المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : «التعقيم الاقتصادي».. آخر العلاج الكيّ



Dr.M
22-06-2005, Wed 1:13 PM
«التعقيم الاقتصادي».. آخر العلاج الكيّ (1)

عبد الحميد العمري
04/05/2005

تعاني جميع الاقتصادات في العالم من استيطان ما يُطلق عليه الاقتصاد الخفي، الذي سبق وتطرقت إليه في العديد من المقالات، ويمكن تعريفه حسب تحديد صندوق النقد الدولي له، بأنه الاقتصاد الذي يشمل إضافة إلى الأنشطة الاقتصادية غير المشروعة كل أشكال الدخل التي لا يُعبّر عنها رسمياً والتي يتم تحصيلها من إنتاج السلع والخدمات المشروعة، سواءً كانت من المعاملات النقدية أو المعاملات التي تتم بنظام المقايضة. وقدر IMF حجم اقتصاد الظل في العالم من خلال عينة إحصائية ضمّت 84 بلداً خلال الفترة 1988 ـ 2000 في البلدان النامية بنسبة راوحت بين 35 و44 في المائة من إجمالي الاقتصاد، وفي بلدان التحول الاقتصادي شكّل كنسبة ما بين 21 و30 في المائة، وأخيراً في بلدان منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي ما بين 14 و16 في المائة.
وقد تباينت درجات نجاح جهود الحكومات في إطار مواجهتها هذا الداء العضال، ومما يؤسف له أن أغلب ما تحقق على صعيد تلك المواجهة لم يرتق بعد إلى المستوى المستهدف للقضاء عليه. فرغم إعادة الهيكلة لتلك الاقتصادات، ورغم قرارات وإجراءات الإصلاح التي وصلت إلى حدودٍ قاسية عانت معها بعض مجتمعات تلك الدول ـ خاصّةً في العالم الثالث - إلا أن ظلال هذا الاقتصاد استمرت في الامتداد حتى وصلت إلى قطاعات ومجالات كانت قبل بدء تلك الإجراءات أو الإصلاحات المضادة نقية من سرطان هذا الاقتصاد! وهذا ما دعا عدداً من الاقتصاديين في مختلف بقاع العالم إلى المناداة علناً بعدم التصدّي لأنشطة هذا الاقتصاد؛ حيث أثبتت بعض الدراسات التي أجروها أنه قد حسّن من مستويات معيشة أفراد المجتمع المسجلين في المستويات الدنيا من الدخول المالية، بل أظهرت نتائج تلك الدراسات أن ثلثي القيم المضافة من هذا الاقتصاد الخفي تعود إلى قنوات الاقتصاد الرسمي، وبالتالي رأوا ـ راضخين - أفضلية الاقتناع بوجوده، وتركه دون محاربة، والاكتفاء بالمراقبة والمتابعة لئلا يخرج عن السيطرة.
ودون الخوض في جدل حول دقة تلك التوصيات، إلا أنه ووفقاً لطبيعة الاقتصاد السعودي القائم على الانفتاح والحرية مع بقية اقتصادات العالم، وكونه يضم بين جنباته ما يقارب الثمانية ملايين عامل من غير السعوديين، يسرّبون من الاقتصاد السعودي سنوياً نسبةً تراوح بين 10 و15 في المائة من الاقتصاد، وما أمكن توثيقه عبر القنوات الرسمية المصرفية بلغ ما يعادل الـ 60 مليار ريال، مع الأخذ في الاعتبار تلك القنوات الخلفية لتحويل الأموال للخارج التي استطاعت نسبةً كبيرة من العمالة المقيمة الاستفادة منها، وفي رأيي أنها في خانة عشرات المليارات! أمام هذه الصورة القاتمة أرى أن الأخذ بمثل تلك التوصيات يمثل نافذةً واسعة على الدمار الاقتصادي الذي لا تُعلم عواقبه! وهذا ما يدعوني بالضرورة القصوى أن أؤكد أهمية مواجهة هذا الاقتصاد المستتر في الظلام بأقصى درجات المواجهة، حيث أُطلق على تلك المرحلة من المواجهة القصوى ''التعقيم الاقتصادي'' للمنابع والمصادر ''الملوثة'' لأنشطة الاقتصاد الخفي في جميع اتجاهاته دون استثناء!
