المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : علم النفس والأسهم .



أبومؤيد
15-04-2006, Sat 1:59 AM
علم النفس والأسهم ... محمد عثمان مصطفى


“لا شك في أن لكل مجتمع بيئته الحاضنة للأسواق المالية، تنعكس فيه خلفيات المستثمرين الاجتماعية والثقافية ونمط تفكيرهم الاقتصادي فتنصهر كلها داخل بوتقة الأسواق لتشكل محصلتها مؤشر السوق”


عندما ركب احد المستثمرين في نيويورك سيارة التاكسي ليصل على عجل إلى سوق الأسهم لينهي مهمة بيع أسهمه، لاحظ السائق مدى الارتباك على صاحبنا فسأله بفضول عن الموضوع، وبعد أن حكى له حكايته ما كان من السائق إلا أن أشار على المستثمر ونصحه أن يبقى على أسهم تلك الشركة لمدة إضافية قصيرة لأنها سوف ترتفع قريبا، وفعلا عمل الرجل بالنصيحة من باب التجربة لا أكثر، وصدقت نصيحة السائق فحقق نجاحا جيدا في تلك الأسهم، تلك الحكاية التي جرت قبل أكثر من عقد ليست بعيدة عما يجري في محيط الأسواق العربية اليوم حين يتحدث الحلاق إلى الزبائن بثقة عن الأسهم وعن رؤيته وتوقعاته، فيكون وقع حديثه على من استمعوا له بين مستهجن ومتهكم، لكن الحقيقة أن ليس هناك جديد في الأمر بعيد عن دراسات الباحثين في العلوم الاجتماعية وعلم النفس الذي أثبت خبراؤه أن هناك علاقة وثيقة بين هذه العلوم والاقتصاد.

وعلى الرغم من أن الاقتصاديين كانوا يرفضون في البداية مجرد الحديث في مثل هذه المواضيع ويعتبرونها من الترف العلمي إلا أن البداية جاءت في الستينات على يد أحد الباحثين وهو “جاري بيكر” من جامعة شيكاجو حين جاء بنظرية العلاقة الاقتصادية مع الحياة الاجتماعية وحصل على جائزة نوبل لجُهوده، ليثبت من خلال تلك النظرية أنّ الخلفيات الاجتماعية تضغط على أصحابها في اتخاذ القرارات الاقتصادية والاستثمارية، ونما بعد ذلك علم سمي “الاقتصاد الاجتماعي” مهمته هي الدراسات الاجتماعية من زاوية تأثيرها في الاقتصاد، حيث يمكن أن نفهم من خلال هذا العلم كيف يربح الناس وكيف ينفقون أموالهم وكيف يستثمرونها بالاستناد إلى فهمنا للعلاقات الاجتماعية المتشابكة، فالاقتصاد في النهاية هو مجموعة من العلاقات الاجتماعية والدينية أحيانا، والأشخاص لا يمكنهم أن يفصلوا في شخصياتهم بين العواطف والعقل أو بين شخصياتهم التجارية والإنسانية وهكذا تسير الحياة بشكل يومي.

حينما تسيطر فكرة أسواق المال وأسهم الشركات على تفكير معظم أفراد المجتمع، فإنها حالة قد مرت بها معظم دول العالم تقريبا، ومرت أيضا بمراحل صعود كبير تلاها انخفاض وتصحيحات استقرت على إثرها أسعار الأسواق حتى إن بعض تلك الأسواق لا تكاد تبلغ حركتها اليومية حاليا %1 زيادة أو انخفاضا، ومن الأوضاع النفسية التي مرت بها مجتمعات تلك الأسواق عندما تكون الأسعار في أعلى قيمها يكون الصوت المسموع واللحن المفضل وحده هو صوت من يبشر بارتفاع مقبل ويحث المستثمرين على الشراء، وفي حين لم تخلُ الساحات الإعلامية يوما من أصوات عقلانية تحذر من خطورة الارتفاع الزائد ولكن لا يلقى لها بال وتكون مثل النشاز في اللحن ويأتي الرد الفوري عليها مسكتا بمقولات إن أسواقنا تختلف عن الآخرين وإن اقتصادنا هو الأقوى، ثم بعد أن يتوقف الارتفاع وتنخفض الأسواق يرفض المجتمع تقبل تلك الحالة في البداية وتعلو صرخات أشبه بنداء الاستغاثة لوقف الهبوط ويبدأ توجيه اللوم وتبادل التهم، ولكن بعد فقدان الأمل في الارتداد السريع تتسرب القناعة تدريجيا إلى النفوس وتقبل الواقع شيئا فشيئا، ويبدأ البحث عن الرأي والرأي الآخر ومقارنة ذلك بالواقع، وهنا تخفت أصوات كثيرة من المتصدرين للحديث وإعطاء التوصية في مراحل الصعود، فمنهم من ينسحب من هذه الساحة بلا رجعة خوفا من تحمل أي مسؤولية كلام كان يطلقه من دون أدنى خلفية علمية أو لتلبية أهداف شخصية، وقسم يحاول ركوب الموج في الاتجاه المعاكس وهذا هو الأخطر على من لا يزال يستمع له، أما الصوت الذي كان منذ البداية يستند إلى المفاهيم العلمية الثابتة فإنه سيجد من يستمع إليه ويناصره.

لا شك في أن لكل مجتمع بيئته الحاضنة للأسواق المالية، تنعكس فيه خلفيات المستثمرين الاجتماعية والثقافية ونمط تفكيرهم الاقتصادي فتنصهر كلها داخل بوتقة الأسواق لتشكل في محصلتها مؤشر السوق.

