مستشار مالية
12-05-2005, Thu 6:30 AM
الاستثمار في الأسهم
1/3/1426
د. علي محيي الدين القره داغي
كلية الشريعة والقانون والدراسات الإسلامية - جامعة قطر
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعاملين وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فلا شك أن الشركات المساهمة تلعب دوراً كبيراً في الاقتصاد المعاصر، وأن أهم ركائزها وأدواتها هي الأسهم، حيث يتم من خلالها جمع أكبر قدر ممكن من الأموال؛ لأن تجزئة رأس المال إلى حصص صغيرة تمكن الجميع من المساهمة فيها مما يمكن تجميع رأس مال كبير وبذلك تستطيع الدخول في المشروعات الضخمة .
ولم يقف التعامل في الأسهم اليوم على المساهمين المؤسسين للشركة، بل أصبحت كورقة تجارية مالية تتداول بين الناس بشكل واسع ولا سيما في الأسواق المالية العالمية (البورصة).
ومن هنا يثور التساؤل حول مدى مشروعية التعامل في الأسهم بصورة عامة، والاستثمار فيها ولا سيما الاستثمار في الأسهم التي تمتلكها الشركات العالمية، أو الشركات المحلية داخل العالم الإسلامي ولكن معاملاتها لا تخلو من شوائب الربا.
ومن أخطر ما تعاني منه مجتمعاتنا هو وجود النظام غير الإسلامي ( الرأسمالي ، أو الاشتراكي) الذي تكونت في ظله الشركات في عالمنا الإسلامي حيث لا يلتزم معظمهم بالمنهج الإسلامي القويم، فتقرض وتقترض من البنوك الربوية .
ومعظم المسلمين اليوم في حيرة، هل يتركون هذه الشركات فيقاطعونها ولا يساهمون فيها، وبالتالي ينفرد الفسقة وضعفاء الدين بإدارة هذه الشركات التي تعد العمود الفقري للحياة الاقتصادية؛ وذلك لأنها قائمة وأن مقاطعة الغيورين المخلصين لا تؤثر في مسيرتها أم أنهم يدخلون فيها لغرض الإصلاح والتغيير؟
وفي مقابل هذا التحير من عامة المسلمين نجد اختلاف المعاصرين حيث إن منهم من ينظر إلى مقاصد الشريعة وما يترتب على المقاطعة وعدم المساهمة فيها من مفاسد فأجاز المساهمة فيها بشروط وضوابط، ومنهم من نظر نظرة خاصة إلى ما يشوب هذه المعاملة من حرام فرفضها رفضاً مطلقاً.
ونحن في هذه العجالة نناقش هذه المسألة بكل أمانة وإخلاص راجياً من الله _تعالى_ أن يسدد خطانا، ويلهمنا الصواب، وأن يعصمنا من الخطأ في العقيدة وفي القول والعمل.
أولاً: الاستثمار في اللغة والاصطلاح:
الاستثمار في اللغة:
الاستثمار لغة: مصدر استثمر يستثمر وهو للطلب بمعنى طلب الاستثمار، وأصله من الثمر وهو له عدة معان منها ما يحمله الشجر وما ينتجه، ومنها الولد، حيث يقال: الولد ثمرة القلب، ومنها أنواع المال.
