم اسواق المال بمعاقبة الحكومات التي تضل السبيل، ومكافأة الحكومات التي تحافظ على الطريق القديم والحصيف. وعلى سبيل المثال، حين بلغ عجز الميزانية في السويد 13 في المائة من اجمالي ناتجها المحلي عام 1994، فإن مردود سندات الحكومة ارتفع الى 12 في المائة تقريباً.
    وحين اخذت الحكومة تعمل للقضاء على العجز، هبط معدل الفائدة المطلوب بمقدار النصف. ويبين مثال آسيا ان اسواق المال لا تسرع الى الانقلاب على الناس فحسب، بل انها تسرع اكثر في الصفح عنهم، ولقد انفقت اميركا اللاتينية معظم عقد الثمانينات وهي تكابد لاستعادة سمعتها الحسنة، اما كوريا الجنوبية، بالمقابل، فقد استطاعت ان تصدر سندات حكومة بمليارات من الدولارات بعد أشهر من لجوئها الى صندوق النقد الدولي.

    وعلى العموم، حين يفكر الناس في اسواق المال، فانهم يحصرون رؤيتهم على صالات التعامل غير ان الجانب الأكبر من سحر اسواق المال انما يجري في قاعات اجتماع المديرين. وان التحكم بالشركات عبر المجالس والهيئات هو خير وسيلة توفر لدينا لمحاسبة الرؤساء (المديرين العامون) على اعمالهم. فذلك يسهل طرد الفاشلين الحقيقيين. ويمنع المديرين من التصرف باموال اية شركة كما لو كانت ملكهم شخصيا. (صحيح ان الرواتب فالتة عن السيطرة في الولايات المتحدة، ولكن اعضاء مجالس الشركات يقللون من البذخ الذي يكافئون به انفسهم). وعلى العموم، فإن ذلك يفتح الكوى لدخول ضوء النهار الى عالم يستطيع بسهولة ان يغلف نفسه بالسرية المطبقة.
    ان المطالبة بفرض المحاسبة على الشركات تنطوي على تبعات متفجرة اكثر، خارج الولايات المتحدة. ونجد ان النخب القديمة، حتى في الاسواق المتطورة نسبياً، كما هو الحال في فرنسا والمانيا، باتت مضطرة، فجأة، الى ان تشرح جلية ما تفعله بأموال الآخرين.
    وان اثنين من كل ثلاثة مستثمرين المان يفضلون اليوم خوض معايير تحكم كونية "اي اميركية" بالشركات 12.. وفي فرنسا، سجل آلاف المستثمرين العاديين انفسهم في كلية جوالة للبورصة، حتى يعرفوا المزيد عن مآل اموالهم. غير ان فكرة مساءلة "التشايبول" المجمعات الصناعية او ما يعادلها، في بلدان مثل كوريا الجنوبية، لتفسر اداء شركاتها، تعد فكرة ثورية تماما. ولكي نرى هذا الصراع، دعونا نلتفت إلى سيئول.

    موسيقى سيئول العذبة

    رغم ان اقسام الاقتصاد في الجامعات كئيبة تقبض الروح، فان المبنى الكونكريتي لقسم الاقتصاد في الجامعة الكورية اقبحها قاطبة. وهنا يبدو جانج هاسونج، بهندامه الانيق، هندام طالب ثانوية متألق، بسترة زرقاء عريضة، وربطة عنق النادي، وقميص مزرر بعناية من العنق فنازلا يبدو نشازا حتى في هذا المكان ـ اشبه برجل كلاسيكي اجبر جبرا على دخول عالم الارقام البشع كجزء من تجربة اكاديمية غريبة. واذ يعكف الرجل على العمل تصدح موسيقى اوبرا في الخلفية. وتحوي رفوفه كتبا عديدة، يشخص فيها "قاموس هارفرد الجديد للموسيقى" الى جانب كتاب "النظرية المالية لسياسية الشركات".

    لا يوحي مظهر جانج بانه بروفسور اقتصادي، بل ان سيماه لا تدل قط على انه محرض. ولكنه الاثنان معا. فهو يهب في اجتماعات حملة الاسهم المتعاقبة ليطرح الاسئلة تلو الاسئلة على مديري "التشايبول" بأعلى صوته، اما انصاره، اعضاء حركة تضامن الشعب، التي اسسها فتراهم يسخرون من رؤساء الشركة، من وراء ظهر جانج، الذي يتحمل، بدوره، صيحات الهزء والسخرية من ازلام التشايبول. لكن هذا الثمن الذي يدفعه عديم القيمة فقبل وقت قريب، كانت اجتماعات حملة الاسهم، مقتضبة ومدبرة اقتضاب وتدبير مؤتمرات الحزب في الشمال الشيوعي. فجدول العمل كان يلفلف عادة، في دقائق معدودة. اما الآن فان جانج وانصاره يرغمون نخبة رجال الاعمال على البقاء على المنصة ساعات طويلة.
    يعتبر جانج ان حركة فتح الاعمال الكورية جزءا من حركة اوسع لفتح الحياة السياسية. ويشتكي الرجل من ان مديري الشركات يتصرفون كالاباطرة، ناهبين ملكية الشركات لإثراء عوائلهم، وناقلين الموارد من شركة الى اخرى وراسمين قرارات حمقاء دون خشية ان يلومهم لائم. يرتاب البعض في ان جانج يضمر مطامح سياسية على المدى البعيد فهو يتحدر من عائلة سياسية، كما ان حركته "تضامن الشعب"، تحظى باسناد العديد من زعماء الاصلاح. لكن جانج يرى ان الاصلاح السياسي محال بدون اصلاح الشركات.

    لقد تعلم جانج، ايام تلمذته في "مدرسة وارتوت" للاقتصاد، ان الغرض من الشركات العمومية هو زيادة عائدات حملة الاسهم من رأسمالهم، وان الغرض من التحكم في الشركات حول مشاهدة المديرين. وبادر في عام 1994 الى المساهمة في انشاء حركة "تضامن الشعب" التي تضم 200 عضو، لشن حملة تدعو الى الاصلاح الليبرالي. بدت هذه الدعوة، في حينه، قضية عقيمة. فقانون الشركات ينص على وجود ان يملك حملة الاسهم %3 من اسهم اية شركة، لكن يحق لهم طرح قضية ما او اقتراح شيء ما في اي اجتماع لحملة الاسهم ـ وهذه عقبة كأداء في بلد تسيطر عليه المجمعات العملاقة. حاولت "التشايبول" ترويع جانج بالوعيد، ونشرت الشائعات التي تتهمه بالسعي الى بيع ممتلكات البلاد الى الاجانب. وواجهت حركة "تضامن الشعب" صعوبة كبرى في الاتصال بحملة الاسهم في اول هدف من اهدافها، وهو بنك كوريا الاول Korea First Bank . فاضطر اعضاء الحركة الى السير في الشوارع بلافتات تدعو حملة الاسهم الى الاتصال.
    خاض جانج، بمعونة المستثمرين الاجانب، اول الاشتباكات القليلة، وبخاصة الصراع لارغام شركة الهواتف SK Telerm على تعيين مدقق حسابات مستقل. الا ان اندلاع الازمة الآسيوية، وفرت لصالحه ترويجا اعلاميا واسعا.
    فدعاه البنك الدولي الى القاء كلمة في اجتماعه السنوي، واخذ نشطاء حملة الاسهم المحترفون يدعونه الى مؤتمراتهم، بل ان بيل كلينتون دعاه الى المشاركة في مجموعة مناقشات، عند زيارته لكوريا الجنوبية في تشرين الثاني (نوفمبر) 1997. في هذه الاثناء، عدل الرئيس كيم القوانين، ميسرا قيام حملة الاسهم الاجانب بالاستثمار في كوريا الجنوبية، كما انه غير مناخ الضوابط. ولم يعد جانج الآن بحاجة الى اكثر من 0.01 من الاسهم لكي يطرح اقتراحا للتعديل او المناقشة، كما بات لزاما على الشركات العمومية ان تعين ربع اعضاء مجلس الادارة من خارجها.
    بمعنى من المعاني انتصر جانج في هذه الحرب. وقد بات شعار "عاقبوا رؤساء المجمعات" صيحة الحرب التي تطلقها حشود الكوريين المتجمهرة بانتظام خارج مقر اتحاد الصناعات الكورية الذي تهيمن عليه "التشايبول". واصبح رؤوساء المجمعات، بدورهم، رمزا للتبذير وانعدام الكفاءة والمحسوبية. لقد باتت اسواق المال، الآن مفتوحة للاجانب وانحدرت دزينة او اكثر من مجمعات "التشايبول" الى الافلاس. وتهاوت شركة دايو Daewoo الجبارة تماما، علما انها ثاني اكبر هذه المجمعات.

    غير ان القوى التي احتشدت في وجه الاصلاح ضخمة حقا. فالبلاد لا تشكو من نقص في اعداد البيروقراطيين الذين يرون ان خلق ما يسميه كيم "نظام السوق الديمقراطي الحر" سيحرمهم لا من سلطتهم فحسب، بل من امان الاحتفاظ بوظائفهم. وتبدي نقابات العمال الكبيرة حنينا الى الايام الخوالي، ايام العالم القديم. ويرتاب النقابيون والبيروقراطيون، على حد سواء، بالاجانب الذين يضع كيم ثقته الكبرى بهم. وتعيش حكومة كيم، وهي اول تجربة ائتلافية في كوريا الجنوبية، وضعا هشا.
    الانكى من ذلك، ان العديد من الاصلاحات كانت إما مصطنعة او ضارة وتشعر المؤسسات المالية الاجنبية بالاحباط في مساعيها لشراء الشركات الكورية. وعلى سبيل المثال خاب سعي مصرف HSBC لشراء بنك سيئول "المؤمم عام 1998" لأن حكومة كيم رفضت تقدير ديون المصرف وفقا للمعايير العالمية. في غضون ذلك، ادت مساعي ارغام المصارف على تسديد ضوابط القروض، ويا للمفارقة، الى مساعدة "التشايبول". لقد ركزت المصارف مواردها على الزبائن الذين يتوفرون على احسن الصلات الحكومية، من باب القناعة بأن الحكومة لن تسمح لهؤلاء بالسقوط، فأهملت بذلك الاعمال التجارية الصغيرة والمتوسطة التي افلست بالآلاف. وتحولت "التشايبول"، كما هو دأبها دوما، للدفاع عن نفسها بشراء حصص من شركات التأمين، وشركات ادارة الممتلكات، وصنف جديد من "مصارف التجار" المتخصصة في تقديم قروض قصيرة الاجل للشركات "من نوع القروض الذي قد تحتاجه اذا كانت عندك فروع مراوغة بعض الشيء، بحاجة الى سيولة نقدية على السريع".

    يخلق هذا الوضع كله لدى من يزور مكتب جانج هاسونج، استنتاجا مقلقا بازاء القرن الجديد، مفاده ان كوريا الجنوبية ـ وآسيا عموما ـ ربما تكون قد عادت القهقرى بسرعة كبيرة. من ناحية الآفاق البعيدة الأمد ان اقتصادات المنطقة، التي اصيبت بالازمة، لم تعان سنوات من الكساد والركود، كلا، بل انها تعافت بسرعة كبيرة، وكانت كوريا اسرعها في ذلك. والحق ان البورصة الكورية بلغت ذرى جديدة في عام 1999. ان بعضا من هذه المعافاة يرجع الى الاصلاحات التي فرضها اناس من طراز جانج، لكن الفضل الاكبر يرجع الى الشاري الاخير، أي المستهلك الاميركي، الذي لا يمكن ان يظل يشتري الى الابد. وتبدو كوريا، حتى يومنا هذا، وهي تحاول ان تقاوم سوق المال، فهي ترحب بالاموال القادمة لكنها تصر على ان تلعب هذه وفق قواعد "التشايبول" وما لم يتغير هذا الوضع، فان الخطر سيظل قائما في ان تتكرر الازمة التي كادت تغرق البلاد بأسرها خلال عامي 1997 ـ 1998، وعندها لن تشفى البلاد من الفصام الشيزوفرينيا الذي عانته.

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    6-Jun-2002
    الدولة
    موزمبيق
    المشاركات
    88

    الحلقة السادسة

    من بريطانيا إلى تايلاند صارت "تويوتا" أشبه بمعلم المدرسة لتلاميذ صناعة السيارات

    الأفكار والبشر هي القوة الثالثة وراء العولمة بوسع القادمين الجدد اقتحام الأسواق من دون أن يتجشموا عناء فتح مكاتب باهظة الثمن أو عقد علاقات حميمة مع السياسيين المحليين


    معظم الدروس في "جامعة الهمبرجر" يدور حول أمور عملية يومية بل مبتذلة

    الشركات الاستشارية لا يقتصر عملها على الريادة القارية للعولمة بل إنتاج كوادر بشرية "معولمة"



    الفصل الرابع

    اليد الظاهرة

    في أواخر السبعينات كان مصنع جنرال موتورز الواقع في فيرمونت، قرب الطرف الجنوبي من خليج سان فرانسيسكو، رمزاً لكل ما هو سيئ في صناعة السيارات الأميركية. فقد كان المصنع ضحية مستديمة لتباطؤ العمال، وتغيبهم الجماعي بادعاء المرض، واضراباتهم. وكان العمال يبغضون المديرين، والمديرون يحتقرون العمال، ولا صلة معقولة بين الاثنين مهما صغرت. وبلغت نسبة تغيب العاملين نحو 20 في المائة. وتحول مرآب الشركة إلى ما يشبه البازار، الحافل بالحشاشين والمخدرات، والطعام المشوي. وكان جو المصنع يعج بدخان الماريجوانا، إلى درجة تجعل المرء ينتشي بالمخدر بمجرد أن يزاول عمله. ويصف أحد عمال جنرال موتورز الحال قائلا:
    "كانت الأقذار تغطي المكان، فالزجاج المكسور منثور على ارض المرآب، ويبدو مثل حقل من الماس في ضوء الشمس المشرقة صباحاً، علب البيرة وقناني الويسكي، المبعوجة أو المحطمة، تغطي المكان! لكأنه زريبة خنازير. كان الناس يجلسون أينما يشاءون، ويطالعون الكتب، أو يأكلون، أو يعبثون بالمذياع. أتذكر أنني كنت أعمل على سيارة فوجدتها ملأى بعظام دجاج، من بقايا غداء أحدهم. لم يكن أحد ليكترث بشيء".

    وفي عام 1982، يئس مديرو جنرال موتورز من إصلاح الحال، فأغلقوا أبواب المصنع الممتد على مساحة 4 ملايين قدم مربع، وألقوا العاملين على قارعة الإحسان الحكومي، ولكن بعد عامين من ذلك، عاد المصنع باسم جديد، نيو يونايتد انكلوسيف لصناعة السيارات NUMMI وبروحية جديدة. قررت شركة جنرال موتورز ان تستخدم المصنع بمثابة مختبر لادخال تقنيات التصنيع اليابانية إلى الولايات المتحدة. فشكلت مؤسسة مشتركة مع تويوتا، وأعطت إلى الشركة اليابانية حرية ادخال نفس "طرائق الانتاج اللينة" التي استخدمتها استخداماً رائعاً ومثمراً في بلادها.
    قسمت تويوتا العمال إلى فرق، وألزمتها بأن تفحص عملها بدل أن تترك مهمة الفحص لقسم مراقبة النوعية، وفرضت على المديرين العمل على ارض المصنع، وألغت مخازن القطع، وانتقلت إلى المجهزين لتزويدها بالقطع في الوقت المطلوب.
    تمخض ذلك عن زيادة مذهلة في الإنتاجية، وبات المصنع، في عام 1994، ينتج العدد نفسه من السيارات المنتجة عام 1982، لكن بتشغيل %65 من قوة العمل. واصابت السيارات هذه المرة النجاح، ووضعت مؤسسة جي. دي. باور (J. D. Power) موديل جيوبريزم، الذي انتجته الشركة باعتباره افضل سيارة اميركية انتجت على الاطلاق. وقامت الشركة (NUMMI) بتصدير ما تزيد قيمته على اربعمائة مليون دولار من السيارات، بما في ذلك 26 ألف سيارة من طراز كورولا الى تايوان، وما قيمته 78 مليون دولار من قطع الغيار إلى اليابان.

