المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : عصر اقتصادي جديد.. وتحديات كبيرة



Dr.M
16-08-2005, Tue 10:08 PM
عصر اقتصادي جديد.. وتحديات كبيرة

د. عبد الوهاب أبو داهش
16/08/2005

تبدأ المملكة عصراً اقتصادياً جديداً، وتمر بمرحلة تغير كبيرة قد تمتد سنوات طويلة، ربما تصل إلى عشر سنوات مقبلة. لقد بدأت تلك الانتعاشة الاقتصادية في بداية الألفية الثالثة، وبالتحديد سنة 2000 للميلاد، عندما بدأت أسعار النفط في تأكيد عودتها إلى الارتفاع بعد الهبوط الكبير سنة 1998، وتبني الحكومة السعودية إصلاحات اقتصادية عديدة، أصبحت في مرحلة التنفيذ في الوقت الراهن. وحتى تكتمل تلك الإصلاحات وتؤتي أكلها، فإننا قد نحتاج إلى أكثر من عشر سنوات، وهي الفترة التي ستشكل طفرة اقتصادية فعلية. وحتى تصبح كذلك، ينبغي علينا اتباع ما يصلح من قرارات وتنظيمات وإجراءات تدعم نجاحها واستمراريتها، وتحويلها إلى تنمية مستدامة، وليس تنمية عابرة.
إن القول بمرحلة اقتصادية جديدة، وقد تطول، يرتكز على عوامل عدة يمكن إيجازها في التالي:

أسعار نفط قوية
لم يكن أكثر المتفائلين سنة 2000 يتوقع أن تصل أسعار النفط إلى مستوياتها الحالية (نحو 65 دولاراً)، فهي انخفضت إلى نحو عشرة دولارات سنة 1998، وارتفعت إلى متوسط 34 دولاراً للبرميل سنة 2000 نتيجة النمو الاقتصادي القوي في الدول الصناعية، وتعافي دول شرق آسيا من أزمة .1997 ناهيك عن أن ''أوبك'' بدأت سنة 2000 في تبني سياسة النطاق السعري بين 22 و28 دولاراً للبرميل، عن طريق التحكم في الإنتاج، وهي السياسة التي نجحت في الحفاظ على أسعار النفط فوق 20 دولاراً للبرميل. وساهمت العوامل الجيوسياسية المتمثلة في الهجوم الإرهابي 11/9 وحرب العراق، وكذلك انخفاض المخزون في الدول الصناعية، وعودة النمو الاقتصادي العالمي بعد ركود 2001 إلى زيادة الطلب على النفط، وارتفاع أسعاره لتتجاوز توقعات المراقبين بكثير.
ويبدو أن تلك العوامل ستظل قائمة لسنوات مقبلة نتيجة انحسار الطاقة الإنتاجية لمعظم الدول المنتجة للنفط، والبداية المتأخرة للاستثمارت الجديدة في مجال النفط، ومعوقات الاستثمار في مصافي التكرير النفطية، خصوصاً في الولايات المتحدة. وستضاف إليها رغبة بعض الدول، خصوصاً في آسيا، في بناء مخزونات استراتيجية للنفط، مما يؤدي إلى زيادة الطلب على النفط العالمي بوتيرة أسرع من السنوات الماضية، ما يجعل من تماسك أسعار النفط سنوات مقبلة أمرا متوقعا. وهو الأمر الذي سيعزز من النفط كعامل قوة لأداء الاقتصاد السعودي في السنوات المقبلة، حيث إن عائدات النفط ستسهم في توفير السيولة التي ستحتاج إليها متطلبات التنمية، خصوصاً البنية التحتية.

