المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : نظرة على الوضع الفلسطيني



سيف الخيال
25-09-2002, Wed 7:38 PM
ما بعد الحادي عشر من أيلول :

الحادي عشر من أيلول 2001 شكل بكل المعاني بداية مرحلة جديدة طويلة في الصراع الدولي. لا يتعلق الأمر فقط بأن هذا التاريخ قد حمل إلى الولايات المتحدة واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية في تاريخها، ربما يفوق في أهمية وأبعاده قصف بيل هاربر إبان الحرب العالمية الثانية، لقد تلقت الولايات المتحدة ضربة حقيقية استهدفت أبرز رموز قوتها الاقتصادية والعسكرية والأمنية وبالتالي وضعت على المحك هيبتها كدولة عظمى قائدة ومهيمنة، وأيضاً وضعت القيم التي يتحلى بها المجتمع والنظام الأمريكي أمام معايير جديدة طالت كافة جوانب حياة الأمريكيين وبالطبع كافة زوايا الأرض.

ويمكن القول أن هذه الأحداث بقدر ما أنها شكلت سبباً لخروج القوة الأمريكية بهذه الصورة السافرة، والواسعة عن حدود الولايات المتحدة سعياً وراء الانتقام، فإنها شكلت أيضاً وهذا هو الأساس، ذريعة لتحقيق نقلة في السياسة الأمريكية على النطاق العالمي، ومن أجل إعادة بسط سيطرتها، وتأكيد نفوذها، وخدمة مصالحها، ونحو تسجيل نقاط جديدة لصالحها في إطار تنافس مراكز النفوذ والتكتلات الدولية التي عملت على استبدال النظام العالمي أحادي القوة، بنظام متعدد الأقطاب.


كاتب فلسطيني

وعلى كل حال فإن مثل هذه النقلة، في هذا الوقت أو في وقت آخر، بهذه الذريعة أو بذريعة أخرى، كانت ستتم استجابة لمستوى التطور الاقتصادي والاجتماعي والعسكري الأمريكي، والحاجة لتعميم وإخضاع العالم لآليات ومفاهيم ومتطلبات مرحلة العولمة.

إثر انهيار الاتحاد السوفيتي السابق، وقبله المنظومة الاشتراكية وحلف وارسو، وزوال العدو التاريخي للولايات المتحدة، الذي كانت تستمد من الصراع معه، سياساتها وحوافز مراكمة عوامل قوتها، ظهرت في الولايات المتحدة نظريات كان أبرزها، ما تقدم به فرانسيس فوكويا، الذي تحدث عن نهاية التاريخ، وما تقدم به صموئيل هنغتنجتون بصدد صراع الحضارات.

مفاهيم نهاية العالم، وصراع الحضارات، كانت مفاهيم سياسية بالدرجة الأولى وطرحاً على أساس أنهما سياسات استراتيجية ينبغي على الولايات المتحدة أن تتحرك في ضوئهما. خصوصاً وأن أصحابها هما مهندسان استراتيجيان أكثر مما هما أكاديميان.

جوهر ما ذهب إليه فوكويا ما يقوم على تأكيد فكرة أولوية النظام الرأسمالي على ما عداه من أنظمة، وبأنه النظام الأفضل للعالم، ولذلك ينبغي أن يسود ويسير ويبسط سيطرته على العالم كله. فوكيا ما لم يتجاهل إمكانية وقوع أحداث كبرى على خلفية صراع الحضارات، لكنها من وجهة نظره لا تنال من المجرى الرئيس الذي تحدث عنه وهو صراع الرأسمالية من أجل تأكيد سيطرتها وتحقيق تقدم هائل في معدلات التطور والنمو.

هنغتنجتون، كان يرى بأن غياب العدو الشيوعي، الذي استمدت منه الولايات المتحدة الدافع لمواصلة تماسكها، وتطورها، وسيطرتها على أوروبا، وتعزيز تحالفاتها الدولية، يقتضي اختراع عدو جديد لضمان وجود الدوافع ولذلك يمكن اعتبار نظريته مساهمة قوية في صناعة هذا العدو الذي قد يكون وهمياً، عبر صراع الحضارات. أصحاب هذه النظرة لا يستطيعون المجاهرة بأن الإسلام هو عدو الحضارة الغربية ولذلك فإنهم يتحدثون عن إرهاب، أصولية، انعزالية.

وإذا كان من الصعب قبول فكرة أن ما جرى ويجري بعد التفجيرات في نيويورك وواشنطن على أنه ترجمة لاستراتيجية صراع الحضارات التي تحدث عنها هينغتنجتون إلا أننا نلاحظ عيانياً بأن الحرب الدائرة قد خيضت على أساس عدو جرى تشخيصه وهو "الإرهاب". كما يجري التستر على مضمون هذا "الإرهاب" باستخدام مصطلحات لا تؤشر صراحة إلى الإسلام رغم أنها تعنيه وتستهدفه.

ثمة من يناقش وربما من باب الجرب أو التبرير، وربما انطلاقاً من قناعات أخرى بما يبعد الشبهة عن أن الصراع الجاري إنما هو ترجمة حقيقية وملموسة لصراع الحضارات. ويقول هؤلاء:

1- إن التعايش والتواصل بين الحضارات الإنسانية عبر التاريخ بما في ذلك المعاصر يشكل السمة الرئيسة في العلاقات الدولية، وإن الصراع يتخذ طابعاً هامشياً.

2- إن الصراع بين أطراف الحضارة الواحدة يكون أحياناً أشد من الصراعات بين من ينتمون إلى حضارات مختلفة فعلى سبيل المثال كانت الحربين العالميتين الأولى والثانية، قد جرت بين أطراف حضارة واحدة، وكذلك الحال الحرب الإيرانية ـ العراقية خلال ثمانينات القرن الماضي.

3- لا يوجد في العالم جهة واحدة، مخولة بالحديث عن حضارة واحدة، ولا يوجد تفويض لأي دولة من قبل الدول الأخرى التابعة للحضارة ذاتها.

4- إن الولايات المتحدة لا تشن حربها تحت عنوان صراع الحضارات بل تحت عنوان آخر، وعلى أصحاب حضارات مختلفة، ومن أجل مصالحها.

وبغض النظر عن هذا الجدل، فإن الانتقام هو هدف مباشر ولكن الأساس هو أن أمريكا تخوض حرب السيطرة والمصالح وأن الحرب ضد ما يسمى بالإرهاب العالمي هي امتداد لحروب العولمة، التي بدأت بالتحالف الثلاثيني ضد العراق وفي الحقيقة من أجل السيطرة على المنطقة العربية، تلا ذلك حرب البلقان والقضاء على نظام ميلوسوفيتش وإضعاف سيطرة العرب، إلى حرب وسط آسيا التي يعلم الجميع أنها لا تستهدف القاعدة أو طالبان أو حتى أفغانستان إلا من أجل الإمساك بآسيا من قبلها، والتحكم في بحيرة نفط منطقة قزوين. وبالإضافة إلى ذلك تصرفت القوات المسلحة الأمريكية مع أفغانستان باعتبارها ميدان تدريب واختبار لآلة حربها، ومزبلة للتخلص من ترسانتها القديمة، بهدف تجديدها، الأمر الذي سيؤدي إلى انتعاش الصناعات العسكرية، وإنعاش الدورة الاقتصادية الأمريكية، خصوصاً وأن أمريكا تكون في كل حرب تخوضها قادرة على إرغام الآخرين على تمويلها.