    وتحولت الشركة الى قطب يجذب عشرات المجهزين للقطع، التواقين الى الحصول على عقود، كما إلى تعلم "الانتاج اللين". ولما بدأت صناعة السيارات في ديترويت تعيد هيكلة نفسها، راحت المصانع المتبقية منها تستنسخ افكار تويوتا. (الواقع ان مصانع فورد وكرايسلر في ديترويت اغلقت ما يعادل %40 من طاقتها الانتاجية في اميركا خلال الثمانينات، اما جنرال موتورز فلم تغلق سوى %25). واليوم، فإن كل مصنع من مصانع السيارات يحمل بصمة من بصمات الشركة NUMMI بهذه الطريقة أو تلك، بحيث لم تعد زيارة فيرمونت توحي للمرء أنه يتجول في مكان غريب المظهر.
    وما هذه إلا بداية القصة، فمن بريطانيا إلى تايلاند، صارت تويوتا اشبه بمعلم المدرسة لتلاميذ صناعة السيارات في العالم. ويندر ان يجد المرء مصنعاً كبيراً للسيارات في العالم لم يدرس الطرائق اليابانية في العمق، كما فعلت العشرات من شركات الخدمات ومؤسسات القطاع العام ايضا. علما ان المستويات في تحسن مطرد. وقد لجأت تويوتا نفسها إلى شركة فورد، أخيراً، لكي تتعلم سبل تحسين العلائق بين المهندسين وعمال الورش في المصنع، مثلما التفتت إلى كرايسلر لتتعلم "هندسة القيمة"، وهي طريقة جديدة لتسريع الانتاج باستخدام اجزاء تصلح لعدة موديلات.
    ولا يقتصر الحال على اليابان واميركا، اذ يقال إن البرازيل هي اكثر بلدان العالم تقدما في صناعة السيارات. للوهلة الأولى، يبدو مصنع جنرال موتورز في ساو كايتا تانو دوسول، في ضواحي ساو باولو، تقليدياً وليس ثورياً. فالمصنع قديم، إلا أن مكتبه الرئيسي أنيق، كما أنه الأكثر كفاءة في العالم، كما يقول مديروه الفخورون، الذين يرجعون الفضل في ذلك إلى أن معظم مديريه المحليين يتحدرون من المصنع الأم NUMMI.
    وكل ما ينتج هنا، إنما ينتج وفق معايير ومتطلبات المصنع الأم NUMMI، التي يشار إليها بملصقات صفراء اللون مثلثة الشكل، يلصقها العمال على منتجاتهم، ويسجلون بها تقدمهم. وهناك رسوم بيانية معروضة في أرجاء المصنع، تتخللها شبكات من الخطوط اللانهائية، التي تمضي صعوداً من لحظة بدء المصنع باتباع الطرائق اليابانية. فقد كان المصنع يستغرق 103 دقائق لإعداد طقم جديد من القوالب في ورشة سحق الخامات، أما الآن فلا يستغرق ذلك أكثر من 4 دقائق، وهو معيار أساس تطبقه مصانع جنرال موتورز الأخرى. ويكسب العمال ستة آلاف ريل Real، عند تقديم أي اقتراح مفيد لتحسين طرائق الإنتاج.. وهكذا.

    ولا يكتفي البرازيليون بتطبيق نظام الشركة NUMMI خيرا من اقرانهم، بل انهم يضيفون إليه ويطورونه. فالمجهزون الخارجيون لجنرال موتورز، في البرازيل، يقومون الآن بتجميع أجزاء أكثر من قبل، وتسليمها إلى مصانع التجميع، مما يخفض، إلى حد كبير، عدد العاملين المطلوب لإنتاج كل عربة، بل ان الشركة تعمل على تغيير شكل المصنع، ملغية الشكل المربع، وهو أميركي نموذجي إلى شكل آخر يشابه الحرف T أو L، حتى تزداد أرصفة التفريغ التي يستخدمها المجهزون الخارجيون لإيصال الأجزاء إلى خط الإنتاج مباشرة.
    ووجدت جنرال موتورز ان بمقدورها ابتكار سيارة جديدة متوسطة الحجم خلال شهرين في البرازيل، مقارنة بسبعة أشهر في كنساس، وتعكف جنرال موتورز الآن على وضع مصنع جديد، يدعى مشروع بلوماكاو، ويقال إنه سيزيد الأقسام التي يصنعها المجهزون الخارجيون للسيارة.
    تركت هذه الابتكارات تأثيرها في ديترويت وفي كامل صناعة السيارات. ويدير القسم الأميركي من شركة جنرال موتورز مديران هما ريتشارد واجونر ومارك هوجان، حققا شهرتهما في البرازيل، غير أن مساعيهما لـ "برزلة" جنرال موتورز الأميركية دفعت العمال الأميركان إلى الإضراب في صيف 1998.. (راجع بخصوص ذلك الفصل الثالث عشر).

    القوة الثالثة

    إن الأفكار والبشر الذين تتألف منهم هذه المهنة الرائجة، مهنة الإدارة، هي القوة الثالثة وراء العولمة، القوة التي تربط العالم ببعضه بنفس القدرة أو الثقة التي تمارسها تجارة المال العالمية، وقطاع المعلومات.
    ولنكن على يقين، ان الابتكارات في إدارة الأعمال هي محض شكل آخر من المعرفة التكنولوجية، كما يقال، وان الجانب الأكبر من الضغط على الشركات لتبني هذه الابتكارات في الإدارة يأتي من أسواق المال. غير ان التدويل العالمي لأساليب ممارسة الأعمال يمتلك زخمه الخاص، بل ان هذا الزخم في تسارع. فهناك الكثير من الابتكارات التي كانت موضعية التطبيق في التسعينات، مثل طرائق إعادة الهندسة، و"اقتصاد القيمة المضافة" لتحليل أداء الشركة، صارت مطبقة في العالم اجمع، بل ان تطبيقها يأتي على يد مؤسسات بالغة التنوع، من وزارة المالية البريطانية، إلى استوديوهات يونيفرسال السينمائية، إلى مصرف الزراعة التايلاندي، الى شركة سايمنز الألمانية.
    يرجع الفضل في ذلك، جزئياً، إلى فك الضوابط. فالخصخصة وإزالة القواعد الحمائية أرغمتا الشركات المدلّلة، على تحديث طرائقها. وفي بداية التسعينات كانت هناك عدة شركات كبرى في القارة الأوروبية تزدري ما تسميه "البدع الأميركية". أما الآن، فلا.

    ولا يشعر يورجن شريمب، من شركة دايملر ـ كرايسلر، بأي مهانة من أن يوصم بأنه "يورجن النيوتروني" بسبب طرائقه القاسية، بل يعتبر ذلك بمثابة المديح، لأنه يشبّهه بمدير جنرال الكتريك، "جاك النيوتروني" ويلش، الذي يقوم هو الآخر بادخال برنامج جديد لتغيير طرائق إدارة الإنتاج. وحين جرى تعيين باولو فريسكو رئيساً لشركة فيات الإيطالية، سئل مديرها العام، باولو كانتاريلا، عما سيضيفه الرئيس الجديد من جديد، أجاب: "لدى فريسكو خبرة مكتسبة من جنرال الكتريك".
    ويبدو أن الشركات الأوروبية الصغيرة باتت هي الأخرى مفتتنة افتتاناً أشد برأسمالية اليانكي.
    ان معظم المؤسسات ـ في القطاعين العام والخاص على حد سواء ـ تنحو منحى عالمياً شاملاً في البحث عن مصادر الابتكار في الإدارة. ولا يهمها في شيء أن يكون مدير كندي مثل هنري مينتزوبرج قد ابتكرها (علما أنه يقضي نصف العام مدرساً في مدرسة الأعمال الأوروبية انسيد Insead)، أو صانع كومبيوترات تايواني مثل آسر، قد ابدعها. فالمهم هو نجاح الابتكار. قد يوحي قولنا هذا ان الشركات باتت متجانسة، لكن وجود تقاليد مختلفة قد يشكل منبعاً حيوياً للقوة. مع هذا، فإن هناك عدداً متزايداً من الأعمال الروتينية في الشركات تسير على القالب نفسه في كل مكان تقريباً، كما أن هناك عدداً متزايداً من المديرين يلهج باللغة نفسها، الفنية، المبتسرة، لكن الكفؤة، باعتماد مصطلحات واختصارات من قبيل (تسلم الفواتير المستحقة) Bills Payable Received = BPR، و(إدارة النوعية الكاملة) Total Quality Management = TQM، (في الوقت المناسب تماماً) Just in Time = JIT.
    ومن الأمثلة على هذا التقارب أو التطابق رواتب المديرين، مع انها لا ترضي الجميع. وعلى الرغم من صيحات الاحتجاج التي ضجت في ألمانيا على كسب مديري شركة كرايسلر نحو مليار دولار من صفقة شراء شركة دايملر ـ بنز الألمانية لشركتهم، فإن الشركات الأوروبية واليابانية تتبنى، عموماً، سلم الرواتب الأميركي، بما في ذلك ترتيبات منح الأسهم للمديرين، أي ما يسمى بـ "خيار الأسهم". لعل هذا نابع من جشع الشركات، لكنه يعكس ايضا ان هناك، في الكثير من الصناعات، سوقاً كونياً للمواهب.
    وهناك الآن 160 شركة كبرى في اليابان لديها خطط لـ "خيار الأسهم". اما في بريطانيا، فإن رواتب المديرين التنفيذيين في الشركات الكبرى غالباً ما تصل إلى خمسة ملايين دولار، بالاضافة الى منح "خيار الأسهم"، والعلاوات (التي قد تصل إلى ربع ما يحققه اقرانهم الأميركان، لكن الأرقام ضاربة حقاً حتى لو قورنت بمستويات ما قبل عشر سنوات).
    ومن النتائج المحتومة لذلك، ان الخبراء المستشارين للرواتب يصفون الترتيبات على الطراز الأميركي بأنها "اتفاقات رواتب كونية الطابع". أما خبير الرواتب جريف كريستال، الذائع الصيت في أميركا، فيقول "إن الفيروس يعم العالم كله".

    الفرسان الأربعة

    هناك أربعة ناقلين أساسيين لفيروس كريستال الاداري: الشركات متعددة الجنسية، الشركات الاستشارية لشؤون الإدارة، مدارس الأعمال التجارية، والمفكرون في شؤون الإدارة.
    لقد رأينا، قبل قليل، مثالاً جيداً على الناقل الأول، في حالة تعاون تويوتا وجنرال موتورز. الواقع ان الشركات متعددة الجنسية، في اقتصاد يقوم على المعرفة، هي آلات لنقل الأفكار عبر الحدود. وتقدر الأمم المتحدة ان زهاء 70 في المائة من المدفوعات لحقوق الاختراع والتملك، تشتمل على مدفوعات بين الشركة الأم وفروعها. ولعل هذا التقدير نفسه يصح على الابتكارات الإدارية. ومن الشائع حقا، ان نقاد العولمة يقولون إن الشركات المتعددة الجنسية تركض، أساساً، وراء الأيدي الرخيصة، غير أن الشركات التي تنتهج مثل هذه الاستراتيجية الفجة تضطر، عادة، إلى تصدير بعض المعرفة الإدارية. وان أكثر الشركات المتعددة الجنسية نجاحاً (والتي تتركز عادة في الميادين ذات المهارة الأرفع مثل صناعة الأدوية والكومبيوترات) هي تلك الشركات التي تهتم بالحصول على خيرة العقول المفكرة لا الأيدي العاملة، في العالم. ونجد أن فروع الشركات اليابانية في الولايات المتحدة تبز غريماتها الأميركيات في الانفاق على التدريب.
    قد يلوح ذلك نوعاً من العبث، لكنه يتحول إلى علة وجود الشركات متعددة الجنسية (انظر الفصل السابع). ولا تستطيع هذه الشركات، في يومنا هذا، ان تعتمد على سعة حجمها فقط. فمجيء أسواق مال أكثر حرية وكومبيوترات مكاتب جبارة سهّل على الشركات الصغيرة ان تنافس غرماءها الكبار.

    ان اطراد التجارة الحرة يعني ان بوسع القادمين الجدد اقتحام الأسواق من دون أن يتجشموا عناء فتح مكاتب باهظة الثمن، أو عقد علاقات حميمة مع السياسيين المحليين. غير أن الشركات المتعددة الجنسية، تمتاز بأفضلية واحدة على منافساتها الصغيرات: انها قادرة، وبسهولة، على أن تحصد الابتكارات من أرجاء العالم، وتمزجها وتولّفها. والحق ان افضل الشركات المتعددة الجنسية تحول نفسها إلى نوع من سمسار معرفة، وسيط ماهر في جمع عقول ما كان لها ان تجتمع لولا هذا الجهد، مثل جمع مصممين ايطاليين مع خبراء كومبيوتر يابانيين، أو مصممي إعلانات تايوانيين بكيميائيين ألمان، وهلمجرا.
    وهناك وسيلة رئيسية اخرى لنشر الأفكار الإدارية في أرجاء المعمورة، هي التدريب. لقد صدرت الشركات الأوروبية، مثل شركة نستل Nestle، نظامها لتدريب الجدد إلى أميركا اللاتينية. وهناك نمط مفضل هو "الجامعة" الداخلية، أي ضمن الشركة. ولدى جامعة شركة موتورولا، عدة فروع، بينها فرع في بكين. اما مركز تدريب شركة نستل، رايف ـ راين، في لاتور دو بيلز، فيتولى تدريب متعلمين من 60 بلدا.

