اسعار النفط (4)
الى متى الاعتماد على النفط
المصدر : د. وليد عرب هاشم
من الواضح ان الاقتصاد السعودي يعتمد اعتمادا كبيرا على انتاج النفط وتصديره, ومن الواضح ان اي انتعاش في الاسواق النفطية العالمية سوف ينعكس وبسرعة على الاقتصاد السعودي, والعكس صحيح فعندما تدهورت أسعار النفط في النصف الثاني من الثمانينات وتقلص فوق ذلك الطلب على النفط السعودي بحيث انخفض انتاجنا من هذه السلعة, وانخفضت اسعارها آنذاك, واجهنا عجزا شديدا في الموازنة, واضطرت الدولة الى تخفيض انفاقها بحوالى النصف, ومع ذلك لم تكن الايرادات كافية لتغطية هذا الانفاق - وبالرغم من تخفيضه - وبدأت الدولة تقترض لتغطي مصاريفها واستمر هذا الاقتراض الى ان وصل الدين الحكومي الى ما هو عليه من مئات المليارات (رقم الدين الحكومي يتغير دوما حسب ايرادات ومصروفات الدولة, ولكن لا أتوقع انه الان اقل من 500 مليار ريال).
وعندما بدأت أسعار النفط في التحسن خلال العامين الماضيين, وارتفع الطلب على النفط السعودي انعكس ذلك على انتعاش عام في اقتصادنا, ولسمنا آثاره سواء في زيادة الانتاج القومي, او بصفة مباشرة لمسناه في ارتفاع اسعار الاسهم السعودية, وفي ارتفاع العقارات والمشاريع التي تم طرحها أمامنا.
وبالطبع هناك من ينتقد اعتمادنا على النفط حيث انه بعد اكثر من 50 عاما على اكتشاف النفط يظل هذا الاعتماد الكبير بحيث لانستطيع ان نعزل اقتصادنا وايراداتنا عن اي ارتفاع او انخفاض في قطاع النفط, وتظل تلعب هذه السلعة الحيوية دورا كبيرا وهاما في اقتصادنا وفي حياتنا, فلماذا لم يتم تنويع هذا الاقتصاد بحيث تكون هناك مصادر اخرى مختلفة عن انتاج النفط وتعطينا ايرادات تعوضنا ولو بشكل قليل عن اي انخفاض في ايرادات النفط, وقد يرى البعض ان الاقتصاد السعودي لايزال بعد 50 عاما من اكتشاف وتصدير النفط, وبعد الحصول على آلاف المليارات من الدولارات (أو ما يسمى بالترليونات) لازال يصدر النفط كأي اقتصاد جديد, ويعتمد عليه اعتمادا كليا.ولكي نحلل هذا الوضع دعونا نبدأ ببعض الاساسيات:
فأولا لاتوجد هناك اي مشكلة في ان يلعب النفط دورا كبيرا وأساسيا في اقتصادنا, أو ان تشكل ايرادات النفط جزءا هاما من ايرادات الدولة وتمول جزءا كبيرا من مصروفاتها, هذه ليست مشكلة بل هي نعمة, فالله سبحانه وتعالى قد انعم علينا بمورد النفط, كما أنعم على الاقتصاد الماليزي في أول تاريخه بمورد (المطاط), وانعم على الاقتصاد المصري بنهر النيل العظيم, وأنعم على الاقتصاد الأمريكي باكتشاف الذهب في ولاية كاليفورنيا, مما ادى لنمو وتنمية كل المنطقة.وهذه أمثلة بسيطة لنعم لاتعد ولا تحصى في جميع الدول, ولاشك ان وجود الثروة الهائلة من النفط لدينا - حيث أننا نمتلك ربع احتياطي العالم من هذه السلعة الحيوية - لاشك ان هذه نعمة كبيرة وليست مشكلة, بل إني اتوقع اننا محسودون على هذه النعمة التي يتمناها الكثير.وبالتالي كون أنه لدينا ثروة ضخمة من النفط مما يجعله يلعب دورا اساسيا في تمويل ايراداتنا ومصروفاتنا, هذا بحد ذاته شيء طبيعي, بل شيء جيد نحمد الله عليه وندعو الله ان يستمر النفط في لعب دور هام او دور اساسي في تمويل ايرادات ومصروفات الاقتصاد السعودي.
بالتالي المشكلة لاتكمن في كون ان لدينا ايرادات كبيرة من النفط (والحمدلله) فهذه نعمة وارجو من الله أن تستمر, ولكن المشكلة تكمن في أنه بعد 50 عاما من هذه الايرادات فإننا لازلنا نستخرج النفط ونصدره في شكله الخام الى حد كبير, ونعتمد اعتمادا كبيرا عليه.