إذا علمنا جميعاً أن من أخطر نتائج هذا الاقتصاد في السعودية، تصاعد وتيرة معدلات البطالة بين شبابنا وفتياتنا، وانخفاض مستويات المعيشة نتيجة انخفاض الدخول الحقيقية، اللذين أدّيا مجتمعين إلى اتساع رقعة محدودي الدخل ''الفقراء''، إضافةً إلى ما سببه ذلك من استنزاف للثروة والاقتصاد المحلي، لتحوله ''أمام أعيننا'' إلى خارج الحدود، والذي أدّى إلى تحمّل الاقتصاد السعودي فواتير باهظة امتدت آثارها إلى مجالات الادخار والاستثمار والاستهلاك المحلي؛ من خلال تأثيرها السلبي على أوعية الإدخار التي تمول وتغذي حاجات الاقتصاد المحلي صوب تمويل المشاريع الاستثمارية، وحرمانه بالتالي من عوائده المضافة، وامتداد تلك الآثار السلبية إلى تكبيل وتقييد خيارات الاستهلاك المحلي. كل تلك الأسباب وغيرها من السلبيات الباهظة التكاليف تدعونا جميعاً ـ غير آسفين - في السعودية إلى ضرورة تبني سياسات وإجراءات نظامية واقتصادية صارمة لأجل الحد من اتساع دائرة هذا الداء بالدرجة الأولى، والقضاء عليه مستقبلاً بالدرجة الثانية. إننا بحاجةٍ إلى تبني ''حزمةٍ'' من السياسات الفاعلة والمستمرة على المستويات كافّة، وأهمها ما يرتبط بالمجال الاقتصادي؛ والتي تستهدف ''تعقيماً اقتصادياً'' لجميع مصادر وأنشطة هذا التلوث الاقتصادي المريع!
يتطلّب تحقيق النجاح في هذا المسعى عدداً من المتطلبات المهمة؛ التي لا يتسع المجال هنا لأذكرها ـ سأتطرق إليها في المستقبل القريب - غير أن من أهم هذه المتطلبات، إضفاء الشفافية المعلوماتية على جميع ''أرقام'' الاقتصاد المحلي دون استثناء! ليس هذا فحسب، بل إعادة تقييم وتحديث وسائل وطرق قياس أرقام النشاط الاقتصادي الحقيقي في السعودية، إضافةً إلى تسريع وقت نشرها، والتي أصبح من الواضح لدى كثيرٍ من الاقتصاديين أنها في كثير من الجوانب لا تعكس حقيقة ما يحدث على أرض الواقع، والتأثير السلبي لذلك الاختلال على قدرة المخطط الاقتصادي في وضع خطط وبرامج وسياسات إدارة الاقتصاد. ولعل من أبسط الأمثلة على صحة ذلك معدل نمو قطاع التشييد والبناء بنسبة قدرها 35 في المائة خلال عام 2003 في هيكل بيانات الناتج المحلي، في حين نما إنتاج ومبيعات شركات الأسمنت في السوق المحلية السعودية بما تجاوز 103 في المائة خلال الفترة نفسها، ووفقاً للمختصّين، فإن مبيعات الأسمنت كما هو مفترض فإنها تعكس بشكلٍ جيد ومباشر حالة قطاع الإنشاءات في السعودية، وتلك قضيةً أخرى تستحق إفراد مقالاتٍ مستقلة لها! ولذا فإن للحديث بقية.


