ghenaim
09-12-2009, Wed 6:58 PM
العدد 2163 | 9 شوال 1429 هـ
إعداد: محمد الأنصاري
حول المنظور الشرعي للتأمين ألقى معالي الشيخ عبدالله بن سليمان المنيع محاضرة بعنوان "التأمين بين الإباحة والحظر" وذلك في الغرفة التجارية بالرياض مؤخراً، مهد لها بالكلام عن قيمة المال في نظر الإسلام والعناية بحفظه وسلامته وكيفية كسبه وتحصيله وهل هو غاية أم وسيلة، كما تطرق إلى مسألة تكدس الثروات في أيدي الملاك ثم عَرّف معالي الشيخ عبدالله المنيع التأمين لغة واصطلاحاً وأشار إلى المؤتمرات والندوات والمجالس العلمية التي عقدت لبحثه ثم تناول جانب التأمين التعاوني ومستند القول بجوازه لدى القائلين به وأكد على أن ما يقال في التأمين التجاري من أوصاف تقتضي القول بحرمته يلزم أن يقال ذلك في التأمين التعاوني.
وذهب الشيخ المنيع إلى أن التأمين التعاوني والتأمين التجاري كلاهما يتفقان في جميع الخصائص وأن الحواجز بينهما حواجز وهمية والتمييز بين النوعين خرافة تنم عن عدم إدراك حقيقة التأمين وواقعه.
وفي البداية قال معاليه: إن التأمين على الأموال والمنافع وغيرها وسيلة من وسائل حفظ المال ورعايته والتعويض عنه في حال تلفه أو ضياعه. والحديث عن التأمين من هذا المنطلق والتصور يقتضي التمهيد له بما يعطي العلم عن مفهوم الإسلام للمال ونظرته إليه من حيث قيمته، والحفاظ عليه وتحصيله وإنفاقه. وهل هو وسيلة أم غاية؟
ومن حيث توجيه الإسلام إلى الأخذ بأسباب إثباته والضمانات الكافية لأدائه وتنظيم الإجراءات لمنع وجوده وتكاثره في أيدي قلة من الناس وذلك بسن التشريعات الإلهية لتوزيع الثروات بين مستحقيها ولينتفع بالمال مجموعة من المحتاجين إليه من المسلمين، وقد مهّد فضيلة الشيخ المنيع للحديث عن ذلك بذكر المسائل الآتية:
1 - قيمة المال في نظر الإسلام
قال فضيلته: ينظر الإسلام إلى المال نظرة تقدير واحترام وأنه من الأمور التي تعين الإنسان على تحقيق حكمة خلقه ووجوده في هذه الحياة فالمال قيام الحياة الدنيا وزينتها قال تعالى: {وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً } (5) سورة النساء. وقال تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } (46) سورة الكهف وقال صلى الله عليه وسلم: "نعم المال الصالح للعبد الصالح" وقال صلى الله عليه وسلم: "لا حسد إلا في اثنتين - ومن الثنتين - رجل أتاه الله مالاً فسلطه على هلكته"
2 - العناية بالمال وحفظه
وأكد الشيخ المنيع على أن الإسلام يدعو إلى العناية بالمال وحفظه وعدم تمكين السفهاء من وجوده في أيديهم. وإذا كانوا مالكين له فيجب أن يكون المال تحت يد أمينة تحفظه لهم وتقوم باستثماره وتنميته وإخراج الحقوق الواجبة فيه منه. وإذا كان المال قد تعلق بذمم فيجب بذل الأسباب لإثباته بالكتابة والشهادة وأخذ الضمانات الكافية لأدائه من رهن وكفيل ونحو ذلك، وفي حال إنفاقه فيجب أن يكون ذلك في وجوهه الشرعية من غير تقتير ولا إسراف. قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} (67) سورة الفرقان وقد أنحى الإسلام باللائمة على المسرفين في الإنفاق، فقال تعالى: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ } (27) سورة الإسراء وقال تعالى: {وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (31) سورة الأعراف. وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال.
وقد جاءت الرخص الشرعية في ترك صلاة الجمعة والجماعة في المسجد لمن يخشى على ماله الضياع أو السرقة وذكر صلى الله عليه وسلم أن من قاتل دون ماله فقتل فهو شهيد وأن دم من قتله دون ماله هدر.
3 - نظرة الإسلام نحو كسب المال وتحصيله
وأشار الشيخ إلى أن الإسلام يعترف للمال بقيمته وأهميته في سبيل أداء حكمة الوجود في هذه الحياة يقول صلى الله عليه وسلم: "نعم المال الصالح للعبد الصالح" فهو يدعو إلى السعي في تحصيله.
قال الله تعالى{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ } (10) سورة الجمعةويقول تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ } (15) سورة الملك. ويقول تعالى: { وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ } (20) سورة المزمل. وقال: النصوص من كتاب الله تعالى ومن سنّة رسوله صلى الله عليه وسلم في الترغيب في اكتساب المال أكثر من أن تحصر، إلا أنه يضع الضوابط والقيود في ابتغاء المال وتحصيله. فيجب أن يكون الحصول عليه خاليا من التعدي والبغي وأخذ أموال الناس بالباطل كان يكون تحصيله عن طريق الربا أو القمار أو الغرر أو الجهالة أو أن يكون تحصيله عن طريق المتاجرة بتأليف أو نشر أو تسويق كتب الضلال والزندقة والبدع والمحدثات مما له أثر في إفساد الاعتقاد والأخلاق، أو أن يكون عن طريق المتاجرة بالأسلحة في أوقات الفتن والاضطرابات السياسية مما له أثر في تعريض النفوس للهلاك، أو أن تكون المتاجرة بما يعود على العقول بالخلل والاضطرابات النفسية كالمتاجرة بالمخدرات والمسكرات ومشتقاتها وأنواعها وأجناسها. أو أن تكون المتاجرة بما يتعبر أكلاً لأموال الناس بالباطل من ربا ورهان وغرر وجهالة وغير ذلك، أو أن تكون المتاجرة فيما يعود بالضرر والفحشاء على الأعراض والنسل كالنشاطات الاقتصادية في المتاجرة بالأعراض مباشرة بفتح دور البغاء وملاهي الليل، أو غير مباشرة كتأليف ونشر كتب الجنس ومجلاته وإيجاد قنوات فضائية لترويج العهور والفجور ونشر الصور العارية وتمثيل الجنس أو أي نشاط يأتي على الحشمة والكرامة أو العفة أو يؤثر فيها. أو أن يكون اكتساب المال عن طريق الغش أو التدليس أو الخيانة أو التعدي عليه بسرقته أو غصبه أو انتزاعه بغير حق.
