سيف الخيال
25-09-2002, Wed 7:38 PM
ما بعد الحادي عشر من أيلول :
الحادي عشر من أيلول 2001 شكل بكل المعاني بداية مرحلة جديدة طويلة في الصراع الدولي. لا يتعلق الأمر فقط بأن هذا التاريخ قد حمل إلى الولايات المتحدة واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية في تاريخها، ربما يفوق في أهمية وأبعاده قصف بيل هاربر إبان الحرب العالمية الثانية، لقد تلقت الولايات المتحدة ضربة حقيقية استهدفت أبرز رموز قوتها الاقتصادية والعسكرية والأمنية وبالتالي وضعت على المحك هيبتها كدولة عظمى قائدة ومهيمنة، وأيضاً وضعت القيم التي يتحلى بها المجتمع والنظام الأمريكي أمام معايير جديدة طالت كافة جوانب حياة الأمريكيين وبالطبع كافة زوايا الأرض.
ويمكن القول أن هذه الأحداث بقدر ما أنها شكلت سبباً لخروج القوة الأمريكية بهذه الصورة السافرة، والواسعة عن حدود الولايات المتحدة سعياً وراء الانتقام، فإنها شكلت أيضاً وهذا هو الأساس، ذريعة لتحقيق نقلة في السياسة الأمريكية على النطاق العالمي، ومن أجل إعادة بسط سيطرتها، وتأكيد نفوذها، وخدمة مصالحها، ونحو تسجيل نقاط جديدة لصالحها في إطار تنافس مراكز النفوذ والتكتلات الدولية التي عملت على استبدال النظام العالمي أحادي القوة، بنظام متعدد الأقطاب.
كاتب فلسطيني
وعلى كل حال فإن مثل هذه النقلة، في هذا الوقت أو في وقت آخر، بهذه الذريعة أو بذريعة أخرى، كانت ستتم استجابة لمستوى التطور الاقتصادي والاجتماعي والعسكري الأمريكي، والحاجة لتعميم وإخضاع العالم لآليات ومفاهيم ومتطلبات مرحلة العولمة.
إثر انهيار الاتحاد السوفيتي السابق، وقبله المنظومة الاشتراكية وحلف وارسو، وزوال العدو التاريخي للولايات المتحدة، الذي كانت تستمد من الصراع معه، سياساتها وحوافز مراكمة عوامل قوتها، ظهرت في الولايات المتحدة نظريات كان أبرزها، ما تقدم به فرانسيس فوكويا، الذي تحدث عن نهاية التاريخ، وما تقدم به صموئيل هنغتنجتون بصدد صراع الحضارات.
مفاهيم نهاية العالم، وصراع الحضارات، كانت مفاهيم سياسية بالدرجة الأولى وطرحاً على أساس أنهما سياسات استراتيجية ينبغي على الولايات المتحدة أن تتحرك في ضوئهما. خصوصاً وأن أصحابها هما مهندسان استراتيجيان أكثر مما هما أكاديميان.
جوهر ما ذهب إليه فوكويا ما يقوم على تأكيد فكرة أولوية النظام الرأسمالي على ما عداه من أنظمة، وبأنه النظام الأفضل للعالم، ولذلك ينبغي أن يسود ويسير ويبسط سيطرته على العالم كله. فوكيا ما لم يتجاهل إمكانية وقوع أحداث كبرى على خلفية صراع الحضارات، لكنها من وجهة نظره لا تنال من المجرى الرئيس الذي تحدث عنه وهو صراع الرأسمالية من أجل تأكيد سيطرتها وتحقيق تقدم هائل في معدلات التطور والنمو.
هنغتنجتون، كان يرى بأن غياب العدو الشيوعي، الذي استمدت منه الولايات المتحدة الدافع لمواصلة تماسكها، وتطورها، وسيطرتها على أوروبا، وتعزيز تحالفاتها الدولية، يقتضي اختراع عدو جديد لضمان وجود الدوافع ولذلك يمكن اعتبار نظريته مساهمة قوية في صناعة هذا العدو الذي قد يكون وهمياً، عبر صراع الحضارات. أصحاب هذه النظرة لا يستطيعون المجاهرة بأن الإسلام هو عدو الحضارة الغربية ولذلك فإنهم يتحدثون عن إرهاب، أصولية، انعزالية.
وإذا كان من الصعب قبول فكرة أن ما جرى ويجري بعد التفجيرات في نيويورك وواشنطن على أنه ترجمة لاستراتيجية صراع الحضارات التي تحدث عنها هينغتنجتون إلا أننا نلاحظ عيانياً بأن الحرب الدائرة قد خيضت على أساس عدو جرى تشخيصه وهو "الإرهاب". كما يجري التستر على مضمون هذا "الإرهاب" باستخدام مصطلحات لا تؤشر صراحة إلى الإسلام رغم أنها تعنيه وتستهدفه.
ثمة من يناقش وربما من باب الجرب أو التبرير، وربما انطلاقاً من قناعات أخرى بما يبعد الشبهة عن أن الصراع الجاري إنما هو ترجمة حقيقية وملموسة لصراع الحضارات. ويقول هؤلاء:
1- إن التعايش والتواصل بين الحضارات الإنسانية عبر التاريخ بما في ذلك المعاصر يشكل السمة الرئيسة في العلاقات الدولية، وإن الصراع يتخذ طابعاً هامشياً.
2- إن الصراع بين أطراف الحضارة الواحدة يكون أحياناً أشد من الصراعات بين من ينتمون إلى حضارات مختلفة فعلى سبيل المثال كانت الحربين العالميتين الأولى والثانية، قد جرت بين أطراف حضارة واحدة، وكذلك الحال الحرب الإيرانية ـ العراقية خلال ثمانينات القرن الماضي.
3- لا يوجد في العالم جهة واحدة، مخولة بالحديث عن حضارة واحدة، ولا يوجد تفويض لأي دولة من قبل الدول الأخرى التابعة للحضارة ذاتها.
4- إن الولايات المتحدة لا تشن حربها تحت عنوان صراع الحضارات بل تحت عنوان آخر، وعلى أصحاب حضارات مختلفة، ومن أجل مصالحها.
وبغض النظر عن هذا الجدل، فإن الانتقام هو هدف مباشر ولكن الأساس هو أن أمريكا تخوض حرب السيطرة والمصالح وأن الحرب ضد ما يسمى بالإرهاب العالمي هي امتداد لحروب العولمة، التي بدأت بالتحالف الثلاثيني ضد العراق وفي الحقيقة من أجل السيطرة على المنطقة العربية، تلا ذلك حرب البلقان والقضاء على نظام ميلوسوفيتش وإضعاف سيطرة العرب، إلى حرب وسط آسيا التي يعلم الجميع أنها لا تستهدف القاعدة أو طالبان أو حتى أفغانستان إلا من أجل الإمساك بآسيا من قبلها، والتحكم في بحيرة نفط منطقة قزوين. وبالإضافة إلى ذلك تصرفت القوات المسلحة الأمريكية مع أفغانستان باعتبارها ميدان تدريب واختبار لآلة حربها، ومزبلة للتخلص من ترسانتها القديمة، بهدف تجديدها، الأمر الذي سيؤدي إلى انتعاش الصناعات العسكرية، وإنعاش الدورة الاقتصادية الأمريكية، خصوصاً وأن أمريكا تكون في كل حرب تخوضها قادرة على إرغام الآخرين على تمويلها.
والحقيقة أن ما يجري يتجاوز مفهوم صراع الحضارات، ذلك أن الولايات المتحدة تميز بين "إسلام" معتدل، حليف، يمكن السيطرة عليه واستخدامه، و"إسلام" آخر معادي، يتسم بالتطرف، ويناهض المصالح والسياسات الأمريكية، والحال أن هذه المفاضلة، أرغمت معظم الدول والجماعات على أن تعيد النظر في سياساتها وآثرت السلامة، وتجنب الغضب الأمريكي الساحق، ولذلك يمكن للولايات المتحدة أن تتحدث عن تحالف عالمي مفهومي ولكنه غير محدد الأطراف والمعالم، اللهم إلا بالنسبة للدول التي تنخرط معها فعلياً في هذه الحرب وهي بالدرجة الأساسية دول حلف الأطلسي.
