كتاب لـ جون ميكل ثوايت وأدريان وولدريج تنشره "الشرق الأوسط" على حلقات
هذا الكتاب هو أول تفحص شامل لأهم انقلاب في عصرنا: العولمة، ودراسة في الأسلوب الذي سيواصل به هذا الانقلاب تغيير حياتنا.
وقد فاز المؤلفان جون ميكل ثوايت وأدريان وولدريج (وهما مراسلا مجلة "الإيكونوميست" اللندنية)، بجائزة صحيفة "فاينانشيال تايمز" ومؤسسة يوز آلين هاملتون جلوبال بزنس لأحسن كتاب في قضايا الاستراتيجية والقيادة، عن مؤلفهما السابق الموسوم "The Witch Doctors".
ويعمل المؤلفان في كتابهما الجديد "المستقبل التام.. أساسيات العولمة"، على توسيع حقل الرؤية، ابتغاء تحليل واستجلاء وكشف القوى الكونية (المعولمة) التي تعيد صياغة عالمنا. ويسهب المؤلفان في تفصيل طبيعة التحدي الذي تمثله العولمة، وطبيعة الوعد الذي تنطوي عليه للأفراد والأعمال والحكومات. ينطلق البحث، هنا، من أسئلة جوهرية:
هل تنتفع الأعمال من الدخول في العولمة؟ وهل نحن بصدد خلق مجتمعات ينفرد فيها الفائز بكل المكاسب؟ وهل ستوطد العولمة انتصار الثقافة الدونية؟ وأي مصير ينتظر مستقبل الأفراد؟
يجمع المؤلفان القرائن والتفاصيل من زوايا المعمورة كلها، من أحياء الصفيح في سان باولو إلى صالات شركة جنرال إلكتريك، ومن الحدود الروسية ـ الإستونية المتوترة، إلى ازدهار صناعة الجنس في سان فيرناندو فالي. وفي هذا استجواب في ثنايا العولمة، يقدم لنا المؤلفان التكنوقراطي الكوني أعضاء نخب رجال الأعمال والمعلومات، وطبقة الدبلوماسيين، الذين ينشئون بنشاطهم النظام العالمي الجديد. ويشخص المؤلفان القاطرات الثلاث للعولمة، ويصفان سبل إدارة الأعمال وتسيير دفة الحكم في حقبة العولمة الجامحة.
وهنا، كما في كتابهما السابق، لا يدّخر المؤلفان جهدا في تفتيت الأوهام والأساطير، والأحكام المسبقة، فارزين بذلك قشرة الآمال الزائفة عن لبّ الحقائق الناشئة. والكتاب، علاوة على ذلك، تجوال علمي في الاقتصاد الكوني، وتقييم مذهل لتبعاته ونتائجه المحتملة، بعيداً عن أي تفاؤل رومانسي، أو تشاؤم سوداوي.
في عام 1914كان بمقدور ساكن لندن أن يطلب وهو يرتشف شاي الصباح في سريره كل منتجات الأرض
الرساميل تنتقل اليوم في رحاب العالم بيسر كبير
يبدو السياح الأميركيون فرحين بركوب قطار اليوروستار من لندن إلى باريس، بقدر فرح كينز بركوب القطارات في إيطاليا
في الثلاثينات سعى ماركس إلى إحلال العولمة الشيوعية محل العولمة الرأسمالية
هذا الكتاب هو أول تفحص شامل لأهم انقلاب في عصرنا: العولمة، ودراسة في الأسلوب الذي سيواصل به هذا الانقلاب تغيير حياتنا.
وقد فاز المؤلفان جون ميكل ثوايت وأدريان وولدريج (وهما مراسلا مجلة "الإيكونوميست" اللندنية)، بجائزة صحيفة "فاينانشيال تايمز" ومؤسسة يوز آلين هاملتون جلوبال بزنس لأحسن كتاب في قضايا الاستراتيجية والقيادة، عن مؤلفهما السابق الموسوم "The Witch Doctors".
ويعمل المؤلفان في كتابهما الجديد "المستقبل التام.. أساسيات العولمة"، على توسيع حقل الرؤية، ابتغاء تحليل واستجلاء وكشف القوى الكونية (المعولمة) التي تعيد صياغة عالمنا. ويسهب المؤلفان في تفصيل طبيعة التحدي الذي تمثله العولمة، وطبيعة الوعد الذي تنطوي عليه للأفراد والأعمال والحكومات.
ينطلق البحث، هنا، من أسئلة جوهرية:
هل تنتفع الأعمال من الدخول في العولمة؟ وهل نحن بصدد خلق مجتمعات ينفرد فيها الفائز بكل المكاسب؟ وهل ستوطد العولمة انتصار الثقافة الدونية؟ وأي مصير ينتظر مستقبل الأفراد؟
يجمع المؤلفان القرائن والتفاصيل من زوايا المعمورة كلها، من أحياء الصفيح في سان باولو إلى صالات شركة جنرال إلكتريك، ومن الحدود الروسية ـ الإستونية المتوترة، إلى ازدهار صناعة الجنس في سان فيرناندو فالي.
وفي هذا استجواب في ثنايا العولمة، يقدم لنا المؤلفان التكنوقراطي الكوني أعضاء نخب رجال الأعمال والمعلومات، وطبقة الدبلوماسيين، الذين ينشئون بنشاطهم النظام العالمي الجديد.