متطلبات تنموية عالية
من الواضح أن أسعار النفط ستظل مصدر دعم لمقابلة احتياجات التنمية للسنوات المقبلة، خصوصاً المالية، فهناك تقديرات تشير إلى أن مجمل الاستثمارات في القطاعات الرئيسية في الاقتصاد قد تتجاوز تريليوني ريال سعودي في السنوات الـ 15 المقبلة. وكان العامل الأهم في ذلك هو أن تلك المتطلبات كانت نتيجة الإصلاحات الاقتصادية المتوثبة التي اتخذت الحكومة السعودية معظمها سنة 1998 والسنوات التالية لها. وتمثلت تلك الإصلاحات في إنشاء العديد من الهيئات المتخصصة للتخطيط ومتابعة الشأن الاقتصادي، فقد أنشئ مجلس الاقتصاد الأعلى، الذي أعد استراتيجية تخصيص تدعو إلى تحرير قطاعات اقتصادية عديدة بمشاركة أكبر للقطاع الخاص مثل الاتصالات، والكهرباء، والمياه، والموانئ، والبريد، والنقل، والسياحة. وفي ضوء ذلك، أنشئت هيئات متخصصة لتحرير وتنظيم تلك القطاعات مثل هيئة الاتصالات، والهيئة العامة للكهرباء، والهيئة العامة للاستثمار، وهيئة السوق المالية، وغيرها من الهيئات.
ويتطلع المستثمرون إلى دور كبير لهيئة سوق المال في جعل السوق المالية مصدر تمويل فعلي لمقابلة احتياجات التنمية والتوسعات الاستثمارية الكبيرة التي ستشهدها قطاعات الاقتصاد المختلفة مثل قطاع البتروكيماويات والغاز والكهرباء، خصوصاً أن القطاع البنكي لا يستطيع وحده مقابلة ضخامة تلك الاحتياجات المالية الكبيرة، فهو الآخر يحتاج إلى إعادة هيكلة قوية تمكنه من المشاركة بقوة في العملية التنموية المقبلة، خصوصاً في نشاط تمويل الشركات ومشاريع الاستثمار الكبيرة.

تحرير قوي في الاقتصاد
إن استراتيجية التخصيص وإنشاء هيئات اقتصادية عديدة لمتابعة تحرير وتخصيص الأنشطة الاقتصادية تزامنا مع عولمة الاقتصاد، المتمثل في تسارع تحرير التجارة العالمية والإقليمية والخليجية، فرغم تأخر المملكة في الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية، فإنها تعمل على تحرير اقتصادها وتحسين البيئة الاستثمارية بما ينطوي عليه من تحسين وتطوير الأنظمة والإجراءات. وفي الوقت نفسه تقود المملكة عملية تحرير التجارة البينية العربية بدعوتها إلى إزالة العوائق الجمركية والعوائق المماثلة لها بين الدول العربية حتى يتحقق ما يعرف بمنطقة التجارة العربية الحرة الكبرى. وعلى المستوى الخليجي، فإن المملكة والدول الخليجية الأخرى تعمل على إقامة سوق خليجية مشتركة أصبحت وشيكة، وسيصبح أمر توحيد العملة الخليجية حتمياً في ضوء تسارع التكامل الاقتصادي الخليجي.
إن انضمام المملكة لمنظمة التجارة العالمية سيكون داعماً لتحرير الاقتصاد السعودي كون المملكة ستكون في القارب نفسه الذي يحمل الاقتصاد العالمي، وستتمكن من التعامل عن قرب مع أطراف التجارة العالمية بما يخدم منتجاتها وصادراتها، فالاندماج مع الاقتصاد العالمي سيكسب الشركات السعودية الجرأة والخبرة في دخول أسواق جديدة، خصوصاً أن هناك تحسنا واضحا في البيئة الاستثمارية العالمية والإقليمية، وهو الأمر الذي يجعل من سوق المنتجات السعودية أكبر حجماً وأكثر تنافسية وربحية.