أساس هذه السياسة يقوم على تقييم للعولمة التي تنظر للعالم على أنه قرية صغيرة، وأن الولايات المتحدة لا يمكنها العيش بمعزل عن العالم الذي هو مسرح الاقتصاد والسياسة والمصالح، ولا يمكنها أن تعيش بمعزل عن العالم في ظل التطور الاقتصادي والعلمي والتكنولوجي الهائل والمتسارع. إن لأمريكا مصالح مختلفة ومتنوعة وواسعة يقتضي منها التواجد، والتدخل إذا لزم الأمر في أي منطقة في العالم، فضلاً عن أنها تدعى أن لديها مسؤولية أخلاقية تجاه دول وشعوب أخرى بحاجة إلى المساعدة. وهكذا فإن بوسعنا وصف ما يجري على أنه تعميم للعولمة من خلال عمليات جراحية تستهدف تأهيل المسرح العالمي. للتعامل من مواقع دونية مع المصالح والسياسات الأمريكية وبقيادة الولايات المتحدة وبغرض خدمة عناصر السيطرة الأمريكية.
عناصر السيطرة الأمريكية تقتضي اقتصادياً، تأكيد هيمنة الاقتصاد الأمريكي على اقتصاديات الكتل الأخرى المنافسة (أوروبا الموحدة، اليابان، ما يمكن أن يحمله المستقبل للعملاق الصيني) وأمنياً يقتضي نشر القوات الأمريكية إلى أماكن وقواعد جديدة في العالم، فضلاً عن إنجاز استراتيجية الدرع الصاروخي، وكل هذا من شأنه أن يعزز السياسة الأمريكية على نحو مهيمن ويصعب تجاوزه، وربما كان من أبرز معالمه تحطيم المراكز الإقليمية، وحتى الدولية وتقصد الأمم المتحدة، التي تصبح واحداً من المجالات الحيوية لممارسة السياسة الأمريكية.
في هذا الإطار تحدث الأمريكيون عن حلقات في حربهم، وأفغانستان لم تكن سوى البداية، غير أن الآليات قد تختلف بين حلقة وأخرى.
في هذا الإطار قال الرئيس جورج بوش، إن سياسته تختلف عن سياسة سلفه في المنصب بيل كلينتون، "أنا لا أتكلم، أنا أعمل، نحن نقود الحرب ضد الإرهاب في كل مكان.. إذا لم تفعل الدول ما هو ملقى على عاتقها في إطار الحرب ضد الإرهاب فإن الولايات المتحدة ستقوم بالمهمة بدلاً عنها. أنا اعتمد فقط على مصدر واحد.. القوات المسلحة الأمريكية".
جاء حديث بوش في لقاء مغلق بتاريخ 12/12/2001، مع سبعة متبرعين يهود كبار للحزب الجمهوري.
ما يجري في اليمن من ملاحقة بحثاً عن اتباع "للقاعدة" وبن لادن، وما يجري في الصومال أيضاً، وفي الباكستان من ملاحقة لجماعات وصفتها أمريكا بالإرهابية يقدم نماذج على هذه السياسة، غير أن كل ذلك قد لا يكفي أحياناً بالنسبة للولايات المتحدة، التي قد ترى مصلحتها في التدخل المباشر هنا أو هناك بذريعة أن الإجراءات التي تتخذها هذه أو تلك لاجتثاث الإرهاب ليست كافية.
في مطلق الأحوال وبغض النظر عن الزاوية التي نقرأ من خلالها السياسة الأمريكية فإن القضية الفلسطينية، والصراع العربي الإسرائيلي، سواء لأبعادها الحضارية، أو لكونها تقع في منطقة نفوذ أمريكية حيوية، فإن هذه القضية ستجد تقاطعاً قوياً مع الحملة الأمريكية والعالمية ضد ما يسمى بالإرهاب الذي جرى تشخيصه كالعدو الرئيسي في مطلع الألفية الثالثة.
ويؤكد ذلك أن كافة الترشيحات التي تتكهن بالحلقة الثانية بعد أفغانستان، لا تخرج عن إطار منطقة الشرق الأوسط، فمرة يكون العراق، ومرة سوريا ولبنان، ومرة أخرى اليمن أو الصومال، والبعض يعتقد أنها ستكون فلسطين.
الولايات المتحدة ومفهوم الإرهاب
مرونة واتساع وشمولية المصالح الأمريكية ونظرتها لدورها القيادي، تجعل الإدارة الأمريكية على غير استعداد للتوصل إلى مفهوم جماعي للإرهاب، وهو ما نادت به معظم دول العالم، وهي أيضاً غير مستعدة للعودة إلى تراث الأمم المتحدة لتحديد مفهوم قانوني واضح، ولذلك فإنها تقرن تماماً بين مفهوم الإرهاب، والموقف من مصالحها وسياساتها.
وهذا يعني أن مفهوم الإرهاب يتسع ليشمل دولاً أو جماعات أو أفراد، يمكن أن يتم استهدافهم، انطلاقاً من معارضتهم ومناهضتهم للنفوذ والسياسة والمصالح الأمريكية.
وهنا لا يتم ربط مصطلح الإرهاب، بمدى عدالة، أو اجتماعية، أو إنسانية الأهداف والدوافع، التي تجعل الجماعات أو الدول أو الأفراد، يلجأون إلى أسلوب المقاومة العنيفة، ولذلك فإنه يختفي لدى الإدارة الأمريكية الفارق بين أساليب ووسائل مشروعة وغير مشروعة.
الولايات المتحدة طبقت هذا الفهم والمفهوم تماماً على الصراع الفلسطيني والعربي الإسرائيلي، فهي ترى في المقاومة الفلسطينية المسلحة للاحتلال الإسرائيلي إرهاباً، على الرغم من أن وثائق الأمم المتحدة، أضفت المشروعية الكاملة على كل مقاومة وبكافة الأساليب بما في ذلك الكفاح المسلح، للشعب الذي يسعى لتحرير أرضه ونفسه من الاحتلال.
والأنكى من ذلك أن طبيعة ارتباط مصالحها وسياستها وقيمها بدولة إسرائيل تجعلها ترى في العنف والعدوان الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني باستخدام أفظع الوسائل والأساليب وأكثرها وحشية، تراها سياسة دفاعية، وعلى الرغم من أن نقابة المحامين الإسرائيليين قررت "معارضتها لسياسة التصفيات لكونها إعدام بدون محاكمة"، وطالبت "الجنود ووفقاً للقانون برفض العمليات التي هي جرائم حرب". (هآرتس 24/12/2001)، إلا أن الإدارة الأمريكية باركت سياسة شارون في هذا الصدد.
الإدارة الأمريكية لم تميز بين عمليات عسكرية داخل إسرائيل وعمليات عسكرية في المناطق المحتلة منذ عام 1967، ضد المستوطنين والجيش الإسرائيلي، شأنها في ذلك شأن حكومة شارون.
ففي تعقيبه على بيان "حماس" الذي أصدرته الحركة يوم الجمعة 21/12/2001 وأعلنت فيه عن تعليق عملياتها الإستشهادية داخل الأراضي المحتلة منذ عام 1948 وتعليق القصف بالهاون، عقب الناطق باسم البيت الأبيض الأمريكي آري فليتشر قائلاً "إنها أوقفت التفجير داخل إسرائيل". كل الأنشطة الإرهابية في أي مكان يجب أن تتوقف فوراً" وأضاف فليتشر إن "حماس" منظمة إرهابية.. عرفات اتخذ بعض الخطوات الإيجابية وما يزال المزيد مطلوباً لوضع نهاية لكل الهجمات الإرهابية". ومثلها في هذه الحالة، مثل تجاهلها للعديد من المنظمات والجماعات التي تتجاهل الإدارة الأمريكية وضعها على لائحة الإرهاب، أو تقديمها ضمن أولوياتها لأسباب تتعلق بالمصالح، وبوجود مثل هذه الجماعات والمنظمات في بلدان أوروبية أو حليفة للولايات المتحدة.