ويشخص المؤلفان القاطرات الثلاث للعولمة، ويصفان سبل إدارة الأعمال وتسيير دفة الحكم في حقبة العولمة الجامحة.
وهنا، كما في كتابهما السابق، لا يدّخر المؤلفان جهدا في تفتيت الأوهام والأساطير، والأحكام المسبقة، فارزين بذلك قشرة الآمال الزائفة عن لبّ الحقائق الناشئة.
والكتاب، علاوة على ذلك، تجوال علمي في الاقتصاد الكوني، وتقييم مذهل لتبعاته ونتائجه المحتملة، بعيداً عن أي تفاؤل رومانسي، أو تشاؤم سوداوي.
الجــــزء الأول
عودة إلى عالم بلا حدود
الفصــــل الأول
سقوط العولمة ونهوضها
في مارس (آذار) من عام 1906، قام شاب إنجليزي، قُدّر له أن يغدو واحداً من عمالقة القرن العشرين، بأول عطلة له خارج بلاده، من دون أن يثنيه عن ذلك والداه. أمضى الشاب جلّ عطلته في إيطاليا، التي امتدح أطباق طعامها، لكنه اعتبر شبابها "مثيرين للاشمئزاز جسدياً"، ولعله كان في قوله هذا مرائياً. وعلى أيّ حال، كانت الرحلة، في نظر المسافر الشاب، تجلياً لمسرّات العولمة. فلم يكن بحاجة إلى جواز سفر لزيارة البلدان الأجنبية، أما ليراته الذهبية فكانت قابلة للتحويل، بصورة شاملة، إلى كل العملات المحلية بأسعار صرف ثابتة. وجد الرجل أن رباط العالم قد توثق بفضل سكك الحديد والسفن البخارية، وأن بمقدوره النزول في فنادق مريحة أينما عنّ له البقاء، واستخدام مكاتب البريد حيثما أراد أن يبعث رسالة إلى الوطن.
في ذلك الوقت كان الموقع الذي تحتله بريطانيا في العالم يوازي الموقع الذي تحتله الولايات المتحدة اليوم، فهي عملاق اقتصادي، ومارد عسكري، ومرجع ثقافي. فالسلع البريطانية تغزو أسواق العالم. والنقود البريطانية تغذي الأعمال في أرجاء العالم. والجبروت الاقتصادي البريطاني يحمي طرق التجارة العالمية. وكانت الثقافة البريطانية تبلغ مبلغاً من القوة بحيث أن الأجانب باتوا يمارسون أكثر الألعاب الرياضية خصوصية، الكريكت. وتقبّل العالم، بمعظمه، انجيل التجارة الحرة والعولمة البريطاني.
وما كان هناك مدافع عن هذا المذهب أشد من المسافر الشاب، جون مينارد كينز، أحد ألمع الأفراد في ألمع جيل في التاريخ البريطاني. فاز كينز، وهو ابن مدير جامعي بارز، بزمالة للدراسة في جامعة ايتون أولاً، ثم كلية كينجز في كامبردج. وسعى، بشيء من التسرع، إلى الفوز بزمالة كلية كينجز عقب تخرجه، فقيل له أن ينتظر.
وعلى حين أن كينز كان ابن المؤسسة، إلا أنه لم يكن قطعا من صنعها. فقد كان مثالياً في عصر لم تكن فيه هذه الخصلة موضع الرضا على الدوام، وكان ينتمي إلى جيل، أو بالأحرى إلى زمرة من زمر هذا الجيل، ونعني بها جماعة بلومزبري، متمرد تمرداً صريحاً بهذا القدر أو ذاك على يقينيات الحضارة الفكتورية. ويقول كاتب سيرة كينز، روبرت سكيدلسكي، عنه إنه أمضى فترة مع الرسام دنكان جرانت في باريس، وهو في طريقه إلى إيطاليا، كما أمضى فترة مع ليتون ستراتشي في جنوا، حيث أمضى الرجلان الساعات، حسب تعبير كينز، وهما "يأكلان البيض المخفوق المقلي، ويناقشان موضوع الأخلاق والشذوذ" (1).
بعد ذلك وضع ستراتشي كتابه "فيكتوريون بارزون"، الذي وجّه ضربة ماحقة للنزعة الفيكتورية.
ولكم أن تتخيلوا أن كينز تمرد على الاقتصاد الفيكتوري تمرده على الأخلاق الفيكتورية. كانت حماسته للتجارة الحرة في تلك الفترة مطلقة، فمنذ أيام دراسته الجامعية، هاجم نزعة الحماية الجمركية خلال النقاشات الطلابية. وكتب إلى صديقه يقول "إنني أبغض كل القساوسة ودعاة الحماية الجمركية"، وأثنى على "التجارة الحرة والفكر الحر". الواقع أن قضية التجارة الحرة، كما يعتقد، هي القضية السياسية الوحيدة التي حفزت الشاب كينز. وكتب راعداً "ينبغي أن نتمسك بالتجارة الحرة، بمعناها الأوسع، باعتبارها عقيدة ثابتة، لا سماح لأي خروج عليها. ينبغي أن نتمسك بالتجارة الحرة كمبدأ للأخلاق الدولية، لا مجرد مذهب في المنفعة الاقتصادية" (2).
