الجبل
15-10-2008, Wed 4:31 PM
هـل هـي نهايـة العصـر الأميـركـي؟
ان تجادل بان البذخ المالي والانتشار العسكري قد اضعفا الولايات المتحدة، فهذا شيء، وان تستذكر ان التوازنات الاقتصادية والعسكرية ــ بصرف النظر عن الحماقات السياسية التي ترتكب هنا أو هناك ــ تنتقل تدريجيا من بلد إلى آخر ومن هذا الجزء من العالم إلى ذاك، فهذا شيء آخر تمام.
لقد تزامن هذان التطوران الآن ــ العجز السياسي الاميركي والتحولات الجيوسياسية ــ لجعل العالم اقل سهولة على الولايات المتحدة، ولكن احد دروس «الصعود والافول» في التاريخ هو ان القوى العظمى تأخذ وقتا طويلا ومضنيا قبل ان تسقط.
فهذه القوى تتلقى ضربات على الرأس وتُـمنى بالهزائم وتلحق بها المهانات هنا وهناك وتتعرض للافلاس مرة او مرتين، لكنها تبقى صامدة، فهي تضمحل وتتقلص قوتها، لكن الجرح لا يكون مميتا في البداية.
وفي العادة تصمد هذه القوى، لان القوى الصاعدة لا تعرف كيف تحل محلها. وتصمد ايضا، لان لديها موارد كبيرة. فامبراطورية هابسبورغ HAPSBURG صمدت، لانها كانت تملك جيشا يجيد 14 لغة. وصمدت الامبراطورية البريطانية بسبب مدينة لندن وعدد من القواعد البحرية الاخرى. اما امبراطوريات القرن العشرين التي لم تعمّ.ر طويلا، كالنازية واليابانية والسوفيتية، فإنها لم تفعل، لأنها افتقدت لمثل تلك الانظمة المساندة. فصعدت سريعا وأفلت سريعا.
أميركا تمتلك انظمة اسناد هائلة. انها قوة عظمى، فوق العظمى، حيث تسهم بعشرين في المائة من الانتاج العالمي وتنفق 50 في المائة من اجمالي انفاق العالم على التسلح. وفيها اكبر جامعات البحث في العالم، وتنفق بصورة هائلة على البحث والتطوير وصناعات الخدمات الدقيقة لاستكمال قاعدتها الصناعية، كما تمتلك الولايات المتحدة قوة ديموغرافية كبيرة وافضل نسبة انتاج زراعي، مقارنة بعدد السكان من بين كل الدول الكبرى في هذا العالم. فهذه القوى والموارد لا يمكن ان تتبخر بين ليلة وضحاها.
حالة انسجام
ولكن القوى مهما بلغت من عظمة، فإن مآلها إلى التآكل والاضمحلال بسرعة او ببطء بسبب عنجهيتها أولا، ثم بفعل عامل الوقت. والاهم من كل ذلك ان معظم الامبراطوريات البائدة بادت لأسباب وعوامل داخلية وليس لعوامل خارجية. وعودة الى وول ستريت، فقد اعتمد العالم «الحرّ» منذ عام 1945 على عمادين متصلين للامن الذي وفرته الولايات المتحدة. الاول، قدرة واشنطن الهائلة على تحويل ودعم كل الدول الراغبة في التصدي للشيوعية وانصارها الاشتراكيين والتحرريين الراديكاليين. والثاني، قدرتها على ارسال قواتها لمسافة تبعد 8 آلاف ميل عن اراضيها.
فمثلا لديها الآن اكثر من 200 الف جندي في العراق وافغانستان، اضافة الى عدد كبير من القوات المرابطة في كوريا الجنوبية ومناطق اخرى من العالم.
فإذا كانت ثمة حالة انسجام بين القدرتين وإذا اقترنت الانتاجية الاقتصادية بالقوة العسكرية والاستراتيجية، فما الذي يمنع الولايات المتحدة من ان تبقى القوة العظمى الأولى في العالم؟!
ولكن ماذا لو بدأت اركان هذه القوة في التصدع؟ وماذا لو اصبحت القوات الاميركية المنتشرة حول العالم غير كافية لمواجهة تيار اسلامي عارم من الاستياء ضد عملاء الغرب على سبيل المثال؟ وماذا لو عجزت اميركا عن الايفاء بالتزاماتها الخارجية عسكرياً ومالياً؟
لقد اصبحت التزامات واشنطن الخارجية اكبر من مواردها، واصبحت نفقاتها على مدى سنوات تفوق عوائدها، وظلت الحكومة الفدرالية تغطي هذه الفجوة المخيفة من خلال بيع سندات الخزينة (الموعودة السداد بعد خمس سنوات وعشر سنوات وحتى ثلاثين سنة) والتي بيع معظمها الى جهات اجنبية، وخصوصا حكومات وبنوك آسيوية. بل واكثر من ذلك، وقع الكونغرس على رزمة المساعدة المالية للوول ستريت بقيمة 700 مليار دولار، دون ان يسأل اي من اعضاء المجلس – حسب علمي – كيف سيتم سداد هذا المبلغ الهائل، او من سيتحمل وزر السداد، حسناً، ففي النهاية ستتحمله الاجيال المقبلة من دافعي الضرائب الاميركيين، اما الآن، فسيتم تغطية المبلغ بالاقتراض من جهات اجنبية، واذا كان الامر كذلك، فانهم يسددون عن اصول هالكة، فهل سيفعلون؟ والى متى؟
الحصة المضمحلة
ففي الوقت الذي ترحب فيه كل من الصين والهند وروسيا والبرازيل بعودة النظام المتعدد الاقطاب، الى السلوك الدبلوماسي للدول العظمى، جاءت ايضا الضغوط من اجل التخلي عن النظام النقدي العالمي القائم على الاحادية القطبية القائمة على الدولار، والاستعاضة عنه بنظام يقوم على سلة مختلطة من العملات، فقد دعا الخبير الاقتصادي الصيني المعروف شي جيانغ صني في صحيفة «الشعب» الصادرة في بكين اخيراً، الى عملة ونظام مالي متنوع، ونظام مالي عادل ومنصف ولا يعتمد على الولايات المتحدة.
