المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الآنسة (باحة): إنها (غصة) حبي!



الجنيه الذهبي
04-02-2007, Sun 4:11 AM
كانت البداية (توصية) من (صديق) زعم أن مضاربا أو (جنيا) دخل السهم, وهي تسمية أطلقها على (هامور) يدخل بقضه وقضيضه لشراء سهم ورفع سعره نسبا متتالية. جمعت أطراف شجاعتي ووضعت نصف محفظتي (أو ما تبقى منها ولله الحمد حمدا كثيرا على كل حال) في الآنسة (باحة). لم أكن من قبل (خشاشيا), بيد أني رأيت التمسك (بعسير) و(زجاج) وأخواتهما في زمن تقفز فيه الخشاش كالبحث عن قطرة ماء في أرض جرداء. كان قرارا تاريخيا أن أتحول إلى خشاشي, بعد أن عشت زمنا من أهل العوائد, وما أغنت عني شيئا, إذ لما غمر الطوفان السوق نزل الجميع إلى القاع, لا فرق بين سهم وآخر. هكذا هي آفات الدنيا كالأوبئة والزلازل والبراكين, إذا حلت بقوم لا تكاد تستثني أحدا, ولا عاصم من أمر الله إلا من رحم. كنت سعيدا بالضيف الجديد الذي انضم إلى باقة أسهمي, بالنظر إلى التاريخ الحافل للسهم في تحقيق ارتفاعات صاروخية, لكن سعادتي كانت مشوبة بالقلق الناجم عن تقلبات السوق وقرارات هيئة سوق المال الموقرة.

بعد أن رسوت على شاطىء الباحة وملأت صدري من هوائها, وكحلت عيني برؤية ظلالها الوارفة وأشجارها الغناء, صدر القرار العظيم بإيقاف المحروسة (بيشة). كانت حبيبتي (باحة) أول من دفع الثمن, فكأنها كانت المقصودة بالإيقاف, أو أنها انطبق عليها المثل القائل: "إياك أعني واسمعي يا جارة". سقطت حبيبتي وتداعى جسد محفظتي كله بالسهر والحمى. لم أكد أستمتع بنسبتين خضراوين حتى توالت النسب الحمراء بلا طلبات. كانت المشكلة أنهم أوصدوا علي الباب, وجعلوا بيني وبين العالم حاجزا لا أستطيع له نقبا. حاولت عبثا أن أبيع قبل افتتاح السوق عدة مرات, فلم يكن أحد ليقبل مني (باحتي) ولو بسعر النسبة الدنيا. لكأن الآنسة (باحة) أصبحت سلعة مغشوشة, أو درهما مزيفا لا يقبله أحد. من يشتري (باحتي) ويعطيني حريتي ويطلق يديا؟ آه من قيدك أدمى خافقي! الآن أرضى من الغنيمة بالإياب. الآن أقبل بلقمة أنتزعها من فم الذئب, أو كما يقول العامة: "العوض ولا القطيعة!".

بعد أيام من (المجزرة) فتحت عينا حبيبتي. جاءتني رسالة جوال من أختي, وهي هامورة سابقة, تقول: "فتحت النسبة..بع.. بع". الآن وقد تهاوت وسقطت؟ لا لن أبيع! ربما تستعيد قواها وتنهض, ربما تعود إلى سابق عزها, وأبيعها وأنا (كسبان). هكذا سولت لي نفسي. وكما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (رضي الله عنه): "أكثر مصارع العقول تحت بروق المطامع". هل أخرج أم أبقى؟ لا سأبقى.. وليكن ما يكن!

لكن (ضربة) أخرى على الرأس حدثت, وأوقفت أنعام هانم! آه يا أنعام.. قتلوك أيضا؟ يا سيدة (الخشاش) وبهجة المضاربين, يا قرة عيون السعوديين في الأسواق, وعزاءهم إذا ادلهمت الآفاق! حتى أنت يا أنعام؟ لم يمهلوك حتى تصححي وضعك وتلملمي بقاياك وتبدئي صفحة جديدة. استضعفوك فقتلوك, ولو كنت مهيبة الجانب ما جرؤ أحد على الاقتراب من مَضاربك (بفتح الميم).

لو كنت من مازن لم تستبح إبلي

بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا

لكن مالي ولأنعام؟ المشكلة أن حبيبتي ستدفع الثمن. لا يوجد في السوق من يدفع الثمن مثلها. إذا أردت أن تذل الباحة فأوقف أي سهم, ستجدها على الأعتاب أول من يسقط بلا مقاومة. وهكذا كان على (باحتي) أن تدخل مشوارا جديدا من النسب الحمراء المغلقة. صبرت وفي العين قذى وفي الحلق شجا. صبرت فلم يك بد من الصبر, وجاءتني رسالة جوال من أختي الحانية تقول: "لن أعاتبك على ما مضى, ولكن إذا سنحت فرصة فانفذ بجلدك". لكن كيف أنفذ وخسارتي فيها كبيرة جدا, الآن استوت عندي الأنوار والظلم كما قال أبو الطيب. لن أخرج. لقد أصبح الخروج من الباحة الآن كالخروج من جلدي لا يسمى إلا مسخا وقذفا, حسب تعبير مصطفى صادق الرافعي.