    ومن أشهر جامعات الشركات في أميركا (وعددها 1600) جامعة تقع في مبنى حجري على بحيرة في اوك بروكس بولاية ايلينويز. لعلكم تضحكون، أو تبكون، أو يغشى عليكم، لكن من الصعب أن نتخيل رد فعل مدير أو عميد جامعي (من ذوي الرواتب الشحيحة) إذا علم أن هناك "جامعة همبرجر"، لها قاعات محاضرات منيرة، وكومبيوترات جديدة، ومترجمون مستعدون لترجمة الدروس إلى 26 لغة.
    وتتبجح هذه الجامعة، التي خرجت حتى الآن 65 ألف حامل "بكالوريا في الهمبرجرولوجي"، بأن لديها 25 بروفيسورا، وأنها تخرج سبعة آلاف طالب سنوياً. وتحتل هذه الجامعة القلب من شبكة هائلة من خمسة فروع لها في ما وراء البحار، اضافة إلى أكثر من مائة مركز تدريب، وعلاقات تربطها بكل مطعم همبرجر. وما أن ينضم أي شخص إلى شركة ماكدونالدز، حتى يتلقى تدريبا ما، ذكرا كان أم أنثى. وحين يصل مديرو المطاعم إلى الجامعة المركزية في اوك بروكس، فإن عليهم تلقي 2000 ساعة تدريب، سواء كانوا قادمين من سري لانكا، أو من ساوثامبتون.
    ان معظم الدروس في "جامعة الهمبرجر" يدور حول أمور عملية، يومية، بل مبتذلة من طراز "ولا تنس المقليات والكوكا". ركزت جامعة الهمبرجر، تاريخيا على التوجيه لا التعليم، علما أن التوجيهات كلها تأتي من الولايات المتحدة. غير أن هناك تعليمات جديدة للعميد الحالي لجامعة الهمبرجر بأن يغير هذه الوجهة في التدريس. يدعى العميد رفيق منكاريوس، وهو مصري الأصل، استرالي الجنسية، وأول شخص غير أميركي يحتل هذا الموقع.
    والسبب في تغيير الوجهة ان شركة ماكدونالدز تدرك الآن ان مستقبلها قد يتوقف على خروج مطاعمها الأجنبية بأفكار جديدة، بدل ان تبقى مجرد مراكز توزيع همبرجر، عالية الانضباط. ويشجع العميد منكاريوس طلابه على الجهر بشكاواهم، وتبادل الآراء والأفكار. ويتحدث رئيس ماكدونالدز، جاك جرينبرج، بحماسة، عن الوقت الذي يقضيه في الإجابة عن الأسئلة في كل دورة دراسية من دورات جامعة الهمبرجر، باعتباره "خير وسيلة لجمع المعلومات الميدانية" حول كل أوجه العمل، من مواقد المسخنات الجديدة المبرمجة على عشر ثوان، إلى إعادة هيكلة الشركة.
    غير ان هناك قدراً كبيراً من اندفاعة العولمة وطاقة الشركات متعددة الجنسية يأتي من القطاع المتخصص في فن الإدارة، ويشتمل هذا القطاع على مدارس الأعمال، والشركات الاستشارية، والمفكرين. وتقوم وظيفة الشركات الاستشارية في مجال الإدارة على تزويد زبائنها بأفضل الأفكار المتاحة في مجال ادارة الأعمال في العالم. وقد شهد العقد الماضي تحول هذه الشركات الاستشارية إلى مؤسسات كونية. ويتجسد هذا التحول، بوضوح كبير، في ان أكبر شركتين استشاريتين أميركيتين في هذا المضمار تداران على يد رئيسين غير أميركيين، فشركة مكنزي Mckinsey الاستشارية يرأسها هندي، أما شركة باين Bain فيترأسها إسرائيلي.

  8. #8
    تاريخ التسجيل
    6-Jun-2002
    الدولة
    موزمبيق
    المشاركات
    88

    تابع الحلقة السادسة

    وحين انضم راجات جوبتا إلى مكنزي، قبل ربع قرن، كانت الشركة التي يترأسها الآن تحوي 50 مستشاراً، أما الآن فلديها 4 آلاف مستشار، أما أكبر فروعها نمواً فهو الفرع القائم في وطنه الهند. وهناك شركة استشارية أكبر هي اندرسون كونسلتنج Andersun Consulting تستخدم 40 ألف موظف، ولديها 152 فرعاً في 47 بلداً. ومركز اندرسون للتدريب في سانت تشارلز، بولاية ايلينويز، المختص بالإنتاج الواسع لـ "انسان اندرسون الآلي" الشهير، الذي يقدم المشورة في كل أرجاء العالم، هو أكبر زبائن مطار اوهارا في شيكاغو.
    فحوى ذلك ان الشركات الاستشارية لا تقتصر في عملها على الريادة الفكرية للعولمة، بل تتعداه إلى إنتاج كوادر بشرية تعيش نمط حياة معولما (كونيا)، بدرجة أعمق من أي رجل أعمال معاصر. وتتوفر هذه الشركات الاستشارية على صلات مع نسبة كبيرة من ألمع العقول التي تخرّجها الجامعات. ويتيح لها ذلك استئجار خدمات عدد هائل من خريجي مدارس الأعمال، يناهز ثلث عدد الخريجين، لكن الشركات الاستشارية تبلغ من الجشع حداً يدفعها إلى أن تحرث برامج شهادات الدكتوراه وكليات الطب، بل حتى معاهد الفن، حرثاً، بحثاً عن المواهب. ثم تعمل بعد ذلك، على تشجيع العناصر الجديدة المكتشفة لكي يتحول مواطنو العالم، إلى تكنوقراط كوني (انظر الفصل الثاني عشر). ويضطر المستشارون الشباب إلى نقل عوائلهم (إن كان لديهم وقت فراغ لإنشاء عائلة) بطلب ملح من أرباب عملهم، ويقضون الشطر الأعظم من حياتهم على متن الطائرات. غير أن المردود المالي لمثل هذه الحياة، المتنقلة، هائل حقاً.
    ان مدارس الأعمال، شأن الشركات الاستشارية الإدارية، اختراع أميركي خالص، لكن هناك عدداً متزايداً من المدارس الأوروبية الجيدة، بما فيها انسيد Insead، وآي إم دي (IMD)، ومدرسة الأعمال اللندنية (LBS).

    وتبذل المدارس الأميركية جهوداً حثيثة لكي تصبح عالمية، جاذبة أعداداً متزايدة من الطلاب الأجانب، وعاقدة التحالفات مع الجامعات الأجنبية، وفاتحة فروعاً لها في الخارج. والحق ان لمدرسة هارفرد للأعمال فروعا عديدة في الخارج، كما أن لجامعة شيكاغو لخريجي مدارس الأعمال فرعا في اسبانيا، اما مدرسة سلون للأعمال فتعقد صلات وثيقة مع جامعة هونج كونج.
    أما القاطرة الثالثة في قطاع الإدارة، فتتمثل في المفكرين أنفسهم ـ نجوم العولمة. فهؤلاء يقدمون للشركات الاستشارية ولمدارس الأعمال زبدة أفكارهم، وهم يجوبون العالم ناشرين الأفكار، وباحثين عن الجديد منها. ولعل بيتر دروكر هو أكبر المفكرين من ناحية السجل الكوني.

    ودروكر استرالي المولد، إلا أنه صار كونياً منذ مطلع عمله، بالانتقال إلى الولايات المتحدة، اصدر دروكر كتابه الأول في الإدارة "مفهوم الشركة"، وهو دراسة في أحوال جنرال موتورز دعت إلى الكثير من الإصلاحات التي طبقتها شركة موتورز المجددة NUMMI، فطارت شهرته كفيلسوف كبير في اليابان. واستثمر دروكر، بذكاء، اطلاعه على أحوال الشركات اليابانية، ليروج الطرائق اليابانية في الولايات المتحدة.
    منذ ذلك الحين برزت كثرة من المقلدين (وان لم ترق إلى مصاف نظير مكايى)، جاء عدد كبير منهم من خارج أميركا. وهناك مفكرون كبار في هذا المجال، مثل الياباني كنيشي أوهامه، (الذي يشرح طرائق الشركات اليابانية للأجانب، والطرائق الأجنبية لليابانيين)، والانجليزي تشارلز هاندي (الذي يعظ باتباع الأسلوب الرقيق للرأسمالية ذات المسؤولية الاجتماعية)، بل ان السود في جنوب افريقيا سجلوا نجاحاً كونياً بـ "إدارة الابونتو"، وهي مزيج من المفاهيم الغربية والتقاليد الافريقية مثل الولاء القبلي.

    جدير بالانتظار

    لا ريب أن نفوذ منظري الإدارة، شأن أسواق المال، سيواصل النمو، والسبب الأساس في ذلك، ان نظرياتهم تصيب النجاح. غير أن هذا الاستنتاج، على أي حال، مثير للجدل. فهناك كثرة من رجال المال تميل إلى الاعتقاد بأن أكثر استراتيجيات إدارة الأعمال نجاحاً من صنعها هي. وقد أشار بيل جيتس عام 1998، في معرض تعليقه على معظم الكتب في الإدارة قائلا: إن الكتب "التي تحاول ان تخبر الناس ما يتعلق بالمستقبل، رديئة فعلاً!". وذكر في معرض هذا القول واحدا من أشهر كتب الإدارة في العقد المنصرم، وهو "التنافس على المستقبل" (Comperting for the Future)، وقال: "مؤلفا هذا الكتاب شخصان ذكيان، وهما بجودة الكتّاب في هذا الحقل، لكن ما الأمثلة التي ساقها هذان إلينا؟ مثال شركة جنرال ماجيك.. آه، نعم، انها تفهم المستقبل. وشركة آبل للكومبيوترات! ان كل مثال ساقاه، باستثناء ما يخص شركة هولت باكارد، نكتة مزرية". ويعبر روبرت مردوخ عن تصوره بصيغة مختلفة بعض الشيء، فيقول: "حكيم مرشد! ثمة جوهرة هنا أو هناك، لكن معظم الكلام بدهي ومعروف، كما تعلمون، يمضي المرء إلى قسم كتب الأعمال "في محل بيع الكتب"، فيرى عناوين مثيرة، وينفق 300 دولار لشرائها، ثم يلقيها بعيداً".
    ان هذه الشكاوى شائعة تماماً، اذ يقال ان الكثير من البدع التي تجربها الشركات مضلّلة، وان قطاع الإدارة يبيع هذه البدع بأسعار باهظة، لكن نظرية الإدارة تحتوي على شذرات نفيسة، شذرات اما ان تعطيك تفوقاً في المنافسة، أو انها صارت جزءا اساسيا من المتطلبات البقاء في الميدان. وان الافكار الإدارية الناجحة ليست مجرد نثار من معرفة محلية، بثتها التقاليد والظروف، فهذا النثار قادر على السفر، والتكيف الموائم، والتطبيق من أجل تكرار النجاح عينه في بلدان وصناعات اخرى، بل يمكن مجانستها وصبها في قالب نظام ادارة، يكون بمثابة القدوة لكل المؤسسات. وان الطرائق التي طبقتها تويوتا في مصنع جنرال موتورز MUMMI غير الوضع بوضوح، علما ان هذه الطرائق تعتبر اليوم بمثابة الحد الأدنى المطلوب للتشغيل في أي مصنع عالمي للسيارات.

    يقودنا هذا إلى ان مشكلة نظرية الادارة لا تكمن في انها تحولت إلى صناعة ضخمة ـ مع كل ما يرافق ذلك من مشاكل تضخيم التجديدات ـ بل تكمن في انها لم تنتشر بالسعة الكافية. وما من بقعة مثل آسيا النامية تبرز فيها بجلاء مخاطر بناء اقتصاد حديث من دون توفر ما يكفي من علم الإدارة الحديث.
    وتبدي هذه المنطقة تعطشاً كبيراً للأفكار الإدارية (هل هناك من مكان آخر نجد فيه الشباب الجاد يطالع، اثناء ركوب الحافلة، مجلات مثل "مجلة إدارة سلاسل مخازن التجهيز"؟)، لكن هناك نقصاً حاداً في عدد المديرين المؤهلين.
    وقد كثرت الأحاديث، حتى قبل أزمة 97 ـ 1998، عن حاجة آسيا إلى مليون مدير جديد ان ارادت الحفاظ على قدرتها التنافسية. اما الآن فإن هذا الرقم يبدو أقل من المطلوب بكثير. لا ريب ان هناك آيات من الإبداع في آسيا النامية، كما هو الحال في قطاع الفنادق والخطوط الجوية. غير أن الأخطاء التي ارتكبتها الشركات الآسيوية، كالاقتراض المفرط لأموال قصيرة الأجل أو إغفال مخاطر العملة، هي من الأمور التي تحذر مدارس الأعمال طلابها منها في أشهر الدراسة الأولى.
    يعكس هذا مشكلة أعمق: ان النموذجين الطاغيين للأعمال هنا يبدوان شائخين. ان نقاط ضعف نموذج "التشايبول" في كوريا الجنوبية معروفة تماماً، رغم أن قادة الصين حاولوا ادخال نظام مماثل لهذا النموذج. اما النموذج الآسيوي الآخر، أي نظام شبكات الأعمال، الذي أنشأه صينيو المهجر، فهو حديث من نواح معينة، بشكل يثير الإعجاب.
    فالشبكات الحرة التي يستخدمها هذا النموذج افتراضية بالكامل، لكن الثروة التي تنتجها تقوم، بوجه عام، على العلاقات التي بنتها، لا على المنتجات الجديدة او الخدمات الأمثل، ويصعب ان نجد شركة واحدة من شركات صينيي المهجر تتوفر على القدرة التنظيمية لصناعة سيارة حديثة.

    من شأن هذا الوضع ان يتغير بفضل اثنين من التطورات، الأول يتمثل في السعي الأكيد لإقامة صيغ آسيوية من مدرسة وارتون ومدرسة هارفرد للأعمال. وتطمح مدرسة اوروبا ـ الصين العالمية للأعمال إلى اعتلاء هذا العرش. ويشي اسم المدرسة ووجود الصفة الأوروبية في اسمها، كما في طاقم تدريسها، بأنها مدعومة من الاتحاد الأوروبي. ويبعد مبنى هذه المدرسة مسافة ساعة عن مركز شنغهاي، وهو محاط بمصانع يملكها يابانيون. وهي تضج بالطموح حقاً. وينبع جانب من هذا الاندفاع من الحكومة الصينية التي تتطلع الى تدريب 200 ألف مدير كل عام، لكن هذا الطموح لا يجاري اندفاع الطلاب أنفسهم. فهناك 80 طلبا على كل مقعد دراسي، اما المقابلات لقبول الطلاب فهي تجليات كبرى لضيق الأفق، التي من شأنها أن تثير الرعدة في أوصال أناس مثل بيل جيتس أو جاك ويلش.
    وهناك مسعى آخر يتمثل في مدرسة الأعمال الهندية، التي لا تزيد حاليا عن مبنى يعلوه الغبار، خارج حيدر اباد ـ أو "سايبر ـ اباد"، كما يسميها البعض. غير أن هذه المدرسة ستنطلق بدعم من كلية وارتون وكلية كيلوج للإدارة، وهما افضل مدرستين للإدارة في أميركا، وباسناد من كبار رجال الأعمال الهنود، علاوة على طائفة من ألمع المديرين العالميين، بمن في ذلك يورجن شريمب من شركة دايملر كرايسلر، ومارتن سوريل من شركة دبليو بي بي (WPP). ويعد هذا المشروع من بنات افكار مجموعة من الهنود الناجحين الذين يقيمون في الولايات المتحدة. ويتحدث راجات جوبتا (رئيس مكنزي) بحماس منقطع النظير عن هذه المدرسة، وتحولها إلى افضل مؤسسة في آسيا، بل تضاهي خير المدارس الأميركية والأوروبية. ولا بدّ من التريث بانتظار ما يسفر عنه المشروع، نظراً لأن الهند معتادة على نفخ المشاريع الفخمة، لكن البوادر حتى الآن تشير إلى جدية المشروع. وعلى سبيل المثال حين اخذت بومباي، الموقع الأول الذي اختير للمدرسة، تطالب ببعض المزايا، مثل منح "ابناء المدينة" (اقرأ أبناء الوزراء المحليين)، مقاعد للدراسة، فإن جوبتا وزملاءه نقلوا الموقع الى حيدر اباد في الحال. وكانت الرسالة التي يحملها هذا القرار جلية للعيان: ان المدرسة ستلتزم معايير عالمية لا هندية.
    لكن تخريج المزيد من المديرين لن ينفع الشركات كثيرا، اذا كانت هذه الشركات التي سيعملون فيها ستعتمد حصراً على علائق هؤلاء المديرين، وتسند الوظائف الأساسية لأفراد العائلة. ولحسن الحظ، يبدو أن هناك بدايات ثورة في هذا الشأن في الاوساط العليا من الشركات العائلية في آسيا، يقودها اناس مثل باتريك وانج شوي ـ شانج.