إن أمريكا تتجاهل تماماً إرهاب الدولة الإسرائيلية، ولا تجد في الإدانات الصريحة التي تصدر على مدار الوقت، عن مؤسسات حقوقية أو متخصصة في الدفاع عن حقوق الإنسان، دولية وإقليمية ضد الممارسات الإرهابية الإسرائيلية، ما يجعل إدارة بوش تغير من سياسة الكيل بمكيالين وباستخدام ميزان الجزر الذي دأبت على استخدامه.
فلسطين على الأجندة الأمريكية
لأسباب عديدة يمكن ترجيح الاستنتاج الذي يرى بأن الإدارة الأمريكية قد وضعت الحالة الفلسطينية على جدول أعمال حروبها لمكافحة ما يسمى بالإرهاب، بل أنها قد دخلت فعلياً هذا الاستحقاق:
أولاً: تدرك الولايات المتحدة، بدون الحاجة للنصائح والنداءات التي صدرت في معظم عواصم العالم، وخصوصاً أوروبا والعالم العربي، أن القضية الفلسطينية واستمرار الصراع، يشكل واحداً من أهم الدوافع وفي أحيان أخرى الذرائع، التي تقف وراء تنامي الحقد ضد الولايات المتحدة وسياستها، وتفسير الكثير من أعمال المقاومة ضد المصالح الأمريكية.
وبدون الحاجة لمعلومات استخبارية، أو لما ورد في حديث أسامة بن لادن الذي بثته قناة الجزيرة خلال الأسبوع الأول للقصف الأمريكي لأفغانستان وأشار فيه إلى التزامه بالنضال من أجل فلسطين، فإن الولايات المتحدة قد لمست في العديد من الأحداث والمحطات وآخرها في مؤتمر دوربان لمكافحة العنصرية، أواخر آب الماضي، كم تشكل القضية الفلسطينية محرضاً لشعوب الأرض التي تربط عن حق بين الظلم الصادر عن سياسة الولايات المتحدة وذلك الذي يصدر عن إسرائيل المحتلة.
ثانياً: لقد أرادت الولايات المتحدة منذ البداية أن تنضم الدول العربية إلى تحالفها في الحرب ضد ما يسمى بالإرهاب، من أجل تغطية هذه الحرب أولاً، وتعميق ارتباط هذه الدول بسياستها ثانياً، وتهيئتها للعب دور قذر يستهدف تعميق السياسة التي استهدفتها إزاء المنطقة العربية إبان حرب الخليج الثانية عام 1990 ثالثاً.
غير أن الإدارة الأمريكية كانت تعلم أن مشاركة الدول العربية خصوصاً الأساسية منها، كان سيتسبب لتلك الدول في الكثير من الاحراجات، وربما يؤدي إلى استثارة جماهيرها، وإدخالها في أتون صراعات داخلية هي في غنى عنها، ما لم يتم تغطية موافقة تلك الدول بموقف أمريكي في القضية الفلسطينية وهو ما اتخذ سبيلين: الأول إعلان الرئيس بوش استعداد بلاده للاعتراف بدولة فلسطينية قابلة للحياة إلى جانب دولة إسرائيل، والثاني معاودة تنشيط الدور الأمريكي الوسيط من أجل تهدئة الصراع المحتدم على أرض فلسطين منذ نحو عام.
ثمة من بين العرب، وحتى بعض الفلسطينيين من اعتقد بأن هذا الظرف، وحاجة الولايات المتحدة للعرب وحتى السلطة الوطنية الفلسطينية في تحالفها ضد ما يسمى بالإرهاب، فرصة، لمعادلة جديدة، يتراجع فيها الدور الإسرائيلي على اعتبار أن إسرائيل دولة وظيفية، بما قد ينتج عن المعادلة التالية: دور أمريكي يستهدف فرض حل عادل للصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي مقابل مشاركة عربية أكثر فاعلية في مكافحة ما يسمى بالإرهاب.. وعلى هذا الأساس انعقدت مراهنات على دور أمريكي جديد وسياسة أمريكية جديدة، لكن هذه المراهنات سرعان ما تراجعت تحت وطأة التوضيحات اللاحقة لمضمون السياسة الأمريكية. حتى الإسرائيليين أبدوا خشية واضحة من إمكانية تحول السياسة الأمريكية نحو الأخذ بمثل هذه المساومة ولذلك أعلن شارون أكثر من مرة، "أن إسرائيل غير مستعدة، لأن تدفع ثمن التحالف الأمريكي ضد الإرهاب" وكانت تلك إشارة للسياسة العربية التي سعت للحصول على موافقة الإدارة الأمريكية على هذه المعادلة المساومة.
ثالثاً: الولايات المتحدة رغبت وسعت من أجل تبرير وتهدئة الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي من أجل منع ووقف التشويش على حربها، ضد الإرهاب خصوصاً قبل أن يستتب لها الأمر في حربها على الجبهة الأولى، أفغانستان، والتي أشرفت على الانتهاء بمشاركة عربية أقل مما توقعت الإدارة الأمريكية أن تحتاجه منها.
رابعاً: طبيعة العلاقات الأمريكية ـ الإسرائيلية، تلزم الولايات المتحدة التدخل لصالح إسرائيل التي تعاني منذ أشهر طويلة في صراعها مع الفلسطينيين، وبما يؤدي إلى إرضاء حلفائها الأوروبيين، المتحمسين للتدخل والتوسط وزيادة وتوسيع الدور، وأيضاً من أجل كبح هذه التطلعات الأوروبية التي اعتقدت أن الفرصة مواتية.
أي أن وضع الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي على أجندة الأولويات الأمريكية كان يستهدف إنقاذ إسرائيل، وإنقاذ الدور الأمريكي من محاولات التطاول الأوروبية والروسية.. التي لا تتطابق أجنداتها بالضرورة مع الأجندة الأمريكية.
الصراع على الموقف الأمريكي بين الفلسطينيين والإسرائيليين جرى على أشده منذ الأسبوع الأول الذي تلا التفجيرات ضد رموز القوة الأمريكية في واشنطن ونيويورك.
القراءة الفلسطينية
إثر أحداث 11/9 في الولايات المتحدة، بادرت القيادة الفلسطينية إلى إدانة ذلك العمل الإرهابي الذي ضرب واشنطن ونيويورك، وكذلك فعلت لجنة المتابعة العليا للقوى الوطنية والإسلامية، فضلاً عن بعض البيانات المنفردة التي صدرت عن معظم المنظمات والفصائل. إدانة الفعل الإرهابي المذكور كانت محكومة لعقدة الخوف من يتضح أن الفلسطينيين ضلع ما في تلك التفجيرات، أو أن تنجح دوائر الضغط الصهيونية في إقناع الإدارة الأمريكية بإلقاء التهمة أو شبهة الفعل على الفلسطينيين. وفي الوقت ذاته عكست الإدانة الصادرة عن السلطة الوطنية، رؤية سياسية تكتيكية تذهب إلى ما هو أبعد من مغادرة دائرة الاتهام، إلى دائرة التميز السياسي. كان المنطق الفلسطيني منسجماً مع السياق العربي الذي يرى فرصة هامة لمقايضة واشنطن، فالمشاركة العربية الفلسطينية في التحالف الدولي الذي دعت إليه الولايات المتحدة يقتضي ثمناً، يمكن أن يكون في تغيير وجهة السياسة الأمريكية لصالح الضغط على إسرائيل من أجل وقف عدوانها والبحث عن حل سياسي عادل للقضية الفلسطينية.
ويبدو أن واشنطن كانت قد سربت لبعض الدول العربية بعض الوعود في هذا الاتجاه، وخصوصاً السعودية، حيث ظهر فيما بعد أن الإدارة الأمريكية كانت تنوي طرح مبادرة سياسية من على منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة لولا أن التفجيرات استبقت ذلك الاجتماع الذي كان سيتم في النصف الثاني من أيلول.
ولعل التفكير في معقولية مثل هذه المساومة وواقعيتها قد استند إلى قراءة المتغيرات على الوظيفة الإسرائيلية تجاه خدمة السياسة الأمريكية وحيث بدا أن إسرائيل تعيش ظروفاً كالتي عاشتها إبان حرب الخليج الثانية عام 1990.