وأبدع علماء النفس في دراساتهم بدمج علم النفس مع العلوم الاقتصادية وقاموا بالعديد من الدراسات والأبحاث أوضحوا من خلالها مدى تأثير العوامل النفسية والاجتماعية في القرارات الاقتصادية، وبينما كان القليل من علماء الاقتصاد في البداية يعترفون بهذه العلاقة تزايدت هذه القناعة واستخدمت نظرياتها في أساليب التسويق التجاري، وتبين أن النتائج تكون عالية عند أخذ العوامل النفسية في الاعتبار.

أما عن إثبات هذه العلاقة بأسواق المال فهناك العديد من النظريات التي أصبحت ثابتة لدى المحللين وخبراء السوق، ولعل من أوضح هذه الأمثلة ببساطة ما نجده في الشموع اليابانية المجسمة للرسم البياني للأسعار من شرح معاني بعض أنماطها مثل نمط “حيرة المستثمرين” وهي وصف للحالة التي تكون الأسعار عندها غير واضحة وجهتها نتيجة لتخوف المستثمرين وترقبهم، وحالة أخرى عندما نجد الفرق يتسع بين أسعار العرض والطلب نتيجة لرغبة المشتري في الحصول على أقل سعر ورغبة البائع في أعلى سعر وهي أشبه بلعبة شد الحبل وينتج عنه تذبذب عالٍ في الأسعار.

قد يختلف بعد نظر المستثمر بين بيئة وأخرى، فالصبر وهدوء الأعصاب الذي لا يتوفر لدى غالبية المجتمعات نجده موجوداً فعلا عند مجتمعات أخرى، وخير دليل على صحة هذا العلم هو ما نلحظه من فروق واضحة في سلوك مؤشرات أسواق المال عند النظر إليها خلال الفترات التاريخية الطويلة فنجد التباين الكبير في طريقة الصعود والهبوط، وفي مراحل تكونها الأولية وإلى أين وصلت تلك الأسواق حاليا من ناحية الاستقرار.

أما في أسواقنا العربية فالعاطفة والحماسة وعدم القبول بالسحاب سقفا أعلى للأسعار هي الصفات التي تميزت بها المرحلة السابقة من عمر الأسواق، بينما كان الاندفاع نحو الأسواق من معظم شرائح المجتمع، حيث وجدنا في بعض الدول من كان يعمل في مهنة التعقيب ومتابعة المعاملات وقد تحول إلى إدارة محافظ استثمارية بالملايين من أموال غيره من المستثمرين.

والأبلغ من ذلك كله حين يقف إمام الجمعة على المنبر يناشد المعلمين بأن يتقوا الله في عملهم ويبتعدوا عن متابعة الأسهم أثناء فترة التدريس الصباحية.

هذه المتناقضات تذكرنا بزمن البدايات الذي دخلت فيه لعبة كرة القدم إلى قلوب الجماهير وعقولهم فسيطرت على التفكير العام للمجتمع وكان الهدف هو الفوز ولا شيء غيره وكانت الخسارة تعني الحداد العام، حينها أصبحت جميع فئات المجتمع لا هم لها إلا متابعة المباريات ولم تكن المتابعة لتكفي بل حتى النقد والتحليل ومراجعة قرارات الحكام، واقتحم هذا النشاط كل من وجد نفسه مخلصا له ولا أزال أتذكر ذلك المعلق الرياضي الذي أعلن على الهواء من الأرجنتين أثناء حفل افتتاح كأس العالم وهو يشاهد الألعاب النارية للمرة الأولى في حياته أن الملعب يحترق، وبعدما مرت تلك الفترة بسلام أخذ كل موقعه الطبيعي وبقي في هذا النشاط من هم أهل له يعملون فيه ليقدموا شيئاً مفيداً للجماهير.
والحال في أسواق المال عندنا ليس بعيدا، فقد استقطبت المراحل الأولى من عمرها فئات وشرائح متعددة من جميع أطياف المجتمع أغلبيتهم من لا علاقة له من قبل بهذا المجال، وهذا بحد ذاته لا يضير كونهم راغبين في استثمار أموالهم وتنميتها، وأدى ذلك الى أن تنعكس خلفياتهم الفكرية والاقتصادية على أداء هذه الأسواق فتكون مندفعة بشكل متسارع إلى الأعلى أو الأسفل، أما المشكلة الحقيقية فكانت في من ادعوا لأنفسهم مكاتب الخبرة والتحليل الفني وتصدوا للحديث عبر وسائل الإعلام التي وبكل أسف أعطت الفرصة لكل من شاء أن يدلي بدلوه ويعبر عن تصوراته بغض النظر عن صحتها وتأثيراتها السلبية في المستثمرين البسطاء الذين كانوا ينتظرون مجرد إشارة للدخول.

في المرحلة المقبلة وبعد أن تنهي الأسواق دورتها الطبيعية في الانخفاض يتوقع أن يحدد كل موقفه من السوق وماذا يريد منه، بتحديد أهدافه والخطة العامة وأسلوب العمل اليومي، وتكون تلك المفاهيم واضحة ومحددة لدى كل من يقترب من السوق، فتحقيق الربح هدف ومطلب مشترك للجميع ولا يصلح أن يكون هو الخطة بل يجب أن تكون الخطة بين العمل عن بعد أو العمل داخل السوق نفسه، وهكذا سوف ينسحب من مهنة التعامل اليومي مع السوق من دخله من باب الهواية وعطل مصالحه الأخرى حيث يرجع كل إلى قناعته الأصلية.