    عالم وانج

    لا يحتاج المرء إلى أن يدرس التقاليد الصينية دراسة مدققة لكي يومئ إلى باتريك وانج ويفرده باعتباره سليل مليونير عصامي، صعد ابوه من القاع ليصير واحداً من اساطين المال. يرتدي وانج بدلات انيقة مفصلة على مقاسه، ويمشط شعره الاسود الكثيف في تسريحة أنيقة، ويتحدث بإنجليزية باهرة تعلمها في مدرسة هارفرد للأعمال. اما شركته، شركة جونسون الكتريك، فهي ثاني اكبر صانع للمحركات الكهربائية في العالم، وهي تبدو أشبه بحالة دراسية للأعمال التجارية، رغم انها غارقة في جحيم مبنى تاي بو الصناعي في هونج كونج، مجللة برائحة الكبريت الخانقة. حين يواجه المرء هذا المبنى يشعر وكأنه قد دخن علبة كاملة من دخان سجائر جيتان الفرنسية الثقيلة.
    واول ما يراه الناظر هنا، ميزة الأعمال الصينية، تمثال نصفي لبطريرك العائلة، وهو في هذه الحالة والد وانج. غير ان المكتب الهادئ يقع في فسحة مفتوحة، وحيثما جلت بنظرك رأيت في خزانات زجاجات كل أشكال الجوائز المملة عن كفاءة التصنيع، جاءت من شركاء المصنع مثل كوداك، وتكساس انسترومنتس، وبلاك اند ديكر، دليلاً على براعة الأفكار المتحققة. وهناك ايضا ملصقات تدعو العمال إلى قضاء أماس ممتعة لتعلم قيادة التحولات، والتجارة الإلكترونية (بواسطة الإنترنت)، وسبل حل النزاعات.

    ليست نظرية الإدارة، في نظر وانج، موضوعاً ملغزاً. ويقول "نحن في عالم جديد، الآن. في الماضي كانت الحدود الوطنية تمكّن الأعمال من الدرجة الثانية البقاء في السوق. اما هذه الأيام فإن الجميع على مبعدة ضغطة زر كومبيوتر". تعود جذور شركة جونسون، مثل الكثير من شركات هونج كونج، في انتاج اللعب، وقد بدأ وانج الأب نشاطه الجديد في انتاج محركات صغيرة لدمى السيارات في الخمسينات. اما هذه الأيام فإن المحركات الصغير تستخدم لتحريك كل أنماط الأشياء التي غدت من ضرورات زماننا المدلل، من مقاعد السيارات، إلى البروجكترات المعلقة، الى السكاكين الكهربائية، الى فتاحات العلب، والخلاّطات. تستخدم شركة جونسون اكثر من 15 ألف شخص، وتتعاطى الأعمال مع أكثر من 20 شركة اخرى.
    قبل فترة بعيدة، كانت شركة جونسون تسوق معظم مصنوعاتها إلى الصين وتايلاند، كما أسست منشآت أبحاث وتطوير وتسويق في ألمانيا وسويسرا والولايات المتحدة. وتطالب كبرى الزبائن ـ شركات انتاج السيارات العالمية ـ بمجهزين عالميين، ناهيك من خفض الأسعار وتطوير النوعية. ويتذكر وانج بكثير من الترحم على الماضي، قولة مايكل بورتر بأن الشركات تستطيع ان تبز منافسيها بطريقتين: اما رخص السعر، أو الجودة الأحسن. ويقول إن "هذا الرجل العظيم مخطئ" فهذه الأيام، على الشركة أن تحقق الأمرين معاً حتى تبقى على قيد الحياة.
    ويتردد اسم بورتر كثيراً على لسان باتريك وانج. لعل الهواء خارج مكتب وانج مثقل فاسد بكل أنواع الروائح الكيمياوية، كما ان حكم المسنين الأكثر رعباً في العالم لا يبعد أكثر من عدة ساعات في بكين، مع ذلك فإن قلب وانج يخفق على ضفاف نهر تشارلز. ذلك ان وانج من المواظبين على حضور برامج تثقيف المديرين في هارفرد منذ أوائل التسعينات، وهو يطالع "مجلة هارفرد بزنس" بخشوع. ويقول إن نظرية الإدارة هي "خلاصة عقول عالم الأعمال"، والسبيل الأفضل لتعلم اسرار أكثر الشركات نجاحاً في العالم. ويضيف "حتى لو عشت ثلاثمائة عام، فلن أتمكن من دراسة كل هذه الشركات".

    استغرق وانج بعض الوقت لكي يخلص إلى هذا الاستنتاج، لقد درس في شبابه، الهندسة الكهربائية في جامعة بوردو Purdue، وهي "مؤسسة جافة، وجادة" يشعر بالحرج البيّن من وضعيتها كعصبة غير جامعية. ظن للوهلة الأولى أن بوسعه تعلم كل فنون الإدارة التي يحتاجها عن طريق مجلات الأعمال، وهو اعتقاد تعزز بواقع أن والده "العبقري في الرياضيات" لم يكمل حتى المدرسة الثانوية. واخذ وانج يضيق ذرعاً بمنغّصات نحو عشرين محللاً من محللي سوق الأسهم (البورصة) حول أمور مثل (القيمة الاقتصادية المضافة) EVA، بل ان القلق خيم عليه من قولهم بأن الشركات العائلية لا تريد الا ان تستولي على هذه القيمة المضافة لنفسها فقط. دفعه ذلك إلى التسجيل في مدرسة هارفرد للأعمال، وجلب معه، بعد تخرجه فيها، مستشارين من مؤسسة مكنزي ومجموعة توماس.
    يتميز الاستشاريون بالكثير من النقائص، لكن هناك على الأقل فضيلة واحدة في استخدام مستشارين من خارج الشركات العائلية المراتبية، وهي انهم اكثر استعداداً من غيرهم لتبليغ اصحابها، مثل وانج، بالحقيقة مهما كانت مرة.

    كشفت مؤسسة مكنزي ان الكثير من زبائن وانج غير راضين عن بطء شركته (في حين كان وانج يعتقد أن حب زبائنه بلا حدود). وكشفت له مجموعة توماس أن عليه تحديث عمليات الانتاج وتقليص المتراكم، بحيث لا يحتفظ إلا بالحد الأدنى من المخزونات. ويتباهى وانج اليوم قائلا "إننا نستخدم البحر حاليا كمستودع". ومنذ ذلك الحين، قاد وانج الشركة على طريق الثورات الدائمة، لإعادة الهندسة، وخفض التكاليف، وتحسين النوعية باطراد. وقد اثنت مؤسسة كريدت سويس فيرست بوستن على شركة جونسون باعتبارها "واحدة من الشركات القلائل في العالم ممن استطاعت تجهيز محركات خالية من العيوب. وفي عام 1999، اشترت قسم المحركات الكهربائية في شركة لير Lear بسعر 310 ملايين دولار.
    وإذ يرى المرء وانج وهو يشرح بانبهار كيف ان استشارات مكنزي حول "الحرب من أجل الموهبة" قد دفعته إلى إعادة النظر في سياسة اختيار العاملين، أو كيف اطلع على البحث المهم عن "التكنولوجيات المقلقة"، يجد أنه بحضرة انسان نهل واغترف عميقاً من ينابيع نظرية الإدارة. ومن الواضح ان اعتناقه هذه الافكار اسبغ عليه تفوقاً نفسياً. معروف في اوساط الأعمال الصينية، ان ضخامة الحجم رمز للتقدير. اما نظرية الإدارة، فقد علمته ان يفصل ويوظف الايدي، حتى بلغت تكاليف العمل في الشركة 3 في المائة. وهناك درس آخر أهم تعلمه وانج: التواضع. معروف ان غطرسة اساطين المال الصينيين، تجعل سادة الكون الذين تكلم عنهم توم وولف يبدون صغاراً، يعانون من عقدة نقص. ليس هذا حال وانج. ويقول "لست إلا مدير عام للشركة، ولست كلي القدرة".

    ولعل هذا التصريح سيثير دهشة الكثير من أقرانه، ويعتبرونه خلاف الواقع.
    ويعتقد وانج ان ديلبرت اصاب كبد الحقيقة بقوله: كلما ارتفعت مكانتك في مؤسسة، قلّت معرفتك بما يجري فعلاً. ورغم وجود عدد من افراد عائلة وانج في الشركة، فإنه يتباهى بأن الشركة "مستوية" و"غير مراتبية"، وانها تنظم العاملين على اساس في فرق التخصص والتكامل الوظيفي، وتشجعهم على الاتصال في ما بينهم بصرف النظر عن الحدود الوطنية. ويعتبر نفسه مجرد وسيط يأخذ الحكمة من معاهد الغرب على نهر تشارلز ويترجمها لتغدو مفهومة على نهر يانجتسي. وهو يعقد اجتماعات "تعبئة" مع مستخدميه، قدر ما يمكن، ليضخ لهم آخر أفكاره. ينبغي للتعليمات ان تكون بسيطة، والقياس دقيقا بلا كلل. ويقول "ليست الإدارة علم صواريخ، فمعظم قواعدها هي نتاج الحس السليم".

    وتشرق الشمس ثانية

    إذا كانت آسيا تقدم مثالاً معيناً على تأثير الإدارة في العولمة، فإن أميركا تقدم مثالاً آخر. وعلى الرغم من ان معظم الأفكار التي ستحشو بها المدارس الجديدة في الهند والصين عقول تلاميذها هي افكار غربية وطيدة، فإن من الخطأ ربط البراعة في الأعمال بالولايات المتحدة وحدها. فعلم الإدارة في عملية تطور متصل، ويمضي هذا التطور مرتقياً المدارج بصورة افضل حيثما كان منفتحاً على كل الأفكار في أرجاء العالم.
    ان اكبر المفكرين الذين تحتفي بهم الولايات المتحدة في الوقت الحاضر، هو بروفيسور ياباني، معتدل الطباع، بعوينات سميكة العدسات، وميل للحديث عن علم المعرفة (الابستمولوجيا)، ويدعى: ايكوجيرو نوناكا. يحتل نوناكا مقعد الاستاذية في جامعة كاليفورنيا، بيركلي، ويعتبر عميدا بلا منازع لفرع جديد، شهير من علم الإدارة وهو: كيف تخلق الشركات المعرفة، وكيف تستخدمها. ويقول احد المستشارين ـ وهو نفسه "رئيس موظفي المعرفة" ـ ان نحو ثلاثة أرباع الشركات الأميركية الكبرى، اما ان تمتلك "مبادرات معرفة" قائمة، او انها على وشك القيام بها. وهناك كتب كثيرة تحمل في ثنايا عناوينها عبارة "رأسمال فكري"، مما يثبت، ان لم يثبت شيئاً آخر، ان تشديد المفكرين على الإبداع والاتصالات لا يصل إلى عناوين كتبهم بالذات. وان قيمة سوق "خدمات ادارة المعرفة" تبلغ الآن مليارات ومليارات.

    يعزو مساعدو نوناكا (وبعضهم من خيرة العقول في سليكون فالي) بروز البروفيسور في هذا الميدان المتسع الى ميله الى المعالجة الفلسفية للمواضيع. ويتضمن كتابه الموسوم: "الشركة الخالقة للمعرفة" The Knowledge Creating Company، مادة عميقة بالقياس إلى معظم الكتب عن الإدارة، لكن الناس لا يشترون كتب الإدارة لما تحويه من عمق في فلسفة المعرفة، مثلما انهم لا يقرأون مجلات "بلاي بوي" لخاطر قصص جوك اوبدايك. فالقيمة الحقيقية لمعالجة نوناكا لموضوع ادارة المعرفة انها تختلف تماما عن المعالجة السائدة في الولايات المتحدة.
    الاختلاف الأول ان نوناكا يفتقر نسبياً إلى الاهتمام بتكنولوجيا المعلومات، علما ان كثرة من الشركات الأميركية تساوي مفهوم "خلق المعلومات" بإنشاء قاعدة معلومات كومبيوترية. يقول نوناكا ان الكثير من بنوك معلومات اي شركة لا علاقة لها بالمعطيات، بل تقوم على معرفة غير رسمية بالوظيفة، بكل شيء من اسم سكرتيرة الزبون إلى خير وسيلة للتعامل مع المجهزين المشاكسين. وان جل هذه النتف من المعلومات مخزون في عقود المديرين المتوسطين، أي بالضبط اولئك الناس الذين استبدلتهم اميركا بأجهزة الكومبيوتر على أساس مشاريع اعادة الهندسة. ويجادل نوناكا قائلا إن الشركات اليابانية استاذة في التقاط افكار وومضات ابداع الموظفين. ويقول ايضا ان الشركات التي تقلص عدد العاملين بدرجة أكبر أو بعجرفة أكبر تجازف بفقدان خزين من المعرفة الضمنية قد لا يعوض ابداً.
    اما الخصلة الثانية التي تميز نوناكا فهي اصراره على ان الشركات بحاجة إلى الكثير من التراخي لكي تبقى مبدعة، ويقول اعطوا للموظفين فسحة من الوقت لمتابعة بعض الأعمال الطائشة أو تجاذب الحديث، وستخرجون بفكرة قد تغير السوق. ارغموهم على تحليل كل دقيقة من دقائق يومهم، وستحبسون في منتجات روتينية.

    ان الالتفات الى اليابان بحثاً عن التماعات وومضات افكار حول الادارة يبدو غريباً حقا في وقت تتمرغ فيه هذه البلاد في حمأة الركود، وتعوم شركاتها، وتفلس مصارفها. زد على هذا ان منطقة سليكون فالي تعمل وفق قواعد مغايرة تماما عن تلك التي يطرحها نوناكا: فذاكرة المؤسسة ضعيفة، والمديرون المتوسطون ندرة، وتوليد المعرفة منقسم بين رب العمل الفردي والبنية الفكرية التحتية ذات الطابع الجماعي في هذه المنطقة. غير ان اهتمام اميركا بالبروفيسور نوناكا يبين الى اي مدى بات البحث عن الافكار الجيدة في الادارة عالمياً، وان بعض افضل الشركات في سليكون فالي تأخذ افكار البروفيسور مأخذ الجد إلى حد كبير.
    بتعبير آخر، لا يزال على أميركا التعلم من اليابان. الواقع ان نوناكا يندرج بأحكام في لعبة "ناولني الرزمة"، الجارية بين البلدين بانتظام عبر المحيط الهادئ، منذ الحرب العالمية الثانية وحتى اليوم. وكانت أول رزمة قد نقلت يوم تلقفت اليابان افكار اي. ادواردز ديمنج. اما الرزمة الثانية، فجاءت يوم ارسلت تويوتا نظام الانتاج اللين. ومنذ ذلك الحين تداخلت الحركات، وراح كل طرف يلتقط الافكار من الآخر، ويحورها، ثم يعيدها الى موطنها الأصلي. وبمرور الوقت لا بدّ أن يأتي شخص ما ـ لعله نوناكا نفسه ـ ليعطي لأفكاره غزلاً أميركياً، ويقذف بالرزمة عبر الهادئ. ولن تتوقف اللعبة إلا حين يخترع احد ما الرزمة الكاملة المكتملة، إلا أن هذا الأمر لن يقع، رغم كل الوعود الجامحة بتحقيق الرضا المباشر والأخير مما نجده في كتب الأعمال المبثوثة على رفوف المكتبات.