هناك ثلاثة مؤلفات أقنعت الشباب من أمثال كينز بفضائل التجارة الحرة: كتاب "ثروة الأمم" لآدم سميث 1776، وكتاب "في مبادئ الاقتصاد السياسي والضرائب" لديفيد ريكاردو 1817، وكتاب "عناصر الاقتصاد السياسي" لجيمس ميل 1821. كانت فكرة سميث القائلة إن الاقتصاد يؤدي خير أداء حين يُترك إلى "أيدي السوق الخفية" قبل كل شيء، وجيزة في فضائل التجارة: أما الحمائية فليست إلا أكثر أشكال تدخل الدولة ضلالاً. وأكد ميل على فكرة سميث هذه، مجدداً، بسجاله مع فكرة التجاريين (التي لا تزال سائدة حتى اليوم على نطاق واسع) القائلة إن هناك نوعاً واحداً حميداً من التجارة، هو التصدير. ردّ ميل على ذلك بالقول إن السبب الوحيد لتصدير سلعة ما هو الحصول على النقود لاستيراد سلع أخرى. وقال "إن المنفعة المستمدة من مبادلة سلعة بأخرى، تنبع في كل الأحوال من السلعة المتلقاة، لا السلعة المعطاة". (3)
اما ريكاردو، فقد طور مفهوم "المنفعة النسبية"، القائل ان التجارة الحرة تقدم لكل البلدان، غنيها وفقيرها، فرص الكسب بالتخصص في خير ما تجيده.
وتنبع المنافع النسبية احيانا من امور اساسية كالجغرافيا والمناخ (لم يأخذ احد صناعة الانبذة البريطانية مأخذ الجد حتى وقتذاك)، لكنها تنشأ عموما من المهارات والانتاجية المحلية. واكد ريكاردو ان البلدان الاكثر انتاجية تنجذب الى الصناعات التي تتميز فيها بافضل منفعة، وتترك الفرص الاخرى للاخرين. وطالما دأبت البلدان الاكثر انتاجية وقريناتها الاقل تطورا على المتاجرة بحرية، فان الزمرتين تنتفعان من هذا التخصص. ولا ترضى العولمة، جدلا، بأكثر من ان تسمح لهذا التخصص بالتحقق.
لم تكن هذه المفاهيم، في نظر كينز الشاب، محض حجج منطقية، بل كانت المنتصر في اشرس معركة فكرية في القرن التاسع عشر. حيث قدم فيها سميث وميل وريكارد، الركن الاقوى لهدم قوانين حماية الحبوب (التي تحمي المزارعين بالابقاء على ارتفاع سعر القمح بصورة اصطناعية).
لقد ادى هذا الصراع، الذي لم يحقق نجاحا الا عام 1846 بعد ان خان السير روبرت بيل peel حزبه، حزب المحافظين حيث الغى القوانين المذكورة الى دفع الكثيرين الى الخروج من مآدب العشاء في سخط عاصف، او الى تأسيس المجلات. (4) وبقيت النزعة العالمية، حتى بعد مضي وقت طويل على خمود الضجيج حول قوانين الحبوب، اكثر من مجرد طريقة لتكديس الثروة بنظر الفيكتوريين، فقد كانوا يرون العالمية واجبا اخلاقيا يحملونه تجاه بقية البشرية، وطريقة لنشر الفضائل، ليس فقط فضيلة التجارة الحرة، بل ايضا فضيلة المؤسسات الحرة والاخلاق المسيحية.
وكان كينز يرى بريطانيا بوصفها قاطرة نظام التجارة الحرة الذي بات يغطي ارجاء متعاظمة من المعمورة. هناك اقتصاديون عديدون اثبتوا اخيرا زيف الفكرة القائلة بان الاقتصاد العالمي كان قبل قرن مضى "اكثر عولمة" مما هو عليه الآن. فثمة اليوم تجارة اكبر في الخدمات مما كان عليه الحال قبل قرن مضى، كما ان هناك تجارة اوسع بين الشركات المتعددة الجنسية، واسواق مال اوسع بكثير (5). مع ذلك كانت هناك درجة مذهلة من التكامل: فحركة رؤوس الاموال ونقل الارباح كانت تمضي بدون عائق، والحكومات تمارس نفوذا اقل في شأن توزيع الثروة، بينما كان معيار الذهب يوفر لكامل العالم الصناعي، والكثير من بلدان العالم النامي، وسيلة للتبادل خالية من اي احتكاك.