الحالة الجماهيرية الفلسطينية أظهرت مشاعر مختلفة، تتناغم وشعور الفلسطينيين الدائم والتاريخي بالظلم الشديد الذي يقع عليهم جراء الانحياز الأمريكي الذي لم يتوقف لإسرائيل التي تحتل أرضهم. غير أن السلطة الوطنية تمكنت من وقف التعبيرات الجماهيرية التي عبرت عن التأييد لأسامة بن لادن في الشارع وأغلقت على الإسرائيليين الذين يتربصون فرصة استغلال هذه المشاعر إلى حد تحريض الولايات المتحدة على السلطة الوطنية.
في 18/9 أعلن الرئيس عرفات نداءه للشعب الإسرائيلي وكان يستهدف إعادة صياغة الرؤية الفلسطينية لخيار السلام الذي تتمسك به السلطة الوطنية ومنظمة التحرير الفلسطينية، فضلاً عن إعلانه الاستجابة للطلب الأمريكي بالمشاركة في التحالف الدولي لمقاومة الإرهاب.
وعلى الفور أيضاً وافق الرئيس عرفات على الالتقاء بشمعون بيريز لتثبيت وقف إطلاق النار والهدوء، والتمكن من الانتقال لتطبيق توصيات تينيت وميتشل. وهكذا جاء اجتماعه مع بيريز في مطار غزة في 26/9/2001، ليؤكد هذا المنحى. وفي ظل تلك الظروف لم يكن أمام شارون سوى الموافقة على ذلك اللقاء، لكنه لم يكن مقتنعاً بتلك الوجهة، ولا مخلص للبحث عن الهدوء. ولقد جاءت الممارسات الإسرائيلية اللاحقة وتداعيات التصعيد الإسرائيلي وخصوصاً على صعيد الاغتيالات، وما نجم عن ذلك من ردود فعل فلسطينية انتقامية لتعيد الأمور إلى سابق عهدها. والجدير بالذكر أن الحكومة الإسرائيلية لم تتخذ أية إجراءات تخفيفية مقابل الاستعداد الفلسطيني لوقف النار.
وعدا عن التصعيد الإسرائيلي غير المسبوق، وصمت واشنطن عليه، وعدم المبادرة للضغط على حكومة شارون، فإن الإدارة الأمريكية اكتفت بتقديم إشارة واحدة للفلسطينيين والعرب وهي إعلان الاستعداد للاعتراف بدولة فلسطينية إلى جانب دولة إسرائيل. ولكن وقبل أن يعطى ذلك الإعلان الإيجابي كامل أبعاده كانت واشنطن قد أحبطت كل نظرة كانت تنتظر تغيراً كافياً في السياسة الأمريكية.
رفض الرئيس بوش الالتقاء بالرئيس عرفات حتى على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، وفقط اكتفت واشنطن بسبب الغضب السعودي والعربي، بالتقاء وزير الخارجية كولن باول بالرئيس عرفات. ثم عززت واشنطن ذلك الميل السلبي حين اعتبرت الانتفاضة إرهاباً، وبعد ذلك أيضاً حين وضعت حركتي حماس والجهاد وحزب الله في قائمة الجماعات التي تتهمها بالإرهاب إلى أن أخذت تبني سياستها على مطالبة السلطة الوطنية بمحاربة الإرهاب حتى القتل.
ثمة ما يدعو للاعتقاد بأن واشنطن لم تشعر بالحاجة لأي تغيير جدي في سياستها إزاء المنطقة يصل إلى حد تلبية المراهنات التي عقدتها الدوائر الفلسطينية والعربية للأسباب التالية:
أولاً: أظهرت الإدارة الأمريكية شعوراً استعلائياً لم تكن تخجل من التعبير عنه، ووقعت تحت سطوة العنجهية وسيطرة القوة، والغطرسة إلى حد أنها لم ترغب في إظهار أي قدر من الضعف، أو المرونة أو التساهل ضد الآخرين خصوصاً وأن الغالبية الساحقة وربما كل من تتهمهم واشنطن بالتفجيرات ينتمون إلى العرب أساساً.
ثانياً: يبدو أن واشنطن تراجعت لاحقاً عن تقديراتها الأولية التي كانت ترى للدول العربية دوراً فاعلاً وأساسياً في حربها ضد الإرهاب في حلقته الأولى، وقد اتضح فعلاً أن اعتمادها على الدول العربية كان ثانوياً قياساً باعتمادها على دول أخرى إقليمية ودولية.
ثالثاً: لم تشعر الإدارة الأمريكية بالحاجة لمساومة من المستوى الذي يفكر فيه العرب، خصوصاً وقد أظهروا على الدوام تفككاً وضعفاً، كان يمكنها من ضبط السياسة العربية. وبالتالي لم يكن لدى العرب ما تخشى منه لو أنها أدارت لهم ظهر المجن.
رابعاً: ربما أدى الربط بين "الإرهاب" وبين القضية الفلسطينية إلى تنمية النزعة الانتقامية لدى الأمريكيين تجاه الفلسطينيين والعرب ولإظهار القوة، وعدم الرضوخ أمام مثل هذه الاستنتاجات. وفي هذا الإطار يبدو أن الولايات المتحدة تتبنى بصورة كاملة التقدير الإسرائيلي الذي يقول بأنه لا سبيل لوقف ما يسمى بالعنف الفلسطيني، وإرغام السلطة الوطنية على التهدئة سوى الضغط الشديد والمتواصل. إن السياسة الأمريكية اللاحقة جاءت لتؤكد أن واشنطن مقتنعة بهذه المقولة الإسرائيلية.
خامساً: يتضح أن التحالف الأمريكي ـ الإسرائيلي هو أعمق وأبعد بكثير مما نعتقد، وأنه ليس تحالفاً استراتيجياً مصلحياً وحسب، وإنما هو تحالف قيمي ومصيري، هذا فضلاً عن تأثير جماعات الضغط اليهودية في الولايات المتحدة على قرارات الكونغرس، وقرارات الإدارة الأمريكية.
سادساً: أدعى أن ثمة تشابهاً كبيراً بين شخصيتي الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن وبين رئيس الوزراء الإسرائيلي شارون، فكلاهما عديم الثقافة، مباشر حتى الوقاحة، ضعيف المعارف السياسية عنيد، ويتمتعان بعنجهية واضحة وكلاهما يمجد الأفعال لا الأقوال. وأعتقد أن تحليلاً نفسانياً لملامح الشخصيتين سيظهر قدراً عالياً من التشابه في مميزات كل منهما.
وهكذا وبمرور المزيد من الوقت فإن واشنطن قد عادت وقلبت المعادلات، إلى ما كانت عليه، ليعود الضحية الفلسطينية في نظرها جلاداً والجلاد الإسرائيلي في نظرها ضحية.
وحتى إعلان الرئيس بوش ووزير خارجيته عن استعدادهما لقيام دولة فلسطينية قد لا يتعدى الإعلان الشاروني، ذلك أن واشنطن امتنعت حتى اللحظة عن تقديم أية إيضاحات حول مضمون إعلانها، أو أية آليات، أو جداول زمنية وما إلى ذلك.
حتى حين بادر كولن باول لإلقاء خطابه في 19/11/2001، فإنه زاد الغموض غموضاً، ولم يكن خطابه سوى رؤية مليئة بالأمل والوعود، الأمر الذي جعل أمين عام الجامعة العربية عمرو موسى يدلي بتصريحه الشهير الذي قال فيه "أخشى أن نكون أمام عملية نصب سياسي تاريخية كبرى"، وفي وقت لاحق أضاف "إننا نعيش أسوأ السيناريوهات".
غير أن كل ذلك لم يبدل النظرة الحذرة التي اتسم بها الموقف السياسي الفلسطيني، والذي ظل يسعى لسحب الذرائع الإسرائيلية، وتجنب الاصطدام مع واشنطن، ولمنحها فرصة لتوضيح المدى الذي تصل إليه سياستها.
ولا يفوتنا أن نشير إلى أن المحاولات الفلسطينية والعربية التي رأت فيما تمارسه إسرائيل إرهاباً لا يختلف عن الإرهاب الذي ضرب واشنطن، تلك المحاولات لم تفلح في تبديل موقع إسرائيل ولا في إقناع الولايات المتحدة، والرأي العام العالمي بتغيير طريقة ووجهة التعامل مع الحكومة الإسرائيلية.