ويقال: ثمر (بفتح الميم) الشجر ثموراً أي: ظهر ثمره، وثمر الشيء أي نضج وكمل، ويقال: ثمر ماله أي كثر، وأثمر الشجر أي بلغ أوان الإثمار، وأثمر الشيء أي آتى نتيجته، وأثمر مالُه –بضم اللام- أي كثر، وأثمر القوم: أطعمهم الثمر، ويقال: استثمر المال وثمره - بتشديد الميم - أي استخدمه في الإنتاج، وأما الثمرة هي واحدة الثمر فإذا أضيفت إلى الشجر فيقصد بها حمل الشجر، وإلى الشيء فيراد بها فائدته، وإلى القلب فيراد بها مودته، وجمع الثمرة: ثمر –بفتح الثاء والميم- وثمر- بضمها- ثمار وأثمار (1)
وقد وردت كلمة "أثمر"، وثمرة، وثمر، وثمرات أربعاً وعشرين مرة في القرآن الكريم منها قوله _تعالى_: "انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ" [الأنعام: 99] أي انظروا إلى ثمار تلك الأشجار والنباتات، ونضجها للوصول إلى الإيمان بالله _تعالى_ حيث يحمل ذلك عجائب قدرته _تعالى_، ومنه قوله _تعالى_: "وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ" [الأنعام: 141]، حيث امتن الله _تعالى_ علينا بالثمار، وأمرنا أن نأكل من ثمار هذه الأشجار والنباتات عندما تثمر وتنتج، وأن نعطي حقها (وهو الزكاة) عند حصادها فوراً للمستحقين، كما أمرنا بأن لا نسرف في الباقي، وهذا يدل على أن حق الملكية ليس حقًّا مطلقاً، بل مقيد بضوابط الشرع.
وفي هذه الآية وآيات أخرى أسند الله _تعالى_ الإثمار إلى الشجر والنبات أنفسهما مما يدل على أهمية العناية بالسنن والأسباب الظاهرة التي لها تأثير على النمو والثمر والنضج مع أن الفاعل الحقيقي هو الله _تعالى_، ولذلك أكد هذه الحقيقة في آيات أخرى فقال: "وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ" [البقرة: 22] وقوله _تعالى_: "رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ" [البقرة: 126].
ويلاحظ أن القرآن الكريم أطلق (في الغالب) الثمر أو الثمرة، أو الثمرات على ما تنتجه الأشجار والنباتات مثل قوله _تعالى_: "وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ" [البقرة: 155]، ولم يطلق على ما تنتجه التجارة من أرباح إلا إذا عممنا المراد بقوله _تعالى_: "أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آَمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ" [القصص: 57].
وقد وردت هذه الكلمة أيضاً في السنة كثيراً وهي لا تعدو معانيها عن ثمار الأشجار والنباتات، منها أنه _صلى الله عليه وسلم_: "نهى عن بيع الثمر حتى يزهو" متفق عليه، وقوله _صلى الله عليه وسلم_:" اللهم ارزقنا من ثمرات الأرض" (مسند أحمد 3/342) وغير ذلك.
الاستثمار في الاصطلاح:
ورد لفظ "التثمير" في عرف الفقهاء عندما تحدثوا عن السفيه والرشيد، فقالوا: الرشيد هو القادر على تثمير ماله وإصلاحه، والسفيه هو غير ذلك، قال الإمام مالك : "الرشد: تثمير المالي، وإصلاحه فقط" (2)
وأرادوا بالتثمير ما نعني بالاستثمار اليوم (3)
وأما لفظ "الاستثمار" فلم يرد بمعناه الاقتصادي اليوم، ولذلك في معجم الوسيط: الاستثمار: استخدام الأموال في الإنتاج إما مباشرة بشراء الآلات والمواد الأولية، وإما بطريقة غير مباشرة كشراء الأسهم والسندات ثم وضع رمز "مج" الذي يدل على أن هذا المعنى هو من وضع مجمع اللغة (4)
حكم الاستثمار:
الذي يظهر من النصوص الشرعية ومقاصدها العامة أن الاستثمار واجب في مجموعه، أي أنه لا يجوز للأمة أن تترك الاستثمار.
* ذلك لأن النصوص الثابتة في أهمية المال في حياة الفرد والأمة، وتقديم المال على النفس في معظم الآيات وامتنان الله _تعالى_ بالمال، والمساواة بين المجاهدين، والساعين في سبيل الرزق كما في آخر سورة المزمل، وتسمية العامل والتاجر بالمجاهد في سبيل الله في أحاديث كثيرة... كل ذلك يدل بوضوح على وجوب العناية بالمال وتثميره وتقويته حتى تكون الأمة قادرة على الجهاد والبناء والمعرفة والتقدم والتطور والسعادة والنهضة والحضارة، حيث إن ذلك لا يتحقق إلا بالمال كما يقول الله _تعالى_:"وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا" [النساء: 5].