  9. #9
    تاريخ التسجيل
    6-Jun-2002
    الدولة
    موزمبيق
    المشاركات
    88

    الحلقة السابعة

    الجنـــس.. المـــوت.. ودولـة الرفــاه الاجتمـاعي


    تُرى إلى أي حد استطاعت الليبرالية السياسية والتكنولوجيا ورأس المال والادارة تحويل اقتصاد العالم الى نظام واحد متكامل؟

    برزت، عدة ادعاءات مفرطة، عن عمق وسعة العولمة الى حد لم يعد بالامكان رفض كل اللغو الكلامي باعتباره نفخاً بالونياً للعولمة. غير ان العولمة سيرورة متواصلة، بل سيرورة معقدة ومتداخلة مركبة ان شئتم. وتسير العولمة بخطى مختلفة السرعة باختلاف ارجاء كوكب الأرض، وباختلاف قطاعات السكان.
    وعليه ينبغي ان نحترس من المضي في ارتياباتنا الى مدى أبعد من اللازم. فاقتصاد العالم يزداد تكاملاً، والنشاطات التي كانت معزولة ذات يوم، تدخل الآن في نسيج شبكة تغطي العالم كله. ونود ايضاح هذه النقطة عبر دراسة ثلاثة اعمال تجارية مرتبطة بالنشاطات كانت حتى وقت قريب محلية، أو محصورة ببلد محدد، في الجوهر، وصارت الآن كونية أو معولمة، وهي الجنس والموت والقطاع العام.
    ونأمل ألا يلوح ذلك اغراقاً في الشبق التجاري. فهذه النشاطات الثلاثة تظهر قوة محركات العولمة، وتبين جميعها كيف تؤثر العولمة في اعمق مشاعر وهواجس اعداد متزايدة من البشر على هذا الكوكب. فإن كان بمقدور العولمة ان تصل الى هذه البقاع، فإنها قادرة على الوصول الى كل مكان.

    تجربة فان نويس

    تؤلف فان نويس منطقة من مناطق وادي سان فيرناندو، وقد عاشت ايام مجد تليد. لكن "المدينة التي بدأت بالحق" (كما يقول شعارها) اخذت تشيخ. فالكثير من بيوت القرميد، الصغيرة، ذات الطابق الارضي الواحد، التي تنتشر في المنطقة تبدو مهترئة، عتيقة. وتتجمهر زمر من الاميركان اللاتينيين في زوايا شوارعها بانتظار من يعرض عليهم عملاً. اما الفسح الكبيرة المخصصة للسيارات في الشوارع الرئيسية فتضفي عليها مظهر مدفن كبير. وتكابد شمس كاليفورنيا، عبثاً، لكي تسبغ على مباني الاسواق الضخمة لمسة بهاء
    لقد تحولت منطقة سان فيرناندو فالي بسرعة الى عاصمة لاكثر صناعات العالم اثارة للأسى، واقلها عولمة؟ حتى الفترة الاخيرة، ونعني بها: صناعة الجنس. قدرت مجلة فوربز Forbes قيمة هذه الصناعة بنحو 65 مليار دولار سنوياً، وهي صناعة تبدأ من اقدم مهنة على الارض، وتنتهي بأعقد اشكال الفيديو المتفاعل، وما بينهما. ولهذه الصناعة عدة وجوه، من الوجه اللاموازي الى أكثر الوجوه شراً. ولم تعد الافلام الاباحية محصورة في غيتو. فافلام الراشدين تشكل اكثر من ربع مبيعات اشرطة الفيديو وتأجيرها. وان سائر فنادق السلاسل مثل الهيلتون والشيراتون، تقدم لزوارها افلام "تسلية الراشدين"، التي تبثها لهم في غرفهم شركات مدرجة على قائمة ناسداك، مثل أون كومناد كوربوريشن، ولودج نت انترتينمنت. وان كل مصرف استثمار غربي في موسكو يدعو زبائنه الى نواد ليلية تعج بالبغايا. وتعمل شركة أي تي آند تي AT & T بكل سرور على ربط زبائنها بارقام هواتف الدعارة غالية الثمن. وان "كوزموبوليتان" تحتاج الى اثارة الجنس قدر ما تحتاجه "بلاي بوي". ويقدم هوارد ستيرن، وجيري سبرنجر وقناة E! نجوم الافلام الاباحية، الذين تحولوا هم بدورهم الى صناعات: فمثلا روني جيريمي الذي يلقبونه في صناعة الاباحة بلقب "القنفذ"، تدبر لنفسه ان يعرض وجهه البدين، المشعر في اعلانات على السيجار والجعة والقمصان الرياضية، وايضا على عضو اصطناعي صنع على نموذج التركيب البنيوي لجزء منه.

    تؤوي منطقة سليكون فالي نحو 50 من مجموع 85 شركة لافلام الاباحة، وهي تنتج، بمفردها عددا من الافلام يفوق اي رقعة اخرى على هذا الكوكب، كما انها تسير على نموذج الشركات الكبيرة، بتنظيم نفسها على شكل عنقود مترابط من الصناعات. فهناك المخرجون، وهناك وكالات البحث عن المواهب، مثل "برتي جيلز انترناشنال". وهناك نوادي التعري مثل بوبز كلاسي ليدي، وهناك محلات انتاج الادوات الجنسية الصناعية، وهناك ايضا نحو 1600 من النجوم البازين، وهناك طواقم الانتاج السينمائي، ومواقع التصوير الدائمة العملاقة التي تتكيف لمظهر مستشفى، او حانة، او مطعم، او، كما هو محتوم، غرف نوم.
    وتضم هذه الصناعة بمجملها نحو 20 ألف شخص. وبلغ عدد هذه الافلام في نقطة معينة من عام 1999، واحدا من كل خمسة افلام تنتج في لوس انجليس.
    ويعتبر ستيفن هيرش خير دليل على عولمة هذا القطاع. وهيرش هو رئيس فيفيد فيديو Vivid Video، اكبر استوديوهات الافلام الاباحية. ويقوم هذا الاستديو بانتاج 96 فيلما في السنة، وقد بدأ العمل في مجموعة من المباني الواطئة، لكنه انتقل الى حي سكني في فان نويس.
    ويوجد في احد المباني فريق من عشرة اختصاصيين في امور ما بعد الانتاج، وهم يستخدمون ارقى اجهزة المونتاج، في ارقى غرف العمل، بما فيها من معدات رقمية، وهم يعملون 21 ساعة في اليوم، طوال ايام الأسبوع. وهناك فريق من الفنيين في مبنى آخر يتولى استكمال موقع الشركة على الانترنت. وتوزع شركة فيفيد افلامها في القارات الخمس، عبر محلات تأجير اشرطة الفيديو، أو بارسال اشرطتها الى المنازل بالبريد، أو عبر الانترنت، أو عبر محطات تلفزيون القابلو او الستالايت. وتنتج الشركة ايضا نحو 80 في المائة من محتويات قناة بلاي بوي. وتعتبر ايضا اكبر مجهز في العالم لأفلام الراشدين الى الفنادق والنزل. وتستخدم الشركة 150 شخصاً، اما مبيعاتها فبلغت 60 مليون دولار عام 1999.

    يبدو هيرش للناظر، بلونه البرونزي (من الحمام الشمسي) وجسده النحيف (من رياضة الايروبيك) اشبه بجندي مشاة وسط جيش اهالي كاليفورنيا الذين يقسمون وقتهم بين رياضة التنحيف وشاطئ البحر. غير ان نبرته في الحديث تبدو، على خلاف مظهره، وكأنه قد تخرج من احدى المدارس العليا لرجال الاعمال. فهو يتحدث بطلاقة عن تنويع انشطة الشركة، وتجزئة السوق، والتكامل العمودي، واعادة النظر في قنوات التوزيع. ولو عنَّ للمرء ان يغفل تفاخره المنافي للذوق بما حصده من "جوائز افلام الراشدين" (فازت شركته عام 1997 بما لا يقل من 15 جائزة اوسكار للأفلام الخلاعية، وهذا رقم قياسي بالنسبة له)، فقد يجد لنفسه العذر في ان يعتبره واحدا من اكثر اقطاب تكنولوجيا الاستوديوهات دهاءً.
    لقد نشأ هيرش، شأن الكثيرين من ابناء هوليوود، قريبا من صناعة السينما. وقد اشتهر ابوه بانتاج افلام 8 ميليمتر في الايام الخوالي، يوم كان الناس يسمون هذه الافلام "للرجال فقط".

    راح هيرش يعمل في مستودع شركة ابيه، فيما كان يواصل الدراسة في جامعة كاليفورنيا، بلوس انجليس. بعد ذلك التحق بوصفه مدير مبيعات عام في كالفيستا Calvista، وهي واحدة من اكبر شركات التوزيع في قطاع السينما. (وتعمل اخته، ميرسي، وهي ايضا خريجة المستودع، في شركة فيفيد Vivid مشرفة انتاج). واسس هيرش شركة فيفيد عام 1985 بالتعاون مع ديفيد جيمس، وهو ويلزي عريض المنكبين، يزدان جسده بانواع الوشم، ويطلق شاربين عريضين اشبه بشاربي الفقمة. عمل جيمس في السابق عامل مناجم فحم لفترة، كما خدم في وحدة مكافحة الارهاب في الجيش البريطاني، اما الآن فانه يدير قسم التكنولوجيا الجديدة في شركة فيفيد، مركزا جهوده على اقراص الفيديو الرقمية المدمجة (ديسك). DVD. ويرى ان هذه الاقراص (الديسكات) هي التي جعلته ينتقل "من مناجم الفحم الى مناجم الذهب".

    لم يخطط هيرش، قط، لتحويل شركة فيفيد الى محطة توليد كونية. فالميدان الذي ولجه كان عمل هواة، لم يعطه احد اهتماما يمتد الى اكثر من شهر، ناهيك من التفكير به على المدى البعيد. وحرص هيرش في السنوات الأولى على ايصال منتجاته الى الولايات الاخرى، وليس الى البلدان الاخرى، خصوصاً ان قوانين بعض الولايات تحظر المشاهد الاباحية اكثر من الولايات الاخرى. وافتتحت الشركة قبل 10 سنوات فرعا صغيرا خارج اميركا لاستحصال حقوق العرض في الخارج. اما الآن فإن هذا الفرع يحقق خمس ايرادات الشركة، بينما تحول الانترنت الى قناة توزيع هامة. وبهذا انصرمت تلك الايام التي كانت فيها شرطة الولايات تفتش الشاحنات بحثاً عن الافلام البذيئة.
    ان انتاج الافلام الخلاعية مهنة مزرية، تديرها شخصيات قبيحة. ولكن لو سددت منخريك بإحكام عن الرائحة الخبيثة، لامكنك ان ترى كيف ان المحركات الثلاثة للعولمة ساقت شركة فيفيد سوقاً الى مآلها، ونعني بهذه المحركات: الادارة، التكنولوجيا، و(الى حد اقل) رأس المال. لقد كان عنصر الادارة سهلاً بما فيه الكفاية. فقد استورد هيرش، ببساطة، افضل الاساليب (أو اساليب غير سيئة في الاقل) الى صناعة تخلو منها بالمرة. لقد كانت الطريقة المعتادة للاثراء من الافلام الاباحية، في السابق، تتمثل اما باستغلال زبائنك، أو بيعهم اردأ ما يمكن تخيله من افلام رخيصة. اما اليوم فإن توفر كاميرات الفيديو اليدوية، ووجود عدة اشخاص مستعدين للتصوير باجسادهم العارية، يكفيان لصنع فيلم من هذا الصنف. وبهذا اغرق السوق حد التخمة. ففي نهاية التسعينات صار السوق يستقبل في اليوم الواحد ثلاثين فيلما جديدا من الافلام الاباحية من العيار الثقيل، علما ان ربع هذه الافلام انتج في بيوت اصحابها.
    استطاع هيرش ان يرفع شركة فيفيد الى قمة السوق. اما ابرز منتوج للشركة فهو ثلاثون فيلماً اباحياً، بطول الافلام الروائية المعتادة في السينما، كل عام، وهي مصورة على شريط سينمائي لا شريط فيديو، ويعتمد الواحد منها على ميزانية قدرها 200 الف دولار، وهي ميزانية هائلة تفوق خيال العاملين في ميدان الافلام الاباحية (البورنو). ولدى الشركة مخرج متخصص يدعى بول توماس، وذلك لاكساب الافلام شخصية متميزة تسم الشركة بميسمها. (وتوماس نفسه عمل ذات يوم ممثلاً في افلام البورنو، وقام بدور بطرس في فيلم: نجم يسوع المسيح). وتصور الشركة مشاهد الجنس في مواقع انيقة، باذخة، اخاذة، اجمل بما لا يقاس من غرف النوم الكالحة، او احواض الحمامات العتيقة. كما انها تحرص على ادهاش مشاهديها بشيء نادر في هذا الافلام: تقديم نساء فاتنات.

    استطاع هيرش ان يحتكر اجمل الفتيات في هذه الصناعة باحياء ممارسة قديمة في صناعة الترفيه: نظام الاستوديو. وروجت الشركة لواحدة من نجماتها الكبيرات، جينجر لاين (وهي خليلة هيرش السابقة) الى "نجمة شركة فيفيد". وهناك الآن تسع نجمات، ابرمت عقودها تتراوح بين عام وثلاثة اعوام للظهور في ستة افلام في السنة. وتحصل النجمة بهذا العقد، بالمقابل، على ضمانة من نوع ما، تكفل لها تحديد ما ينبغي ان تفعله وما لا تريد ان تفعله امام الكاميرا (لا تسألوا عن التفاصيل)، كما تكفل لها ترويجاً واسعاً عبر ماكنة الدعاية الجبارة للشركة، ونوادي المعجبين، ومواقع الانترنت. (ومن الامثلة على هذا الترويج ان النجمة كوب تاي "تحب غناء الاغاني الريفية، والحان ديزني"، كما ان النجمة تيا بيلا "تحب قضاء الوقت مع خمسة حيوانات متبناة").
    وتحلم كل فتيات البورنو بعبور الحاجز الى عالم السينما الاعتيادية، غير ان فرصهن ضئيلة عموما، الا انها اكبر من المعتاد ان كن يعملن مع شركة فيفيد دون سواها. وتشجع الشركة نجماتها على ارتداء قلادة خاصة تحمل شعار الشركة، طوال الوقت. وقد قمن ببعض الادوار المألوفة في افلام روائية اعتيادية، كما ظهرن في اعلانات تجارية وهن بكامل ملابسهن، ويعمل وكلاء الدعاية في شركة فيفيد، وهم في الاغلب من العاملين في مجال الانتاج الموسيقي سابقاً، على تقديم نجمات البورنو الى فرق موسيقى الروك. وتنتظر الفتيات بلهفة مكالمة هاتفية من شركة وارنر بروذرز لكي تسند اليهن دور عري بدلاً عن ميج رايان مثلاً، لكنهن يفضلن، خلال ذلك، الحصول على اجور مغرية من الظهور في عروض التعري الباذخة، فيحققن بذلك نحو 20 ألف دولار في الاسبوع. وهناك قدر معين من التضامن الرفاقي بين فتيات الشركة. ويؤيد هيرش مع كثرة من فتياته الجماعة المتشددة، المدافعة عن حقوق الحيوان، المعروفة باسم "انصار التعامل الاخلاقي مع الحيوان".