والحقيقة أن ما يجري يتجاوز مفهوم صراع الحضارات، ذلك أن الولايات المتحدة تميز بين "إسلام" معتدل، حليف، يمكن السيطرة عليه واستخدامه، و"إسلام" آخر معادي، يتسم بالتطرف، ويناهض المصالح والسياسات الأمريكية، والحال أن هذه المفاضلة، أرغمت معظم الدول والجماعات على أن تعيد النظر في سياساتها وآثرت السلامة، وتجنب الغضب الأمريكي الساحق، ولذلك يمكن للولايات المتحدة أن تتحدث عن تحالف عالمي مفهومي ولكنه غير محدد الأطراف والمعالم، اللهم إلا بالنسبة للدول التي تنخرط معها فعلياً في هذه الحرب وهي بالدرجة الأساسية دول حلف الأطلسي.

أساس هذه السياسة يقوم على تقييم للعولمة التي تنظر للعالم على أنه قرية صغيرة، وأن الولايات المتحدة لا يمكنها العيش بمعزل عن العالم الذي هو مسرح الاقتصاد والسياسة والمصالح، ولا يمكنها أن تعيش بمعزل عن العالم في ظل التطور الاقتصادي والعلمي والتكنولوجي الهائل والمتسارع. إن لأمريكا مصالح مختلفة ومتنوعة وواسعة يقتضي منها التواجد، والتدخل إذا لزم الأمر في أي منطقة في العالم، فضلاً عن أنها تدعى أن لديها مسؤولية أخلاقية تجاه دول وشعوب أخرى بحاجة إلى المساعدة. وهكذا فإن بوسعنا وصف ما يجري على أنه تعميم للعولمة من خلال عمليات جراحية تستهدف تأهيل المسرح العالمي. للتعامل من مواقع دونية مع المصالح والسياسات الأمريكية وبقيادة الولايات المتحدة وبغرض خدمة عناصر السيطرة الأمريكية.

عناصر السيطرة الأمريكية تقتضي اقتصادياً، تأكيد هيمنة الاقتصاد الأمريكي على اقتصاديات الكتل الأخرى المنافسة (أوروبا الموحدة، اليابان، ما يمكن أن يحمله المستقبل للعملاق الصيني) وأمنياً يقتضي نشر القوات الأمريكية إلى أماكن وقواعد جديدة في العالم، فضلاً عن إنجاز استراتيجية الدرع الصاروخي، وكل هذا من شأنه أن يعزز السياسة الأمريكية على نحو مهيمن ويصعب تجاوزه، وربما كان من أبرز معالمه تحطيم المراكز الإقليمية، وحتى الدولية وتقصد الأمم المتحدة، التي تصبح واحداً من المجالات الحيوية لممارسة السياسة الأمريكية.

في هذا الإطار تحدث الأمريكيون عن حلقات في حربهم، وأفغانستان لم تكن سوى البداية، غير أن الآليات قد تختلف بين حلقة وأخرى.

في هذا الإطار قال الرئيس جورج بوش، إن سياسته تختلف عن سياسة سلفه في المنصب بيل كلينتون، "أنا لا أتكلم، أنا أعمل، نحن نقود الحرب ضد الإرهاب في كل مكان.. إذا لم تفعل الدول ما هو ملقى على عاتقها في إطار الحرب ضد الإرهاب فإن الولايات المتحدة ستقوم بالمهمة بدلاً عنها. أنا اعتمد فقط على مصدر واحد.. القوات المسلحة الأمريكية".

جاء حديث بوش في لقاء مغلق بتاريخ 12/12/2001، مع سبعة متبرعين يهود كبار للحزب الجمهوري.

ما يجري في اليمن من ملاحقة بحثاً عن اتباع "للقاعدة" وبن لادن، وما يجري في الصومال أيضاً، وفي الباكستان من ملاحقة لجماعات وصفتها أمريكا بالإرهابية يقدم نماذج على هذه السياسة، غير أن كل ذلك قد لا يكفي أحياناً بالنسبة للولايات المتحدة، التي قد ترى مصلحتها في التدخل المباشر هنا أو هناك بذريعة أن الإجراءات التي تتخذها هذه أو تلك لاجتثاث الإرهاب ليست كافية.

في مطلق الأحوال وبغض النظر عن الزاوية التي نقرأ من خلالها السياسة الأمريكية فإن القضية الفلسطينية، والصراع العربي الإسرائيلي، سواء لأبعادها الحضارية، أو لكونها تقع في منطقة نفوذ أمريكية حيوية، فإن هذه القضية ستجد تقاطعاً قوياً مع الحملة الأمريكية والعالمية ضد ما يسمى بالإرهاب الذي جرى تشخيصه كالعدو الرئيسي في مطلع الألفية الثالثة.

ويؤكد ذلك أن كافة الترشيحات التي تتكهن بالحلقة الثانية بعد أفغانستان، لا تخرج عن إطار منطقة الشرق الأوسط، فمرة يكون العراق، ومرة سوريا ولبنان، ومرة أخرى اليمن أو الصومال، والبعض يعتقد أنها ستكون فلسطين.



الولايات المتحدة ومفهوم الإرهاب

مرونة واتساع وشمولية المصالح الأمريكية ونظرتها لدورها القيادي، تجعل الإدارة الأمريكية على غير استعداد للتوصل إلى مفهوم جماعي للإرهاب، وهو ما نادت به معظم دول العالم، وهي أيضاً غير مستعدة للعودة إلى تراث الأمم المتحدة لتحديد مفهوم قانوني واضح، ولذلك فإنها تقرن تماماً بين مفهوم الإرهاب، والموقف من مصالحها وسياساتها.

وهذا يعني أن مفهوم الإرهاب يتسع ليشمل دولاً أو جماعات أو أفراد، يمكن أن يتم استهدافهم، انطلاقاً من معارضتهم ومناهضتهم للنفوذ والسياسة والمصالح الأمريكية.

وهنا لا يتم ربط مصطلح الإرهاب، بمدى عدالة، أو اجتماعية، أو إنسانية الأهداف والدوافع، التي تجعل الجماعات أو الدول أو الأفراد، يلجأون إلى أسلوب المقاومة العنيفة، ولذلك فإنه يختفي لدى الإدارة الأمريكية الفارق بين أساليب ووسائل مشروعة وغير مشروعة.