إرادة سياسية
إن التغييرات المؤسساتية الواضحة (إنشاء هيئات اقتصادية) جاءت لإيمان القيادة السياسية بالحاجة إلى التغيير والتطوير باتباع سياسات مواكبة للتغيرات العالمية المتسارعة. ورغم أن معظم الأفكار وتبني استراتيجية التغيير جاءت في وقت كانت فيه أسعار النفط في الحضيض سنة 1998، فإن الإرادة السياسية استمرت بالعزم والقوة نفسها حتى مع ارتفاع أسعار النفط وتحسن النمو الاقتصادي وارتفاع الفائض في الميزانية العامة للدولة، بل إن تلك العوامل القوية ستسهم بشكل كبير في تحقيق ودفع مسيرة النمو بوتيرة أسرع، وستشكل ارتياحاً للقيادة السياسية لدفع عملية التغيير إلى الأمام. وخصوصاً أن القيادة السياسية الحالية المتمثلة في خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز هي من تبنت وقادت استراتيجية التغيير، وإقامة المؤسسات الحالية المنوط بها تخصيص وتحرير الاقتصاد.
ويرأس ولي العهد الحالي الأمير سلطان بن عبد العزيز عملية الإصلاح الإداري على المستوى الحكومي الذي نتج عنه إلغاء بعض الوزارات الحكومية ودمج البعض الآخر. كل ذلك يتم في محاولة للخروج من عنق الزجاجة ودفع عملية النمو والتنمية الشاملة إلى الأمام. إن تلك الإرادة السياسية وهي تتسنم قيادة التنمية الشاملة هي أهم عوامل نجاح التغيير، فهي ستعمل على ديمومة التنمية بالتدخل المناسب في حال ظهور أي عوائق تبطئ سير عجلة النمو.
وتدرك القيادة السياسية أنها ستجابه عدة تحديات في تحقيق تنمية شاملة، وتتمثل أهم تلك التحديات في التالي:

النمو السكاني والبطالة
وصل النمو السكاني في المملكة لفترات متفاوتة إلى أعلى المستويات عالمياً. وارتفعت مستويات البطالة بنسب متفاوتة قدرتها المصادر الرسمية وغير الرسمية بنسب راوحت بين 8 و20 في المائة، وذلك نتيجة ارتفاع شريحة الفئة الفتية والقادرة على العمل. ولم يكن النمو السكاني العامل الرئيس في وجود البطالة، بل إن هيكل الاقتصاد ساعد على ظهور بطالة جبرية وطوعية، ناهيك عن بطالة مقنعة، فالنمو الاقتصادي الكبير الذي شهدته المملكة في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات - وسط عدد سكاني ضئيل وغير مؤهل بما فيه الكفاية حينذاك - فتح الباب على مصراعيه لاستقدام عمالة أجنبية في كل الحرف والمهن، بل أصبح الباب مفتوحا لاستقدام عمالة لسنا في حاجة إليهما، فتأشيرات الاستقدام كانت تعطى لكل من أراد، حتى أصبح الاستقدام لمواطنين كثر مهنة يرتزقون منها، فبعض المواطنين استقدم عمالة وافدة لتعمل نيابة عنه، وسحب نفسه من سوق العمل. وساهمت مخرجات التعليم في تخريج جيل يحتاج إلى إعادة تأهيل، بدءا من فهم أخلاقيات العمل، وانتهاء بإتقان المتطلبات الدنيا في الوظائف المتوافرة في الاقتصاد، مما جعل حل مشكلة البطالة وسعودة الوظائف أهم المصاعب والتحديات التي تجابه صانع القرار، خصوصاً في ظل انطلاقة الاقتصاد الحالية، التي تتطلب مهارات وكفاءات وظيفية عالية، قادرة على المنافسة محلياً وإقليمياً وعالمياً، قد لا تكون متوافرة في المواطنين، إنها معضلة حقاً.. قد نعود لتفصيلها في مقالة منفصلة.