فكل مال تم تحصيله من طريق غير مشروع فهو سحت وباطل ونار في بطون مكتسبيه. وهكذا فإن اكتساب المال مشروع ومرغوب في تحصيله إلا أنه يجب أن يكون اكتسابه خالياً من أي طريق تعسفي في اكتسابه.
4 - نظرة الإسلام إلى المال .. هل هو غاية أم وسيلة؟
وعن نظرة الإسلام إلى المال قال الشيخ المنيع: الواقع أن الإسلام ينظر إلى المال باعتباره وسيلة إلى تحقيق مرضاة الله بعبادته وتعظيمه وصرف المال في سبيل ذلك. حيث إن بعض العبادات مالية محضة كالزكاة والصدقات والنفقات والصلاة والوقوف. وبعضها بدنية إلا أن المال عنصر أدائي في القيام بها كالحج والعمرة والجهاد في سبيل الله، ومما يؤكد ذلك أن مالك المال بعد وفاته تفنى ذمته التي كانت في حياته أهلا للإلزام والالتزام. ويفنى بفناء ذمته حقه في التملك، حيث تنتقل ملكيته إلى الورثة وإلى من أوصى لهم مما لا يتعارض مع مشروعية الوصية - لا وصية لوارث - ولا وصية فيما زاد عن الثلث. فقد انتفت بوفاة مالك المال حاجته إليه فزال ملكه عنه وانتقل إلى غيره. فالمال في نظر الإسلام وسيلة لا غاية وهو مال الله، قال تعالى: { وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ } (33) سورة النــور
5 - نظرة الإسلام إلى تكدس الثرواث في أيدي الملاك
وأضاف الشيخ: إن نظرة الإسلام إلى المال باعتباره وسيلة تقتضي تفتيت الثروات وتوزيعها بين أكبر عدد مستحق لها كي لا يكون دولة بين الأغنياء من المسلمين، وقد اتخذ الإسلام مجموعة من التشريعات في سبيل توزيع الثروات، من ذلك الزكاة والصدقات والصلات والنفقات والوقوف والحض على الإهداء - تهادوا تحابوا - والعطايا والإنفاق في سبيل الله والصدقات الجارية والوصايا ثم بعد الممات توزيع الباقي من الأموال على الورثة كل حسب حصته واستحقاقه. وهذا يؤكد القول إن الإسلام ينظر إلى المال بصفته وسيلة لا غاية وإنه ضد تكدس الأموال في أيدي قلة من الناس وضد أي تنظيم يؤدي إلى ذلك.
6 - عناية الإسلام بحفظ المال عن طريق وسائل الإثبات
وذكر الشيخ عبدالله المنيع أنه لا يخفى أن الإسلام دين العقل والنصف والحق والعدل ورعاية الحقوق. وقد رتب العقوبات المناسبة على الخروج على هذه الثوابت والأصول. والمال حق أساسي في التمليك، فللإسلام في سبيل حمايته وإثباته والمحافظة عليه الكثير من الوسائل المحققة لحفظه ومنها:
1 - الاعتراف بالحق والاقرار به وإثبات ذلك بالكتابة.
2 - الإشهاد على الحق ممن هم أهل للشهادة وأدائها.
3 - الرهن للحق، حيث إنه توثقة دين بعين. للمرتهن الحق في بيع الرهن لاستيفاء دينه من ثمنه.
4 - الضمان بأي وسيلة من وسائل الضمان كالكفيل والضامن وخطابات الضمان والاعتمادات المستندية.
5 - حفظ المال في الخزائن الحديدية أو الإيداعات البنكية أو الحسابات الجارية مما يتيح لصاحبه السحب والإيداع والاعتماد على ذلك بالإشعارات الممثلة لوثائق حفظ وائتمان.
6 - استخدام وسائل المحافظة على المال في حال التنقل.
مثل الشيكات بمختلف أنواعها ومن ذلك الشيكات السياحية، والبطاقات الائتمانية وبطاقات الصرف والتحويلات المصرفية وكل وسيلة من وسائل الحفظ والإثبات والائتمان مما تتتابع اختراعاته ومستجداته.
7 - التأمين على الأموال والمنافع بما يتوافر معه وعن طريقه الأمن والأمان وتتحقق بواسطته السلامة من ضياع المال أو تلفه حيث يقوم التعويض مقامه في حال تلفه أو ضياعه.
ونظراً إلى أن موضوع المحاضرة إحدى وسائل حفظ المال والاطمئنان على انتفاء خسارته وهو التأمين فقد آن لنا الدخول في الموضوع مستعينين بالله على تقديمه والوصول في ختام البحث إلى نتيجة تتفق مع أصول الشريعة وقواعدها العامة. والله ولي ذلك والمستعان عليه.
التأمين لغة واصطلاحاً
وعرّف الشيخ المنيع التأمين في اللغة وقال: إن الكلمة تأتي من مادة أمن يأمن أمنا إذا وثق وركن إليه وأمنه تأمينا إذا جعله في الأمن فكان بذلك آمنا وفي المنجد: يقال أمّن على ماله عند فلان تأمينا، أي جعله في ضمانه. وأما في الاصطلاح فقد اختلفت تعريفاته لدى الباحثين إلا أن الاختلاف في الغالب اختلاف لفظي، ولعل أقرب تعريف إلى الجمع والمنع والشمول هو: أنه تعاقد بين طرفين هما المؤمن والمؤمن له يلتزم المؤمن بمقتضاه أن يؤدي للمؤمن له أو من يعينه مستفيدا مبلغا من المال أو إيرادا دوريا أو تعويضا عن ضرر إثر حادث مغطى ضرره في العقد وذلك نظير قسط مالي يؤديه المؤمن له للمؤمن بصفة دورية أو دفعة واحدة.