فقد سمى الله _تعالى_ المال بأنه قيام للمجتمع الإسلامي، وهذا يعني أن المجتمع لا يقوم إلا به ولا يتحرك إلا به ولا ينهض إلا به، كما أن قوله _تعالى_ :"وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا" [النساء:5] ولم يقل: "منها" يدل بوضوح على وجوب الاستثمار حتى تكون نفقة هؤلاء المحجور عليهم (من الأطفال والمجانين) في الأرباح المتحققة من الاستثمار وليست من رأس المال نفسه.
يقول الإمام الرازي: "اعلم أنه _تعالى_ أمر المكلفين في مواضع من كتابه بحفظ الأموال"، قال _تعالى_: "وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ" [ الإسراء: 26 – 27]. وقال _تعالى_: "وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا" [الإسراء: 29] وقال _تعالى_: "وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا" [الفرقان: 67] وقد رغب الله في حفظ المال في آية المداينة، حيث أمر بالكتابة والإشهاد والرهن، والعقل يؤيد ذلك؛ لأن الإنسان ما لم يكن فارغ البال لا يمكنه القيام بتحصيل مصالح الدنيا والآخرة، ولا يكون فارغ البال إلا بواسطة المال"، ثم قال: "وإنما قال: "فيها" ولم يقل "منها" لئلا يكون ذلك أمراً بأن يجعلوا بعض أموالهم رزقاً لهم، بل أمرهم أن يجعلوا أمواله مكاناً لرزقهم بأن يتجروا فيها ويثمروها فيجعلوها أرزاقهم من الأرباح ، لا من أصول الأموال ...." (5)
* ومن الأدلة المعتبرة أن وجوب الزكاة في الأموال يدفع أصحابها إلى التجارة؛ لأنه إن لم يتاجروا فيها تأكلها الصدقة والنفقة، وهذا ما يؤيده الفكر الاقتصادي الحديث، حيث يفرض أنواعاً من الضرائب لدفع أصحاب الأموال إلى عدم اكتنازها، بل قد وردت أحاديث تصل بمجموعها إلى درجة الصحيح أو الحسن الذي ينهض به حجة على وجوب التجارة في أموال الصغار (اليتامى وغيرهم) والمحجور عليهم : السفهاء ، والمجانين ، وناقصي الأهلية، فقد روى الشافعي بإسناده عن يوسف بن ماهك أن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ قال:"ابتغوا في مال اليتيم –أو في أموال اليتامى - لا تذهبها- أو لا تستهلكها- الصدقة " وقد قال البيهقي والنووي : "إسناده صحيح، ولكنه مرسل معضد بعموم النصوص الأخرى وبما صح عن الصحابة من إيجاب الزكاة في مال اليتيم" (6)
قال البيهقي : "وهذا –أي حديث ابن ماهك- مرسل إلا أنا الشافعي_رحمه الله_ أكده بالاستدلال بالخبر الأول، وهو عموم الحديث الصحيح في إيجاب الزكاة مطلقاً- وبما روى عن الصحابة في ذلك" (7)
وقال النووي : "ورواه البيهقي عن عمر بن الخطاب _رضي الله عنه_ موقوفاً عليه بلفظ: "وابتغوا في أموال اليتامى لا تأكلها الصدقة" وقال: إسناده صحيح، ورواه أيضاً عن علي بن مطرف..." (8)
- وروى الطبراني في الأوسط عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: " اتجروا في أموال اليتامى لا تأكلها الزكاة " قال الهيثمي في (مجمع الزوائد) نقلاً عن شيخه الحافظ العراقي : "إن إسناده صحيح" (9)
يقول فضيلة الشيخ القرضاوي: "إن الأحاديث والآثار قد نبهت الأوصياء على وجوب تثمير أموال اليتامى حتى لا تلتهمها الزكاة...." فواجب على القائمين بأمر اليتامى أن ينموا أموالهم كما يجب عليهم أن يخرجوا الزكاة عنها، نعم إن في هذين الحديثين (أي حديث عمرو بن شعيب المرفوع وحديث يوسف بن ماهك) ضعفاً من جهة السند، أو الاتصال ولكن يقويهما عدة أمور، وذكر منها: " أنه يوافق منهج الإسلام العام في اقتصاده القائم على إيجاب التثمير وتحريم الكنز" (10)
* وكذلك يدل على وجوب تثمير الأموال في قوله _تعالى_: "كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ" [الحشر: 7] حيث إن الأموال لا تتداول إلا عن طريق توزيع الصدقات، والاستثمار الذي يؤدي إلى أن يستفيد منها الجميع من العمال والصناع والتجار ونحوهم، وكذلك قوله _تعالى_:"وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ" [الأنفال: 60] ومن القوة بلا شك قوة المال بل هي مقدمة في معظم الآيات على النفس، فإذا كانت قوة البدن والسلاح مطلوبة فإن قوة المال أشد طلباً ووجوباً.