حدثت أمي في الأمر, فأشارت علي أن أبقى. سألتها: لماذا؟ أجابت: لا تخش على الباحة شيئا, إنها مرغوبة, وخطابها كثر. قلت: لكن ألا ترين أن الملايين من أسهمها معروضة ولا شراء؟ ردت علي أمي بقول الشاعر:

ما بين غمضة عين وانتباهتها

يغير الله من حال إلى حال

خسرت الكثير بسبب (الباحة) وتذكرت وصف بعض أهل الأسهم لها (بالذباحة), فقلت: صدقوا والله. ولكن قوما ذاقوا حلاوتها زمنا كانوا يصفونها (بالتفاحة). أما أنا فقد أطلقت عليها وصف (الفضّاحة), لكثرة ما فضحتني بين أهلي وأصدقائي. كانوا يعرفون ما يجري لها من صعود وهبوط من نظرات عيني, ونبرة صوتي, وتعبيرات وجهي. آه يا باحتي, كم أضحكت وأبكيت, وكم جرحت وواسيت, وكم أحسنت وأسأت. لم يكن من عادتي أن أكتب شعرا نبطيا, لكنني في لحظة ألم انثالت على لساني هذه الأبيات:

يا باحة مصت جيوب المخاليقْ

وجرت عليهم داهيات المصايبْ

أصبحت في سهمك شبعان تعليقْ

وصرت في هوى بُعدك نشوان ذايبْ

الله يفكني من وصايا وتصفيقْ

وسوق نهب حق الأجواد عايبْ

قالوا لي تصريف تراها وتسويقْ

بيع وشرا وهمي في سوق العجايبْ

لياك تصدق, خضرة السهم تلفيقْ

شغل المضارب جعل شغله خرايبْ

يا باحة السودة علامك على طويقْ

تنسين عهده والوفا والقرايبْ

ديرتك بها للخير عزم وتحقيقْ

يالله عساك السيل عقب الهبايبْ

أتعبت عيني بين الأرقام تحديقْ

خاسر وأدفع فوق خسارتي ضرايبْ

كل يوم يا باحة على فكة الريقْ

نسبة تحت نسبة وتتبع نسايبْ

يا باحة وقفي تلاعب وتضييقْ

أنت نسيت شلون كنا حبايبْ

كان فيك للراغب إثارة وتشويقْ

وصار اللي يطلب قربك اليوم خايبْ

يا رب محفظتي على كف زنديقْ

عوضني يا مولاي برزق الأطايبْ

وبعد أن بعت ثلث أسهمي في (الباحة) بثمن بخس, مدفوعا بالرعب وضغوط أختي (الهامورة), عادت حبيبتي إلى الصمود في وجه العاصفة, وشرعت تسجل نسبا خضراء. فجأة ظهر الملايين يخطبون ودها. يا سبحان الله! تغيرت الحال يا أمي. هكذا الدنيا, لا يدوم على حال لها شأن, ومن سره زمن ساءته أزمان كما قال أبو البقاء الرندي. رأت أختي إياها سهم الباحة يحلق, فبعثت إلي رسالة تحثني فيها على الخروج. قلت: ألا أنتظر برهة من الزمن حتى تنتعش وتعوض شيئا مما فاتها؟ قالت: إن الملأ يأتمرون بأحد المضاربين ليوقفوه, فاخرج إني لك من الناصحين. لكن رحمك الله وما شأن هذا الرجل بالباحة؟ أو كلما ألم خطب بالسوق وجب على أهله الفرار من الباحة فرارهم من المجذوم؟ لماذا تظلمون حبيبتي, وتحسدونها على ما آتاها الله من فضله؟ قال لي أحد الأصدقاء: "الباحة ليس لها ظهر, ومن حذرك كمن بشرك". حتى الأسهم تحتاج في مجتمعنا إلى ظهر؟ قالت أمي لما سمعت هذه العبارة: "ربي بيظهر الباحة على من حقرها".

سأخرج من الباحة يوما, لكن لن أنسى أني عشت معها (غصة) حب بمعنى الكلمة. وكما غنت أم كلثوم: أمر عذاب, وأحلى عذاب, عذاب الحب للأحباب!



منقول من منتديات المساهم لــ سهم بن كنانه ,,,