الحادي عشر من أيلول 2001 شكل بكل المعاني بداية مرحلة جديدة طويلة في الصراع الدولي. لا يتعلق الأمر فقط بأن هذا التاريخ قد حمل إلى الولايات المتحدة واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية في تاريخها، ربما يفوق في أهمية وأبعاده قصف بيل هاربر إبان الحرب العالمية الثانية، لقد تلقت الولايات المتحدة ضربة حقيقية استهدفت أبرز رموز قوتها الاقتصادية والعسكرية والأمنية وبالتالي وضعت على المحك هيبتها كدولة عظمى قائدة ومهيمنة، وأيضاً وضعت القيم التي يتحلى بها المجتمع والنظام الأمريكي أمام معايير جديدة طالت كافة جوانب حياة الأمريكيين وبالطبع كافة زوايا الأرض.
ويمكن القول أن هذه الأحداث بقدر ما أنها شكلت سبباً لخروج القوة الأمريكية بهذه الصورة السافرة، والواسعة عن حدود الولايات المتحدة سعياً وراء الانتقام، فإنها شكلت أيضاً وهذا هو الأساس، ذريعة لتحقيق نقلة في السياسة الأمريكية على النطاق العالمي، ومن أجل إعادة بسط سيطرتها، وتأكيد نفوذها، وخدمة مصالحها، ونحو تسجيل نقاط جديدة لصالحها في إطار تنافس مراكز النفوذ والتكتلات الدولية التي عملت على استبدال النظام العالمي أحادي القوة، بنظام متعدد الأقطاب.
كاتب فلسطيني
وعلى كل حال فإن مثل هذه النقلة، في هذا الوقت أو في وقت آخر، بهذه الذريعة أو بذريعة أخرى، كانت ستتم استجابة لمستوى التطور الاقتصادي والاجتماعي والعسكري الأمريكي، والحاجة لتعميم وإخضاع العالم لآليات ومفاهيم ومتطلبات مرحلة العولمة.
إثر انهيار الاتحاد السوفيتي السابق، وقبله المنظومة الاشتراكية وحلف وارسو، وزوال العدو التاريخي للولايات المتحدة، الذي كانت تستمد من الصراع معه، سياساتها وحوافز مراكمة عوامل قوتها، ظهرت في الولايات المتحدة نظريات كان أبرزها، ما تقدم به فرانسيس فوكويا، الذي تحدث عن نهاية التاريخ، وما تقدم به صموئيل هنغتنجتون بصدد صراع الحضارات.
مفاهيم نهاية العالم، وصراع الحضارات، كانت مفاهيم سياسية بالدرجة الأولى وطرحاً على أساس أنهما سياسات استراتيجية ينبغي على الولايات المتحدة أن تتحرك في ضوئهما. خصوصاً وأن أصحابها هما مهندسان استراتيجيان أكثر مما هما أكاديميان.
جوهر ما ذهب إليه فوكويا ما يقوم على تأكيد فكرة أولوية النظام الرأسمالي على ما عداه من أنظمة، وبأنه النظام الأفضل للعالم، ولذلك ينبغي أن يسود ويسير ويبسط سيطرته على العالم كله. فوكيا ما لم يتجاهل إمكانية وقوع أحداث كبرى على خلفية صراع الحضارات، لكنها من وجهة نظره لا تنال من المجرى الرئيس الذي تحدث عنه وهو صراع الرأسمالية من أجل تأكيد سيطرتها وتحقيق تقدم هائل في معدلات التطور والنمو.
هنغتنجتون، كان يرى بأن غياب العدو الشيوعي، الذي استمدت منه الولايات المتحدة الدافع لمواصلة تماسكها، وتطورها، وسيطرتها على أوروبا، وتعزيز تحالفاتها الدولية، يقتضي اختراع عدو جديد لضمان وجود الدوافع ولذلك يمكن اعتبار نظريته مساهمة قوية في صناعة هذا العدو الذي قد يكون وهمياً، عبر صراع الحضارات. أصحاب هذه النظرة لا يستطيعون المجاهرة بأن الإسلام هو عدو الحضارة الغربية ولذلك فإنهم يتحدثون عن إرهاب، أصولية، انعزالية.
وإذا كان من الصعب قبول فكرة أن ما جرى ويجري بعد التفجيرات في نيويورك وواشنطن على أنه ترجمة لاستراتيجية صراع الحضارات التي تحدث عنها هينغتنجتون إلا أننا نلاحظ عيانياً بأن الحرب الدائرة قد خيضت على أساس عدو جرى تشخيصه وهو "الإرهاب". كما يجري التستر على مضمون هذا "الإرهاب" باستخدام مصطلحات لا تؤشر صراحة إلى الإسلام رغم أنها تعنيه وتستهدفه.
ثمة من يناقش وربما من باب الجرب أو التبرير، وربما انطلاقاً من قناعات أخرى بما يبعد الشبهة عن أن الصراع الجاري إنما هو ترجمة حقيقية وملموسة لصراع الحضارات. ويقول هؤلاء:
1- إن التعايش والتواصل بين الحضارات الإنسانية عبر التاريخ بما في ذلك المعاصر يشكل السمة الرئيسة في العلاقات الدولية، وإن الصراع يتخذ طابعاً هامشياً.
2- إن الصراع بين أطراف الحضارة الواحدة يكون أحياناً أشد من الصراعات بين من ينتمون إلى حضارات مختلفة فعلى سبيل المثال كانت الحربين العالميتين الأولى والثانية، قد جرت بين أطراف حضارة واحدة، وكذلك الحال الحرب الإيرانية ـ العراقية خلال ثمانينات القرن الماضي.
3- لا يوجد في العالم جهة واحدة، مخولة بالحديث عن حضارة واحدة، ولا يوجد تفويض لأي دولة من قبل الدول الأخرى التابعة للحضارة ذاتها.
4- إن الولايات المتحدة لا تشن حربها تحت عنوان صراع الحضارات بل تحت عنوان آخر، وعلى أصحاب حضارات مختلفة، ومن أجل مصالحها.
وبغض النظر عن هذا الجدل، فإن الانتقام هو هدف مباشر ولكن الأساس هو أن أمريكا تخوض حرب السيطرة والمصالح وأن الحرب ضد ما يسمى بالإرهاب العالمي هي امتداد لحروب العولمة، التي بدأت بالتحالف الثلاثيني ضد العراق وفي الحقيقة من أجل السيطرة على المنطقة العربية، تلا ذلك حرب البلقان والقضاء على نظام ميلوسوفيتش وإضعاف سيطرة العرب، إلى حرب وسط آسيا التي يعلم الجميع أنها لا تستهدف القاعدة أو طالبان أو حتى أفغانستان إلا من أجل الإمساك بآسيا من قبلها، والتحكم في بحيرة نفط منطقة قزوين. وبالإضافة إلى ذلك تصرفت القوات المسلحة الأمريكية مع أفغانستان باعتبارها ميدان تدريب واختبار لآلة حربها، ومزبلة للتخلص من ترسانتها القديمة، بهدف تجديدها، الأمر الذي سيؤدي إلى انتعاش الصناعات العسكرية، وإنعاش الدورة الاقتصادية الأمريكية، خصوصاً وأن أمريكا تكون في كل حرب تخوضها قادرة على إرغام الآخرين على تمويلها.
والحقيقة أن ما يجري يتجاوز مفهوم صراع الحضارات، ذلك أن الولايات المتحدة تميز بين "إسلام" معتدل، حليف، يمكن السيطرة عليه واستخدامه، و"إسلام" آخر معادي، يتسم بالتطرف، ويناهض المصالح والسياسات الأمريكية، والحال أن هذه المفاضلة، أرغمت معظم الدول والجماعات على أن تعيد النظر في سياساتها وآثرت السلامة، وتجنب الغضب الأمريكي الساحق، ولذلك يمكن للولايات المتحدة أن تتحدث عن تحالف عالمي مفهومي ولكنه غير محدد الأطراف والمعالم، اللهم إلا بالنسبة للدول التي تنخرط معها فعلياً في هذه الحرب وهي بالدرجة الأساسية دول حلف الأطلسي.