الولايات المتحدة طبقت هذا الفهم والمفهوم تماماً على الصراع الفلسطيني والعربي الإسرائيلي، فهي ترى في المقاومة الفلسطينية المسلحة للاحتلال الإسرائيلي إرهاباً، على الرغم من أن وثائق الأمم المتحدة، أضفت المشروعية الكاملة على كل مقاومة وبكافة الأساليب بما في ذلك الكفاح المسلح، للشعب الذي يسعى لتحرير أرضه ونفسه من الاحتلال.

والأنكى من ذلك أن طبيعة ارتباط مصالحها وسياستها وقيمها بدولة إسرائيل تجعلها ترى في العنف والعدوان الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني باستخدام أفظع الوسائل والأساليب وأكثرها وحشية، تراها سياسة دفاعية، وعلى الرغم من أن نقابة المحامين الإسرائيليين قررت "معارضتها لسياسة التصفيات لكونها إعدام بدون محاكمة"، وطالبت "الجنود ووفقاً للقانون برفض العمليات التي هي جرائم حرب". (هآرتس 24/12/2001)، إلا أن الإدارة الأمريكية باركت سياسة شارون في هذا الصدد.

الإدارة الأمريكية لم تميز بين عمليات عسكرية داخل إسرائيل وعمليات عسكرية في المناطق المحتلة منذ عام 1967، ضد المستوطنين والجيش الإسرائيلي، شأنها في ذلك شأن حكومة شارون.

ففي تعقيبه على بيان "حماس" الذي أصدرته الحركة يوم الجمعة 21/12/2001 وأعلنت فيه عن تعليق عملياتها الإستشهادية داخل الأراضي المحتلة منذ عام 1948 وتعليق القصف بالهاون، عقب الناطق باسم البيت الأبيض الأمريكي آري فليتشر قائلاً "إنها أوقفت التفجير داخل إسرائيل". كل الأنشطة الإرهابية في أي مكان يجب أن تتوقف فوراً" وأضاف فليتشر إن "حماس" منظمة إرهابية.. عرفات اتخذ بعض الخطوات الإيجابية وما يزال المزيد مطلوباً لوضع نهاية لكل الهجمات الإرهابية". ومثلها في هذه الحالة، مثل تجاهلها للعديد من المنظمات والجماعات التي تتجاهل الإدارة الأمريكية وضعها على لائحة الإرهاب، أو تقديمها ضمن أولوياتها لأسباب تتعلق بالمصالح، وبوجود مثل هذه الجماعات والمنظمات في بلدان أوروبية أو حليفة للولايات المتحدة.

إن أمريكا تتجاهل تماماً إرهاب الدولة الإسرائيلية، ولا تجد في الإدانات الصريحة التي تصدر على مدار الوقت، عن مؤسسات حقوقية أو متخصصة في الدفاع عن حقوق الإنسان، دولية وإقليمية ضد الممارسات الإرهابية الإسرائيلية، ما يجعل إدارة بوش تغير من سياسة الكيل بمكيالين وباستخدام ميزان الجزر الذي دأبت على استخدامه.



فلسطين على الأجندة الأمريكية

لأسباب عديدة يمكن ترجيح الاستنتاج الذي يرى بأن الإدارة الأمريكية قد وضعت الحالة الفلسطينية على جدول أعمال حروبها لمكافحة ما يسمى بالإرهاب، بل أنها قد دخلت فعلياً هذا الاستحقاق:

أولاً: تدرك الولايات المتحدة، بدون الحاجة للنصائح والنداءات التي صدرت في معظم عواصم العالم، وخصوصاً أوروبا والعالم العربي، أن القضية الفلسطينية واستمرار الصراع، يشكل واحداً من أهم الدوافع وفي أحيان أخرى الذرائع، التي تقف وراء تنامي الحقد ضد الولايات المتحدة وسياستها، وتفسير الكثير من أعمال المقاومة ضد المصالح الأمريكية.

وبدون الحاجة لمعلومات استخبارية، أو لما ورد في حديث أسامة بن لادن الذي بثته قناة الجزيرة خلال الأسبوع الأول للقصف الأمريكي لأفغانستان وأشار فيه إلى التزامه بالنضال من أجل فلسطين، فإن الولايات المتحدة قد لمست في العديد من الأحداث والمحطات وآخرها في مؤتمر دوربان لمكافحة العنصرية، أواخر آب الماضي، كم تشكل القضية الفلسطينية محرضاً لشعوب الأرض التي تربط عن حق بين الظلم الصادر عن سياسة الولايات المتحدة وذلك الذي يصدر عن إسرائيل المحتلة.

ثانياً: لقد أرادت الولايات المتحدة منذ البداية أن تنضم الدول العربية إلى تحالفها في الحرب ضد ما يسمى بالإرهاب، من أجل تغطية هذه الحرب أولاً، وتعميق ارتباط هذه الدول بسياستها ثانياً، وتهيئتها للعب دور قذر يستهدف تعميق السياسة التي استهدفتها إزاء المنطقة العربية إبان حرب الخليج الثانية عام 1990 ثالثاً.

غير أن الإدارة الأمريكية كانت تعلم أن مشاركة الدول العربية خصوصاً الأساسية منها، كان سيتسبب لتلك الدول في الكثير من الاحراجات، وربما يؤدي إلى استثارة جماهيرها، وإدخالها في أتون صراعات داخلية هي في غنى عنها، ما لم يتم تغطية موافقة تلك الدول بموقف أمريكي في القضية الفلسطينية وهو ما اتخذ سبيلين: الأول إعلان الرئيس بوش استعداد بلاده للاعتراف بدولة فلسطينية قابلة للحياة إلى جانب دولة إسرائيل، والثاني معاودة تنشيط الدور الأمريكي الوسيط من أجل تهدئة الصراع المحتدم على أرض فلسطين منذ نحو عام.

ثمة من بين العرب، وحتى بعض الفلسطينيين من اعتقد بأن هذا الظرف، وحاجة الولايات المتحدة للعرب وحتى السلطة الوطنية الفلسطينية في تحالفها ضد ما يسمى بالإرهاب، فرصة، لمعادلة جديدة، يتراجع فيها الدور الإسرائيلي على اعتبار أن إسرائيل دولة وظيفية، بما قد ينتج عن المعادلة التالية: دور أمريكي يستهدف فرض حل عادل للصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي مقابل مشاركة عربية أكثر فاعلية في مكافحة ما يسمى بالإرهاب.. وعلى هذا الأساس انعقدت مراهنات على دور أمريكي جديد وسياسة أمريكية جديدة، لكن هذه المراهنات سرعان ما تراجعت تحت وطأة التوضيحات اللاحقة لمضمون السياسة الأمريكية. حتى الإسرائيليين أبدوا خشية واضحة من إمكانية تحول السياسة الأمريكية نحو الأخذ بمثل هذه المساومة ولذلك أعلن شارون أكثر من مرة، "أن إسرائيل غير مستعدة، لأن تدفع ثمن التحالف الأمريكي ضد الإرهاب" وكانت تلك إشارة للسياسة العربية التي سعت للحصول على موافقة الإدارة الأمريكية على هذه المعادلة المساومة.