الأنظمة واللوائح والإجراءات
لقد أصبحت الأنظمة واللوائح والإجراءات مثار تساؤل وغيظ للجميع، بدءا من صانع القرار وانتهاء بالمستفيد النهائي منها والمتعامل فيها، فقد أصبحنا في معظم الأحوال سجناء أنظمة وقرارات قديمة، لا نستطيع منها فكاكاً إلا بتبني قرارات وأنظمة جديدة تلغي تلك القديمة، إلا أن المهمة شاقة وصعبة، فالأنظمة والقرارات القديمة أصبحت كنسيج قميص واحد، فسحب خيط واحد قد يؤدي إلى تلف القميص كاملاً، حتى يصبح من الصعوبة ارتداؤه . وفي حالة محاولة إعادة رتقه، فإنه قد يكلف كثيراً ولن يعود أفضل حالاً مما سبق.
ويمكن ملاحظة ذلك عند استحداث أنظمة جديدة للهيئات التي أنشئت أخيراً ضمن حزمة الإصلاح، فهي الأخرى وجدت مصاعب كبيرة في استحداث أنظمة جديدة، فالبعض أصبح معارضاً لأنظمة أخرى للمنظومة نفسها، أو مع أنظمة مؤسسات حكومية أخرى، والأمثلة كثيرة بدرجة قد يصعب تعدادها، إلا أن أهمها التعارض الذي حدث بين أنظمة وصلاحيات هيئة سوق المال ووزارة الصناعة والتجارة بشأن الشركات المساهمة.
إن العمل على تحديث الأنظمة واللوائح لتتواكب مع متطلبات التنمية الحالية أمر بالغ الصعوبة، لذا يجعلنا نعود إلى البناء النظامي والقانوني من جديد، ليتناسب مع مرحلة التغيير التي يشهدها اقتصادنا المحلي.

عوامل اجتماعية تتمثل في الوعي السياسي والاجتماعي بأهمية المتغيرات
إن التغيرات الإصلاحية تواجه سوء فهم وارتباكا لدى عامة الناس، فالقطاع الحكومي وصانعو القرار لم يكونوا قادرين على تهيئة المجتمع للمتغيرات الآنية والمستقبلية، فلم توضع خطط واضحة للتوعية العامة، والتثقيفية لمجمل المجتمع، فالاستراتيجيات التي وضعت لم تستطع أن تنتقل من الأدراج إلى مجتمع الأعمال ومجتمع الطلاب والطالبات، ولم تستطع أن تنتقل أيضاً إلى العاملين عليها وفيها، إذ إن بعض العاملين على الأنظمة لم يستطع استيعابها هو فكيف بقدرته على نقلها إلى الآخرين؟ إضافة إلى ذلك واجهت بعض الهيئات المتخصصة التي أنشئت من أجل إسراع عملية الإصلاح صعوبة في تحديد أهدافها، وفي وضع استراتيجيات واضحة لتحقيق تلك الأهداف. وكانت عملية الإصلاح الإداري تتم بطريقة إعلان قرارات لا يتبعها الشرح والتفسير وآلية التطبيق لتلك القرارت، ما جعل تنفيذ بعضها حبيس القرارات نفسها. إن آلية التنفيذ يجب أن تكون سابقة لإعلان القرار، خصوصاً للعاملين في ذلك المجال، حتى يمكن المسارعة في التنفيذ بمرونة وسهولة.
إن خلق وعي اجتماعي بأهمية التغييرات الحالية والمستقبلية تحد كبير، على صانعي القرار العمل عليه بجرأة أكبر وبوضوح تام. ولن يكون كذلك حتى تصبح أهداف التغيير واضحة لمعظم أفراد المجتمع، ويتطلب ذلك جهداً كبيراً لا يقل أهمية عن إنشاء الهيئات الاقتصادية التي تحدثنا عنها في بداية المقال. خلاصة القول: ينطلق تفاؤلنا من استمرارية الانتعاش الاقتصادي الحالي لسنوات إلى التوقع بتماسك العوامل الجوهرية، وتسارع الإجراءات الهيكلية والإصلاحية التي تبنتها الحكومة، وخلفها قيادة سياسية هي من نادت وقادت عملية التغيير. ورغم التحديات والعوائق التي تم التطرق إليها هنا إلا أن بوادر معالجتها واضحة للعيان، الأمر الذي يزيد من تفاؤلنا بإطالة فترة الانتعاش التي يعيشها اقتصاد المملكة.




http://www.aleqt.com/ListRay.asp?NewsID=2530