أساس هذه السياسة يقوم على تقييم للعولمة التي تنظر للعالم على أنه قرية صغيرة، وأن الولايات المتحدة لا يمكنها العيش بمعزل عن العالم الذي هو مسرح الاقتصاد والسياسة والمصالح، ولا يمكنها أن تعيش بمعزل عن العالم في ظل التطور الاقتصادي والعلمي والتكنولوجي الهائل والمتسارع. إن لأمريكا مصالح مختلفة ومتنوعة وواسعة يقتضي منها التواجد، والتدخل إذا لزم الأمر في أي منطقة في العالم، فضلاً عن أنها تدعى أن لديها مسؤولية أخلاقية تجاه دول وشعوب أخرى بحاجة إلى المساعدة. وهكذا فإن بوسعنا وصف ما يجري على أنه تعميم للعولمة من خلال عمليات جراحية تستهدف تأهيل المسرح العالمي. للتعامل من مواقع دونية مع المصالح والسياسات الأمريكية وبقيادة الولايات المتحدة وبغرض خدمة عناصر السيطرة الأمريكية.
عناصر السيطرة الأمريكية تقتضي اقتصادياً، تأكيد هيمنة الاقتصاد الأمريكي على اقتصاديات الكتل الأخرى المنافسة (أوروبا الموحدة، اليابان، ما يمكن أن يحمله المستقبل للعملاق الصيني) وأمنياً يقتضي نشر القوات الأمريكية إلى أماكن وقواعد جديدة في العالم، فضلاً عن إنجاز استراتيجية الدرع الصاروخي، وكل هذا من شأنه أن يعزز السياسة الأمريكية على نحو مهيمن ويصعب تجاوزه، وربما كان من أبرز معالمه تحطيم المراكز الإقليمية، وحتى الدولية وتقصد الأمم المتحدة، التي تصبح واحداً من المجالات الحيوية لممارسة السياسة الأمريكية.
في هذا الإطار تحدث الأمريكيون عن حلقات في حربهم، وأفغانستان لم تكن سوى البداية، غير أن الآليات قد تختلف بين حلقة وأخرى.
في هذا الإطار قال الرئيس جورج بوش، إن سياسته تختلف عن سياسة سلفه في المنصب بيل كلينتون، "أنا لا أتكلم، أنا أعمل، نحن نقود الحرب ضد الإرهاب في كل مكان.. إذا لم تفعل الدول ما هو ملقى على عاتقها في إطار الحرب ضد الإرهاب فإن الولايات المتحدة ستقوم بالمهمة بدلاً عنها. أنا اعتمد فقط على مصدر واحد.. القوات المسلحة الأمريكية".
جاء حديث بوش في لقاء مغلق بتاريخ 12/12/2001، مع سبعة متبرعين يهود كبار للحزب الجمهوري.
ما يجري في اليمن من ملاحقة بحثاً عن اتباع "للقاعدة" وبن لادن، وما يجري في الصومال أيضاً، وفي الباكستان من ملاحقة لجماعات وصفتها أمريكا بالإرهابية يقدم نماذج على هذه السياسة، غير أن كل ذلك قد لا يكفي أحياناً بالنسبة للولايات المتحدة، التي قد ترى مصلحتها في التدخل المباشر هنا أو هناك بذريعة أن الإجراءات التي تتخذها هذه أو تلك لاجتثاث الإرهاب ليست كافية.
في مطلق الأحوال وبغض النظر عن الزاوية التي نقرأ من خلالها السياسة الأمريكية فإن القضية الفلسطينية، والصراع العربي الإسرائيلي، سواء لأبعادها الحضارية، أو لكونها تقع في منطقة نفوذ أمريكية حيوية، فإن هذه القضية ستجد تقاطعاً قوياً مع الحملة الأمريكية والعالمية ضد ما يسمى بالإرهاب الذي جرى تشخيصه كالعدو الرئيسي في مطلع الألفية الثالثة.
ويؤكد ذلك أن كافة الترشيحات التي تتكهن بالحلقة الثانية بعد أفغانستان، لا تخرج عن إطار منطقة الشرق الأوسط، فمرة يكون العراق، ومرة سوريا ولبنان، ومرة أخرى اليمن أو الصومال، والبعض يعتقد أنها ستكون فلسطين.
الولايات المتحدة ومفهوم الإرهاب
مرونة واتساع وشمولية المصالح الأمريكية ونظرتها لدورها القيادي، تجعل الإدارة الأمريكية على غير استعداد للتوصل إلى مفهوم جماعي للإرهاب، وهو ما نادت به معظم دول العالم، وهي أيضاً غير مستعدة للعودة إلى تراث الأمم المتحدة لتحديد مفهوم قانوني واضح، ولذلك فإنها تقرن تماماً بين مفهوم الإرهاب، والموقف من مصالحها وسياساتها.
وهذا يعني أن مفهوم الإرهاب يتسع ليشمل دولاً أو جماعات أو أفراد، يمكن أن يتم استهدافهم، انطلاقاً من معارضتهم ومناهضتهم للنفوذ والسياسة والمصالح الأمريكية.
وهنا لا يتم ربط مصطلح الإرهاب، بمدى عدالة، أو اجتماعية، أو إنسانية الأهداف والدوافع، التي تجعل الجماعات أو الدول أو الأفراد، يلجأون إلى أسلوب المقاومة العنيفة، ولذلك فإنه يختفي لدى الإدارة الأمريكية الفارق بين أساليب ووسائل مشروعة وغير مشروعة.
الولايات المتحدة طبقت هذا الفهم والمفهوم تماماً على الصراع الفلسطيني والعربي الإسرائيلي، فهي ترى في المقاومة الفلسطينية المسلحة للاحتلال الإسرائيلي إرهاباً، على الرغم من أن وثائق الأمم المتحدة، أضفت المشروعية الكاملة على كل مقاومة وبكافة الأساليب بما في ذلك الكفاح المسلح، للشعب الذي يسعى لتحرير أرضه ونفسه من الاحتلال.
والأنكى من ذلك أن طبيعة ارتباط مصالحها وسياستها وقيمها بدولة إسرائيل تجعلها ترى في العنف والعدوان الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني باستخدام أفظع الوسائل والأساليب وأكثرها وحشية، تراها سياسة دفاعية، وعلى الرغم من أن نقابة المحامين الإسرائيليين قررت "معارضتها لسياسة التصفيات لكونها إعدام بدون محاكمة"، وطالبت "الجنود ووفقاً للقانون برفض العمليات التي هي جرائم حرب". (هآرتس 24/12/2001)، إلا أن الإدارة الأمريكية باركت سياسة شارون في هذا الصدد.
الإدارة الأمريكية لم تميز بين عمليات عسكرية داخل إسرائيل وعمليات عسكرية في المناطق المحتلة منذ عام 1967، ضد المستوطنين والجيش الإسرائيلي، شأنها في ذلك شأن حكومة شارون.
ففي تعقيبه على بيان "حماس" الذي أصدرته الحركة يوم الجمعة 21/12/2001 وأعلنت فيه عن تعليق عملياتها الإستشهادية داخل الأراضي المحتلة منذ عام 1948 وتعليق القصف بالهاون، عقب الناطق باسم البيت الأبيض الأمريكي آري فليتشر قائلاً "إنها أوقفت التفجير داخل إسرائيل". كل الأنشطة الإرهابية في أي مكان يجب أن تتوقف فوراً" وأضاف فليتشر إن "حماس" منظمة إرهابية.. عرفات اتخذ بعض الخطوات الإيجابية وما يزال المزيد مطلوباً لوضع نهاية لكل الهجمات الإرهابية". ومثلها في هذه الحالة، مثل تجاهلها للعديد من المنظمات والجماعات التي تتجاهل الإدارة الأمريكية وضعها على لائحة الإرهاب، أو تقديمها ضمن أولوياتها لأسباب تتعلق بالمصالح، وبوجود مثل هذه الجماعات والمنظمات في بلدان أوروبية أو حليفة للولايات المتحدة.