ثالثاً: الولايات المتحدة رغبت وسعت من أجل تبرير وتهدئة الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي من أجل منع ووقف التشويش على حربها، ضد الإرهاب خصوصاً قبل أن يستتب لها الأمر في حربها على الجبهة الأولى، أفغانستان، والتي أشرفت على الانتهاء بمشاركة عربية أقل مما توقعت الإدارة الأمريكية أن تحتاجه منها.

رابعاً: طبيعة العلاقات الأمريكية ـ الإسرائيلية، تلزم الولايات المتحدة التدخل لصالح إسرائيل التي تعاني منذ أشهر طويلة في صراعها مع الفلسطينيين، وبما يؤدي إلى إرضاء حلفائها الأوروبيين، المتحمسين للتدخل والتوسط وزيادة وتوسيع الدور، وأيضاً من أجل كبح هذه التطلعات الأوروبية التي اعتقدت أن الفرصة مواتية.

أي أن وضع الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي على أجندة الأولويات الأمريكية كان يستهدف إنقاذ إسرائيل، وإنقاذ الدور الأمريكي من محاولات التطاول الأوروبية والروسية.. التي لا تتطابق أجنداتها بالضرورة مع الأجندة الأمريكية.

الصراع على الموقف الأمريكي بين الفلسطينيين والإسرائيليين جرى على أشده منذ الأسبوع الأول الذي تلا التفجيرات ضد رموز القوة الأمريكية في واشنطن ونيويورك.



القراءة الفلسطينية

إثر أحداث 11/9 في الولايات المتحدة، بادرت القيادة الفلسطينية إلى إدانة ذلك العمل الإرهابي الذي ضرب واشنطن ونيويورك، وكذلك فعلت لجنة المتابعة العليا للقوى الوطنية والإسلامية، فضلاً عن بعض البيانات المنفردة التي صدرت عن معظم المنظمات والفصائل. إدانة الفعل الإرهابي المذكور كانت محكومة لعقدة الخوف من يتضح أن الفلسطينيين ضلع ما في تلك التفجيرات، أو أن تنجح دوائر الضغط الصهيونية في إقناع الإدارة الأمريكية بإلقاء التهمة أو شبهة الفعل على الفلسطينيين. وفي الوقت ذاته عكست الإدانة الصادرة عن السلطة الوطنية، رؤية سياسية تكتيكية تذهب إلى ما هو أبعد من مغادرة دائرة الاتهام، إلى دائرة التميز السياسي. كان المنطق الفلسطيني منسجماً مع السياق العربي الذي يرى فرصة هامة لمقايضة واشنطن، فالمشاركة العربية الفلسطينية في التحالف الدولي الذي دعت إليه الولايات المتحدة يقتضي ثمناً، يمكن أن يكون في تغيير وجهة السياسة الأمريكية لصالح الضغط على إسرائيل من أجل وقف عدوانها والبحث عن حل سياسي عادل للقضية الفلسطينية.

ويبدو أن واشنطن كانت قد سربت لبعض الدول العربية بعض الوعود في هذا الاتجاه، وخصوصاً السعودية، حيث ظهر فيما بعد أن الإدارة الأمريكية كانت تنوي طرح مبادرة سياسية من على منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة لولا أن التفجيرات استبقت ذلك الاجتماع الذي كان سيتم في النصف الثاني من أيلول.

ولعل التفكير في معقولية مثل هذه المساومة وواقعيتها قد استند إلى قراءة المتغيرات على الوظيفة الإسرائيلية تجاه خدمة السياسة الأمريكية وحيث بدا أن إسرائيل تعيش ظروفاً كالتي عاشتها إبان حرب الخليج الثانية عام 1990.

الحالة الجماهيرية الفلسطينية أظهرت مشاعر مختلفة، تتناغم وشعور الفلسطينيين الدائم والتاريخي بالظلم الشديد الذي يقع عليهم جراء الانحياز الأمريكي الذي لم يتوقف لإسرائيل التي تحتل أرضهم. غير أن السلطة الوطنية تمكنت من وقف التعبيرات الجماهيرية التي عبرت عن التأييد لأسامة بن لادن في الشارع وأغلقت على الإسرائيليين الذين يتربصون فرصة استغلال هذه المشاعر إلى حد تحريض الولايات المتحدة على السلطة الوطنية.

في 18/9 أعلن الرئيس عرفات نداءه للشعب الإسرائيلي وكان يستهدف إعادة صياغة الرؤية الفلسطينية لخيار السلام الذي تتمسك به السلطة الوطنية ومنظمة التحرير الفلسطينية، فضلاً عن إعلانه الاستجابة للطلب الأمريكي بالمشاركة في التحالف الدولي لمقاومة الإرهاب.

وعلى الفور أيضاً وافق الرئيس عرفات على الالتقاء بشمعون بيريز لتثبيت وقف إطلاق النار والهدوء، والتمكن من الانتقال لتطبيق توصيات تينيت وميتشل. وهكذا جاء اجتماعه مع بيريز في مطار غزة في 26/9/2001، ليؤكد هذا المنحى. وفي ظل تلك الظروف لم يكن أمام شارون سوى الموافقة على ذلك اللقاء، لكنه لم يكن مقتنعاً بتلك الوجهة، ولا مخلص للبحث عن الهدوء. ولقد جاءت الممارسات الإسرائيلية اللاحقة وتداعيات التصعيد الإسرائيلي وخصوصاً على صعيد الاغتيالات، وما نجم عن ذلك من ردود فعل فلسطينية انتقامية لتعيد الأمور إلى سابق عهدها. والجدير بالذكر أن الحكومة الإسرائيلية لم تتخذ أية إجراءات تخفيفية مقابل الاستعداد الفلسطيني لوقف النار.

وعدا عن التصعيد الإسرائيلي غير المسبوق، وصمت واشنطن عليه، وعدم المبادرة للضغط على حكومة شارون، فإن الإدارة الأمريكية اكتفت بتقديم إشارة واحدة للفلسطينيين والعرب وهي إعلان الاستعداد للاعتراف بدولة فلسطينية إلى جانب دولة إسرائيل. ولكن وقبل أن يعطى ذلك الإعلان الإيجابي كامل أبعاده كانت واشنطن قد أحبطت كل نظرة كانت تنتظر تغيراً كافياً في السياسة الأمريكية.

رفض الرئيس بوش الالتقاء بالرئيس عرفات حتى على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، وفقط اكتفت واشنطن بسبب الغضب السعودي والعربي، بالتقاء وزير الخارجية كولن باول بالرئيس عرفات. ثم عززت واشنطن ذلك الميل السلبي حين اعتبرت الانتفاضة إرهاباً، وبعد ذلك أيضاً حين وضعت حركتي حماس والجهاد وحزب الله في قائمة الجماعات التي تتهمها بالإرهاب إلى أن أخذت تبني سياستها على مطالبة السلطة الوطنية بمحاربة الإرهاب حتى القتل.