فهذا التحول سيكون تدريجيا لكنه سيكون راسخا، فمعظم تجار القرن الثامن عشر كانوا يفضلون الاتجار بعملة النمسا القديمة «ماريا تريزا» Maria Theresa، وبعد مائة عام، وقع الاختيار على الجنيه الاسترليني، ثم بعد مائة عام اخرى، اعتمد الدولار على نطاق واسع في العالم، فالعملات عادة، تتقدم دولها في التربع على القمة.
فانظر الآن، الى الحصة المضمحلة للدولار الاميركي من احتياطي العملات العالمي، فكيف يختار اي صندوق استثماري في الخليج او آسيا، ان يكون محكوماً حصريا بالدولار، لا سيما في وقت يبدو فيه ان الساسة والمصرفيين الاميركيين غير قادرين على الخروج من المأزق الراهن، بالطبع، لن تقوم الصناديق السيادية في الخليج ببيع كل دولاراتها فوراً، لان ذلك يعني الدمار بالنسبة لها، ولكن على الارجح انها اكتفت بالنصح بالتحول التدريجي عن الدولار في مدخراتها.
واذا حدث ذلك، فان مزيداً من التصدعات سوف تبرز في صرح اميركا الامبريالي، وسوف تبذل الرئاسة والكونغرس جهوداً يائسة للانقاذ قد تجدي لسنوات قليلة فقط، لكن التصدعات الداخلية ستظل قائمة.
استاذ التاريخ في جامعة بيل في الولايات المتحدة
¶ صنداي تايمز - ترجمة: محمد أمين
ان تجادل بان البذخ المالي والانتشار العسكري قد اضعفا الولايات المتحدة، فهذا شيء، وان تستذكر ان التوازنات الاقتصادية والعسكرية ــ بصرف النظر عن الحماقات السياسية التي ترتكب هنا أو هناك ــ تنتقل تدريجيا من بلد إلى آخر ومن هذا الجزء من العالم إلى ذاك، فهذا شيء آخر تمام.
لقد تزامن هذان التطوران الآن ــ العجز السياسي الاميركي والتحولات الجيوسياسية ــ لجعل العالم اقل سهولة على الولايات المتحدة، ولكن احد دروس «الصعود والافول» في التاريخ هو ان القوى العظمى تأخذ وقتا طويلا ومضنيا قبل ان تسقط.
فهذه القوى تتلقى ضربات على الرأس وتُـمنى بالهزائم وتلحق بها المهانات هنا وهناك وتتعرض للافلاس مرة او مرتين، لكنها تبقى صامدة، فهي تضمحل وتتقلص قوتها، لكن الجرح لا يكون مميتا في البداية.
وفي العادة تصمد هذه القوى، لان القوى الصاعدة لا تعرف كيف تحل محلها. وتصمد ايضا، لان لديها موارد كبيرة. فامبراطورية هابسبورغ HAPSBURG صمدت، لانها كانت تملك جيشا يجيد 14 لغة. وصمدت الامبراطورية البريطانية بسبب مدينة لندن وعدد من القواعد البحرية الاخرى. اما امبراطوريات القرن العشرين التي لم تعمّ.ر طويلا، كالنازية واليابانية والسوفيتية، فإنها لم تفعل، لأنها افتقدت لمثل تلك الانظمة المساندة. فصعدت سريعا وأفلت سريعا.
أميركا تمتلك انظمة اسناد هائلة. انها قوة عظمى، فوق العظمى، حيث تسهم بعشرين في المائة من الانتاج العالمي وتنفق 50 في المائة من اجمالي انفاق العالم على التسلح. وفيها اكبر جامعات البحث في العالم، وتنفق بصورة هائلة على البحث والتطوير وصناعات الخدمات الدقيقة لاستكمال قاعدتها الصناعية، كما تمتلك الولايات المتحدة قوة ديموغرافية كبيرة وافضل نسبة انتاج زراعي، مقارنة بعدد السكان من بين كل الدول الكبرى في هذا العالم. فهذه القوى والموارد لا يمكن ان تتبخر بين ليلة وضحاها.