وبحلول عام 1913، بلغ اجمالي ارصدة الاستثمار الاجنبي الطويل الامد نحو 44 مليار دولار، وكان زهاء 60% من السندات securities المتداولة في لندن ذات منشأ اجنبي. (6)
هناك جانب حيوي كان فيه العالم، على الارجح اكثر تكاملا مما هو عليه اليوم، ونعني به: حركة البشر. كانت المواطنة تمنح للمهاجرين دون قيد، وكان الناس ينتقلون عبر البلدان دونما حاجة لجواز سفر، ناهيك من اذونات العمل. وكانت اميركا تفتح بابها لكل شخص لا يمتهن الدعارة، وليس من ارباب السوابق، وغير مصاب بلوثة عقلية. ثم وسعت الاستثناء، بعد عام 1882، لمنع الصينيين. واجتذبت الولايات المتحدة زهاء الثلثين من مجموع 36 مهاجرا غادروا اوروبا على مدى الخمسين سنة التي سبقت الحرب العالمية الاولى، بحثا عن ارض زهيدة الثمن في العادة. (بل ان عددا اكبر من هذا هاجر من انحاء معينة في آسيا الى انحاء اخرى فيها، رغم ان كثرة من هؤلاء كانوا عمالا متعاقدين، او عمالا غير ماهرين). (7)
لكن هناك دغلا ضارا في هذا البستان، كما كان كينز يعرف تماما. فاوروبا القارية عموما كانت قليلة الحماس للتجارة الحرة قياسا الى العالم الانجلوساكسوني. وزحفت التعرفات الجمركية لتتزايد في معظم بلدان اوروبا خلال الفترة بين عامي 1875 و1913، ويرجع ذلك جزئيا الى "غزو الحبوب الكبير" من روسيا والولايات المتحدة.
اما ايطاليا البلد الذي كان كينز يزوره، فكان يدعي لفظيا تمسكه بالليبرالية الاقتصادية التي ارساها كاميليو بنزو، الكونت كافور، في خمسينات القرن التاسع عشر. غير ان اصحاب المصالح الكبرى وبخاصة اصحاب صناعة الفولاذ اخذوا يميلون بقوة منذ الحرب التجارية المزعجة مع فرنسا في ثمانينات القرن التاسع عشر الى رفاهية العيش في ظل الحماية الجمركية وباتوا علاوة على ذلك يعتمدون في النجاح على النفوذ السياسي لا جودة المنتجات.
في غضون ذلك ادى العداء المستحكم ضد فرنسا الى افتتان الايطاليين بعامة بكل ما هو الماني، وتبني المشاركة في الاسهم معهم، بما في ذلك المصارف. واخذ الاقتصاديون ذوو النزعة الحمائية يكسبون مواقع صلبة في الجامعات الايطالية، بل ان احد هؤلاء ويدعى لويجي لوزاتي اصبح رئيسا لوزراء ايطاليا، بعد اربع سنوات من رحلة كينز اليها.
وما كان العالم الانجلوساكسوني صلبا صلابة الصخر كما قد يلوح للوهلة الاولى. ففي اميركا انقلبت الحملة المناهضة للبارونات اللصوص التي انطلقت في البداية بدافع القلق من الممارسات المناوئة للتنافس لتأخذ طابعا معاديا للرأسمالية.
وفي بريطانيا، انقلب جوزيف تشيمبرلن، احد المع السياسيين من جيل شباب حزب المحافظين، ليعتنق فكرة "التفضيل الامبراطوري" اي تفضيل البضائع الواردة من الامبراطورية (مما دفع كينز الى ان يقول امام اتحاد كامبردج ان حركة حزب "المحافظين" ماتت، لتولد ثانية في صورة حيوان وضيع) (8).
وسخر الاشتراكيون من امثال سيدني وبياتريس ويب من المثل الاعلى الفيكتوري عن "الدولة كحارس"، مجادلين بان المستقبل سيكون للتخطيط العقلاني لا للمنافسة الحرة.
وباختصار ليس من الصعب القول بان عناصر التراجع في فترة ما بعد الحرب كانت اصلا قائمة قبلها، غير اننا نسجل هذه الملاحظة بفضل الفاصل الزمني المنصرم.
اما بالنسبة الى كينز واقرانه، فان العقد الاول من القرن العشرين كان بمثابة صيف هندي قائظ. وبعد ان رفع جوزيف تشيمبرلن صولجان الحمائية عام 1903، ارسل استاذ كينز في الاقتصاد، الفريد مارشال، على سبيل المثال، بيانا عن التجارة الى صحيفة "التايمز" جاء فيه بكل ثقة، ان زيادة الواردات لن تسبب اي بطالة، وان الاعتقاد بخلاف ذلك يشي بجهلك للنصوص التأسيسية في علم الاقتصاد.
واكتسب كتاب نورمان انجيل، الموسوم: "الوهم الكبير" الذي صدر عام 1911، اعظم التأثير من بين سائر كتب هذه الحقبة، وقد اقترب الكتاب من القول (كما يقترب بعض المعلقين الاميركان عن العولمة في يومنا هذا من القول) بان نشوب حرب كبرى بات مستحيلا نظرا لأن العالم قد اوغل كثيرا في الاعتماد المتبادل بكل بساطة.
كانت تلك الفترة فترة نجاح بالنسبة الى كينز، فبعد خمس سنوات من عودته من ايطاليا، عين زميلا دائما في كليته القديمة. وبدأ نجمه بالسطوع لا كاقتصادي فحسب، بل ايضا كمستشار حكومي وصحافي. وانتقل في صيف عام 1909 الى جناح من الغرف في كمبردج يطل على البوابة المفضية من شارع كنجزلين الى شارع ويبز كورت، وهو جناح قالت عنه فيرجينيا وولف، انه امتع ما رأته في حياتها.