بعد اكثر من 50 عاما من استخراج النفط, فاننا نظل الى حد كبير نعتمد على ايراداته, ونستخرجه ونصدره في شكل خام بحيث يصبح دورنا هوفقط نقل هذا المورد - الذي انعم الله علينا به - من جوف الارض الى جوف البواخر التي تنقله الى اسواق العالم, ولازال اقتصادنا الى حد كبير يعتمد على ايراد بيع هذه السلعة, فإذا ارتفعت ايرادات مبيعاتها انتعش اقتصادنا, وإن انخفض هذا الإيراد, انخفض اقتصادنا.
فلماذا لم يتم استخدام ايرادات هذه السلعة لتنويع ايراداتنا, او لتكوين احتياطي يمكن ان يعتمد عليه في حالة انخفاض ايرادات النفط?
فما الذي يحدث للاقتصاد السعودي لو تم اكتشاف بديل للنفط, وبدأ ينتشر بسرعة ويستخدم بدلا من النفط?
هل نعود مرة اخرى الى سلسلة العجوزات في الايرادات والمصروفات والى الاستدانة من جديد ونحن نعلم ان هناك حدا لما يمكن ان تستدينه كل دولة?
وهنا نواجه عدة خيارات, ومنها تكوين ما يسمى بصندوق الاستثمار فبالإمكان ان نقوم بتوفير نسبة معينة من ايرادات النفط سنويا واستثمارها في صندوق, ونضيف لها كل سنة الى ان يصبح هذا الصندوق هو بحد ذاته موردا لنا, وهذا الخيار قامت به الى حد كبير دولة الكويت, حيث لديهم صندوق استثماري يتم تغذيته من ايرادات النفط, ويقوم باستثمار ما لديه في الاقتصاد العالمي على اساس ان يكون هناك مورد للدولة بديلا عن النفط, او ان يكون صندوق لاجيال المستقبل بعد نفاد النفط, وبالطبع لو تم استثمار فقط 10% من ايرادات النفط سنويا في هذا الصندوق, فإنه خلال 10 سنوات سيصبح حجم الصندوق موازيا لايرادات النفط في تلك السنة, وهذا بدون حساب اي عائد لهذا الصندوق - والمفروض ان يكون هناك عائد - بالتالي بالامكان ان ينمو هذا الصندوق ليدر ايرادات قد توازي ايرادات النفط, أو على الاقل تساعد بحجم كبير لو انخفضت هذه الايرادات.
هذا الخيار بسيط, وهو لايختلف عن خيار أي فرد منا في توفير جزء من دخله واستثماره ليكون لديه ايراد عند التقاعد او عند اي طارئ, ولكن هذا الخيار يفرض التزاما - سواء كان ذلك على الفرد, أو على الدولة - بأنه يجب ادخار جزء من الايرادات, فالشخص الذي يصرف كل ايراداته فإنه سيجد نفسه عند التقاعد بدون اي استثمار يعتمد عليه, ناهيك ان يكون استثمارا ضخما الى درجة يعطيه عائدا يعوض به ولو جزءا من دخله الذي كان يحصل عليه أبان عمله, وبالتالي لابد ان يكون هناك إلتزام بتحديد نسبة معينة من الدخل او الايرادات سنويا بتغذية صندوق الاستثمار, وألا يتم المساس بهذه النسبة, أو بالادخارات التي تكونت في صندوق الاستثمار الى حين ان تنمو الى درجة تستطيع ان تعطينا عوائد تساهم في دخل الدولة, او تعوض اي انخفاض قد يحصل من ايرادات النفط.
وصندوق الاستثمار هذا يختلف عن الاحتياطيات العادية التي تحتفظ بها الدول, فعادة هناك احتياطيات في البنوك المركزية لتغطية عملات الدول او لتمويل واردات الدول من السلع الاجنبية, وتختلف هذه الاحتياطات من دولة لاخرى, ولكن بصفة عامة هناك دول مشهورة بإكتنازها باحتياطيات ضخمة مثل اليابان او تايوان والتي تحتفظ بمئات المليارات من الدولارات في شكل عملات صعبة او مخزون من الذهب أو خلافه.