ثمة ما يدعو للاعتقاد بأن واشنطن لم تشعر بالحاجة لأي تغيير جدي في سياستها إزاء المنطقة يصل إلى حد تلبية المراهنات التي عقدتها الدوائر الفلسطينية والعربية للأسباب التالية:

أولاً: أظهرت الإدارة الأمريكية شعوراً استعلائياً لم تكن تخجل من التعبير عنه، ووقعت تحت سطوة العنجهية وسيطرة القوة، والغطرسة إلى حد أنها لم ترغب في إظهار أي قدر من الضعف، أو المرونة أو التساهل ضد الآخرين خصوصاً وأن الغالبية الساحقة وربما كل من تتهمهم واشنطن بالتفجيرات ينتمون إلى العرب أساساً.

ثانياً: يبدو أن واشنطن تراجعت لاحقاً عن تقديراتها الأولية التي كانت ترى للدول العربية دوراً فاعلاً وأساسياً في حربها ضد الإرهاب في حلقته الأولى، وقد اتضح فعلاً أن اعتمادها على الدول العربية كان ثانوياً قياساً باعتمادها على دول أخرى إقليمية ودولية.

ثالثاً: لم تشعر الإدارة الأمريكية بالحاجة لمساومة من المستوى الذي يفكر فيه العرب، خصوصاً وقد أظهروا على الدوام تفككاً وضعفاً، كان يمكنها من ضبط السياسة العربية. وبالتالي لم يكن لدى العرب ما تخشى منه لو أنها أدارت لهم ظهر المجن.

رابعاً: ربما أدى الربط بين "الإرهاب" وبين القضية الفلسطينية إلى تنمية النزعة الانتقامية لدى الأمريكيين تجاه الفلسطينيين والعرب ولإظهار القوة، وعدم الرضوخ أمام مثل هذه الاستنتاجات. وفي هذا الإطار يبدو أن الولايات المتحدة تتبنى بصورة كاملة التقدير الإسرائيلي الذي يقول بأنه لا سبيل لوقف ما يسمى بالعنف الفلسطيني، وإرغام السلطة الوطنية على التهدئة سوى الضغط الشديد والمتواصل. إن السياسة الأمريكية اللاحقة جاءت لتؤكد أن واشنطن مقتنعة بهذه المقولة الإسرائيلية.

خامساً: يتضح أن التحالف الأمريكي ـ الإسرائيلي هو أعمق وأبعد بكثير مما نعتقد، وأنه ليس تحالفاً استراتيجياً مصلحياً وحسب، وإنما هو تحالف قيمي ومصيري، هذا فضلاً عن تأثير جماعات الضغط اليهودية في الولايات المتحدة على قرارات الكونغرس، وقرارات الإدارة الأمريكية.

سادساً: أدعى أن ثمة تشابهاً كبيراً بين شخصيتي الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن وبين رئيس الوزراء الإسرائيلي شارون، فكلاهما عديم الثقافة، مباشر حتى الوقاحة، ضعيف المعارف السياسية عنيد، ويتمتعان بعنجهية واضحة وكلاهما يمجد الأفعال لا الأقوال. وأعتقد أن تحليلاً نفسانياً لملامح الشخصيتين سيظهر قدراً عالياً من التشابه في مميزات كل منهما.

وهكذا وبمرور المزيد من الوقت فإن واشنطن قد عادت وقلبت المعادلات، إلى ما كانت عليه، ليعود الضحية الفلسطينية في نظرها جلاداً والجلاد الإسرائيلي في نظرها ضحية.

وحتى إعلان الرئيس بوش ووزير خارجيته عن استعدادهما لقيام دولة فلسطينية قد لا يتعدى الإعلان الشاروني، ذلك أن واشنطن امتنعت حتى اللحظة عن تقديم أية إيضاحات حول مضمون إعلانها، أو أية آليات، أو جداول زمنية وما إلى ذلك.

حتى حين بادر كولن باول لإلقاء خطابه في 19/11/2001، فإنه زاد الغموض غموضاً، ولم يكن خطابه سوى رؤية مليئة بالأمل والوعود، الأمر الذي جعل أمين عام الجامعة العربية عمرو موسى يدلي بتصريحه الشهير الذي قال فيه "أخشى أن نكون أمام عملية نصب سياسي تاريخية كبرى"، وفي وقت لاحق أضاف "إننا نعيش أسوأ السيناريوهات".

غير أن كل ذلك لم يبدل النظرة الحذرة التي اتسم بها الموقف السياسي الفلسطيني، والذي ظل يسعى لسحب الذرائع الإسرائيلية، وتجنب الاصطدام مع واشنطن، ولمنحها فرصة لتوضيح المدى الذي تصل إليه سياستها.

ولا يفوتنا أن نشير إلى أن المحاولات الفلسطينية والعربية التي رأت فيما تمارسه إسرائيل إرهاباً لا يختلف عن الإرهاب الذي ضرب واشنطن، تلك المحاولات لم تفلح في تبديل موقع إسرائيل ولا في إقناع الولايات المتحدة، والرأي العام العالمي بتغيير طريقة ووجهة التعامل مع الحكومة الإسرائيلية.

سيف الخيال
25-09-2002, Wed 7:40 PM
القراءة الإسرائيلية

منذ البداية وجد شارون ضائقة، حيث انبنى الخطاب السياسي والإعلامي الإسرائيلي على جملة من المقولات والممارسات التي سعت لتحريض واشنطن ضد الفلسطينيين والعرب والمسلمين عموماً.

فلقد أخذ شارون يقرن عرفات ببن لادن والسلطة بطالبان، وأخذ إعلامه ينقل صور الفلسطينيين المؤيدين لبن لادن، والأهم أنه استخدم أقصى درجات العنف والتصعيد من أجل استدعاء ردود فعل فلسطينية تمكنه من تأكيد خطابه. الممارسة الإسرائيلية ذهبت إلى حد المضي قدماً في سياسة تقويض السلطة الوطنية، وتشويه سمعتها، وتدمير مؤسساتها، ووضعت خبراتها في مكافحة ما يسمى بالإرهاب تحت تصرف الأجهزة الأمنية الأمريكية.

ويبدو أن الحكومة الإسرائيلية قد وقعت في البداية في خطأ تقدير السياسة الأمريكية، حيث اعتقد الكثير من السياسيين والكتاب أن أمريكا لن تتورع عن الضغط على إسرائيل لتقديم ثمن مشاركة العرب في تحالفها الدولي ضد الإرهاب، وهو ما جعل شارون يكرر مقولته بأن إسرائيل لن تدفع ثمن التحالف الدولي. غير أن شارون أيضاً كان يخشى من أنه يتحرك في حقل ألغام ولذلك كان عليه أن ينشط دور مجموعات الضغط اليهودية على القرار الأمريكي، فضلاً عن محاولة التكيف مع بعض الطلبات الأمريكية التي لا تلحق ضرراً بالوجهة السياسية العامة للحكومة الإسرائيلية.