إن أمريكا تتجاهل تماماً إرهاب الدولة الإسرائيلية، ولا تجد في الإدانات الصريحة التي تصدر على مدار الوقت، عن مؤسسات حقوقية أو متخصصة في الدفاع عن حقوق الإنسان، دولية وإقليمية ضد الممارسات الإرهابية الإسرائيلية، ما يجعل إدارة بوش تغير من سياسة الكيل بمكيالين وباستخدام ميزان الجزر الذي دأبت على استخدامه.
فلسطين على الأجندة الأمريكية
لأسباب عديدة يمكن ترجيح الاستنتاج الذي يرى بأن الإدارة الأمريكية قد وضعت الحالة الفلسطينية على جدول أعمال حروبها لمكافحة ما يسمى بالإرهاب، بل أنها قد دخلت فعلياً هذا الاستحقاق:
أولاً: تدرك الولايات المتحدة، بدون الحاجة للنصائح والنداءات التي صدرت في معظم عواصم العالم، وخصوصاً أوروبا والعالم العربي، أن القضية الفلسطينية واستمرار الصراع، يشكل واحداً من أهم الدوافع وفي أحيان أخرى الذرائع، التي تقف وراء تنامي الحقد ضد الولايات المتحدة وسياستها، وتفسير الكثير من أعمال المقاومة ضد المصالح الأمريكية.
وبدون الحاجة لمعلومات استخبارية، أو لما ورد في حديث أسامة بن لادن الذي بثته قناة الجزيرة خلال الأسبوع الأول للقصف الأمريكي لأفغانستان وأشار فيه إلى التزامه بالنضال من أجل فلسطين، فإن الولايات المتحدة قد لمست في العديد من الأحداث والمحطات وآخرها في مؤتمر دوربان لمكافحة العنصرية، أواخر آب الماضي، كم تشكل القضية الفلسطينية محرضاً لشعوب الأرض التي تربط عن حق بين الظلم الصادر عن سياسة الولايات المتحدة وذلك الذي يصدر عن إسرائيل المحتلة.
ثانياً: لقد أرادت الولايات المتحدة منذ البداية أن تنضم الدول العربية إلى تحالفها في الحرب ضد ما يسمى بالإرهاب، من أجل تغطية هذه الحرب أولاً، وتعميق ارتباط هذه الدول بسياستها ثانياً، وتهيئتها للعب دور قذر يستهدف تعميق السياسة التي استهدفتها إزاء المنطقة العربية إبان حرب الخليج الثانية عام 1990 ثالثاً.
غير أن الإدارة الأمريكية كانت تعلم أن مشاركة الدول العربية خصوصاً الأساسية منها، كان سيتسبب لتلك الدول في الكثير من الاحراجات، وربما يؤدي إلى استثارة جماهيرها، وإدخالها في أتون صراعات داخلية هي في غنى عنها، ما لم يتم تغطية موافقة تلك الدول بموقف أمريكي في القضية الفلسطينية وهو ما اتخذ سبيلين: الأول إعلان الرئيس بوش استعداد بلاده للاعتراف بدولة فلسطينية قابلة للحياة إلى جانب دولة إسرائيل، والثاني معاودة تنشيط الدور الأمريكي الوسيط من أجل تهدئة الصراع المحتدم على أرض فلسطين منذ نحو عام.
ثمة من بين العرب، وحتى بعض الفلسطينيين من اعتقد بأن هذا الظرف، وحاجة الولايات المتحدة للعرب وحتى السلطة الوطنية الفلسطينية في تحالفها ضد ما يسمى بالإرهاب، فرصة، لمعادلة جديدة، يتراجع فيها الدور الإسرائيلي على اعتبار أن إسرائيل دولة وظيفية، بما قد ينتج عن المعادلة التالية: دور أمريكي يستهدف فرض حل عادل للصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي مقابل مشاركة عربية أكثر فاعلية في مكافحة ما يسمى بالإرهاب.. وعلى هذا الأساس انعقدت مراهنات على دور أمريكي جديد وسياسة أمريكية جديدة، لكن هذه المراهنات سرعان ما تراجعت تحت وطأة التوضيحات اللاحقة لمضمون السياسة الأمريكية. حتى الإسرائيليين أبدوا خشية واضحة من إمكانية تحول السياسة الأمريكية نحو الأخذ بمثل هذه المساومة ولذلك أعلن شارون أكثر من مرة، "أن إسرائيل غير مستعدة، لأن تدفع ثمن التحالف الأمريكي ضد الإرهاب" وكانت تلك إشارة للسياسة العربية التي سعت للحصول على موافقة الإدارة الأمريكية على هذه المعادلة المساومة.
ثالثاً: الولايات المتحدة رغبت وسعت من أجل تبرير وتهدئة الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي من أجل منع ووقف التشويش على حربها، ضد الإرهاب خصوصاً قبل أن يستتب لها الأمر في حربها على الجبهة الأولى، أفغانستان، والتي أشرفت على الانتهاء بمشاركة عربية أقل مما توقعت الإدارة الأمريكية أن تحتاجه منها.
رابعاً: طبيعة العلاقات الأمريكية ـ الإسرائيلية، تلزم الولايات المتحدة التدخل لصالح إسرائيل التي تعاني منذ أشهر طويلة في صراعها مع الفلسطينيين، وبما يؤدي إلى إرضاء حلفائها الأوروبيين، المتحمسين للتدخل والتوسط وزيادة وتوسيع الدور، وأيضاً من أجل كبح هذه التطلعات الأوروبية التي اعتقدت أن الفرصة مواتية.
أي أن وضع الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي على أجندة الأولويات الأمريكية كان يستهدف إنقاذ إسرائيل، وإنقاذ الدور الأمريكي من محاولات التطاول الأوروبية والروسية.. التي لا تتطابق أجنداتها بالضرورة مع الأجندة الأمريكية.
الصراع على الموقف الأمريكي بين الفلسطينيين والإسرائيليين جرى على أشده منذ الأسبوع الأول الذي تلا التفجيرات ضد رموز القوة الأمريكية في واشنطن ونيويورك.
القراءة الفلسطينية
إثر أحداث 11/9 في الولايات المتحدة، بادرت القيادة الفلسطينية إلى إدانة ذلك العمل الإرهابي الذي ضرب واشنطن ونيويورك، وكذلك فعلت لجنة المتابعة العليا للقوى الوطنية والإسلامية، فضلاً عن بعض البيانات المنفردة التي صدرت عن معظم المنظمات والفصائل. إدانة الفعل الإرهابي المذكور كانت محكومة لعقدة الخوف من يتضح أن الفلسطينيين ضلع ما في تلك التفجيرات، أو أن تنجح دوائر الضغط الصهيونية في إقناع الإدارة الأمريكية بإلقاء التهمة أو شبهة الفعل على الفلسطينيين. وفي الوقت ذاته عكست الإدانة الصادرة عن السلطة الوطنية، رؤية سياسية تكتيكية تذهب إلى ما هو أبعد من مغادرة دائرة الاتهام، إلى دائرة التميز السياسي. كان المنطق الفلسطيني منسجماً مع السياق العربي الذي يرى فرصة هامة لمقايضة واشنطن، فالمشاركة العربية الفلسطينية في التحالف الدولي الذي دعت إليه الولايات المتحدة يقتضي ثمناً، يمكن أن يكون في تغيير وجهة السياسة الأمريكية لصالح الضغط على إسرائيل من أجل وقف عدوانها والبحث عن حل سياسي عادل للقضية الفلسطينية.
ويبدو أن واشنطن كانت قد سربت لبعض الدول العربية بعض الوعود في هذا الاتجاه، وخصوصاً السعودية، حيث ظهر فيما بعد أن الإدارة الأمريكية كانت تنوي طرح مبادرة سياسية من على منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة لولا أن التفجيرات استبقت ذلك الاجتماع الذي كان سيتم في النصف الثاني من أيلول.
ولعل التفكير في معقولية مثل هذه المساومة وواقعيتها قد استند إلى قراءة المتغيرات على الوظيفة الإسرائيلية تجاه خدمة السياسة الأمريكية وحيث بدا أن إسرائيل تعيش ظروفاً كالتي عاشتها إبان حرب الخليج الثانية عام 1990.