أما صناديق الاستثمار فهي مخصصة للاستثمار, كمل يدل على ذلك اسمها, وهدفها ان تحصل على عائد مجزٍ, وبالتالي فإنه يتم الادخار فيها ليس بغرض وضعها كاحتياطي لتمويل الواردات او للدفاع عن عملة البلد وإنما يتم الادخار فيها بغرض الاستثمار في اصول مختلفة حول العالم, وبهدف ان يكون هناك على المدى الطويل عوائد من هذا الاستثمار, وهذا هو احد الخيارات البسيطة لتنويع مصادر ايراداتنا والابتعاد عن الاعتماد على النفط, ولكنه يتطلب - ليس فقط ألا يكون هناك عجز في ميزانيات الدولة - ولكن يتطلب أن يكون هناك فائض ليتم استثماره, وأن يستمر هذا الاستثمار سنويا, فهذا الصندوق يتم بناؤه على عشرات السنوات, وبالتالي يتطلب التزاما شديدا ولسنوات طويلة قبل ان يعطي العائد المستهدف, ولكن في النهاية فإنه يسمح بتقليل الاعتماد على ايرادات الدولة من النفط ويعطينا بديلا آخر - وهذا خيار - وهناك خيارات أخرى.
صحيح ان النفط يلعب دورا اساسيا وهاما في الاقتصاد السعودي, ويشكل جزءا كبيرا من ايرادات الدولة, وهذا شيء طبيعي ونعتبره نعمة انعمها الله علينا ونحمده عليها, ولكن ليس صحيحا انه يجب علينا ان نعتمد على النفط ونظل تابعين لاي تحركات في الاسواق العالمية بحيث يتجه اقتصادنا الى الاعلى او الاسفل حيثما اتجهت اسواق النفط العالمية.
ولكسر سلسلة التبعية هذه لدينا عدة خيارات ومنها ان نؤسس صندوقا استثماريا ونوجه اليه جزءا من ايرادات النفط سنويا, ونستثمر هذا الصندوق في عدة استثمارات دولية بحيث لا يكون لها علاقة قوية بما يحدث في اسواق النفط العالمية, وتدريجيا عبر السنوات نتوقع ان يكبر حجم هذا الصندوق وتزداد ايراداته الى ان يصل الى مرحلة يكون فيها هو ذاته مصدر دخل بديل عن النفط.
وصحيح ان هذا الخيار يحتاج الى التزام ومتابعة طويلة المدى ولن يعطي ثماره المرجوة الا بعد عشرات السنوات الا انه خيار متاح لايجاد بديل عن ايرادات النفط, ولو كنا بدأنا فيه عندما تم اكتشاف هذه الثروة قبل اكثر من خمسين عاما لربما كان قد وصل الآن الى حجم يسمح له بأن يكون بديلا فعليا عن النفط.
وبما ان كلمة (لو) تفتح بابا من ابواب الشيطان فدعونا نبحث عن خيارات اخرى, وربما وجدنا انها خيارات افضل من تأسيس مثل هذا الصندوق الاستثماري, لأن هذا الصندوق كما ذكرنا اولا يتطلب التزاما على مدار سنوات طويلة قبل ان يعطي ثماره, وثانيا فإن مثل هذا الصندوق الاستثماري لا يساهم بتاتا في تنمية الاقتصاد الوطني, فهو موجه اساسا للاستثمار في الاسواق الدولية ومن الافضل ان يتم استثمار امواله في استثمارات ليس لها علاقة قوية بالنفط, وبالتالي تكون بعيدة عن التذبذبات في هذه الاسواق وتصبح فعلا بديلة عنها.
اما الخيارات الاخرى فمنها ان يتم الاستثمار في داخل الاقتصاد الوطني, وذلك لتطوير صناعات او انشطة اقتصادية بديلة عن النفط, ولكن ليست بالضرورة مستقلة عنه, بالعكس فإنه من البديهي ان نبدأ صناعات بما هو ملائم لمواردنا الطبيعية, وبالتحديد ان نبني صناعات على النفط.
فهنا عندنا خيارات متعددة منها ان نركز على صناعات جديدة ليس لها علاقة بالنفط, ومنها ان نركز على الصناعات التي تعتمد على النفط, ومنها ان نركز على الصناعات التي توفر لنا بعض السلع التي نستوردها.. وهذه خيارات مختلفة وكل واحد منها له مزايا كما ان لكل منها نقاط ضعف, وسوف نتناولها لاحقا, ولكن لا يفوتني ان اشير الى خيار أخير وهو التركيز على اهم ثروة لدينا -وهي ليست ثروة النفط- وانما هي ثروة البشر, فلو كنا اخذنا طفلا حديث الولادة منذ خمسين عاما ودربناه وعلمناه كل علوم وفنون صناعة النفط, هل يا ترى كنا الآن في حاجة الى خبراء غير سعوديين, سواء كان هذا في مجال النفط او في اي مجال آخر? ولكن كما ذكرت فإن كلمة لو تفتح بابا من ابواب الشيطان.