وقال: إن التأمين من المسائل المستجدة حيث لم يكن لفقهائنا السابقين ذكر له لعدم وجوده في عصورهم. ويذكر أن أول من ذكره من الفقهاء ابن عابدين، رحمه الله، وذلك حينما اتسعت التجارة بين الشرق والغرب واضطر التجار إلى التأمين على نقل بضائعهم عبر البحر فسئل عنه، رحمه الله، فأجاب بجواب خلاصته الكراهة.
ويظهر - والله أعلم -أن الفتوى منه بالكراهة لم تكن مبنية على تأصيل وتعليل بقدر ما كانت مبنية على الانطباع العام والمفاجأة بعرضه.
مؤتمرات وندوات
واستطرد الشيخ قائلاً: إنه بعد تطور التجارة واتساعها وظهور مستجدات في محيط اتساع نشاطها ظهر التأمين نازلة من نوازل العصر واتجه الاضطرار إلى بحثه من حيث تصوره وحكمه تحليلا أو تحريما فعقدت لبحثه مجموعة من المؤتمرات والندوات والمجالس العلمية وكان من أهم ذلك:
1 ـ أسبوع شيخ الإسلام ابن تيمية المنعقد في دمشق سنة 1362هـ وحضره مجموعة من فقهاء العصر وعلمائه وقدمت فيه البحوث وكان من أبرز المشاركين فيه الشيخ مصطفى الزرقاء ـ رحمه الله ـ القائل بإباحته مطلقا. وقد انتهى المؤتمر باختلاف المشاركين ما بين مبيح مطلقا ومحرم مطلقا، ومنهم من فصل في ذلك فأباح التأمين على الأموال ومنع التأمين على الحياة.
2 ـ أعيد بحث الموضوع في مجمع البحوث الإسلامية في القاهرة سنة 1365هـ واختلف المشاركون فيه في حكم جوازه أو منعه، وقد عرض في هذا المجمع مجموعة من البحوث ما بين مجيز ومحرم، وقام الشيخ فرج السنهوري الأمين العام للمجمع بجمعها، وقد كادت الآراء المختلفة فيه تتساوى من حيث القول بجوازه والقول بتحريمه.
3 ـ صدرت مجموعة بحوث وفتاوى من فقيه العصر الشيخ مصطفى الزرقاء ـ رحمه الله ـ جمعها في مجموعة كتب انتهى بها إلى القول بجوازه، وأول فتوى منه بذلك كانت قبل 60 عاما فيما نعلم قدمها في أسبوع شيخ الإسلام ابن تيمية المنعقد في دمشق سنة 1362هـ.
4 ـ صدرت فتوى من شيخ الأزهر جاد الحق سنة 1390هـ بتحريم التأمين التجاري لما فيه من الربا والغرر والقمار.
5 ـ عرض موضوع التأمين على مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة سنة 1397هـ وصدر به قرار المجلس بتقسيم التأمين إلى تأمين تعاوني مباح وتأمين تجاري محرم، وذكر في القرار تعليل القول بإباحة التعاوني وتعليل القول بتحريم التجاري.
6 ـ صدر قرار المؤتمر العالمي المنعقد في مكة المكرمة سنة 1386هـ بتحريم التأمين التجاري.
7 ـ صدر قرار مجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي سنة 1397هـ انتهج فيه المسلك الذي أخذ به مجلس هيئة كبار العلماء بإباحة التعاوني وتحريم التجاري.
8 ـ صدر قرار مجمع الفقه الدولي في جدة سنة 1406هـ بمثل ما صدر به قرار مجلس هيئة كبار العلماء ومجمع الفقه الإسلامي في رابطة العالم الإسلامي.
9 ـ صدرت مجموعة من الفتاوى والقرارات من هيئات الرقابة الشرعية والفتوى لمجموعة من المؤسسات المالية الإسلامية وصدرت بحوث من بعض فقهاء العصر بانتهاج المسلك الذي أخذ به مجلس هيئة كبار العلماء وأخذ به المجمعان ـ المجمع الدولي ومجمع الرابطة ـ بتقسيم التأمين إلى تعاوني مباح وتجاري محرم.
10 ـ صدر قرار الهيئة الشرعية لشركة الراجحي المصرفية للاستثمار سنة 1411هـ بجواز التأمين مطلقا ـ التأمين التعاوني والتأمين التجاري.
11 ـ وأخيراً صدرت فتوى اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء بتفسير قرار هيئة كبار العلماء فيما يتعلق بالتأمين التعاوني وأن المقصود به إيجاد جمعية تعاونية معروف أعضاؤها يقومون بجمع مال منهم يستثمر ويخرج منه ما تقتضيه الحوادث عليهم وجاء في الفتوى أن التطبيق الحالي للتأمين التعاوني من قبل شركات التأمين التعاونية غير صحيح، وأن هذه الشركات التعاونية تتفق مع شركات التأمين التجارية في العناصر الأساسية في التأمين فهي بذلك تتفق مع شركات التأمين التجارية في الحكم بالتحريم.
التأمين التعاوني ومستند القول
بجوازه لدى القائلين به
وحول التأمين التعاوني وجوازه قال فضيلة الشيخ عبدالله بن سليمان المنيع: لا شك أن التأمين التعاوني يعتمد في إجرائه وترتيب أحكامه على ذلك الإجراء على ما يعتمد عليه التأمين التجاري من إجراءات، حيث إن التأمين مطلقا يعتمد على خمس ركائز، هي: المؤمن، المؤمن له، محل التأمين، القسط التأميني، والتعويض في حالة الاقتضاء.