    الواقع ان هيرش يتفوق على الاستوديوهات العادية الاخرى من ناحية "التمثيل محلياً، والتوجه كونياً". وان خير ما تفعله استوديوهات هوليوود المحترمة على سبيل ترويج افلامها في شتى الاسواق العالمية، هو بث اخبار وجيزة، او استئجار فرق روك اسيوية، مثلا، لتأليف اغنية دعائية باللغة المحلية. اما شركة فيفيد فتعمل بمرونة على تغيير مونتاج الفيلم (أو اعادة تصويره احيانا) لانتاج صيغ من العيار الثقيل أو العيار الخفيف، لنفس الفيلم، لكي تتناسب مع شتى الاسواق، وتسمح لشركائها الاجانب بتقطيع الفيلم تبعاً للذوق المحلي. ففي اليابان، مثلاً، ما يزال اظهار شعر العانة محظوراً، والنتيجة، كما يقول هيرش، ان شركة فيفيد تستخدم لقطاتها استخداما اكثر تنوعا من استخدام هنود البراري للحم البقر الوحشي وجلده وعظمه.
    هناك خصلة اخرى تميز هيرش وهي انه يدرك اهمية التكنولوجيا. ولعل من مفارقات الصناعة الاستهلاكية ـ الالكترونية، ان المنتجات الباهرة، بل الاكثر ابهارا، تنبع في اصولها من اقدم مهنة في العالم. لقد ادى استخدام صناعة البورنو لتكنولوجيا اشرطة الفيدو الى ضمان النجاح التجاري لهذه التكنولوجيا، وهي تكرر هذا النجاح اليوم مع اقراص الفيديو الرقمية المدمجة DVD، ومع الانترنت. ولا تكتفي شركة فيفيد اليوم بانتاج هذه الاقراص بوتيرة اسرع من أي استديو آخر، بل انها تنهب الأرض نهباً في سرعة استخدامها للقدرات الخاصة الاخرى التي تميز هذا المنتوج، كأن تتيح للمتفرج رؤية أي مشهد منفرد من عدة زوايا. اما العروض على شبكة الانترنت فتتيح للمشاهد الذي يتصل بها من احد البلدان، ان يعطي تعليماته وطلباته للعارضة التي تؤدي الوصلة في بلد آخر. وابتكرت شركة فيفيد حقلاً جديداً يطلق عليه اسم "الوصال الافتراضي"، وهي تسمية مثيرة للجدل، كما ابتكرت بدلة الكترونية تسمح للازواج الذين يعيشون في اماكن متباعدة ان "يتفاعلوا" بما يشبع حاجة الطرفين، ولعل هذا هو الفصل الاخير في تفكيك الجنس من ناحية المكان. ويقول هيرش بحماس "يرغب المرء دوما في توسيع نطاق اعماله، ولا يشبع من الاستزادة".

    بورنو بلا حدود

    لعل شركة فيفيد تؤلف مثالاً استثنائياً بما حققته من استخدام لاقراص الفيديو الرقمي المدمج والتكامل العمودي، الا ان العولمة غيرت صناعة الجنس في العمق، ومن جذورها الى فروعها. خذ مثلاً على ذلك السهولة التي يعبر بها الناس والاعمال حدود البلاد، سواء بصورة شرعية ام لا شرعية. فصناعة السياحة والسفر العالمية جعلت البغاء مجزياً بشكل فاحش حتى في افقر البلدان.
    وتستطيع النساء في روسيا واوروبا الشرقية اليوم ان تحقق من مبيت ليلة في فندق للمتعة ما يعادل اجر اسبوع كامل من العمل. والحق ان صناعة الجنس هي اولى الصناعات التي احست بأثر سقوط جدار برلين. وقد خرجت خسائر الصناعات التي كانت متدثرة بالعمل الثري في اوروبا الشرقية، طفحت الى السطح. وادى تدفق العاملات والعاملين في سوق الجنس في اوروبا الشرقية الى اغراق الأسواق الرديفة في اوروبا الغربية، مما خفض الاجور. ففي كاسل بالمانيا، هبط اجر المومس الى خمسين ماركاً (ثلاثين دولارا) خلال اعوام 1992 ـ 1998، وهو اجر متدن بالمعايير المادية بالمقابل، تنتشر الشائعات في سوق اخر، على الطرف الثاني من العالم، اي في مانهاتن بالذات، ان زمرة من نساء المخابرات السوفيتية، كي جي بي، السابقات، المدربات على الايقاع بالرجال، يستهدفن الآن استخدام مفاتهن لغواية اثرى اثرياء المدينة.

    قد يكون من المغالاة القول ان سعر البغاء مثبت بفعل سوق عمل كوني، لكن من المؤكد ان هذا السوق يفعل فعله. زد على هذا ان سهولة عبور الناس للحدود ما عادت شيئاً يذكر، بالقياس الى سهولة عبور السلع. وقد سارع ارباب صناعة الجنس الى الاستيراد من الخارج، والافادة من قوانين المنفعة النسبية، سارية المفعول. وقد اصبحت الصين اكبر منتج في العالم لما يسمى معاونات الجنس. وان معظم منتجي اشرطة الفيديو الجنسية في اوروبا الغربية يستخدمون ممثلين وممثلات من اوروبا الشرقية، لا لشيء الا لأن هؤلاء مستعدون "تقديم الكثير لقاء القليل"، واضحت بودابست مركز انتاج البورنو في اوروبا، مغطية على المعاقل القديمة مثل امستردام وكوبنهاجن. ويقوم سكوت ستاين، رئيس شركة اس ام اس بروموشنز SMS Promotions بتقديم عرض يدعى: "اكس اكس اكس ستريم فوكيشن" (اجازة جنس فاحش)، يتضمن، من بين ما يتضمن، مقعداً مطلاً على موقع تصوير افلام البورنو في فيلا باذخة.
    وهناك قوة اخرى جبارة توشك ان تعطي دفعة كبيرة لهذه الصناعة: اسواق المال الكونية. فهناك شركات بورنو عديدة، مثل اميركان نيو فرونيتر ميديا، ولودج نت انترتينمنت، وبرايغت ميديا جروب (في برشلونة)، مدرجة في البورصات الاميركية، كما ان شركة بياته اوشه الالمانية، التي تعد من اكبر شركات مخازن الجنس المتسلسلة في العالم، مدرجة في بورصة فرانكفورت. ويتحرج هيرش من طرح شركة فيفيد للجمهور. ويرى ان وول ستريت لن تتقبل بقاء شركة للبورنو في نشاطات غير متنوعة، خصوصا ان اشرطة الفيديو تواجه مستقبلاً غير مضمون. لكن هيرش يبذل جهودا مضاعفة لتنويع نشاطات شركته.

    غير ان الانترنت يبقى، اخر المطاف، اكبر قوة دافعة للعولمة المدوية لصناعة الجنس. ويرى معهد فوريستر للابحاث (كيمبردج، ماساشوسيتس) ان صناعة البورنو على الانترنت تبلغ نحو مليار دولار سنويا من حيث القيمة، وانها مرشحة للتعاظم. فالانترنت تزيل، بضربة واحدة، اكبر عقبتين تعترضان بيع الصور والخدمات الجنسية: الخجل والجهل. فكل من يعتزم القيام بسفرة عمل لا يحتاج الى اكثر من ان يلقي نظرة على "دليل الجنس في العالم"، وهو موقع على الانترنت، ليجد عروضاً مفصلة عن المواخير، ووكالات تأجير المرافقات، والنوادي الليلية في مئات المدن الكبرى حول العالم. ويتيح الانترنت ايضا للناس تجاوز الرقابة المحلية، والحصول على صورة يرغبونها من اي مكان في ارجاء المعمورة، وان الفتيات اللواتي يظهرن على موقع فيفيد على الانترنيت للترويج عن الزبائن وفق رغباتهم، يقدمن هذه العروض من امستردام.
    ما نتيجة ذلك كله؟ من وجهة نظر المستهلك، تبدو العولمة بسيطة بما فيه الكافية: وهي ان بمقدور المرء، حيثما اراد، ان يحصل على اكثر مما يريد، اكثر من اي وقت مضى. غير ان تأثير ذلك في المنتجين متضارب بعض الشيء، فبينما يتوطد الطرف العلوي من صناعة البورنو، يتهاوى طرفها الأدنى. كما ان تدني الحواجز امام الدخول يعني ان قوام اللاعبين يتغير ابداً بمجيء عناصر جديدة.
    ويبدو ان العولمة هنا، اكثر مما في اي مجال آخر من مجالات الحياة، تدق اسفيناً بين الناجحين والفاشلين. ففي مهنة البغاء، تصيب بعض النساء، (خاصة الفاتنات من افقر البلدان) نجاحاً مدوياً، بينما تضطر اخريات الى القيام بأفعال اكثر انحطاطاً بمردود اقل. والمعروف عن سماسرة البغايا ـ خاصة الروس منهم ـ ميلهم المدهش للعنف والقسوة.
    ولعل كثرة من النقاد تذهب الى ابعد من ذلك، فتقول ان العولمة هي زوجة الأب البشعة التي ولدت مواقع دعارة الاطفال على الانترنت، ومرض الايدز ايضا، وهو وباء كوني حقاً. لكن العولمة ليست ملأى بالسوء دون غيره.

    فحتى في مجال الجنس، تزيد العولمة من الشفافية وتساعد على نشر معايير التسامح. والحقيقة المحزنة هنا ان اردأ زبائن صناعة الجنس، مستعدون دوما للسفر، محتمين دوما بالحدود القومية للبلد المضيف. ويجد الميالون للاعتداء على الاطفال محميات مثل بانكوك ومانيلا تسمح لهم بالافلات من العقاب (او ما يشابهه). اما الان فإن هؤلاء يواجهون احتمالاً اكبر بالكشف عنهم، بفضل تعاون السلطات عبر الحدود.
    وعلى الطرف الاخر من الميزان، اسهمت العولمة في ارغام الحكومات والمجتمعات على اعادة النظر في مواقفها من ممارسة الراشدين للجنس، على نحو يرضي معظم الليبراليين. وما يزال رفض المثليين سائدا من دون مبرر، في بقاع شتى من العالم، لكن التمييز القانوني ضد المثليين يتضاءل الى حد الندرة، ويصعب على المرء ممارسة اي تعصب اعمى ضد مواطنيه بالذات حين يقوم هو نفسه بابرام صفقة تجارية مع وزير مثلي (شاذ) من بلد آخر. وبالمثل فإن العولمة دفعت بالعديد من البلدان الغربية الى الشروع في بحث تقنين البغاء، واخراجها من الشارع، بعيدا عن الخطر الجسدي والصحي، الى مباغ آمنة، نظيفة، ومرخصة. ولو ان مدينة شفيلد البريطانية عملت على اعطاء الرخص القانونية لبيوتات التدليك، واخضاع المدلكات للفحص الطبي، فإن الفضل في ذلك سيعود جزئيا، الى كثرة من مدن هولندا والمانيا التي بدأت بمثل هذه الاجراءات، التي اسفرت عن تحسن ملحوظ عام يشمل كل المعنيين.

    طريقة الموت الكونية

    هناك كل ما يحمل على الاعتقاد بأن مهنة دفن الموتى عصية على العولمة، قياسا الى شركات الجنس، ذلك ان للمجتمعات تقاليد ثقافية متباينة في التعامل مع الموت.
    فهناك في ايرلندا عادة السهر مع الكحول عند جثمان الفقيد، وهناك في نيواورليانز عادة تشييع الموتى بفرق موسيقية حزينة ونساء نادبات، وفي الهند تتحول الجنازة الى مظاهرة شغب حقيقية، حافلة بالصخب والالوان. اما في انجلترا فإن مراسيم التشييع والدفن شأن صامت، يتحرج فيه اهل الفقيد من اظهار عواطفهم الجياشة. فالموت ليس مجرد مناسبة للتأمل في الاخرويات فحسب، بل هو ايضا وسيلة للاحتفاء بما يربطنا بالأهل والبشر. وما من احد ـ مهما بلغ به التعصب في تأييد العولمة ـ يقبل ان تتولى مراسيم دفنه شركة كونية. مع ذلك فإن هذه الشركات الكونية تستعمر ارض الموت. واكبر هذه الشركات هي شركة الخدمات العالمية SCI في هيوستون، التي تقدم اكبر "خدمات رعاية الموتى" في العالم.

    اخذت هذه الشركة تتوسع توسعاً مذهلاً منذ منتصف التسعينات، فاستولت على أكبر شركتي دفن فرنسية، واكبر شركتي دفن بريطانية (ذات الفروع المتعددة). وامتلكت الشركة بحلول العام 1998 نحو 3420 مركز خدمات، و433 مقبرة، و 191 موقعا لحرق الموتى، في عشرين بلدا موزعة على القارات الخمس. وتضم هذه الامبراطورية شركة الجنائز التي تولت دفن الفيس بريسلي، وشركة الجنائز التي تولت دفن السير ونستون تشرشل، مما يوحي بأن للعولمة اسلوبها الغريب في توحيد الموتى كما الاحياء وتولت شركة SCI في ذلك العام نفسه 1998 نحو 11% من مراسيم الدفن في الولايات المتحدة، و14% في بريطانيا، و 25% في استراليا، و28% في فرنسا المعروفة بمقاومتها الشديدة لامبريالية الشركات الاميركية.
    وحذا اخرون حذو شركة SCI. ففي ذلك العام نفسه امتلكت مجموعة لووين، وهي شركة بريطانية مقرها كولومبيا، من فروع خدمات الدفن والمقابر في الولايات المتحدة، اكثر مما كانت تملكه في موطنها كندا. واخذت تنشط ايضا في بروتو ريكو والمملكة المتحدة. وتعتمد عليها شركة ستيوارت انتربرايز (من نيو اورليانز) لكسب خمس ارباحها مما تقوم به من عمليات في اميركا اللاتينية، واوروبا واستراليا.
    وتحققت هذه الامركة للمقابر، في عدد قليل من الحالات، من خلال اقامة شركات جديدة، اما في بقية الحالات فمن خلال شراء الشركات المحلية. فليس هناك من داع لاشباع اكثر اسواق العالم نضجاً. ان شراء الشركات يسمح للاجانب بتذليل اثنتين من اكبر العقبات التي تعترض دخول الاسواق في هذه المهنة: التراث والتقاليد. فاعمال الدفن تخضع تقليديا لسيطرة شركات عائلية صغيرة، مدت جذورها عميقا في مجتمع صغير معين على مدى اجيال.
    ويجد الزبائن العزاء والسلوان في ان تكون الشركة التي دفنت جدهم، تتولى دفن ابيهم. كما ان هذه المهنة لطيفة ومأمونة لمن يعمل فيها. وتقدر مؤسسة دن اند برادستريث ان المعدل الوسطي لافلاس شركات دفن الموتى بلغ 13 لكل 10 الاف في العام 1995، مقارنة بمعدل وسطي للافلاس يبلغ 82 لكل 10 آلاف شركة، من عموم الشركات الاميركية.
    لقد اضطرت شركات الدفع، في بعض الحالات، الى بيع الشركة بفعل ضغوط الحاجة لحل قضايا الوراثة، او التخطيط الحضري. وقام اخرون بالبيع ابتغاء انتهاز فرصة تحقيق ضربة ربح كبيرة، خصوصا، ان الشركات الكبيرة كانت مستعدة لدفع اسعار تفوق المعدل السائد في السوق، لاعتقادها ان مكاسب الاقتصاد الكبيرة ستتحقق بزيادة الفروع، اي ما يسمى بـ "العناقيد". وتعلمت شركة SCI من تجربة ماكدونالز في مركزة الانتاج والادارة، فأخذت، هي ومنافساتها، تنتقي بعض شركات الدفن لكي تستحوذ عليها هي والمقابر ومحلات بيع الزهور، والمحارق، في بلديات مدينة معينة. ثم تربط الكل في مجموعة مثل "العنقود"، في مستودع مركزي لاضفاء "الكمال على تجربة الموت"، مستودع يضم كل المتعلقات بالتشييع والدفن، من النعوش الى سائقي السيارات الفارهة (ليموزين)، الى المحنطين، الى الناقلين، الى المسوقين، الى جيش صغير من رجال الدين.