هناك كثير من الدول بدأت بدون اي موارد طبيعية تذكر, ومع الوقت اصبحت من اهم الدول الصناعية واصبحت من اغنى الدول واكثرها دخلا, ويمكن ان نضرب امثلة عديدة على ذلك مثل كوريا الجنوبية واليابان وتايوان وسنغافوره, وهناك دول كان لها موارد طبيعية جيدة ولكن مع الوقت ابتعد العالم عنها ووجدت نفسها مضطرة لايجاد بديل لتعوض به ايراداتها التي كانت تحصل عليها من تصدير مواردها الطبيعية ومع الوقت نجحت في ذلك واصبح لديها اقتصاد قوي لا يعتمد على تصدير مواردها الطبيعية, ونضرب مثالا على ذلك بماليزيا التي كانت تعتمد على تصدير المطاط الطبيعي الى ان تم اختراع وتطوير المطاط الصناعي, بالتالي ليس من الصعب على اقتصاد غني بموارده الطبيعية كالاقتصاد السعودي ان يبحث عن بدائل ويستثمر فيها بحيث تنمو هذه البدائل مع الوقت لتصبح بحد ذاتها مصادر هامة لايرادات الدولة والاقتصاد, بل انه من المهم جدا ان تكون هذه استراتيجية اساسية في الاقتصاد السعودي, فالنفط هو مورد طبيعي محدود, وسوف ينضب عاجلا ام آجلا بالرغم من مئات المليارات من البراميل التي لدينا في داخل جوف ارضنا والحمدلله, هذا خلاف ان النفط يستخدم اساسا كمصدر للطاقة, ونحن نعلم ان كثيرا من الدول الصناعية-ان لم تكن كلها- تبحث بجد واستمرار عن مصادر بديلة للطاقة, وإن نجحوا في ايجاد مثل هذه البدائل فإن اسعار النفط قد تنهار ونعود مرة اخرى الى سلسلة من العجز في ميزانياتنا ويتراجع اقتصادنا.
لذا فإنه من المهم -ان لم نقل من الضروري- ان يتم البحث عن مصادر اخرى للايرادات وتنميتها والاستثمار فيها, وتستغل ايرادات النفط لتأسيس قاعدة اقتصادية مختلفة نعتمد عليها بعد الله سبحانه وتعالى سواء نضب النفط ام استمر. وهذه الاستراتيجيات واهميتها لم تغب عن الاقتصاد السعودي, حيث بدأت الدولة -ومنذ عشرات السنوات- في توجيه المليارات للاستثمار في انشطة مختلفة, وبدأت البحث عن بدائل, كما بدأت في تكوين بدائل, فعلى سبيل المثال كان هناك مسح للموارد الطبيعية للاراضي السعودية لتحديد ما اذا كان هناك موارد اخرى كالمعادن مثل الذهب وخلافه, والتي يمكن ان تحل بديلا عن النفط, كما كان هناك الاستثمار الضخم في ا لمدن الصناعية مثل مدينتي ينبع والجبيل كما كانت هناك الصناديق الاستثمارية والعقارية لدعم القطاع الخاص, وكانت هناك الاستثمارات في القطاع الزراعي.
هذه الاستثمارات الضخمة وغيرها جميعها تدل على قناعة الدولة بأهمية الانشطة الاقتصادية المختلفة سواء كانت انشطة صناعية او زراعية ليكون هناك بديل عن ايرادات النفط, ولكن نحتاج بعد مرور سنوات كثيرة على هذه الاستثمارات ان نقوم بتقييمها وان نضع معايير لهذه الاستثمارات بحيث ندعم الاستثمارات التي اثبتت جدواها او كان هناك دليل على جدواها, ونبتعد عن الاستثمارات الاخرى .
فعلى سبيل المثال لا اعتقد ان هناك خلافا على اهمية الاستثمارات في مجال الصناعات البتروكيماوية, فنحن نمتلك اكبر مخزون من النفط الخام في العالم, وبدلا ان نصدره مقابل 20 او 30 دولارا لبرميل النفط الخام, يمكننا ان نحوله لمنتجات مختلفة بحيث نحصل على اكثر من مائة دولار من نفس البرميل بعدما نقوم بتحويله وتظل هذه المائة دولار داخل اقتصادنا, ولذلك قامت الدولة بإنشاء مدينتي ينبع والجبيل العملاقتين, فهذه خطوة لا اعتقد ان هناك خلافا في جدواها, فهي تستغل مواردنا الطبيعية وتقوم بتحويل المنتج الخام الى سلع مختلفة تدر علينا ايرادات مضاعفة وتستخدم فيها الايدي العاملة السعودية, بحيث يزيد الدخل القومي وفي نفس الوقت يتدرب هؤلاء الشباب على تقنية متقدمة ويكتسبون مهارات وخبرة على مر السنوات.
وللحديث بقية....
وللحديث بقية,,,