ويذكر القائلون بالتفريق بين التأمين التجاري والتعاوني أن التأمين التعاوني يختلف عن التأمين التجاري في أن الفائض من التزامات صندوق التأمين التعاوني يعود إلى المشتركين فيه كل بحسب نسبة اشتراكه، وهذا أثر من آثار وصف هذا النوع بالتأمين التعاوني. فهو تعاون بين المشتركين فيه على رأب الصدوع وجبر المصائب وما زاد على ذلك رجع إليهم، وما ظهر من عجز تعين عليهم سداده من أموالهم كل بقدر نسبة اشتراكه.
وأما التأمين التجاري فليس فيه هذا التوجه، حيث يعتبر الفائض في صندوقه ربحا لشركة التأمين التجارية وفي حال وجود عجز في هذا الصندوق فيعتبر خسارة، على شركة التأمين التجارية الالتزام بتغطية هذا العجز من رأسمال الشركة أو من احتياطياتها، حيث تعد هذه الخسارة ديناً على الشركة. ومن هذا العرض يظهر أن دعوى اختلاف التأمين التعاوني عن التأمين التجاري في موضوع الفائض دعوى غير صحيحة، فالفائض في القسمين ربح والعجز في صندوق كل منهما خسارة. وسيأتي، إن شاء الله، مزيد إيضاح في أن التأمين التعاوني يتفق مع التأمين التجاري في الحصول على الربح.
وبهذا يتضح أن التأمين التعاوني يتفق مع التأمين التجاري من حيث الإجراء التطبيقي في جميع المراحل التنفيذية وفي العناصر الأساسية وليس بينهما اختلاف يقتضي التفريق بينهما في الحكم إباحة أو تحريما، فكلا القسمين يشتمل على خمسة أركان، هي: المؤمن، المؤمن له، محل العقد، القسط التأميني، والتعويض في حالة الاقتضاء. وأن الإلزام والالتزام فيهما يتم بإبرام عقد بين الطرفين، المؤمن والمؤمن له، يكون في العقد بيان أحوال التغطية ومقاديرها والالتزام بها بغض النظر عن ربح أو خسارة.
وقيل في توجيه التفريق بين التأمين التعاوني والتأمين التجاري إن التأمين التجاري يشتمل على الربا والغرر الفاحش والقمار والجهالة وأن التأمين التعاوني يخلو من ذلك، حيث إنه ضرب من التعاون المشروع فهو تعاون على البر والتقوى. وإن القسط التأميني يدفعه المؤمن له للمؤمن على سبيل التبرع وأن التعويض في حال الاقتضاء يدفع من صندوق المشتركين وأنهم بحكم تعاونهم ملتزمون بالتعويضات سواء أوجد في الصندوق ما يفي بسدادها أم حصل في الصندوق عجز عن السداد، فهم ملزمون بتغطيته من أموالهم كل بنسبة اشتراكه. وإذا وجد في الصندوق فائض تعين إرجاعه إليهم بخلاف التأمين التجاري، فما في الصندوق من فائض يعد ربحا لشركة التأمين التجارية، فهي شركة ربحية قائمة على المتاجرة وطلب الربح لا على التعاون، كما قيل: إن التأمين التجاري مبني على الربا والقمار والغرر والجهالة وأكل أموال الناس بالباطل بخلاف التأمين التعاوني فهو مبني على التبرع والتعاون المطلوب شرعا وعلى المسامحة وانتفاء عنصر المعاوضة.
وقفات ومناقشات
وأضاف الشيخ المنيع إن هذا التوجيه لتسويغ القول بجواز التأمين التعاوني وحرمة التأمين التجاري تحتاج مناقشته إلى وقفات حتى يتضح لنا وجه قبول هذا التوجيه أو رده.
الوقفة الأولى: فيما يتعلق بدعوى التعاون المحمود في التأمين التعاوني وانتفائه عن التأمين التجاري.
القول إن التعاون المحمود والمشروع في التأمين التعاوني مقصود عند الدخول من قبل المشتركين قول غير صحيح، فليس لواحد من المشتركين فيه قصد تعاون بينه وبين إخوانه المشتركين بل إنه في الغالب لا يعرفهم أو أنه يجهل أكثرهم، فهو تعاون تم بغير قصد كالحال بالنسبة للمشتركين في التأمين التجاري، ولا شك أن التأمين بصفة عامة يحصل منه تعاون غير مقصود من المشتركين فيه كما يحصل ذلك في جميع الأعمال المهنية ومن جميع العاملين فيها، فرغيف الخبز مثلا لا يصل إلى يد آكله حتى يمر بمجموعة من مراحل إعداده: زراعة، وحصادا، وتنقية وطحنا وعجنا وخبزا ـ دون أن يكون لعمال كل مرحلة قصد في التعاون مع الآخرين على إعداد هذا الرغيف، فهذا نوع من التعاون فهل هو تعاون مقصود أم هو تعاون تم بحكم بواعثه ونتائجه والحاجة إليه؟ وهذا يعني أن التأمين بقسميه تم بطريق تعاوني غير مقصود كالحكم في تأمين الحاجات البشرية بين مجموعة من الأفراد على سبيل المراحل التنفيذية من غير قصد تعاون فيما بينهم في تحصيلها.
ولا أظن أحدا يدعي التفريق بين مشترك في التأمين التعاوني ومشترك في التأمين التجاري فيقول: إن المشترك في التأمين التعاوني بقصد التعاون على البر والتقوى محتسباً الأجر في ذلك عند الله بخلاف المشترك في التأمين التجاري فليس له قصد في التعاون، لا شك أن القول بذلك دعوى موغلة في الوهم وعدم الانفكاك عما يكذبها من حيث الحس والعقل، وبهذا يظهر أن وصف التأمين التعاوني بالتعاون المقصود قول لا حقيقة له وأن الصحيح أنه تعاون غير مقصود كالتعاون التجاري، فبطل القول بأن التعاون فرق بين التأمين التجاري والتأمين التعاوني.