حالة انسجام
ولكن القوى مهما بلغت من عظمة، فإن مآلها إلى التآكل والاضمحلال بسرعة او ببطء بسبب عنجهيتها أولا، ثم بفعل عامل الوقت. والاهم من كل ذلك ان معظم الامبراطوريات البائدة بادت لأسباب وعوامل داخلية وليس لعوامل خارجية. وعودة الى وول ستريت، فقد اعتمد العالم «الحرّ» منذ عام 1945 على عمادين متصلين للامن الذي وفرته الولايات المتحدة. الاول، قدرة واشنطن الهائلة على تحويل ودعم كل الدول الراغبة في التصدي للشيوعية وانصارها الاشتراكيين والتحرريين الراديكاليين. والثاني، قدرتها على ارسال قواتها لمسافة تبعد 8 آلاف ميل عن اراضيها.
فمثلا لديها الآن اكثر من 200 الف جندي في العراق وافغانستان، اضافة الى عدد كبير من القوات المرابطة في كوريا الجنوبية ومناطق اخرى من العالم.
فإذا كانت ثمة حالة انسجام بين القدرتين وإذا اقترنت الانتاجية الاقتصادية بالقوة العسكرية والاستراتيجية، فما الذي يمنع الولايات المتحدة من ان تبقى القوة العظمى الأولى في العالم؟!
ولكن ماذا لو بدأت اركان هذه القوة في التصدع؟ وماذا لو اصبحت القوات الاميركية المنتشرة حول العالم غير كافية لمواجهة تيار اسلامي عارم من الاستياء ضد عملاء الغرب على سبيل المثال؟ وماذا لو عجزت اميركا عن الايفاء بالتزاماتها الخارجية عسكرياً ومالياً؟
لقد اصبحت التزامات واشنطن الخارجية اكبر من مواردها، واصبحت نفقاتها على مدى سنوات تفوق عوائدها، وظلت الحكومة الفدرالية تغطي هذه الفجوة المخيفة من خلال بيع سندات الخزينة (الموعودة السداد بعد خمس سنوات وعشر سنوات وحتى ثلاثين سنة) والتي بيع معظمها الى جهات اجنبية، وخصوصا حكومات وبنوك آسيوية. بل واكثر من ذلك، وقع الكونغرس على رزمة المساعدة المالية للوول ستريت بقيمة 700 مليار دولار، دون ان يسأل اي من اعضاء المجلس – حسب علمي – كيف سيتم سداد هذا المبلغ الهائل، او من سيتحمل وزر السداد، حسناً، ففي النهاية ستتحمله الاجيال المقبلة من دافعي الضرائب الاميركيين، اما الآن، فسيتم تغطية المبلغ بالاقتراض من جهات اجنبية، واذا كان الامر كذلك، فانهم يسددون عن اصول هالكة، فهل سيفعلون؟ والى متى؟
الحصة المضمحلة
ففي الوقت الذي ترحب فيه كل من الصين والهند وروسيا والبرازيل بعودة النظام المتعدد الاقطاب، الى السلوك الدبلوماسي للدول العظمى، جاءت ايضا الضغوط من اجل التخلي عن النظام النقدي العالمي القائم على الاحادية القطبية القائمة على الدولار، والاستعاضة عنه بنظام يقوم على سلة مختلطة من العملات، فقد دعا الخبير الاقتصادي الصيني المعروف شي جيانغ صني في صحيفة «الشعب» الصادرة في بكين اخيراً، الى عملة ونظام مالي متنوع، ونظام مالي عادل ومنصف ولا يعتمد على الولايات المتحدة.
فهذا التحول سيكون تدريجيا لكنه سيكون راسخا، فمعظم تجار القرن الثامن عشر كانوا يفضلون الاتجار بعملة النمسا القديمة «ماريا تريزا» Maria Theresa، وبعد مائة عام، وقع الاختيار على الجنيه الاسترليني، ثم بعد مائة عام اخرى، اعتمد الدولار على نطاق واسع في العالم، فالعملات عادة، تتقدم دولها في التربع على القمة.
فانظر الآن، الى الحصة المضمحلة للدولار الاميركي من احتياطي العملات العالمي، فكيف يختار اي صندوق استثماري في الخليج او آسيا، ان يكون محكوماً حصريا بالدولار، لا سيما في وقت يبدو فيه ان الساسة والمصرفيين الاميركيين غير قادرين على الخروج من المأزق الراهن، بالطبع، لن تقوم الصناديق السيادية في الخليج ببيع كل دولاراتها فوراً، لان ذلك يعني الدمار بالنسبة لها، ولكن على الارجح انها اكتفت بالنصح بالتحول التدريجي عن الدولار في مدخراتها.
واذا حدث ذلك، فان مزيداً من التصدعات سوف تبرز في صرح اميركا الامبريالي، وسوف تبذل الرئاسة والكونغرس جهوداً يائسة للانقاذ قد تجدي لسنوات قليلة فقط، لكن التصدعات الداخلية ستظل قائمة.
استاذ التاريخ في جامعة بيل في الولايات المتحدة
¶ صنداي تايمز - ترجمة: محمد أمين