المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : نظام الاكتتاب العام.. مراكمة الثروات في أيدي القلة



لمسة حنان
13-02-2006, Mon 4:42 PM
يوسف أبا الخيل
تعاني الاقتصاديات الوطنية أحياناً مما يطلق عليها في علم الاقتصاد "حالة عدم التوازن بين معدلات الادخار والاستثمار" التي تتخذ في أحد جوانبها حالة زيادة المعروض من النقد الناتج من حالات كثيرة أهمها ضيق فرص الاستثمارات المعروضة أمام المدخرين.
هنا تلعب السياسات النقدية والائتمانية في الاقتصاديات الجيدة دوراً لا يستهان به في معالجة مثل تلك الحالات والنتائج المترتبة عليها، ومن ضمن تلك السياسات التي تتخذها البنوك المركزية - المسؤولة عن سك السياسات النقدية - رفع سعر الفائدة على ودائع البنوك لاجتذاب مزيد من تلك الأموال المعروضة في السوق، كما أن تشجيع الاستثمارات وإزالة المعوقات من طريقها يعتبر سياسة نقدية جيدة لاجتذاب فوائض تلك الأموال.
الاقتصاد السعودي يمر منذ فترة بحالة من زيادة المعروض من النقد تجلت أهم شواهدها في تغطية الاكتتابات في أسهم الشركات التي عرضت أسهمها للاكتتاب العام عدة مرات، وكانت آخر تلك الأسهم المكتتب فيها أسهم شركة "الدريس للخدمات البترولية" التي تم تغطية الاكتتاب في أسهمها أكثرمن عشر مرات.
هناك بالطبع مشكلة يعاني منها الاقتصاد الوطني كما يعاني منها غيره من الاقتصاديات العربية والإسلامية ولكن بنسبة أقل وهي محاولة تجنب كثيرٍ من المدخرين استثمار أموالهم في الودائع البنكية ذات الفوائد المحددة، نسبة للرأي الفقهي السائد الذي يرى حرمة الاستثمار فيها، ومن ثم لا يبقى من سياسة نقدية فعالة تجاه إعادة حالة التوازن بين معدلات الإدخار والاستثمار إلا مزيد من تشجيع الاستثمارات الجديدة، وأهمها حالياً العمل على طرح مزيدٍ من أسهم الشركات سواء منها شركات الأشخاص أم ذات المسؤولية المحدودة، مع التوسع في إنشاء شركات الأموال التي تؤدي إلى خلق قيم مضافة إلى الاقتصاد الوطني لامتصاص مزيد من النقود المعروضة في السوق حالياً.
وجود حالة عدم التوازن هذه في الاقتصاد السعودي، إضافة إلى بطء السياسات الاستثمارية وقلة الفرص الاستثمارية نفسها دفع مزيداً من تلك الأموال للهجرة إلى الخارج، وقد تجلى ذلك مؤخراً في الاكتتاب في الشركات الخليجية كما حصل قبل عدة أشهر عندما اكتتب العديد من السعوديين في شركة "دانة غاز" الاماراتية، وكما حصل قبل أيام معدودة عندما ضرب جمهور المكتتبين السعوديين خيامهم أمام مقر بنك "الريان" القطري انتظاراً لما تجود به الأيادي القطرية من فتات أسهم ذلك البنك، والبقية آتية طبعاً في الطريق، وما على القطاعات الاقتصادية الخليجية وربما العربية وغيرالعربية مستقبلاً إلا الإعلان عن طرح أسهمها للاكتتاب، وستجد الرواحل السعودية قد أناخت بأبوابها ضاخة بمزيدٍ من مدخراتها هناك، والنتيجة خسارة الاقتصاد الوطني لمزيد من مقوماته الحيوية.
من جهة أخرى فإنه رغم أهمية طرح أسهم الشركات للاكتتاب العام في امتصاص فائض عرض النقود الحالي إلا أنه سيؤدي في ظل نظام الاكتتاب الحالي إلى حالة تتآكل فيها الطبقة الوسطى، وهي صمام الأمان في المجتمع، لصالح نشوء طبقات مترفة صغيرة ومحدودة وأخرى طبقات فقيرة واسعة، وقد كتبت عن هذا الموضوع سابقاً ومن على منبر هذه الجريدة على خلفية الاكتتاب في أسهم شركة اتحاد اتصالات، واليوم أعود لنفس الموضوع في ظل التوجه العام لطرح أسهم العديد من الشركات سواء منها شركات الأشخاص أو الشركات ذات المسؤولية المحدودة أو شركات الأموال.