http://www.aleqt.com/ListRay.asp?NewsID=1396

Dr.M
22-06-2005, Wed 1:15 PM
«التعقيم الاقتصادي».. آخر العلاج الكيّ (2)

عبد الحميد العمري
11/05/2005

استكمالاً لموضوع الأسبوع الماضي حول ضرورة أن نتبنى في الاقتصاد السعودي حزمةً من السياسات والإجراءات النظامية والاقتصادية الصارمة، لأجل الحد من اتساع دائرة الاقتصاد الخفي بالدرجة الأولى، والقضاء عليه مستقبلاً بالدرجة الثانية، التي تستهدف ''تعقيماً اقتصادياً'' لكافّة مصادر وأنشطة هذا التلوث الاقتصادي المريع! وانتهيت إلى أن من أهم متطلبات النجاح في هذا الاتجاه هو إضفاء الشفافية المعلوماتية على جميع ''أرقام'' الاقتصاد المحلي دون استثناء! وإعادة تقييم وتحديث وسائل وطرق قياس أرقام النشاط الاقتصادي الحقيقي في السعودية، وتسريع وقت نشرها، لأهميتها في دعم قدرة المخطط الاقتصادي على وضع خطط وبرامج وسياسات إدارة الاقتصاد.
أؤكد هنا أننا ونحن بمواجهة العديد من التحديات على مستوى التعاملات المالية والتجارية ضمن نسيج الاقتصاد السعودي؛ لعل من أبرزها التخلّص من مظاهر الغش التجاري الذي قدرته وزارة التجارة خلال العام الماضي بنحو أربعة مليارات ريال، ويُقصد به شروع التاجر في الخداع أو الغش بإحدى الطرق التالية: ذاتية السلعة أو طبيعتها أو جنسها أو نوعها أو عناصرها أو صفاتها الجوهرية، أو مصدر السلعة، أو قدْر السلعة سواء في الوزن أو الكيل أو المقاس أو العدد أو الطاقة أو العيار، أو استعمال طرق أو وسائل من شأنها جعل ذلك غير صحيح، أو وصف السلعة أو الإعلان عنها أو عرضها بأسلوب يحوي بيانات كاذبة أو خادعة. ومن التحديات الواجب مكافحتها ما يندرج تحت جريمة التستر، الذي يُقصد به تمكين الوافد من استثمار أو ممارسة نشاط تجاري لحسابه، أو بالاشتراك مع غيره محظور عليه ممارسته أو لا يسمح له نظام استثمار رأس المال الأجنبي أو غيره من الأنظمة والتعليمات ممارسته، وحسب ''نظام مكافحة التستر'' يعتبر المواطن متستراً في حالة تمكين الوافد من استخدام اسمه أو ترخيصه أو سجلّه التجاري لممارسة النشاط التجاري، كما يعتبر متستراً كل أجنبي حاصل على ترخيص استثمار أجنبي وقام بتمكين وافد آخر من العمل لحسابه خلافاً لنظام استثمار رأس المال الأجنبي، حيث يؤدي التستر إلى تهرب الوافد من الرسوم التي يتطلبها نظام الاستثمار الأجنبي من خلال عقد صوري بالراتب والميزات. وتنتشر هذه الظاهرة الخطيرة في الكثير من النشاطات التجارية والصناعية التي من أبرزها في المجال التجاري البقالات التجارية، محلات بيع الأقمشة، محلات بيع الخضار والفواكه، المخابز، والمطاعم. وفي المجال الصناعي هناك ورش الميكانيكا، الكهرباء، ومحطات الخدمة الخاصة بالسيارات، إضافةً إلى محلات تغيير الزيوت، مغاسل السيارات، الخراطة، السمكرة، والحدادة. أما في المجالات الحرفية فينتشر التستر في محلات السباكة، التركيبات الكهربائية، وأماكن الحلاقة والتزيين، إضافةً إلى محلات مغاسل الملابس. وتتفشى