    ان تجميع الفروع في عنقود يتيح للشركات ضبط التكاليف، كما يتيح لها تحمل التقلبات المحلية في معدل الوفيات التي تقوض الشركات الصغيرة عادة، والتخطيط للمستقبل بتسويق خدمات دفن معدة سلفا. زد على هذا، ان شركة SCI لا تضحي بالجذور المحلية التي تطلب ترسيخها عقوداً. وحين تقوم، على سبيل المثال، بشراء "شركة جونسون للراحة الابدية"، فإنها، كما تقول الكاتبة جيسيكا متفورد، في الطبعة الاخيرة من كتابها الكلاسيكي "الموت على الطريقة الاميركية"، لا تعمل على الابقاء على اسم الشركة المحلية، بل تبقي على صاحبها جونس، لكن "جونسون يبقى الآن بوصفه مديرا يعمل براتب، مما يكفل استمرار التقدير وحسن النية في التعامل".
    لا نعتقد بذلك القول ان مالكي الشركة يتركون التقاليد المحلية من دون مساس. فهم يتبعون تكنيكا يقوم على اقناع البلدان الاخرى، بشق الانفس ولكن بلا هوادة، على تبني طريقة الموت الاميركية. وتورد جيسيكا قولا لشاهد بريطاني يفيد ان شركة SCI غيرت طبيعة الاعمال بالتدريج، منذ ان استولت عليها. بقيت الامور على ما هي عليه من دون مساس طوال ستة اشهر. بعد ذلك دعي سائر الموظفين والعاملين الى فندق انيق في كينسنجتون، لتعريفهم على انواع جديدة من التوابيت، واساليب جديدة في فن التسويق. وكان الهدف من ذلك ابعاد الزبائن عن الخيارات الرخيصة من قبيل "التوابيت المريحة، ذات اللمسة الانجليزية" او ابعادهم عن المحرقة (وهي اكثر شيوعا في بريطانيا عنها في الولايات المتحدة)، واقناعهم بطلب انماط مغايرة، اغلى ثمنا. غير ان عملية التطور هنا، كما في كل الصناعات المعولمة متفاوتة.
    لقد اصيبت الشركات الكبرى بعدوى حماسة خطابها هي بالذات. وتحول السباق بين شركة SCI ومجموعة لووين جروب، للاستيلاء على الشركات الصغيرة، الى حرب كارثية، اشتعل اوارها بفعل امور عديدة منها المنافسة الشخصية المريرة بين ويليام هايليجروت، رئيس شركة SCI، ورايموند لووين. واضطر الطرفان الى وقف هذا الاحتراب بعد ان تهاوت قيمة اسهم شركة SCI، بينما قدمت شركة لووين طلبا لاشهار الافلاس بموجب الفصل 11.
    غير ان هناك كل ما يحمل على الاعتقاد بأن ذلك مجرد فاصل راحة او وقفة في مسار بعيد الأمد نحو عولمة اكبر للصناعة. وان الشركات الخمس المطروحة اسهمها للجمهور ما تزال تؤلف نحو 20%من شركات الدفن. وان تجميع الفروع ومركزتها يخلقان وحدات اقتصاد كبرى حقيقية. لقد اضطرت مجموعة لووين الى بيع بعض الفروع، اما شركة SCI فقد عادت الى درب الاستيلاء على الشركات الصغرى، وان يكن بوتيرة أخف. وعادت شركة ستيوارت انتربرايز الى شراء الشركات الصغيرة مجددا. ولقد كانت ستيوارت انتربرايز اكثر حذرا من منافساتها في ايام التنافس الكبرى، رافضة دفع ما يزيد عن ثمانية اضعاف مداخيل اي شركة دفن تشتريها، في حين كانت شركة SCI تدفع تسعة اضعاف بطيبة خاطر. ان رجال الاعمال الذين ازدهروا في فترة ما بعد الحرب يقتربون الآن من الاعمار التي توجه افكارهم صوب اماكن الدفن، بدل السيارات الرياضية الجديدة، ومن المناسب تماما ان يختتم افراد هذا الجيل الذين قادوا موجة العولمة، رحلتهم في هذه الحياة برحلة الى مثواهم الاخير بصحبة نفر قليل من الشركات متعددة الجنسية.

    عولمة الرأفة

    من المؤشرات الدالة على قلة علاقة دولة الرفاه بالعولمة، تعدد معاني مفهوم دولة الرفاه، المختلفة باختلاف البشر. فالسويديون مثلا يعتبرون كل ما يقوم به القطاع العام (الحكومي) جزءا من دولة الرفاه، اما الاميركان فينزعون الى حصر ذلك في تقديم بطاقات الوجبات المجانية للفقراء. لكننا سوف نستخدم في مبحثنا هذا التعريف البريطاني حيث تتميز دولة الرفاه فيه بتقديم اربع خدمات اجتماعية اساسية: الرعاية الصحية، معونات العاطلين، رواتب التقاعد، التعليم.
    ان هذا المخلوق العجائبي ذا الرؤوس الاربعة، هو وحش ومعجزة في آن، فهو النقيض المباشر للرأسمالية الكونية، وهو نتاج الحكومات لا الشركات، نتاج يرتبط بعملية بناء الأمة. لعل الغالبية تميل الى ابقاء الامور على هذا النحو، مثلما تميل الى ابعاد "الذين دفنوا الفيس" عن المساس بالبيوتات المحلية لدفن الموتى، لكن منطق العولمة اخذ مع ذلك يمس بنود الرفاه.

  10. #10
    تاريخ التسجيل
    6-Jun-2002
    الدولة
    موزمبيق
    المشاركات
    88

    تابع الحلقة السابعة

    المعروف ان باني المانيا الحديثة، اوتو فون بسمارك، هو رائد تعميم الرأفة او تأميمها بادخاله تقاعد الدولة عام 1889. ومنذ ذلك الحين اخذ المواطنون يلتجئون الى حكوماتهم طلبا لـ "الضمان الاجتماعي" بالمقابل اخذت الحكومات تلجأ على نحو متزايد الى استخدام الضمان الاجتماعي لكسب ود الجماهير التي اكتسبت الحقوق السياسية حديثا. وعملت الحكومة الليبرالية البريطانية التي اعجب بها كينز كثيرا، الى توزيع الوجبات المجانية على التلاميذ الفقراء وعلى المتقاعدين المسنين، وذلك قبل اندلاع الحرب العالمية الاولى. وفي الثلاثينات جاء "الضمان الاجتماعي" الاميركي في اطار "الصفقة الجديدة" للرئيس روزفلت، ليخدم اهدافا مماثلة. كانت المدارس تعد من اقوى الوسائل لبناء الامة. وقد عملت الحكومات على جر او تأميم العديد من المنظمات الطوعية، التي كانت تتولى التعليم في السابق. ثم عملت على فرض الضوابط على مناهج التعليم بهدف خلق مواطنين ذوي تعليم مناسب.
    واكتسبت فقرات دولة الرفاه درجة هائلة من الشعبية اجبرت الحكومات الحصيفة على اعتبارها الركن الثالث من اركان السياسة الديمقراطية، التي لا يجوز المساس بها. غير ان نظم الرفاه باهظة التكلفة، بل انها تلتهم جل الانفاق الحكومي في دول OECD، وتنكفئ من ازمة الى اخرى.
    وبلغت الازمات درجة من الحدة دفعت السياسيين الآن الى وقف التوسع الجامح الذي لا مرد له كما يبدو، لنشاط الحكومة في كل جانب من جوانب الرفاه الاجتماعي. واخذوا علاوة على ذلك يتساءلون ان كان الضمان الشخصي واجبا محتوما من واجبات الحكومات القومية، بدل ان يكون واجب الافراد الحصيفين والاسواق الكونية.

    هناك ثلاثة اسباب لانبثاق هذه النزعة الراديكالية البينة. اولا ان دولة الرفاه انشئت للتعامل مع عالم لم يعد قائما، فحين اخترع بسمارك التقاعد الحكومي في سن الخامسة والستين، كان معدل الاعمار خمسة واربعين. اما الآن فان معدل الاعمار في دول OECD قد بلغ الخامسة والسبعين، وهو في ازدياد اصلا، مع ذلك فإن مساهمة قوة العمل من الذكور، بين عمر الستين والرابعة والستين، انخفضت من نسبة 80 في المائة في عام 1960 (في اغلب البلدان الغنية) الى 50 في المائة في اميركا، واقل من 35 في المائة في المانيا وايطاليا وفرنسا.
    وحين اقيمت دولة الرفاه كان الشطر الاعظم من السكان فقراء بلا تعليم في اغلب الاحوال. اما الآن فان معظم السكان في يسر نسبي، كما ان معظمهم تلقوا تعليما كافيا يسمح لهم بالعناية بانفسهم واتخاذ القرارات المصيرية الخاصة بهم، بدل ان ينتظروا من الحكام ان يتخذوها لهم. برزت دولة الرفاه في عالم كانت المرأة تمكث فيه في البيت والعوائل تبقى متماسكة والبطالة تشكل وصمة عار اجتماعية. بتعبير آخر انه عالم فقدناه.
    اما السبب الثاني وراء التحول فهو ان دول الرفاه بمعظمها فشلت في ازالة العديد من المشكلات التي انشئت اساسا لمعالجتها، ولم يتحقق قط توقع ر. هـ. تواني Tawney بان دولة الرفاه "ستلغي القاعدة التي تحتم مكافأة الاثرياء لا بالثروات وحدها، بل بنصيب اكبر من الصحة والحياة ومعاقبة الفقراء، لا بالفقر وحده، بل بالجهل والمرض والموت المبكر". فهناك تفاوتات هائلة بين الاثرياء والفقراء من ناحية الاداء الصحي والتعليمي. والحق، انه يمكن القول ان دولة الرفاه تمعن في مفاقمة بعض المشكلات التي جيء بها اصلا لحلها. فمثلا ان ارتفاع اسهامات الضمان الاجتماعي تشكل ضريبة قاسية على الوظائف.
    اما السبب الثالث وراء التحول فينبع من خوف الحكومات القومية من الغرق في المد المتعاظم من الالتزامات الموروثة. وخمن ويليام بيفيردج، باني دولة الرفاه في بريطانيا ما بعد الحرب، ان كلفة الرعاية الصحية واعادة التأهيل، لن تزيدا بمرور الوقت، نظرا لان وفرة صحة السكان ستقلل اعتمادهم على هذه الخدمات.

    اما في الواقع، فان ارقام الانفاق ازدادت زيادة فلكية وهي مستمرة في الصعود. فسكان البلدان الغنية يشيخون بسرعة مع اقتراب جيل الازدهار لما بعد الحرب من سن التقاعد، اما معدلات الولادة ففي هبوط. وعلى حين ان التناسب بين عدد العاملين دافعي الضرائب وعدد المتقاعدين الذين لا يعملون هو 3 إلى 1، فإن هذا التناسب سيهبط بعد 30 عاما الى 1.5 الى 1، ما لم يصار الى اصلاح الوضع، بل ان النسبة مرشحة لهبوط اكبر، مما يتطلب زيادة في الانفاق بنسبة 9 الى 16 في المائة من اجمالي الناتج المحلي لتمويل المدفوعات الى المسنين.
    وابتغاء تلبية هذه الحقوق الراسخة، يتوجب على الحكومات ان تقوم باختيار صعب بين واحد من امرين: فإما ان تزيد الضرائب زيادة فاحشة، فتقوض بذلك القدرة التنافسية الاقتصادية، وتذكي نار حرب ضروس بين الاجيال، حيث يرفض الشباب التمرغ في الفقر لتدليل الاطفال المسنين لوود ستوك ـ او ان تنشد عودة القطاع الخاص.
    لكن التفات الحكومات الى القطاع الخاص، كما يفعل اغلبها الآن، يقودها عادة الى "الغاء تأميم" القطاع العام بأكثر من معنى. فما من حكومة عاقلة تقبل بتجنيد قطاع خاص عديم الكفاءة في نشاطه ليدير دولة الرفاه.

    وسرعان ما تكتشف هذه الحكومات ان الغاء مؤسسات القطاع الخاص هي المؤسسات الكونية. وعلى سبيل المثال فإن الحكومات البريطانية احالت دور التمريض (معاهد اعداد الممرضات) الى شركات عائلية محلية. اما اليوم فإن هذا القطاع يتمركز على غرار شركات الدفن التي يزودها بالزبائن، في عناقيد اكبر، اي في شركات متخصصة، متعددة الجنسيات.
    وحين تحيل الحكومات ادارة مدفوعات العاطلين الى هيئات من خارجها، فإنها تحيل ذلك على الدوام الى شركات كونية مثل اندرسن كونسلتنج، والكترونيك داتاسيرفس. وليس من باب المصادفة ان تشيلي التي كانت الرائدة في ادخال حسابات التقاعد الخاصة، هي البلد الذي يرحب بالمديرين الاجانب المتخصصين في ادارة الصناديق. والواقع ان الهجوم العريض الذي تشنه الشركات الاميركية الكبرى على قطاع الخدمات المالية الاوروبي مدفوع اساسا بفكرة ان معظم الاوروبيين سيضطرون، ان عاجلا او آجلا، الى نبذ الاعتماد على التقاعد الحكومي، والتحول الى الاعتماد على تقاعدهم الخاص، القابل للنقل (من بلد الى آخر).
    ان السماح للاجانب بادارة اجهزة الكومبيوتر المملة التي تنظم دفع رواتب العاطلين عندك، هي مجرد مظهر واحد لا غير. ذلك ان العولمة اليوم تمس جانبا شديد الحساسية من جوانب عمل القطاع العام وهو التعليم.
    تعتبر المدارس والصفوف الدراسية في نظر الكثير من القوميين بوتقة لصهر الهوية القومية. اما اميركا وهي البلد الاقل تآلفا مع فكرة ربط التعليم بدولة الرفاه، فقد بدأت تبيع التعليم في ارجاء العالم كله. وليس في هذا ما يثير الدهشة.

    القراءة والكتابة والإثراء

    يشكل الذهاب بالسيارة الى مركز اختبار سيلفان في مدينة جوهانسبرج درسا في التعرف على الاخطار في جنوب افريقيا الجديدة. فهذه الرحلة تأخذك بموازاة ملاعب الرجبي، المعتنى بها عناية فائقة، ومنازل محصنة تحصينا فائقا. وتضج احدى محطات الاذاعة المنوعة بترويج شعار "المزيد من الشرطة"، بينما يرفع ملصق آخر شعار "لا رحمة بالمجرمين". اما الاشارة الوحيدة الى مضمار التعليم فيحملها اعلان لجريدة يتدلى من عمود انارة كهربائية "مصرع مدير مدرسة في حادث اختطاف"، وعليه فان المرء يشعر بالاطمئنان حين يصل الى مركز الاختبار حيث يقف حارس نظامي، عسكري المظهر، مسلح بهراوة.
    ان مركز "سيلفان لنظم التعليم"، شركة اميركية مقرها الاساس في بالتيمور. وقد اسسها اثنان من الفاشلين في الدراسة الجامعية. تحقق الشركة افضل الارباح من اعداد صيغ الامتحانات الموحدة التي تحكم قبول الطلاب في شتى المؤسسات من الجامعات الى المؤسسات المهنية. ويتولى المركز توجيه الاطفال لحل الواجبات المدرسية، وتدريب الناس من شتى الاعمار ممن يرغبون في اختلاس فرصة التفوق على اقرانهم. يصعب على المرء في الولايات المتحدة ان يندرج في عداد الطبقة الوسطى من غير ان يدفع الجزية لمركز سيلفان، واذا ما شقت هذا الشركة طريقها قدما فإن بقية العالم ستسير على هذا الدرب نفسه.
    قررت شركة سيلفان ان تركز في افريقيا، على اختبار الناس عوض تعليمهم. ويدخل نحو 15 ألف طالب هناك الامتحانات التي تشرف عليها شركة سيلفان، علما ان هذا الرقم يتزايد سريعا، بل انه مرشح لزيادة اكبر لولا قوة الدولار.
    وتتباين الامتحانات من حيث درجة الصعوبة ـ بعضها مخصص لاختبار مدى التمكن من اللغة الانجليزية وبعضها الآخر للتكهن بالقدرة على تعلم المعارف الطبية المعقدة ـ غير ان سائر الاختبارات ينطوي على خيارات متعددة.
    ان شركة سيلفان لا تضع اسئلة الامتحان بنفسها، فمساهمتها في هذه الاجراءات تقوم على تطبيق نظام كومبيوتري يسهل عملية الادارة ومنح الدرجات، علاوة على تشديد الرقابة منعا للغش. ويتكيف الكومبيوتر اوتوماتيكيا تبعا لمؤهلات الممتحن، بحيث يتلقى المرشح القوي اسئلة صعبة تمنح لها اعلى الدرجات.