ويبدو لي أن من المناسب طرح مثال من واقع سوق الاكتتاب لتبيان حقيقة هذه الإشكالية، فقبل أيام خلت انتهت عملية الاكتتاب العام في أسهم شركة "الدريس للخدمات البترولية" التي خصصت ثلاثين بالمائة فقط من أسهمها لاكتتاب الجمهور، في مقابل احتفاظ بقية الشركاء في تلك الشركة ذات المسؤولية المحدودة بالمتبقي من أسهمها، وقد بلغت الأسهم المطروحة للجمهور ما مجموعه مليون ومائتا ألف سهم، بسعر خمسين ريالاً كقيمة اسمية للسهم، ومائة وخمسة وثلاثين ريالاً احتسبت كعلاوة إصدار، وقد نتج عن تكرار تغطية الاكتتاب في تلك الأسهم تخصيص أقل من سهم للفرد الواحد.
هذا يعني أن مساهمي الشركة الأصليين المحدودين قد احتفظوا لأنفسهم بما مجموعه مليونان وثمانمائة ألف سهم، ومن المتوقع أن لا يقل سعر سهم الشركة عند طرحه للتداول في سوق الأسهم السعودي عن سبعمائة ريال، وبحسبة بسيطة سنجد أن الأرباح الأولية من تداول السهم للمساهمين الأصليين ستبلغ ما لا يقل عن مليار وتسعمائة وستين مليوناً من الريالات، إضافة إلى ما حققوه من علاوة الإصدار البالغة مائة واثنين وستين مليوناً، في حين أنه تم تخصيص خمسة أسهم لكل ستة أفراد من المكتتبين من الجمهور!!!.
أذكر أنه قد صدر في العام الماضي قرار من مجلس الوزراء ينص على أن لا يقل طرح الأسهم للاكتتاب العام عن خمسين في المائة من جملة أسهم الشركة، ويبدو أنه خاص بشركات الأموال الجديدة فقط، ولا يمتد لشركات التضامن أو ذات المسؤولية المحدودة التي تطرح أسهمها للاكتتاب العام، وأرى أن هذا القرار لا بد وأن يشمل كافة الشركات التي سيُطرح جزءٌ من أسهمها للاكتتاب العام، إذ أن نظام الاكتتاب الحالي لا يعدو أن يكون آلية توفر لأصحاب الشركات الأصليين سواء أكانوا شركاء متضامنين أو ذوي مسؤولية محدودة فرصة الاستفادة من مزايا سوق الأسهم السعودي وهو كما هو معروف سوق خصب ومزدهر، وبنفس الوقت الاحتفاظ بجل مزايا نظام الشركة التي كانت عليه قبل طرح أسهمها، وهذه الاكتتابات بنسبها المتدنية حالياً إذ هي لا تؤدي إلا إلى امتصاص جزءٍ بسيط من عرض النقود العالي حالياً، فإنه سيخلق في المقابل وضعاً لا بد وأن يؤدي إلى مراكمة الثروات في أيدي القلة، في مقابل انكماش الطبقة الوسطى وتوسع هامش الطبقة الأدنى.
وهاهي الأخبار تتواتر عن نية العديد من شركات الأشخاص طرحَ جزءٍ من أسهمها للاكتتاب العام، للاستفادة من الفرص الذهبية التي يوفرها سوق الأسهم السعودي، وستمتد بالتالي الإشكالية إلى أن تصل إلى الحد الذي تتعقد معه بشكل ربما يصبح التعامل مع نتائجها صعباً للغاية، ولا بد في رأيي من أن تكون النسب المخصصة للاكتتاب العام في أسهم تلك الشركات لا تقل عن خمسين في المائة منها مع فتح المجال واسعاً أمام تأسيس شركات الأموال التي تعتبر عماد الاقتصاديات الحديثة، في مقابل الحد من تأسيس شركات التضامن بأنواعها أو ذات المسؤولية المحدودة.