إعداد: محمد الأنصاري
حول المنظور الشرعي للتأمين ألقى معالي الشيخ عبدالله بن سليمان المنيع محاضرة بعنوان "التأمين بين الإباحة والحظر" وذلك في الغرفة التجارية بالرياض مؤخراً، مهد لها بالكلام عن قيمة المال في نظر الإسلام والعناية بحفظه وسلامته وكيفية كسبه وتحصيله وهل هو غاية أم وسيلة، كما تطرق إلى مسألة تكدس الثروات في أيدي الملاك ثم عَرّف معالي الشيخ عبدالله المنيع التأمين لغة واصطلاحاً وأشار إلى المؤتمرات والندوات والمجالس العلمية التي عقدت لبحثه ثم تناول جانب التأمين التعاوني ومستند القول بجوازه لدى القائلين به وأكد على أن ما يقال في التأمين التجاري من أوصاف تقتضي القول بحرمته يلزم أن يقال ذلك في التأمين التعاوني.
وذهب الشيخ المنيع إلى أن التأمين التعاوني والتأمين التجاري كلاهما يتفقان في جميع الخصائص وأن الحواجز بينهما حواجز وهمية والتمييز بين النوعين خرافة تنم عن عدم إدراك حقيقة التأمين وواقعه.
وفي البداية قال معاليه: إن التأمين على الأموال والمنافع وغيرها وسيلة من وسائل حفظ المال ورعايته والتعويض عنه في حال تلفه أو ضياعه. والحديث عن التأمين من هذا المنطلق والتصور يقتضي التمهيد له بما يعطي العلم عن مفهوم الإسلام للمال ونظرته إليه من حيث قيمته، والحفاظ عليه وتحصيله وإنفاقه. وهل هو وسيلة أم غاية؟
ومن حيث توجيه الإسلام إلى الأخذ بأسباب إثباته والضمانات الكافية لأدائه وتنظيم الإجراءات لمنع وجوده وتكاثره في أيدي قلة من الناس وذلك بسن التشريعات الإلهية لتوزيع الثروات بين مستحقيها ولينتفع بالمال مجموعة من المحتاجين إليه من المسلمين، وقد مهّد فضيلة الشيخ المنيع للحديث عن ذلك بذكر المسائل الآتية:
1 - قيمة المال في نظر الإسلام
قال فضيلته: ينظر الإسلام إلى المال نظرة تقدير واحترام وأنه من الأمور التي تعين الإنسان على تحقيق حكمة خلقه ووجوده في هذه الحياة فالمال قيام الحياة الدنيا وزينتها قال تعالى: {وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً } (5) سورة النساء. وقال تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } (46) سورة الكهف وقال صلى الله عليه وسلم: "نعم المال الصالح للعبد الصالح" وقال صلى الله عليه وسلم: "لا حسد إلا في اثنتين - ومن الثنتين - رجل أتاه الله مالاً فسلطه على هلكته"
2 - العناية بالمال وحفظه
وأكد الشيخ المنيع على أن الإسلام يدعو إلى العناية بالمال وحفظه وعدم تمكين السفهاء من وجوده في أيديهم. وإذا كانوا مالكين له فيجب أن يكون المال تحت يد أمينة تحفظه لهم وتقوم باستثماره وتنميته وإخراج الحقوق الواجبة فيه منه. وإذا كان المال قد تعلق بذمم فيجب بذل الأسباب لإثباته بالكتابة والشهادة وأخذ الضمانات الكافية لأدائه من رهن وكفيل ونحو ذلك، وفي حال إنفاقه فيجب أن يكون ذلك في وجوهه الشرعية من غير تقتير ولا إسراف. قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} (67) سورة الفرقان وقد أنحى الإسلام باللائمة على المسرفين في الإنفاق، فقال تعالى: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ } (27) سورة الإسراء وقال تعالى: {وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (31) سورة الأعراف. وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال.
وقد جاءت الرخص الشرعية في ترك صلاة الجمعة والجماعة في المسجد لمن يخشى على ماله الضياع أو السرقة وذكر صلى الله عليه وسلم أن من قاتل دون ماله فقتل فهو شهيد وأن دم من قتله دون ماله هدر.
3 - نظرة الإسلام نحو كسب المال وتحصيله
وأشار الشيخ إلى أن الإسلام يعترف للمال بقيمته وأهميته في سبيل أداء حكمة الوجود في هذه الحياة يقول صلى الله عليه وسلم: "نعم المال الصالح للعبد الصالح" فهو يدعو إلى السعي في تحصيله.
قال الله تعالى{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ } (10) سورة الجمعةويقول تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ } (15) سورة الملك. ويقول تعالى: { وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ } (20) سورة المزمل. وقال: النصوص من كتاب الله تعالى ومن سنّة رسوله صلى الله عليه وسلم في الترغيب في اكتساب المال أكثر من أن تحصر، إلا أنه يضع الضوابط والقيود في ابتغاء المال وتحصيله. فيجب أن يكون الحصول عليه خاليا من التعدي والبغي وأخذ أموال الناس بالباطل كان يكون تحصيله عن طريق الربا أو القمار أو الغرر أو الجهالة أو أن يكون تحصيله عن طريق المتاجرة بتأليف أو نشر أو تسويق كتب الضلال والزندقة والبدع والمحدثات مما له أثر في إفساد الاعتقاد والأخلاق، أو أن يكون عن طريق المتاجرة بالأسلحة في أوقات الفتن والاضطرابات السياسية مما له أثر في تعريض النفوس للهلاك، أو أن تكون المتاجرة بما يعود على العقول بالخلل والاضطرابات النفسية كالمتاجرة بالمخدرات والمسكرات ومشتقاتها وأنواعها وأجناسها. أو أن تكون المتاجرة بما يتعبر أكلاً لأموال الناس بالباطل من ربا ورهان وغرر وجهالة وغير ذلك، أو أن تكون المتاجرة فيما يعود بالضرر والفحشاء على الأعراض والنسل كالنشاطات الاقتصادية في المتاجرة بالأعراض مباشرة بفتح دور البغاء وملاهي الليل، أو غير مباشرة كتأليف ونشر كتب الجنس ومجلاته وإيجاد قنوات فضائية لترويج العهور والفجور ونشر الصور العارية وتمثيل الجنس أو أي نشاط يأتي على الحشمة والكرامة أو العفة أو يؤثر فيها. أو أن يكون اكتساب المال عن طريق الغش أو التدليس أو الخيانة أو التعدي عليه بسرقته أو غصبه أو انتزاعه بغير حق.