ثم إن من مقاصد هذه الشريعة الحفاظ على الأموال، وذلك لا يتحقق إلا عن طريق استثمارها وتنميتها، كما أن من مقاصدها تعمير الكون على ضوء منهج الله _تعالى_"هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا" [هود: 61] فقال المفسرون: "معناه: أمركم بعمارة ما تحتاجون إليه فيها من بناء مساكن وغرس أشجار" (11) وكذلك ومن مقاصدها الاستخلاف الذي يقتضي القيام بشؤون الأرض وتدبيرها والإفادة منها وتعميرها وكل ذلك لا يتحقق على وجهها الأكمل إلا عن طريق الاستثمار .
والخلاصة:
أن الاستثمار للأموال بوجهها العام واجب كفائي فيجب على الأمة أن تقوم بعمليات الاستثمار حتى تكون وفرة الأموال وتشتغل الأيادي ويتحقق حد الكفاية للجميع إن لم يتحقق الغنى، ومن القواعد الفقهية في هذا المجال هو أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب .
ويثور التساؤل حول وجوب الاستثمار على الفرد إذا كان له فائض مالي، فالذي يقتضيه المنهج الإسلامي في أن المال مال الله _تعالى_ وأن ملكية الإنسان له ليست مطلقة عن قيد... إنه يجب عليه أن يستثمر أمواله بالطرق المشروعة سواء كان بنفسه، أو عن طريق المضاربة والمشاركة ونحوهما، وأنه لا ينبغي له أن يترك أمواله الصالحة للاستثمار فيعطلها عن أداء دورها في التدوير وزيادة دورانها الاقتصادي الذي يعود بالنفع العام على المجتمع.
كما أن قوة المجتمع والأمة بقوة أفرادهما ولا سيما على ضوء منهج الاقتصاد الإسلامي الذي يعترف بالملكية الفردية، وأن ملكية الدولة محدودة، ومن هنا فتقع على الأفراد مسؤولية كبرى في زيادة الأموال وتقويتها عن طريق الاستثمار، يقول الشيخ محمود شلتوت: "إذا كان من قضايا العقل والدين أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، وكانت عزة الجماعة الإسلامية أول ما يوجبه الإسلام على أهله، وكانت متوقفة على العمد الثلاثة: الزراعة والصناعة والتجارة، كانت هذه العمد واجبة وكان تنسيقها على الوجه الذي يحقق خير الأمة واجباً..." (12)
المعالم الأساسية لمنهج الإسلام في الاستثمار
لا يمكن الخوض في تفاصيل هذا الموضوع في هذا البحث، وإنما نكتفي بذكر أهم معالمه بصورة موجزة، وهي:
أولاً: أن منهج الاستثمار في الإسلام لا ينفصل عنه العقيدة والفكر الإسلامي ، وكما أن الفكر الرأسمالي يسير عجلة الاستثمار في النظام الرأسمالي ، والفكر الشيوعي كان يسير عملية الاستثمار في الاتحاد السوفيتي السابق والدول الاشتراكية نحو إطاره الفلسفي وأهدافه من خلال وسائله الخاصة....