لقطع الطريق أمام مهمة الجنرال المتقاعد أنتوني زيني الذي وصل إلى المنطقة يوم الاثنين 26/11 بصحبة مساعد وزير الخارجية ويليام بيرنز، فضل شارون أن يعرض على الرئيس الأمريكي مباشرة، رؤيته للحل مراهناً على أن تكون هي جوهر الرؤية الأمريكية. بعد يومين من وصول زيني غادر شارون إلى واشنطن وقال أنه سيوضح للرئيس بوش التالي:

بعد أن يلتزم الفلسطينيون بصورة مطلقة بكل شروط وقف النار بما في ذلك أيام الهدوء السبعة، وفترة تهدئة من ستة أسابيع، فإنه سيوافق على انسحاب ثالث سخي ينقل منطقة "ب" إلى "أ" ويعترف بإقامة دولة فلسطينية، وأن النبضة قد تصل إلى 10% أو أقل بما يعني أن الدولة ستقوم على مساحة أكثر من 50% من الضفة وأن هذه ستكون جزءاً من تسوية مرحلية بعيدة المدى ستسري عليها شروط التسوية المرحلية ومن بينها السيطرة على المجال الجوي وعلى كل المعابر الدولية.

ويبدو لمن لاحق الأحداث والمواقف أن واشنطن تبنت تماماً المواقف والسياسات الإسرائيلية وراحت تدافع عنها. وإذا كان لم يصدر عن واشنطن ما يفيد شيئاً آخر لمضمون حديثها عن الدولة الفلسطينية يخرج عن سياق ما وعد به شارون فإن بالإمكان تسجيل جملة المواقف التالية التي تؤكد انحياز واشنطن لإسرائيل:

ـ صمت واشنطن المطبق عن الاجتياح الذي قامت به القوات الإسرائيلية للمدن الفلسطينية في الضفة الغربية بعد مقتل رحبعام زئيفي وعودتها لذات السياسة، ومواصلة سياسة التوغل في المناطق الفلسطينية بعد عملية ياعيل التي قامت بها مجموعة من "حماس" في الضفة الغربية إبان وجود شارون في واشنطن.

ـ عودة زيني إلى واشنطن بدعوى استدعاء للتشاور في ذروة العدوان الإسرائيلي، وتقييد حركة الرئيس عرفات، وقصف الكثير من الرموز والمقرات التابعة له والتي يستخدمها، كل ذلك يأتي في سياق الضغط على السلطة وإطلاق يد شارون.

ـ اعتمدت واشنطن سياسة الضغط العلني على السلطة الوطنية والاكتفاء بنقل رغباتها وطلباتها ونصائحها إلى إسرائيل عبر القنوات الدبلوماسية.

ـ واشنطن أقنعت الاتحاد الأوروبي بالانضمام إلى محافل الضغط على السلطة وفي اجتماع وزراء خارجية دول الاتحاد في بروكسل بتاريخ 10/12، طالب المجتمعون السلطة الوطنية بإنهاء الانتفاضة وشن الحرب على ما يسمى بالإرهاب، الذي تمارسه حركتا حماس والجهاد الإسلامي.

وحتى اللحظة الأخيرة ظلت واشنطن تطالب السلطة الوطنية بشن حرب شاملة على حركتي حماس والجهاد حتى أن الناطق بلسان الإدارة الأمريكية أري فليتشر صرح بتاريخ 7/12/2001 مستخدماً التعبيرات الإسرائيلية ذاتها حيث قال "إن الرئيس قلق جداً من أن السجون الفلسطينية مبنية الآن مع قضبان من الأمام وبوابة دائرية من الخلف".

أمريكا وإسرائيل رفضتا اعتبار بيانات حماس والجهاد بوقف العمليات داخل إسرائيل كافية وطالبت بوقف كامل للعمليات العسكرية في كامل المناطق.

ففي مقام آخر قال فليتشر (نلاحظ استخدام التعابير الإسرائيلية مرة أخرى): "إن حماس أوقفت التفجيرات داخل إسرائيل والمطلوب وقف الأنشطة الإرهابية فوراً في أي مكان". ولعل ذروة الوضوح في السياسة الأمريكية يتضح فيما جاء على لسان العديد من المسؤولين:

ـ بتاريخ 10/12 صرح نائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني "إن سلوك عرفات أدى إلى تراجع التقدم لإنشاء دولة فلسطينية، يقود الشعب الفلسطيني زعيم لا يريد أو لا يستطيع معالجة الإرهاب داخله".

ـ في تصريح أدلى به خلال الأسبوع الأخير من شهر نوفمبر جاء على لسان وزير الخارجية كولن باول قوله في مقابلة مع نيوزويك: "إن حقيقة أنني والرئيس بوش تحدثنا عن إقامة دولة فلسطينية لا يدل على أن الإرهاب مفيد، نحن نؤيد إسرائيل بشدة وسنكون دائماً إلى جانبها".

ـ أما الرئيس بوش فقال بتاريخ 12/12، خلال لقائه السري مع المتبرعين اليهود في البيت الأبيض "لو كنت أنا أريئيل شارون لكنت قد عملت إزاء الفلسطينيين ما فعله تماماً". والحقيقة أن استعراض المواقف والسياسات الأمريكية لا يمكن أن تصل إلى مستوى المصداقية والوضوح الشديد الذي عبر عنه بوش في تصريحه المذكور. هكذا يبدو أن شارون قد نجح، فمثله كما يقول بعض الإسرائيليين يفضل أن يبرهن على صدقية التزامه الأيديولوجي من خلال الوقائع على الأرض التي تسد الطريق أمام إمكانية قيام دولة فلسطينية أكثر مما يستطيع أو يرغب أن يفعل من خلال الأقوال.



تداعيات لاحقة

القيادة الفلسطينية التي وعت طبيعة الظروف الدولية والعربية والإقليمية واصلت العمل وفق رؤيتها السياسية التي تستهدف سحب الذرائع، وإتاحة الفرص لاختبار السياسة الأمريكية، ولحشر شارون في الزاوية التي لا يرغبها وهي الانتقال إلى المفاوضات وتطبيق توصيات تينيت وميتشل.

ويبدو أن الأوروبيين والعرب، قد أظهروا حماسة واضحة لمثل هذه التوجهات غير أن تداعيات التصعيد الإسرائيلي والردود الانتقامية الغاضبة التي قامت بها حماس، إثر اغتيال محمود أبو هنود، قد أدت إلى حشر السلطة الوطنية والحالة الفلسطينية مرة أخرى في الزاوية.

في 9/12 صدر بيان وقعت عليه الأذرع العسكرية ـ كتائب القسام، وسرايا القدس، وكتاب الأقصى، علقت فيه العمليات الاستشهادية وإطلاق النار لفترة أسبوع، غير أن ذلك البيان لم يكن كافياً من وجهة النظر الإسرائيلية التي رأت فيه "استمراراً للعمليات حسب شروطهم وبأن المطلوب ليس وقفاً للعمليات وحسب وإنما حرباً حقيقية ضد الإرهاب، وطالما لم يتم ذلك ستبذل إسرائيل المستطاع من أجل الدفاع عن النفس".