فكل مال تم تحصيله من طريق غير مشروع فهو سحت وباطل ونار في بطون مكتسبيه. وهكذا فإن اكتساب المال مشروع ومرغوب في تحصيله إلا أنه يجب أن يكون اكتسابه خالياً من أي طريق تعسفي في اكتسابه.
4 - نظرة الإسلام إلى المال .. هل هو غاية أم وسيلة؟
وعن نظرة الإسلام إلى المال قال الشيخ المنيع: الواقع أن الإسلام ينظر إلى المال باعتباره وسيلة إلى تحقيق مرضاة الله بعبادته وتعظيمه وصرف المال في سبيل ذلك. حيث إن بعض العبادات مالية محضة كالزكاة والصدقات والنفقات والصلاة والوقوف. وبعضها بدنية إلا أن المال عنصر أدائي في القيام بها كالحج والعمرة والجهاد في سبيل الله، ومما يؤكد ذلك أن مالك المال بعد وفاته تفنى ذمته التي كانت في حياته أهلا للإلزام والالتزام. ويفنى بفناء ذمته حقه في التملك، حيث تنتقل ملكيته إلى الورثة وإلى من أوصى لهم مما لا يتعارض مع مشروعية الوصية - لا وصية لوارث - ولا وصية فيما زاد عن الثلث. فقد انتفت بوفاة مالك المال حاجته إليه فزال ملكه عنه وانتقل إلى غيره. فالمال في نظر الإسلام وسيلة لا غاية وهو مال الله، قال تعالى: { وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ } (33) سورة النــور
5 - نظرة الإسلام إلى تكدس الثرواث في أيدي الملاك
وأضاف الشيخ: إن نظرة الإسلام إلى المال باعتباره وسيلة تقتضي تفتيت الثروات وتوزيعها بين أكبر عدد مستحق لها كي لا يكون دولة بين الأغنياء من المسلمين، وقد اتخذ الإسلام مجموعة من التشريعات في سبيل توزيع الثروات، من ذلك الزكاة والصدقات والصلات والنفقات والوقوف والحض على الإهداء - تهادوا تحابوا - والعطايا والإنفاق في سبيل الله والصدقات الجارية والوصايا ثم بعد الممات توزيع الباقي من الأموال على الورثة كل حسب حصته واستحقاقه. وهذا يؤكد القول إن الإسلام ينظر إلى المال بصفته وسيلة لا غاية وإنه ضد تكدس الأموال في أيدي قلة من الناس وضد أي تنظيم يؤدي إلى ذلك.
6 - عناية الإسلام بحفظ المال عن طريق وسائل الإثبات
وذكر الشيخ عبدالله المنيع أنه لا يخفى أن الإسلام دين العقل والنصف والحق والعدل ورعاية الحقوق. وقد رتب العقوبات المناسبة على الخروج على هذه الثوابت والأصول. والمال حق أساسي في التمليك، فللإسلام في سبيل حمايته وإثباته والمحافظة عليه الكثير من الوسائل المحققة لحفظه ومنها:
1 - الاعتراف بالحق والاقرار به وإثبات ذلك بالكتابة.
2 - الإشهاد على الحق ممن هم أهل للشهادة وأدائها.
3 - الرهن للحق، حيث إنه توثقة دين بعين. للمرتهن الحق في بيع الرهن لاستيفاء دينه من ثمنه.
4 - الضمان بأي وسيلة من وسائل الضمان كالكفيل والضامن وخطابات الضمان والاعتمادات المستندية.
5 - حفظ المال في الخزائن الحديدية أو الإيداعات البنكية أو الحسابات الجارية مما يتيح لصاحبه السحب والإيداع والاعتماد على ذلك بالإشعارات الممثلة لوثائق حفظ وائتمان.
6 - استخدام وسائل المحافظة على المال في حال التنقل.
مثل الشيكات بمختلف أنواعها ومن ذلك الشيكات السياحية، والبطاقات الائتمانية وبطاقات الصرف والتحويلات المصرفية وكل وسيلة من وسائل الحفظ والإثبات والائتمان مما تتتابع اختراعاته ومستجداته.
7 - التأمين على الأموال والمنافع بما يتوافر معه وعن طريقه الأمن والأمان وتتحقق بواسطته السلامة من ضياع المال أو تلفه حيث يقوم التعويض مقامه في حال تلفه أو ضياعه.
ونظراً إلى أن موضوع المحاضرة إحدى وسائل حفظ المال والاطمئنان على انتفاء خسارته وهو التأمين فقد آن لنا الدخول في الموضوع مستعينين بالله على تقديمه والوصول في ختام البحث إلى نتيجة تتفق مع أصول الشريعة وقواعدها العامة. والله ولي ذلك والمستعان عليه.
التأمين لغة واصطلاحاً
وعرّف الشيخ المنيع التأمين في اللغة وقال: إن الكلمة تأتي من مادة أمن يأمن أمنا إذا وثق وركن إليه وأمنه تأمينا إذا جعله في الأمن فكان بذلك آمنا وفي المنجد: يقال أمّن على ماله عند فلان تأمينا، أي جعله في ضمانه. وأما في الاصطلاح فقد اختلفت تعريفاته لدى الباحثين إلا أن الاختلاف في الغالب اختلاف لفظي، ولعل أقرب تعريف إلى الجمع والمنع والشمول هو: أنه تعاقد بين طرفين هما المؤمن والمؤمن له يلتزم المؤمن بمقتضاه أن يؤدي للمؤمن له أو من يعينه مستفيدا مبلغا من المال أو إيرادا دوريا أو تعويضا عن ضرر إثر حادث مغطى ضرره في العقد وذلك نظير قسط مالي يؤديه المؤمن له للمؤمن بصفة دورية أو دفعة واحدة.