    وما ان يجتاز القادم نقطة الحراسة، حتى يجد ان مركز اختبار جوهانسبرج لا يختلف عن اي مركز آخر في العالم. تشاد مراكز سيلفان وفق صيغة جديدة لا تشبه بالمرة قاعات الامتحان التي يتذكرها بعضنا من ايام الطفولة. فالمركز مقسم الى حجرات نظامية متشابهة تحوي كل حجرة منها جهاز كومبيوتر. وهناك نوافذ نظامية في كل حجرة تسمح للمراقب بأن ينظر الى ما بداخل الحجرة، وهناك مرايا نظامية وفيديو نظامي ومعدات صوتية للغرض نفسه.
    وتقول المديرة لين فان هاغت، ان الصفة المميزة لمركز سيلفان انه يجمع دوما المنتوج الكوني بالجذور المحلية. (وهاغت امرأة شقراء، طويلة، من كاليفورنيا، تطبق هذه السياسة حرفيا، فقد وجدت شريك حياتها هنا بعد ثلاثة ايام من وصولها الى جنوب افريقيا).
    تشترط بعض الجامعات الافريقية الآن على المتقدمين اليها ان يأخذوا امتحانات مركز سيلفان للكفاءة باللغة الانجليزية، وهو ما تفعله الادارة الحكومية في نيجيريا، لكن فان هاغت تقول ان معظم زبائن مركز سيلفان يسعون الى دخول احدى الجامعات الاميركية او الجنوب افريقية التي تدير منهجا دراسيا موحدا مع جامعة اميركية.
    تتمتع الجامعات الاميركية بسمعة عالية في جنوب افريقيا، الى حد ان الصحف ملأى باعلانات عن رحلات جوية ليلية الى معاهد اميركية (مثل جامعة هارفرد في بيفرلي هيلز، وما شاكلها) للحصول على "شهادات معترف بها عالميا". (ما تزال جامعتا اوكسفورد وكيمبردج تتمتعان بسمعة عالية في جنوب افريقيا، وما عدا ذلك فان بقية الجامعات البريطانية فقدت بريقها السابق على ما يبدو رغم ان كثرة من قادة حزب المؤتمر الوطني الافريقي تلقوا تعليمهم العالي في جامعة ساكس). ولعل اكثر الشهادات الاميركية شعبية في جنوب افريقيا هي شهادة M. B. A، حيث يعتبرها الطلاب هنا تذكرة للارتقاء الى اعلى المناصب في شركاتهم. وهم بهذا يفترضون، بداهة، ان اقوى تقاليد الشركات في العالم تقدم افضل دراسة للاعمال في العالم. اما اقل الدراسات شعبية فتتعلق بفروع لا تتوفر في القارة الافريقية، مثل طب اسنان الخيل.

    ويتألف نصف المتقدمين للجامعات في جنوب افريقيا من السود والنصف الآخر من البيض. غير ان غالبية الطلاب في بقية بلدان افريقيا هم من السود. ويمكث العديد من الطلاب البيض في الولايات المتحدة ولا يعودون ابدا. الا ان مركز اختبار سيلفان يعمل في الجانب الاكبر على معالجة القضايا الافريقية لا لتوفير مخرج لهروب اقلية متنعمة.
    وتستخدم الحكومات الافريقية وكبرى شركات جنوب افريقيا (المتعطشة لزيادة عدد السود في هياكل الادارة العليا) هذه الاختبارات لأجل انتقاء المتفوقين الذين يرسلون عادة الى مدارس الاعمال الاميركية. وبالمثل فان الرياضيين السود الواعدين ـ بمن في ذلك المتميزون في لعبة الرجبي البعيدة عن الاميركان ـ يعتبرون الحصول على زمالة رياضية في اميركا بمثابة السبيل الافضل للارتقاء الى مصاف الطبقة الوسطى، من هنا مبعث اهتمامهم بامتحانات مركز سيلفان.

    مديرو مدرسة الكون

    ليست شركة سيلفان الا واحدة من حشد كبير من الشركات الاميركية بالاساس العازمة على تحويل التعليم الى قطاع اعمال كوني. ويعمل مايكل ميلكن، وهو من اساطين رابطة الحثالات السابقين، على انشاء واحدة من اكبر شركات التعليم في العالم، وهي "نوليدج يونيفرس" (كون المعرفة).
    وتمتلك شركة كولبرج كرافيس روبرتس، التي تشيع الرعب في اوصال مديري الشركات في العالم اجمع، مؤسسة تجارية للتعليم تدعى "كايند كير". وهناك عدد من اصحاب المليارات مثل وارين بوفيت وبول آلان، استثمروا مبالغ طائلة في قطاع التعليم على غرار ما فعلت شركات شتى من مختلف الصناعات التقليدية، بما فيها شركات صنع الكومبيوتر (آي. بي. إم) IBM، صن مايكروسيستمز Sun Microsystems، او شركات انتاج برامج الكومبيوتر (مثل مايكروسوفت و(اوراكل)، او شركات الاتصالات اللاسلكية مثل 1 MC، وشركات التسجيلات الغنائية مثل سوني والنشر مثل واشنطن بوست.

    هناك سببان في الاقل مما يجذب هذه الكثرة من الشركات الاميركية بصورة خاصة الى هذا السوق، السبب الاول هو حجم السوق المحلي بالذات. وتقدر وزارة التعليم الاميركية ان البلاد تنفق 635 مليار دولار سنويا على التعليم، اي اكثر مما تنفقه على الضمان الاجتماعي او الدفاع. وتتوقع الوزارة ان معدل انفاق التلميذ الواحد سيزداد بنسبة 40 في المائة خلال العقد القادم. ولا تحتل الشركات الخاصة سوى سبع هذا السوق، وتقتصر عموما على قطاع التدريب.
    اما الحافز الثاني فيتمثل في واقع ان القطاع العام الاميركي يتعثر مرتبكا في مساعيه للحاق بآمال الجمهور او بالمستويات العالمية. ان نسبة ما تنفقه الولايات المتحدة على التعليم من اجمالي ناتجها المحلي تفوق نظيراتها في اغلب بلدان العالم، لكن النتائج المتحققة من هذا الانفاق وسطية او قل عادية. فاكثر من 40 في المائة من طلاب الصف الرابع الاميركان يخفقون في امتحان القراءة الاساسية، كما ان هناك 42 مليون راشد امي وظيفيا. ويرجع هذا الاداء المزري في جانب منه الى ان نصف الميزانية المقررة لكل طفل والبالغة 6500 دولار سنويا تلتهما "خدمات غير تعليمية". وبينما يتعثر القطاع العام في اداء هذه الوظيفة يزداد الطلب على خدمات تعليم اضافية. وبموازاة نمو فجوة الدخل بين خريجي المدارس الثانوية وخريجي الجامعات يزداد تصميم الآباء على ان يتلقى اطفالهم تعليما جامعيا، كما ان هناك طلبا محموما على دور الحضانة "الذكية"، في ضوء تركيز الابحاث العلمية للذكاء على الاهمية الساحقة للسنوات الثلاث الاولى من عمر الوليد في تحديد مستواه.

    ينحصر جل نشاط القطاع الخاص في مجال التعليم حتى الآن في تقديم خدمات تكميلية للمدارس القائمة، وعملت بعض هيئات التدريس على التعاقد للحصول على خدمات تكميلية من هذا النوع، وقد اثارت النتائج اعجابها بحيث اخذت تطبق هذا المبدأ في تعليم نفسها. وعليه فإن شركات مثل سيلفان تخوض باحتراس غمار معترك قد يسفر عن كونه اكبر الاسواق قاطبة، ونعني به ادارة المدارس الحكومية وهناك عدد متنام من المدارس الحكومية المأذونة ينعم بحرية تجريب الادارة الخاصة من دون ان يفقد التمويل العام. وهناك الآن ايضا عدد متنام من "مؤسسات الادارة التعليمية" ـ المشكلة على غرار مؤسسات الرعاية الصحية ـ يعد بخفض التكاليف الادارية لتسيير المدارس الحكومية وتحسين النتائج على صعيد التعليم.
    ان دخول شركات التعليم الى الميدان يسجل من نواح عدة رحلة تشبه "العودة الى المستقبل"، فهذه المؤسسات تمتاز بحماسة فيكتورية للاختبار قد تنتزع اعجاب جراد جريند التي ابتدعها ديكنز في احدى رواياته. ويتوجب على هذه الشركات ان تثبت في آن واحد انها تحقق نتائج طيبة للتلاميذ، ونتائج طيبة لحملة الاسهم. وتتعهد شركة سيلفان بتقديم التعليم مجانا في صفوفها اذا فشل الطلاب في ان يحققوا اهدافا معنية، كما تعد طلابها ومعلميها في آن بمكافآت سخية ان تمكنوا من تحسين ادائهم.
    وهناك ميزة اخرى لهذه الشركات تتمثل في التركيز على الزبائن كأفراد وعلى التعليم الشخصي بوجه خاص.

    وتسعى ابوللو جروب، وهي جامعة خاصة متخصصة في تعليم الموظفين الراشدين الى الارتقاء بوظيفة مربية الاطفال العائلية، وهي تتوجه للالتقاء بطلابها واقامة صفوف التعليم قرب الطرق العامة الكبرى، لتوفير الوقت والجهد على الاشخاص المشغولين الذين يسكنون في مناطق بعيدة. وتصر شركة "اديون بروجكت" على ربط منازل كل تلاميذها ممن تجاوزوا الصف الثالث بخط كومبيوتر مع المدرسة.
    وترى سائر هذه الشركات انها تبيع منتوجا كونيا. وتتوفر شركة سيلفان التي اشترت اكبر شركة تدريب في اوروبا عام 1994، على مراكز تعليم واختبار في 105 بلدان.
    ويأتي نحو ربع مداخيلها من خارج الولايات المتحدة. اما شركة نولدج يونيفرس (كون المعرفة) فقد شيدت على اساس فكرة ميلكن القائلة بان سوق "الرأسمال الفكري" الكوني ناضج الآن لاستقبال الثورة الجديدة نضج اسواق رأس المال المالي لها في الثمانينات. ويعتزم ميلكن علاوة على ذلك، انشاء شركة تعليم عملاقة قادرة على ان تزود زبائنها بخدمات من المهد الى اللحد في ارجاء العالم كله. وقد اسس هو وشركاؤه ـ اخوه لوويل ولاري اليون رئيس شركة اوراكل Oracle ـ دعائم امبراطورية تعليم تقدر قيمتها بنحو 4 مليارات دولار، وتضم شتى المؤسسات ابتداء من شركة العاب التعليم الاميركية وانتهاء باكبر مؤسسة تدريب بريطانية.

    نصف المطلوب

    وتتسم هذه العملية بالتفاوت الشديد بدرجة اكبر مما في قطاعي الجنس ودفن الموتى. فميدان التعليم متراس لنقابات القطاع العام، مثلما هو متراس للطبقات الوسطى المهنية. خذ مثلا تلك الافكار المولدة للوظائف، من قبيل فكرة ان على المعلمين البريطانيين العودة الى المدرسة لكي يتمكنوا من القيام بالتعليم في اميركا وبالعكس. لقد تحرك سياسيون مجردون من اي ضمير لاتهام من يريدون اصلاح نظم التعليم المحلية بالتآمر لتحطيم العقد الاجتماعي، مدفوعين في ذلك بالرغبة في الاحتفاظ بالوظائف الحالية، ويوجه هذا الاتهام الى اولئك الذين يطبقون برنامج القسائم التجريبي بحيث يستطيع الابوان اختيار المدرسة التي يرغبان بها.
    ولو تركنا عنصر المحسوبية في هذا لوجدنا ان هناك اسبابا وجيهة للاحتراس من ادخال حافز الربح في نظام التعليم. فما الذي سيحصل مثلا لو ان شركات مثل سيلفان او نولدج يونيفرس قررت ان "تختار على هواها" خيرة الطلاب وأضمن المدارس؟ فحين تتم خصخصة ـ وبالتالي عولمة ـ دولة الرفاه، لتبقى هناك ادوار مهمة تؤديها الحكومة بوصفها ناظما اجتماعيا، في التيقن من ان الشركات الخاصة لن تستغل مواقعها استغلالا ضارا، والتيقن ايضا باعتبار الحكومة هي الملاذ الأخير لتقديم الخدمات من توفر شبكة امان تحمي اولئك الذين لا يملكون الموارد اللازمة للعناية بأنفسهم.
    ان صفوف التعليم الكونية، شأن التقاعد الكوني ورأس المال الكوني، ما تزال أبعد من المقبرة الكونية وبرامج الفرجة الكونية عن التحقق، لكن هذا هو اسلوب مسير العولمة في طريقها. فبعض القطاعات تعدو عدوا محموما وبعضها الآخر يسير سيرا فاترا، وغيرها يمضي عكس التيار، حيث ان اقساما من الصناعة تصير محلية بينما ينقلب السوق كونيا. وهناك كثرة من الميادين الصعبة الاخرى تتأثر بالعملية من ذلك الميدان القانوني حيث اخذت كثرة من شركات المحاماة والحقوق من مختلف البلدان بالاندماج، لكن في اواخر التسعينات.

    ومن ذلك ايضا القمار، حيث اعتمدت الشركات عموما على العلاقة مع الاجهزة التشريعية المحلية. اما الآن فان شركات قمار مثل نيفادا جيمنج كوميشن او نادي الفروسية في هونج كونج، تجد نفسها بازاء منافسة ضارية من ناشري الكتب على الانترنت أو كازينوهات القمار على الانترنت (كازينوهات افتراضية بلا مبان حقيقية) التي تعمل من مواقع نائية مثل انتيجوا.
    غير ان الاتجاه العام واضح للعيان، حتى بالنسبة لدولة الرفاه. فمن عساه يتخيل مثلا ان حكومة عمال بريطانية ستعمد الى بيع سائر ما لديها من "مكاتب العاطلين" الى كونسورتيوم بقيادة شركة جولدمان زاكس، مع ما يترتب على ذلك من ان اثرى اثرياء وول ستريت يملكون الآن المكتب الذي يتوجه اليه امثال ابطال "كل المطلوب" Full Monty لتسلم معونات العاطلين كل اسبوع؟ ومن كان سيصدق ان مجمعا اميركيا في جوهانسبرج سيعمل على المساهمة في خلق طبقة وسطى سوداء، تحتاجها القارة حاجة ماسة؟
    لعل القول بان المديرة فان هاغت وصاحب افلام الدعارة ستيفن هيرش قريبان روحيا يثير الغرابة، لكنهما جزء لا يتجزأ من عملية واحدة متضاربة تمضي بلا هوادة.

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
المنتدى غير مسؤول عن أي معلومة منشورة به ولا يتحمل ادنى مسؤولية لقرار اتخذه القارئ بناء على ذلك