وصور كينز، بعدئذ هذا العالم المتلاشي، المعولم بصورة لم يسبق لها مثيل، تصويرا حيا في واحد من اكثر المقاطع الجياشة في كتابه الاول العظيم المعنون: "العواقب الاقتصادية للسلام". والمقطع جدير بالاقتباس بشيء من الاسهاب:
"اي فصل خارق من فصول التقدم الاقتصادي للبشر ذاك العصر الذي بلغ نهايته في آب (أغسطس) 1914. كان بمقدور ساكن لندن ان يطلب على الهاتف وهو يرتشف شاي الصباح في سريره، شتى منتجات الارض بأسرها، بكل ما يرغب من كمية، وان يتوقع بصورة معقولة وصولها مبكرا الى عتبة داره، كما كان بمقدوره في اللحظة ذاتها وبالوسيلة نفسها، ان يغامر بثروته في الموارد الطبيعية والمشاريع الجديدة في اي بقعة في العالم، وان يحصل على نصيبه دون اي مجهود او عناء، من ثمارها ومنافعها المرتقبة، او كان بوسعه ان يصنع ثروته بثقة تامة، في عهدة سكان مدينة اي بلدة كبيرة في اي قارة مما يصور له الخيال او المعلومات.. الاهم من ذلك انه يعتبر هذا الوضع طبيعيا، مؤكدا، وثابتا، ما عدا السير نحو الاحسن، مثلما يعتبر اي انحراف عن ذلك امرا شاذا وشائنا، بل يمكن تحاشيه. اما مشاريع وسياسة العسكرة والامبريالية، وسياسات التنافس العرقي والثقافي، والاحتكارات، والتغييرات، والمنع، التي لعبت جميعا دور الافعى في هذا الفردوس، فلم تكن تزيد عنده على مواد مسلية في صحيفته اليومية، دون ان يبدو انها تمارس ايما تأثير اطلاقا في السير المعتاد للحياة الاجتماعية والاقتصادية، التي يكاد تدويلها عالميا يقترب من الاكتمال في الممارسة" (9).
ثلاثة اصوات
يمكنك ايها القارئ ان تمضي بعيدا في الشوط باتجاه فهم تاريخ العولمة عبر مقارنة وصف كينز للعالم قبل عام 1914، بتجربة الكثير من الناس في عالم اليوم: فلقد قطعنا دورة كاملة. فرؤوس الاموال اليوم تتنقل من جديد في رحاب العالم بيسر كبير، ومديرو الارصدة (الصناديق) يشترون الاسهم ويبيعونها يسهولة نسبية، دون كبير عواقب، رغم بعض الشكاوى من قضايا التسوية في سري لانكا. وعاد الملايين من الأوروبيين الى اكتشاف مسرات السفر من دون جواز سفر، واستخدام عملة مشتركة، ويبدو السياح الاميركيون فرحين بركوب قطار اليوروستار من لندن الى باريس، بقدر فرح كينز بركوب القطارات في ايطاليا.
ان مثل هذه القراءة دقيقة تماما، ومتطابقة مع الاحساس الحالي بأن العولمة قوة لا مرد لها. مع ذلك فمن الجدير بالقول ان الفترة الفاصلة شهدت اندلاع حربين عالميتين، وانتشار الشيوعية، واستعار حرب باردة مطولة، والكساد الكبير، وفترات ركود كبرى عديدة، وحروبا تجارية وفيرة، وتأميم معظم الصناعات الكبرى في العالم، وما لا يحصى من الشواهد الوفيرة على ان تدويل العالم لم يستحوذ تماماً على سلوك الجمهور. يمكن بالطبع نبذ كل هذه الأمور باعتبارها شاذة، غير ان سبعين عاما من الشذوذ مقدار عظيم القيمة. كما ان هذا الشذوذ لم يكن من صنع مضللين جهلة. فخلال القرن العشرين برزت كثرة من أناس موهوبين فكريا لتنقلب مراراً على العولمة.
وما من أحد يجسد هذا الحال خيرا من كينز. فلقد كان نصيرا متقدا للتجارة الحرة قبل الحرب العالمية الأولى، ثم انقلب الى الحمائية أواخر العشرينات من القرن الماضي، ثم عاد ليعتنق العولمة، باحتراس، خلال الحرب العالمية الثانية، ولكن "الكنزية" (التي لم تتفق دوما مع تفكيره، إن أردنا ان نكون منصفين) بقيت حتى بعد موت كينز عام 1946 المنطق السائد في ارجاء العالم، إلا انها لم تكن تبدي الود دوما، ازاء العولمة.
سنحاول في ما تبقى من هذا الفصل، ان نسرد قصة العولمة من موشور حياة كينز نفسه. ولسوء الحظ لا يمكن لأكثر الكتاب عبقرية ان يجعلوا الانسان ـ أو نفوذ هذا الانسان بحق ـ يعيش أكثر مما فعل هو. ولهذا سنلتفت في القسم الأخير من هذا الفصل، الى ثلاثة مفكرين كان كينز يعرفهم خير معرفة، وهم: سيدني وبياتريس ويب، اللذان صبا عليه حمم النقد من جهة اليسار، وفريدريك آ. فون هايك الذي هاجمه (وانتصر عليه آخر المطاف) من جهة اليمين.