ولم يكف أيضاً إعلان الرئيس عرفات عن حالة الطوارئ والبدء بإجراءات لإغلاق عشرات المؤسسات التابعة لحركتي حماس والجهاد الإسلامي واعتقال العشرات من كوادر الحركتين.

ولذلك كان لابد من مبادرة أكثر وضوحاً وحزماً، جاءت على لسان الرئيس عرفات يوم عيد الفطر 16/12/2001، وحدد خلالها خطوط السياسة والالتزامات الفلسطينية وأكد الحاجة لإظهار المصداقية والحرص على الوحدة الوطنية والمشروع الوطني ودعا الجميع إلى الالتزام الفوري والشامل.

عشية خطاب الرئيس بدا وكأن هناك تحالفاً دولياً وإقليمياً، صريحاً أو ضمنياً يضع السلطة الوطنية والحالة الفلسطينية أمام أمرين، أحلاهما مر فإما وقف الانتفاضة والمقاومة، وشن حرب حقيقية لا هوادة فيها ضد ما يسمى بالإرهاب الفلسطيني، وإما أن يترك الفلسطينيون لمصيرهم على يد شارون وآلته التدميرية.

قلنا إن أوروبا وروسيا التحقتا بآليات الضغط الأمريكي، فيما صمت العرب صمت القبور حتى أنهم لم يتمكنوا من عقد اجتماع طارئ لوزراء الخارجية العرب دعت إليه السلطة الوطنية، ولم ينعقد إلا في 20/12/2001، بعد أن أسقطت السلطة الوطنية الذرائع الإسرائيلية ـ الأمريكية باتفاقها مع حماس والجهاد على وقف العمليات داخل إسرائيل بما في ذلك القصف بالهاون.

أما بالنسبة لشارون فقد كانت الخيارات تقوم على فهم آخر للخيارات المطروحة أمام السلطة فهي إما أن تستنزف نفسها والحالة الفلسطينية بكاملها في حرب داخلية تتوج بحرب أهلية مدمرة، وإما أن شارون سيستهدف كل الحالة الفلسطينية بما في ذلك السلطة ورئيسها والحركة الوطنية بكاملها.

وكانت الساحة الفلسطينية قد شهدت بعض الأحداث المأساوية حيث جرت مصادمات بين مناصري حماس وقوات الشرطة الفلسطينية التي ذهبت لتنفيذ أمر وضع الشيخ أحمد ياسين تحت الإقامة الجبرية، وتكرر الحال حين قامت قوات من الشرطة بمحاولة اعتقال القيادي في حماس عبد العزيز الرنتيسي.

غير أن أحداث جباليا ليلة ويوم الجمعة 20/12/2001، كانت الذروة فيما يؤشر إلى ما يمكن أن يحل بالحالة الفلسطينية فيما لو بقيت القوى عند خياراتها.

على أننا شهدنا حالة نادرة من التقدير الفلسطيني الجماعي لأهمية تجنب الحرب الداخلية، وتغليب المصلحة العامة على المصالح التنظيمية والخاصية، دلت على نضج الحركة السياسية، وتفهمها لأبعاد التطورات الدولية والإقليمية، وللضغوط والخيارات التي تعاني منها السلطة الوطنية، والحالة الفلسطينية برمتها.

مساء 20/12/2001 تكللت مساعي الخيرين في إقدام حماس على مبادرة شجاعة بالإعلان عن وقف العمليات الاستشهادية داخل المناطق المحتلة منذ عام 1948، ووقف القصف بالهاون لإشعار آخر، ثم تلتها حركة الجهاد التي آثرت أن يأتي التزامها العملي تحت عنوان "الإجماع الوطني ونزولاً عند المصلحة الوطنية العليا للشعب الفلسطيني"، الذي أعاد الكرة إلى الملعب الإسرائيلي ـ الأمريكي.

تنفس العرب والأوروبيون الصعداء، وأعلنت الإدارة الأمريكية عن تطورات إيجابية، وإن لم تكن كافية إلا أنها، تشجع على عودة زيني إلى المنطقة.

كان يمكن أن تكون الأضرار والخسائر الفلسطينية أقل بكثير لو أن هذه المبادرات جاءت قبل الموعد الذي أعلنت فيه، وتحديداً قبل القرار الأمريكي بمطالبة عرفات والسلطة بشن الحرب على من أسمتهم الإدارة الأمريكية الإرهاب الفلسطيني الذي تمثله حماس والجهاد. غير أن هذه المبادرة التي لا يمكن أن تمنع وقوع خسائر من شأنها أن تقلل فقط من الثمن الذي يترتب علينا أن نرفضه وقد ساهمت في تخفيف الضغوط على السلطة الوطنية والحالة الفلسطينية، على الرغم من تصعيد الحكومة الإسرائيلية للموقف حين قيدت حركة عرفات، وأوقفت الاتصالات معه، واعتبرته "غير ذي صلة". في ضوء ذلك يتخذ التكتيك الإسرائيلي الخطوط التالية:

أولاً: الحفاظ على وضعية التوتر، والمداومة على شن الاعتداءات على الفلسطينيين بما في ذلك، الحصار، اعتقالات، اغتيالات، تدمير بيوت، توغل في العديد من المناطق، قصف بالدبابات، مضاعفة الحواجز العسكرية والتضييق على حركة الفلسطينيين.

ثانياً: الاستمرار في الضغط على السلطة وتحريض القوى الدولية لرفض الحد الذي تمارسه السلطة الوطنية في ضبط الحالة، ومطالبتها بشن الحرب على حماس والجهاد، وبوقف التحريض وجمع الأسلحة غير المرخصة واعتقال المطلوبين.

إن إسرائيل لا ترغب بقبول الالتزام الفلسطيني الشامل بوقف النار وإنما ستظل تحرك عوامل تفجير الوضع الداخلي الفلسطيني تحت عنوان اجتثاث ما يسمى بالإرهاب، ولحشر الخيارات بما يؤدي إلى منحها الذرائع لمعاودة قلب الطاولة وتصعيد الوضع.

ثالثاً: المبادرة إلى تقديم حلول سياسية تعرف أنها غير واقعية وغير ممكنة القبول من لدى الفلسطينيين، والهدف منها تحجيم التطلعات الفلسطينية وقطع الطريق أمام أية مبادرات سياسية جدية من قبل أي طرف.

إن الأسوأ بالنسبة لشارون هو أن يجد نفسه أمام الحاجة لطي صفحة التصعيد، والبدء في المفاوضات السياسية.. باعتبار أن ذلك هو الطريق المؤكد لسقوط حكومته. وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة وأوروبا، أكدتا على غير الرغبة الإسرائيلية اعترافهما بالسلطة الوطنية ورئيسها، وباستعدادهما للتعاطي معه ومعها باعتباره الشريك الفلسطيني في البحث عن السلام، إلا أن شارون ظل متمسكاً بموقفه إزاء الرئيس عرفات، هذا الموقف الذي ذهب به إلى حد الجنون حين رفض السماح له بحضور احتفالات أعياد الميلاد في بيت لحم، رغم الاحتجاجات الدولية والعربية، والاحتجاجات الإسرائيلية الواسعة أيضاً.