وقال: إن التأمين من المسائل المستجدة حيث لم يكن لفقهائنا السابقين ذكر له لعدم وجوده في عصورهم. ويذكر أن أول من ذكره من الفقهاء ابن عابدين، رحمه الله، وذلك حينما اتسعت التجارة بين الشرق والغرب واضطر التجار إلى التأمين على نقل بضائعهم عبر البحر فسئل عنه، رحمه الله، فأجاب بجواب خلاصته الكراهة.
ويظهر - والله أعلم -أن الفتوى منه بالكراهة لم تكن مبنية على تأصيل وتعليل بقدر ما كانت مبنية على الانطباع العام والمفاجأة بعرضه.
مؤتمرات وندوات
واستطرد الشيخ قائلاً: إنه بعد تطور التجارة واتساعها وظهور مستجدات في محيط اتساع نشاطها ظهر التأمين نازلة من نوازل العصر واتجه الاضطرار إلى بحثه من حيث تصوره وحكمه تحليلا أو تحريما فعقدت لبحثه مجموعة من المؤتمرات والندوات والمجالس العلمية وكان من أهم ذلك:
1 ـ أسبوع شيخ الإسلام ابن تيمية المنعقد في دمشق سنة 1362هـ وحضره مجموعة من فقهاء العصر وعلمائه وقدمت فيه البحوث وكان من أبرز المشاركين فيه الشيخ مصطفى الزرقاء ـ رحمه الله ـ القائل بإباحته مطلقا. وقد انتهى المؤتمر باختلاف المشاركين ما بين مبيح مطلقا ومحرم مطلقا، ومنهم من فصل في ذلك فأباح التأمين على الأموال ومنع التأمين على الحياة.
2 ـ أعيد بحث الموضوع في مجمع البحوث الإسلامية في القاهرة سنة 1365هـ واختلف المشاركون فيه في حكم جوازه أو منعه، وقد عرض في هذا المجمع مجموعة من البحوث ما بين مجيز ومحرم، وقام الشيخ فرج السنهوري الأمين العام للمجمع بجمعها، وقد كادت الآراء المختلفة فيه تتساوى من حيث القول بجوازه والقول بتحريمه.
3 ـ صدرت مجموعة بحوث وفتاوى من فقيه العصر الشيخ مصطفى الزرقاء ـ رحمه الله ـ جمعها في مجموعة كتب انتهى بها إلى القول بجوازه، وأول فتوى منه بذلك كانت قبل 60 عاما فيما نعلم قدمها في أسبوع شيخ الإسلام ابن تيمية المنعقد في دمشق سنة 1362هـ.
4 ـ صدرت فتوى من شيخ الأزهر جاد الحق سنة 1390هـ بتحريم التأمين التجاري لما فيه من الربا والغرر والقمار.
5 ـ عرض موضوع التأمين على مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة سنة 1397هـ وصدر به قرار المجلس بتقسيم التأمين إلى تأمين تعاوني مباح وتأمين تجاري محرم، وذكر في القرار تعليل القول بإباحة التعاوني وتعليل القول بتحريم التجاري.
6 ـ صدر قرار المؤتمر العالمي المنعقد في مكة المكرمة سنة 1386هـ بتحريم التأمين التجاري.
7 ـ صدر قرار مجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي سنة 1397هـ انتهج فيه المسلك الذي أخذ به مجلس هيئة كبار العلماء بإباحة التعاوني وتحريم التجاري.
8 ـ صدر قرار مجمع الفقه الدولي في جدة سنة 1406هـ بمثل ما صدر به قرار مجلس هيئة كبار العلماء ومجمع الفقه الإسلامي في رابطة العالم الإسلامي.
9 ـ صدرت مجموعة من الفتاوى والقرارات من هيئات الرقابة الشرعية والفتوى لمجموعة من المؤسسات المالية الإسلامية وصدرت بحوث من بعض فقهاء العصر بانتهاج المسلك الذي أخذ به مجلس هيئة كبار العلماء وأخذ به المجمعان ـ المجمع الدولي ومجمع الرابطة ـ بتقسيم التأمين إلى تعاوني مباح وتجاري محرم.
10 ـ صدر قرار الهيئة الشرعية لشركة الراجحي المصرفية للاستثمار سنة 1411هـ بجواز التأمين مطلقا ـ التأمين التعاوني والتأمين التجاري.
11 ـ وأخيراً صدرت فتوى اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء بتفسير قرار هيئة كبار العلماء فيما يتعلق بالتأمين التعاوني وأن المقصود به إيجاد جمعية تعاونية معروف أعضاؤها يقومون بجمع مال منهم يستثمر ويخرج منه ما تقتضيه الحوادث عليهم وجاء في الفتوى أن التطبيق الحالي للتأمين التعاوني من قبل شركات التأمين التعاونية غير صحيح، وأن هذه الشركات التعاونية تتفق مع شركات التأمين التجارية في العناصر الأساسية في التأمين فهي بذلك تتفق مع شركات التأمين التجارية في الحكم بالتحريم.
التأمين التعاوني ومستند القول
بجوازه لدى القائلين به
وحول التأمين التعاوني وجوازه قال فضيلة الشيخ عبدالله بن سليمان المنيع: لا شك أن التأمين التعاوني يعتمد في إجرائه وترتيب أحكامه على ذلك الإجراء على ما يعتمد عليه التأمين التجاري من إجراءات، حيث إن التأمين مطلقا يعتمد على خمس ركائز، هي: المؤمن، المؤمن له، محل التأمين، القسط التأميني، والتعويض في حالة الاقتضاء.