ان تركيزنا على رجال ونساء الفكر هؤلاء لا يرمي إلى اختزال التاريخ الى سلسلة حكايات عن الحياة الفكرية في صالونات لندن، فصعود وسقوط العولمة، كما سنرى، ينطوي على اشياء فعلية، مثل مغاسل الاعضاء التناسلية والجزم العسكرية، والترابانتس Trabants، والبديل المقزز الذي صنعته الهند محل الكوكا كولا. غير ان الافكار، كما نعتقد، ظلت حاسمة. والمثال الجلي في ذلك هو كارل ماركس الذي سعى الى احلال العولمة الشيوعية محل العولمة الرأسمالية (سنتناول ماركس بعمق في استخلاصاتنا). غير ان القامة العملاقة للماركسية لا ينبغي ان تلقي بظلالها على السجالات البارعة التي جرت بين المفكرين الذين التقوا في انجلترا خلال النصف الأول من القرن العشرين. فمن مفارقات القرن العشرين ان بريطانيا، رغم افولها التدريجي، مارست تأثيرا مفرطا في الفترات التي حددت العولمة. وينطوي هذا على درس وتحذير في آن. اما الدرس فهو اننا لسنا فريدين كما نتمنى ان نعتقد بذلك، فاغلب القضايا التي تحير عقولنا اليوم قد حيرت عقول اجيال سابقة. واما التحذير فهو ان العولمة ليست صيرورة ذات مسار واحد، فقد نكصنا عنها في الماضي، ويمكن ان نعود عنها القهقرى من جديد.
فلننتج السلع في دارنا
دعونا نقفز قدما في مسار حياة كينز وصولا الى محاضرة قدمها في الكلية الجامعة في دبلن، في ابريل (نيسان) 1933. كان كينز، وقتذاك، قد ترجم بشائر النبوغ في شبابه فحقق انجازا مذهلا. وكان مؤلفه "العواقب الاقتصادية للسلام"، الذي شجب معالجة الحلفاء لما أعقب الحرب العالمية الأولى، واحدا من الكتب النادرة التي صاغت تفكير جيل كامل. اما كتابه الآخر "أطروحة في النقود" 1936 فقد رسخ سمعة كينز بوصفه الممارس الابرز لهذا العلم الكئيب، علم الاقتصاد. واخذت الحكومات من شتى التلاوين تتطلع الى كينز طلبا للنصح. ومن دلائل مكانة كينز البارزة، انه لما جاء الى الكلية الجامعة لالقاء محاضرته، هرع للاستماع اليه كل سياسيي ايرلندا البارزين، بمن فيهم رئيس وزرائها الجديد ايمون دي فاليرا. (10)
كان دي فاليرا ومرؤوسوه خائفين مما سيقوله كينز، ان لم يكن لسبب فلأنهم قد بدأوا لتوهم شن حرب تجارية ضروس على بريطانيا العظمى. ولكن عوضا عن شجب جنون التعرفة الجمركية، راح كينز يلقي حممه على الايمان الفيكتوري بالتجارة الحرة. وارتأى، بقدر ما يتعلق به الأمر، ان المستقبل يكمن في الكفاية الذاتية للبلاد.
وعرض كينز اربع حجج. ركزت الأولى على ان منافع تقسيم العمل العالمي أخذت تتضاءل يوما بعد آخر: فكلما زاد اعتماد شتى البلدان على الانتاج الكبير، زادت معقولية حصر "المنتج والمستهلك في نطاق تنظيمات اقتصادية ومالية وطنية واحدة". أما الحجة الثانية فتقول ان التجارة الحرة، وبخاصة تلك المقترنة بحرية حركة التداخل ـ رأس المال ـ مرشحة على الأرجح لاستثارة حرب بدلا من حفظ السلام. وقال في عبارة طارت شهرتها في الحال: "انني اتعاطف... مع الذين يعظمون الى اقصى حد، لا مع الذين يعظمون الى اقصى حد، التداخل الاقتصادي بين الأمم".
وأضاف "ان الافكار والمعرفة والفن، وكرم الوفادة، والسفر، أمور عالمية بطبيعتها. ولكن لندع السلع تنتج في الدار حيثما كان ذلك ممكناً بصورة معقولة ومناسبة، وليكن التمويل قبل كل شيء، وطنياً بالأساس".
أما حجة كينز الثالثة فتقول ان من الضروري ان يتوفر كل بلد على أكبر قدر ممكن من التنوع والتجريب. وقال "يحبذ كل منا ان يجرب تدبير خلاصه... ولا نحب ان نكون تحت رحمة قوى تدبر، أو تحاول ان تدبر، نوعا من توازن متعادل حسب المبادئ المثالية لرأسمالية المنافسة الحرة". وبهذا القول بلغ قناعته الأخيرة ومفادها: ان نظام الحساب الاقتصادي السائد قد قلب "ممارسة الحياة بأكملها" الى "محاكاة هزلية لكابوس محاسب".
لقد كان هناك من يعتقد ان من المبرر تدمير الريف البريطاني وطرد سكان الريف من الأرض ابتغاء خفض سعر رغيف الخبر عُشر بنس. لكن كينز، الذي انقلب في منتصف العمر الى ما يشبه عمدة ريفي، لم يعبتر نفسه واحداً من هؤلاء.