ظاهرة التستر بصورتها الأخطر على مستوى الشركات الكبرى في عملها داخل الاقتصاد السعودي تحت اسم ''التمثيل التجاري''! وهو المصطلح الوهمي لإخفاء حقيقة وطبيعة أعمال تلك الشركات المخالفة للأنظمة والقوانين القائمة، التي تضم أعداداً كبيرةً من العمالة الوافدة؛ ولعل من أبرز ما يلفت النظر إليها أن جنسية الشركة هي نفسها جنسية موظفيها العاملين فيها! مع ضآلة فرص توظيف العمالة الوطنية فيها؛ التي لا تتعدى الاستقبال والسنترال أو التعقيب لدى الجهات الحكومية، وتتصاعد خطورة هذا النوع من ''الشركات المزيفة'' حينما تقوم بتحويل أرباحها كاملة إلى حساباتها في البنوك الخارجية دون قيدٍ أو شرط، في مقابل ''فتات الأرباح'' التي تُدفع للوكيل ''المتستر''، وهي ''المكافأة الزهيدة'' التي يتلقاها المتسترون لقاء تسترهم الذي كلّف الوطن مليارات الريالات، والتسبب في إيجاد آلاف العاطلين عن العمل من أبناء وبنات الوطن.
ما سبق ليس إلا أحد مظاهر السلبية في نسيج الاقتصاد السعودي آن لنا التخلّص الجذري منه! مما يتطلب إحداث مزيد من السياسات والإجراءات التنظيمية والإدارية، تتركز على تحديث وتطوير الأنظمة التجارية والاقتصادية الحاكمة للنشاط التجاري والاقتصادي، بما يوفر بيئة خالية من البيروقراطية المتكلّفة، التي أوجدت مع مرور الوقت كمّاً كبيراً من العوائق المعقدة في وجه أي أفكار أو مشاريع مجدية للاقتصاد والمجتمع تُقترح من قبل أصحاب الشأن التجاري والصناعي من رجال الأعمال البارزين، أو حتى رجال الأعمال الجدد! لقد أدّى ذلك ''المخزون البائت'' من العوائق البيروقراطية إلى نتيجتين خطيرتين؛ الأولى: تعطيل كثيرٍ من المشاريع التجارية والصناعية المهمة، بل إن أغلبها قد بدأ الهرب إلى خارج الحدود، وأصبح من داخل دولٍ مجاورة يُصدّر إلى السوق المحلية، ليتكبد الاقتصاد الوطني تكاليف مالية هائلة، تمثلت في هروب الرساميل الوطنية أولاً، وثانياً قيمة تلك الواردات المتدفقة إلى الخارج بدلاً من تدفقها إلى الداخل مقابل تصدير سلعها وخدماتها إلى الخارج! النتيجة الثانية: أتاحت تلك التشوهات والاختلالات للعمالة المقيمة المخالفة فرصة استغلالها وتوظيفها بشكلٍ غير نظامي في تنفيذ كثيرٍ من تلك العمليات التجارية والمالية السالفة الذكر أعلاه، التي تسببت في إلحاق كثيرٍ من الأضرار بالاقتصاد السعودي؛ من بطالة وارتخاء لمستويات المعيشة وارتفاع نسب التسرب المالي والاقتصادي إلى الخارج، ما قد تمتد آثاره السلبية ـ إذا لم تواجه بحزم - إلى إحداث هزاتٍ قوية لا تحتمل تزعزع الاستقرار الاقتصادي. أؤكد أن مواجهة تلك التشوهات تأتي على رأس قائمة أولويات واضعي السياسات الاقتصادية والتنموية في السعودية ـ تحديداً في الظروف الراهنة - قبل أن تبدأ عجلة انضمامنا إلى منظمة التجارة العالمية في الدوران المتسارع؛ وهيهات حينها أن يتحقق لنا في الغد ما كان بإمكاننا أن نحققه اليوم بأقل تكاليف!!


http://www.aleqt.com/ListRay.asp?NewsID=1480