في هذا الإطار نشرت الصحافة الإسرائيلية ما قالت أنه ورقة على وشك النضوج أمكن التوصل إليها خلال مفاوضات جرت وتجري بين شمعون بيريز، وأحمد قريع. السلطة الوطنية رفضت ما جاء في الورقة، ولكنها وافقت على استمرار المفاوضات التي يجريها قريع. الرفض الفلسطيني جاء من واقع الإدراك بأن المشروع الذي تتحدث عنه الورقة المذكورة يشكل تمريراً بيرزياً لفكرة شارون بشأن الحل المرحلي طويل الأمد والذي قد يؤدي إلى إعلان دولة فلسطينية على غزة، ونحو 50% من الضفة، مقطعة الأوصال، لكنه أيضاً قد يؤدي إلى تمديد عمر الاحتلال أو تأبيده.

والحقيقة أنه لأسباب كثيرة لا يمكن أن نتصور قبول الفلسطينيين بما قيل أنه ورقة بيريز ـ أبو العلاء، ولكن الطامة الكبرى إذا كانت الولايات المتحدة قد تبنت تلك الورقة.. ثمة شبهة في هذا الاتجاه حيث أفادت الأنباء الصحافية أن الإدارة الأمريكية درست الالتزامات المترتبة عليها في حال التوصل لاتفاق في ضوء تلك الورقة.

بالنسبة للجانب الإسرائيلي، ثمة مناورة واضحة، فلقد أعلن شارون أن الورقة مجرد حلم ما كان ولا سيكون، وأنها خطيرة جداً، ثم عاد في اليوم التالي ليعلن أنه على اطلاع بالمفاوضات التي يجريها بيريز مع الفلسطينيين. التبدل في الموقف جاء بنتيجة مساومة واضحة، فمقابل اعتراف شارون بالاطلاع والسماح لبيريز بالمواصلة، حصل من بيريز على دعم وزراء حزب العمل لمشروع الميزانية، ولذلك فإننا نعتقد أن شارون سيجد الذريعة للانقلاب مرة أخرى حال تمريرها في الكنيست.

يبين ذلك أن شارون ليس فقط يرى في المفاوضات مقتله وإنما هو غير مقتنع حتى بالحل الذي طرحه منذ بداية عهده، وهو الحل المرحلي طويل الأمد الذي يعمل بيريز في هديه، ولا فضل له فيه سوى بإضافة رزنامة الوقت والآليات، وبعض الرتوش الثانوية.

شارون إذاً مصر على القضاء التام على كل العملية السياسية ابتداءً من اتفاقية أوسلو التي يقول عنها الوزير داني نافيه أنها شبعت موتاً وينوي طرح التخلص منها في مشروع قرار سيقدمه إلى الكنيست، وانتهاءً بكل ما ترتب عنها وأية محاولات لإحياء هذه العملية السياسية وفق شروط غير شروطه، وهي في الحقيقة شرط واحد.. الاستسلام الفلسطيني التام.

والحقيقة أن شارون لا يزال لم يصل إلى نهاية الخط الذي يجعله يضيف إلى المستحيلات الثلاث "الغول والعنقاء والخل الوفي" مسألة إحياء العملية السياسية، غير أن الصراع الآن يدور على الرأي العام العالمي خصوصاً الأمريكي والأوروبي، اللذين يصران على مواصلة الدور بما في ذلك حين تبدو واشنطن مستنكفة أو سلبية. فالاستنكاف والسلبية هما شكل من أشكال متابعة الدور بحثاً عن سلام، ولكن عبر إرهاق الطرفين أو لتشديد الضغوط على السلطة الوطنية الفلسطينية.

وهكذا يبدو المستقبل غامضاً بعض الشيء، ولذلك فإن الأهم يكمن في ضرورة إعادة ترتيب الساحة الداخلية الفلسطينية التي تحتاج إلى الكثير من الجهد والمبادرات الشجاعة والجريئة، التي تستهدف حماية القلعة من الداخل لمواجهة الأنواء الصعبة التي تعصف بالشأن الفلسطيني والمنطقة.

لقد أعطت السلطة الوطنية والقوى السياسية، الكثير في ميدان التكيف مع الأوضاع العربية والدولية، ودفعت وهي لا تزال تدفع ثمن ذلك، وبقي عليها أن تعطي أكثر على الصعيد الداخلي فمعركة الحرية والاستقلال لا تزال في أوجها ولا يزال أمامها الكثير من الصعاب والعقبات.

وأجدني مضطراً لأن أختم هذه القراءة بشهادة قدمها رون فونديك الذي يوصف بأنه مهندس اتفاق أوسلو، وهو يعمل مديراً عاماً لمركز بيريز للسلام وجاءت في مقالة نشرت بتاريخ 7/12/2001 تحت عنوان "مائة بالمئة من الأرض ومتر واحد" حيث جاء: "حتى اليوم لم يعرض أي زعيم على الفلسطينيين صفقة نزيهة تمكن عرفات من مقاومة معارضيه. الخطأ المأساوي هو أننا اعتقدنا أن بمقدورنا أن نفرض عليهم بدون أن نعترف بحقيقة أن اتفاق سلام مع الفلسطينيين يجب أن يستند على نفس العناصر التي استندت إليها الاتفاقيات الموقعة مع مصر والأردن أي 100% من الأرض ـ لن يكون هناك سلام".

فونديك عرض في مقالته مشروعاً كاملاً للسلام، يشق طريقاً مستقبلياً لكن ليس في إسرائيل اليوم من يجرؤ على الاستفادة من الدروس التي استخلصها تماماً كما أن حكومة شارون ليست مستعدة للاعتراف بما استخلص الرئيس السابق للشاباك عامي أيلون الذي قال "إنه لا يمكن تصفية الأيديولوجيات بتصفية الشخصيات، وبأن سياسة الاغتيالات كمن يرغب في تجفيف البحر، بملعقة أو بوعاء صغير".. فإذا ما صدق هؤلاء في استخلاصاتهم، فإن لا حل سياسي قريب، ولذلك ينبغي أن نضع كمهمة إسقاط حكومة شارون، وهذا هو الاحتمال الواقعي الممكن.

إذا كان ثمة مجال للمراهنة على تحول الجنرال شارون إلى حمامة سلام، فإن ثمة مجال للمراهنة على سياسة أمريكية أفضل، ومن لا يصدق عليه أن يتمعن في مدى صدقية الإدارة الأمريكية تجاه الباكستان التي خضعت لكل متطلبات الحرب الأمريكية ضد أفغانستان أما الآن فهي في موقع الضحية والمتهم الذي يستحق العقاب بتشجيع من إدارة بوش.