لم يكن انقلاب كينز مباغتا كما بدا لبعض مستمعيه. فقد كان يتساءل، طوال أكثر من عقد، عما اذا كانت المجتمعات الديمقراطية قادرة على التكيف مع التغيرات الفجائية في دفق السلع ورؤوس الاموال، وعلى أي حال فإن خطابه سرعان ما تحول على غرار اغاني البوب، الى مجرد كلمة بعنوان "الكفاية الذاتية للبلاد". لكن الخطاب كان مثيرا لشدة ابتعاده عن الفرضيات الاساسية لأبطاله القدامى، ريكاردو وسميث وجيمس ميل. كيف يمكن بحق السماء، لرجل كان يعتبر ان قضية التجارة الحرة تبلغ من الرسوخ المكين مبلغاً يعد معه أي اعتراض عليها دليلاً على نوع من "الخلل الخلقي في العقل"، ان يتحول الى نصير لانتاج السلع محليا؟ (11)
يعكس فقدان كينز للايمان بالتجارة الحرة مجرى الأحداث، من نواح عدة. فالاقتصاد المتكامل لسنوات ما قبل الحرب لم يسقط دفعة واحدة، بل تهاوى على دفعات. وشهدت فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى قيام الحكومات باختراع طائفة من المسوغات البارعة لاقامة الحواجز الجمركية من كل شاكلة (12) فالقيود التي فرضت على الهجرة خلال فترة الحرب، بقيت سارية، بل اكتست احياناً طابعا عنصريا. كانت الصناعات الجديدة التي نمت خلال الحرب بحاجة الى الحماية من صدمات المنافسة، اما البلدان التي انبثقت من حطام الامبراطورية النمساوية ـ المجرية فقد كانت بحاجة الى ان تنعم بفرصة منصفة لكي تبدأ، بينما راح الصناعيون في البلدان الأكثر استقراراً (شأن صناعيي الفولاذ الاميركان عام 1999) يطالبون بالحماية من "الفارق في السلع الرخيصة"، أي ارتفاع صادرات البلدان ذات العملات التي تهاوت قيمتها.
بذل انصار التجارة الحرة محاولات شجاعة لقلب هذا المدّ الكارثي. وصدرت قرارات من سلسلة مؤتمرات عالمية عقدت في مدن مثل بروكسل وجنوه، تعارض فرض التعرفات الجمركية. اما في بريطانيا الملتزمة تقليديا بالمنافسة، فقد تمسك الحزب الليبرالي وحزب العمال بمبدأ التجارة الحرة، في حين ان المحافظين باعوا أرواحهم لتفضيل السلع الامبراطورية. مع ذلك اثبت المدّ الحمائي انه أقوى بما لا يقاس. ففي ايطاليا فرض بنيتو موسوليني التعريفة على القمح عام 1925 ـ بالتفخم المعروف عنه، اذ وصف ذلك بانه "معركة القمح" ـ وحذا الفرنسيون حذوهم في السنة التالية. وأضاف هذان البلدان في ما بعد، تعريفات جمركية على السيارات.
ووعد الرئيس الأميركي هيربرت هوفر، في حملته الانتخابية عام 1928، بزيادة التعريفة الجمركية لمساعدة المزارعين الذين يعانون الأمرين من هبوط الأسعار.
وفي يونيو (حزيران) 1937، اي بعد ثمانية اشهر من الانهيار المالي في وول ستريت، فرض قانون تعرفة سموت وهولي التعرفات الجمركية ليس فقط على المنتجات الزراعية، بل على طائفة كاملة من السلع الصناعية ايضا، مما استثار اجراءات ثأرية مقابلة في العالم كله. وتراجعت الدول التي شكلت اطراف المحور في الحرب العالمية الثانية، قدر ما تستطيع، مبتعدة عن الاقتصاد العالمي، واقتصرت احيانا على التجارة في ما بينها، ولكنها اتبعت سياسة الاكتفاء الذاتي. وقرع ناقوس موت النظام الاقتصادي القديم عام 1931، بتبني البريطانيين، اخيرا، للحمائية، ففرضوا تعرفة بنسبة 10في المائة على سائر السلع المستوردة من خارج الامبراطورية.
وكان كينز، يتأرجح خلال هذه الفترة كلها، ويمكن وصف موقفه الابتدائي بأنه موقف ليبرالي نفعي (براغماتي). فقد ساند التجارة الحرة من جانب، ولكنه رأى ان هناك حالات لا مناص فيها من التعرفة الجمركية، وخلال العشرينات خشي كينز من ان تكون التجارة الحرة غير موائمة لبريطانيا، بما فيها من سوق عمل جامد Rigid، وبطالة متنامية، والتزام رسمي بمعيار الدفع بالذهب. وأصر كينز في مقال صحافي نشره عام 1931، ونوقش كثيرا، أصر انه بمقدار ما تؤدي الحمائية الى احلال السلع المنتجة وطنيا محل السلع المستوردة من قبل، فإنها ستزيد فرص العمل في هذه البلاد (13). واسهمت الاحداث، بدورها، في تقويض ايمان كينز بالتجارة الحرة. فقد شهدت بريطانيا، ليس فترة كساد واحدة بل فترتان خلال سنوات ما بين الحربين: كساد 1920 ـ 1922، الذي أدى الى انهيار الاسعار والانتاج وفرص العمل على نطاق لم تشهده البلاد منذ حروب نابوليون، ثم الكساد الكبير خلال سنوات 1929 ـ 1932. بلغت البطالة قرابة 10 في المائة، اما الشيء الذي كان يعتبر نتاج هبوط دورة الاعمال بدا الآن وكأنه حقيقة ثابتة من حقائق الحياة.