الحالة الجماهيرية الفلسطينية أظهرت مشاعر مختلفة، تتناغم وشعور الفلسطينيين الدائم والتاريخي بالظلم الشديد الذي يقع عليهم جراء الانحياز الأمريكي الذي لم يتوقف لإسرائيل التي تحتل أرضهم. غير أن السلطة الوطنية تمكنت من وقف التعبيرات الجماهيرية التي عبرت عن التأييد لأسامة بن لادن في الشارع وأغلقت على الإسرائيليين الذين يتربصون فرصة استغلال هذه المشاعر إلى حد تحريض الولايات المتحدة على السلطة الوطنية.
في 18/9 أعلن الرئيس عرفات نداءه للشعب الإسرائيلي وكان يستهدف إعادة صياغة الرؤية الفلسطينية لخيار السلام الذي تتمسك به السلطة الوطنية ومنظمة التحرير الفلسطينية، فضلاً عن إعلانه الاستجابة للطلب الأمريكي بالمشاركة في التحالف الدولي لمقاومة الإرهاب.
وعلى الفور أيضاً وافق الرئيس عرفات على الالتقاء بشمعون بيريز لتثبيت وقف إطلاق النار والهدوء، والتمكن من الانتقال لتطبيق توصيات تينيت وميتشل. وهكذا جاء اجتماعه مع بيريز في مطار غزة في 26/9/2001، ليؤكد هذا المنحى. وفي ظل تلك الظروف لم يكن أمام شارون سوى الموافقة على ذلك اللقاء، لكنه لم يكن مقتنعاً بتلك الوجهة، ولا مخلص للبحث عن الهدوء. ولقد جاءت الممارسات الإسرائيلية اللاحقة وتداعيات التصعيد الإسرائيلي وخصوصاً على صعيد الاغتيالات، وما نجم عن ذلك من ردود فعل فلسطينية انتقامية لتعيد الأمور إلى سابق عهدها. والجدير بالذكر أن الحكومة الإسرائيلية لم تتخذ أية إجراءات تخفيفية مقابل الاستعداد الفلسطيني لوقف النار.
وعدا عن التصعيد الإسرائيلي غير المسبوق، وصمت واشنطن عليه، وعدم المبادرة للضغط على حكومة شارون، فإن الإدارة الأمريكية اكتفت بتقديم إشارة واحدة للفلسطينيين والعرب وهي إعلان الاستعداد للاعتراف بدولة فلسطينية إلى جانب دولة إسرائيل. ولكن وقبل أن يعطى ذلك الإعلان الإيجابي كامل أبعاده كانت واشنطن قد أحبطت كل نظرة كانت تنتظر تغيراً كافياً في السياسة الأمريكية.
رفض الرئيس بوش الالتقاء بالرئيس عرفات حتى على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، وفقط اكتفت واشنطن بسبب الغضب السعودي والعربي، بالتقاء وزير الخارجية كولن باول بالرئيس عرفات. ثم عززت واشنطن ذلك الميل السلبي حين اعتبرت الانتفاضة إرهاباً، وبعد ذلك أيضاً حين وضعت حركتي حماس والجهاد وحزب الله في قائمة الجماعات التي تتهمها بالإرهاب إلى أن أخذت تبني سياستها على مطالبة السلطة الوطنية بمحاربة الإرهاب حتى القتل.
ثمة ما يدعو للاعتقاد بأن واشنطن لم تشعر بالحاجة لأي تغيير جدي في سياستها إزاء المنطقة يصل إلى حد تلبية المراهنات التي عقدتها الدوائر الفلسطينية والعربية للأسباب التالية:
أولاً: أظهرت الإدارة الأمريكية شعوراً استعلائياً لم تكن تخجل من التعبير عنه، ووقعت تحت سطوة العنجهية وسيطرة القوة، والغطرسة إلى حد أنها لم ترغب في إظهار أي قدر من الضعف، أو المرونة أو التساهل ضد الآخرين خصوصاً وأن الغالبية الساحقة وربما كل من تتهمهم واشنطن بالتفجيرات ينتمون إلى العرب أساساً.
ثانياً: يبدو أن واشنطن تراجعت لاحقاً عن تقديراتها الأولية التي كانت ترى للدول العربية دوراً فاعلاً وأساسياً في حربها ضد الإرهاب في حلقته الأولى، وقد اتضح فعلاً أن اعتمادها على الدول العربية كان ثانوياً قياساً باعتمادها على دول أخرى إقليمية ودولية.
ثالثاً: لم تشعر الإدارة الأمريكية بالحاجة لمساومة من المستوى الذي يفكر فيه العرب، خصوصاً وقد أظهروا على الدوام تفككاً وضعفاً، كان يمكنها من ضبط السياسة العربية. وبالتالي لم يكن لدى العرب ما تخشى منه لو أنها أدارت لهم ظهر المجن.
رابعاً: ربما أدى الربط بين "الإرهاب" وبين القضية الفلسطينية إلى تنمية النزعة الانتقامية لدى الأمريكيين تجاه الفلسطينيين والعرب ولإظهار القوة، وعدم الرضوخ أمام مثل هذه الاستنتاجات. وفي هذا الإطار يبدو أن الولايات المتحدة تتبنى بصورة كاملة التقدير الإسرائيلي الذي يقول بأنه لا سبيل لوقف ما يسمى بالعنف الفلسطيني، وإرغام السلطة الوطنية على التهدئة سوى الضغط الشديد والمتواصل. إن السياسة الأمريكية اللاحقة جاءت لتؤكد أن واشنطن مقتنعة بهذه المقولة الإسرائيلية.
خامساً: يتضح أن التحالف الأمريكي ـ الإسرائيلي هو أعمق وأبعد بكثير مما نعتقد، وأنه ليس تحالفاً استراتيجياً مصلحياً وحسب، وإنما هو تحالف قيمي ومصيري، هذا فضلاً عن تأثير جماعات الضغط اليهودية في الولايات المتحدة على قرارات الكونغرس، وقرارات الإدارة الأمريكية.
سادساً: أدعى أن ثمة تشابهاً كبيراً بين شخصيتي الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن وبين رئيس الوزراء الإسرائيلي شارون، فكلاهما عديم الثقافة، مباشر حتى الوقاحة، ضعيف المعارف السياسية عنيد، ويتمتعان بعنجهية واضحة وكلاهما يمجد الأفعال لا الأقوال. وأعتقد أن تحليلاً نفسانياً لملامح الشخصيتين سيظهر قدراً عالياً من التشابه في مميزات كل منهما.
وهكذا وبمرور المزيد من الوقت فإن واشنطن قد عادت وقلبت المعادلات، إلى ما كانت عليه، ليعود الضحية الفلسطينية في نظرها جلاداً والجلاد الإسرائيلي في نظرها ضحية.
وحتى إعلان الرئيس بوش ووزير خارجيته عن استعدادهما لقيام دولة فلسطينية قد لا يتعدى الإعلان الشاروني، ذلك أن واشنطن امتنعت حتى اللحظة عن تقديم أية إيضاحات حول مضمون إعلانها، أو أية آليات، أو جداول زمنية وما إلى ذلك.
حتى حين بادر كولن باول لإلقاء خطابه في 19/11/2001، فإنه زاد الغموض غموضاً، ولم يكن خطابه سوى رؤية مليئة بالأمل والوعود، الأمر الذي جعل أمين عام الجامعة العربية عمرو موسى يدلي بتصريحه الشهير الذي قال فيه "أخشى أن نكون أمام عملية نصب سياسي تاريخية كبرى"، وفي وقت لاحق أضاف "إننا نعيش أسوأ السيناريوهات".
غير أن كل ذلك لم يبدل النظرة الحذرة التي اتسم بها الموقف السياسي الفلسطيني، والذي ظل يسعى لسحب الذرائع الإسرائيلية، وتجنب الاصطدام مع واشنطن، ولمنحها فرصة لتوضيح المدى الذي تصل إليه سياستها.
ولا يفوتنا أن نشير إلى أن المحاولات الفلسطينية والعربية التي رأت فيما تمارسه إسرائيل إرهاباً لا يختلف عن الإرهاب الذي ضرب واشنطن، تلك المحاولات لم تفلح في تبديل موقع إسرائيل ولا في إقناع الولايات المتحدة، والرأي العام العالمي بتغيير طريقة ووجهة التعامل مع الحكومة الإسرائيلية.