ويذكر القائلون بالتفريق بين التأمين التجاري والتعاوني أن التأمين التعاوني يختلف عن التأمين التجاري في أن الفائض من التزامات صندوق التأمين التعاوني يعود إلى المشتركين فيه كل بحسب نسبة اشتراكه، وهذا أثر من آثار وصف هذا النوع بالتأمين التعاوني. فهو تعاون بين المشتركين فيه على رأب الصدوع وجبر المصائب وما زاد على ذلك رجع إليهم، وما ظهر من عجز تعين عليهم سداده من أموالهم كل بقدر نسبة اشتراكه.
وأما التأمين التجاري فليس فيه هذا التوجه، حيث يعتبر الفائض في صندوقه ربحا لشركة التأمين التجارية وفي حال وجود عجز في هذا الصندوق فيعتبر خسارة، على شركة التأمين التجارية الالتزام بتغطية هذا العجز من رأسمال الشركة أو من احتياطياتها، حيث تعد هذه الخسارة ديناً على الشركة. ومن هذا العرض يظهر أن دعوى اختلاف التأمين التعاوني عن التأمين التجاري في موضوع الفائض دعوى غير صحيحة، فالفائض في القسمين ربح والعجز في صندوق كل منهما خسارة. وسيأتي، إن شاء الله، مزيد إيضاح في أن التأمين التعاوني يتفق مع التأمين التجاري في الحصول على الربح.
وبهذا يتضح أن التأمين التعاوني يتفق مع التأمين التجاري من حيث الإجراء التطبيقي في جميع المراحل التنفيذية وفي العناصر الأساسية وليس بينهما اختلاف يقتضي التفريق بينهما في الحكم إباحة أو تحريما، فكلا القسمين يشتمل على خمسة أركان، هي: المؤمن، المؤمن له، محل العقد، القسط التأميني، والتعويض في حالة الاقتضاء. وأن الإلزام والالتزام فيهما يتم بإبرام عقد بين الطرفين، المؤمن والمؤمن له، يكون في العقد بيان أحوال التغطية ومقاديرها والالتزام بها بغض النظر عن ربح أو خسارة.
وقيل في توجيه التفريق بين التأمين التعاوني والتأمين التجاري إن التأمين التجاري يشتمل على الربا والغرر الفاحش والقمار والجهالة وأن التأمين التعاوني يخلو من ذلك، حيث إنه ضرب من التعاون المشروع فهو تعاون على البر والتقوى. وإن القسط التأميني يدفعه المؤمن له للمؤمن على سبيل التبرع وأن التعويض في حال الاقتضاء يدفع من صندوق المشتركين وأنهم بحكم تعاونهم ملتزمون بالتعويضات سواء أوجد في الصندوق ما يفي بسدادها أم حصل في الصندوق عجز عن السداد، فهم ملزمون بتغطيته من أموالهم كل بنسبة اشتراكه. وإذا وجد في الصندوق فائض تعين إرجاعه إليهم بخلاف التأمين التجاري، فما في الصندوق من فائض يعد ربحا لشركة التأمين التجارية، فهي شركة ربحية قائمة على المتاجرة وطلب الربح لا على التعاون، كما قيل: إن التأمين التجاري مبني على الربا والقمار والغرر والجهالة وأكل أموال الناس بالباطل بخلاف التأمين التعاوني فهو مبني على التبرع والتعاون المطلوب شرعا وعلى المسامحة وانتفاء عنصر المعاوضة.
وقفات ومناقشات
وأضاف الشيخ المنيع إن هذا التوجيه لتسويغ القول بجواز التأمين التعاوني وحرمة التأمين التجاري تحتاج مناقشته إلى وقفات حتى يتضح لنا وجه قبول هذا التوجيه أو رده.
الوقفة الأولى: فيما يتعلق بدعوى التعاون المحمود في التأمين التعاوني وانتفائه عن التأمين التجاري.
القول إن التعاون المحمود والمشروع في التأمين التعاوني مقصود عند الدخول من قبل المشتركين قول غير صحيح، فليس لواحد من المشتركين فيه قصد تعاون بينه وبين إخوانه المشتركين بل إنه في الغالب لا يعرفهم أو أنه يجهل أكثرهم، فهو تعاون تم بغير قصد كالحال بالنسبة للمشتركين في التأمين التجاري، ولا شك أن التأمين بصفة عامة يحصل منه تعاون غير مقصود من المشتركين فيه كما يحصل ذلك في جميع الأعمال المهنية ومن جميع العاملين فيها، فرغيف الخبز مثلا لا يصل إلى يد آكله حتى يمر بمجموعة من مراحل إعداده: زراعة، وحصادا، وتنقية وطحنا وعجنا وخبزا ـ دون أن يكون لعمال كل مرحلة قصد في التعاون مع الآخرين على إعداد هذا الرغيف، فهذا نوع من التعاون فهل هو تعاون مقصود أم هو تعاون تم بحكم بواعثه ونتائجه والحاجة إليه؟ وهذا يعني أن التأمين بقسميه تم بطريق تعاوني غير مقصود كالحكم في تأمين الحاجات البشرية بين مجموعة من الأفراد على سبيل المراحل التنفيذية من غير قصد تعاون فيما بينهم في تحصيلها.
ولا أظن أحدا يدعي التفريق بين مشترك في التأمين التعاوني ومشترك في التأمين التجاري فيقول: إن المشترك في التأمين التعاوني بقصد التعاون على البر والتقوى محتسباً الأجر في ذلك عند الله بخلاف المشترك في التأمين التجاري فليس له قصد في التعاون، لا شك أن القول بذلك دعوى موغلة في الوهم وعدم الانفكاك عما يكذبها من حيث الحس والعقل، وبهذا يظهر أن وصف التأمين التعاوني بالتعاون المقصود قول لا حقيقة له وأن الصحيح أنه تعاون غير مقصود كالتعاون التجاري، فبطل القول بأن التعاون فرق بين التأمين التجاري والتأمين التعاوني.