بل ان فشل رأسمالية السوق الحرة بدا اكثر سطوعاً في اميركا. ففي السنوات التي سبقت الانهيار الكبير عام 1929، كان المداحون يتبجحون بأن اميركا اكتشفت سر النمو الدائم، ذلك ان ارتفاع اسهم البورصة كان مطردا بلا هوادة، اما تقدم البلاد في صناعات "الاقتصاد الجديد"، كالسيارات، فكان هائلاً بلا مراء. غير ان سوء معالجة المؤسسة للانهيار الكبير في وول ستريت هدد بتحويل النمو المستديم الى افقار دائم. وبحلول عام 1933 ـ وهي السنة التي تولى فيها فرانكلين روزفلت الرئاسة والقى فيها كينز محاضرته المذكورة ـ كان 13 مليون اميركي يبحثون عن عمل، بينما كانت المصارف تغلق ابوابها، في طول البلاد وعرضها(14).
من هذا المنظور، بدا لكينز ان من المنطق وجود حاجة الى تدخل الحكومة حيثما يفشل السوق، لضخ القنوات وخلق الطلب اللازم.
والحق، ان فكرة التدخل الحكومي هذه اصبحت الاساس الصلب ليس فقط لبرنامج "الصفقة الجديدة" الذي طرحه الرئيس روزفلت، بل وللفكر الكينزي نفسه ايضاً. واصبحت الحمائية، لا محالة، جزءاً من خلطة التدخل الحكومي، رغم ان كينز بقي يحتفظ بقدر من الليبرالية يكفي لاثارة قلقه منها.
وبدا خطابه في دبلن، حتى في هذه الظروف، ملتوياً. فهل يمكن للفن ولكرم الوفادة ان يظلا حقاً عالميين، بينما تغدو الصناعة والتمويل وطنية بالقوة؟ هل يتناقص كسب شتى البلدان، حقا، من التجارة الحرة حين تزداد اقتصاداتها تطوراً؟
لا ريب في ان كينز كان سيشعر بالتقزز لو ان كلية كينجز ابتاعت خمورها من كورنوول، وحثت اعضاءها على قضاء العطلة في ويلز.
والحق، ان الحواجز الجديدة التي احاطت بالاقتصادات الوطنية لم تفعل شيئاً غير ان تطيل أمد الركود العالمي وتزيده حدة، وتدفع التكامل الكوني الى الوراء. فبين 1890 و1913 تضاعفت التجارة العالمية بل زادت على الضعف، اما خلال سنوات ما بين الحربين فقد اصابها الركود، بل انها انحدرت فعلاً في بعض البلدان (15). فبين اعوام 1929 و1938، على سبيل المثال، هبط تناسب التجارة الخارجية الى الانتاج المحلي بنسبة 10 في المائة في بريطانيا، ونسبة 20 في المائة في كندا، و25 ـ 40 في المائة في اليابان والمانيا وايطاليا (16) اما خلال السنوات الست (بين 1927 و1933) فقد تدنى الاقراض العالمي بنسبة تزيد على 90 في المائة. اما الانخفاض في تدفق البشر فكان مدوياً بالمثل. ونلاحظ ان نحو 14 مليون شخص هاجر الى الولايات المتحدة من عام 1899 حتى عام 1914، في حين ان خمسة ملايين ونصف المليون لا غير هاجروا على مدى الخمس عشرة سنة اللاحقة، بسبب قيود الحد من الهجرة. اما في الثلاثينات فقد هبط عدد المهاجرين الى أقل من مليون.
وباختصار، فإن العالم الذي اثار اعجاب كينز الشديد في العقد الأول من هذا القرن، قد بلغ من الانحلال مبلغاً بحيث انه بدا لحظة اندلاع الحرب العالمية الثانية ان المهنة الكونية الوحيدة الباقية هي التقتيل. وكتب كينز في يونيو (حزيران) 1940، في جزع وقنوط "نستطيع ان نرى في ما يجري الساعة الدمار النهائي لليبرالية المتفائلة التي ارساها جون لوك... وها نحن الآن، لأول مرة منذ قرنين، نجد ان رسالة هوبز تخاطب حالنا أكثر من لوك".
غير أن الحرب، باسلوبها المروع، مقرونة بالمآسي الاقتصادية للثلاثينات من القرن العشرين، ارغمت زعماء العالم، بمن فيهم كينز، على اعادة النظر. صحيح ان قضية العولمة لم تثبت صوابها بما لا يقبل الشك، لكن قضية الاكتفاء الذاتي انهارت اصلاً. فقد بدأ السياسيون والمفكرون، حتى قبل انتهاء الحرب، يلهجون بفكرة العودة الى تكامل الاقتصاد العالمي. فهل ثمة مخرج من السياسات الاقتصادية لفترة الثلاثينات القائمة على شعار "إفقر جارك"؟ وهل يمكن ارساء النظام المصرفي العالمي على اسس سليمة؟ وكيف ينبغي اعادة بناء أوروبا؟ التمس الكل النصح، وكان كينز أول من يطلب منه النصح.
المفضلات