فكذلك العقيدة الإسلامية هي المهيمنة في الفكر الاقتصادي الإسلامي، وفي منهج الاستثمار وأدواته ووسائله وآلياته، فالمسلم يعتقد أن المال مال الله _تعالى_، وأنه مستخلف فيه، ولذا يجب عليه أن يسير في الاستثمار وغيره على ضوء منهج الله _تعالى_، ولا يخالف شرعه كما عليه أن يعمر الكون بالعدل والحق، ويكون شاهداً على الآخرين.
ولأجل هذه العقيدة تختلف تصرفات المؤمن عن الكافر فبينما يضع المسلم في الاكتساب والإنفاق والاستثمار رضاء الله _تعالى_ نصب عينيه يضع الكافر مصالحه الشخصية أولاً ثم مصالح قومه فوق كل الاعتبارات، بل قد لا يكون له اعتبار إلا لهما، يبين ذلك قوله _تعالى_ في وصف المؤمنين: "وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9)" [الإنسان: 8 – 9]. بينما يصف الكافر بأنه ليس راغباً في إطعام اليتامى والمساكين؛ لأنه ليس فيه مصلحة دنيوية له، حتى لو أطعم فإنما يطعم من يرجو منه مصلحة كأصحاب الجاه، حيث يقول _تعالى_: "أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3)" [ الماعون: 1-3] ولأجل هذه العقيدة يرى المؤمن أن الربا محق للأموال ونقص حقيقي، وأن دفع الصدقات زيادة لها، وهذا بالتأكيد عكس تصور الكافر، حيث يقول الله _تعالى_: "يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ" [البقرة: 276].
ولأجل هذه العقيدة أيضاً يمتنع عن المحرمات ويقبل على الطاعات، ويعد أنه مثاب مأجور ينفذ أمر الله _تعالى_ حينما يستثمر ويتاجر ويعمل، إضافة إلى إسناده النتيجة إلى الله _تعالى_ وحينئذ لا يحزن ولا يغتم عند الخسارة، ولا يبطر ويطغى عن الربح والغناء "لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ" [الحديد: 23] فهو دائماً في أحد المقامين أو في كليهما: مقام الشكر والثناء، ومقام الصبر والرضا.
كما يترتب على هذه العقيدة سرعة الامتثال لأوامر الله _تعالى_ ونواهيه، ولذلك يقدم الله _تعالى_ على أوامره ونواهيه ذكر الإيمان فيقول _تعالى_: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ" [النساء: 29] وقوله _تعالى_: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ" [البقرة: 278].
ومن جانب آخر أن المسلم حينما يتحرك ويستثمر فإنما ينطلق من منطلق العقيدة التي تفرض عليه أن يعمر الكون على ضوء منهج الله _تعالى_ وينشر الخير والرحمة للعالمين أجمعين.
ثانياً: أن من أهم المعالم الأساسية للمنهج الإسلامي في الاستثمار قيامه على القيم والأخلاق والمبادئ ، ولذلك حرم الإسلام الحيل والغش والاستغلال والتدليس، ولذلك وردت أحاديث صحيحة على أن "من غشنا فليس منا " (13) وعلى حرمة التدليس، سواء كان بالقول كما في النجش (14) أم بالفعل كما في التصرية (15) ونحوها.
وبالمقابل أوجب الإسلام أن يسير الاستثمار على العدل، والسماحة عند البيع الشراء والاقتضاء، وبيان كل ما في المعقود عليه من عيوب دون كذب ولا حلف ولا زور (16)
ثالثاً: إن من المعالم الأساسية للمنهج الإسلامي في الاستثمار قيامه على التنافس الشريف وإتاحة الفرصة للجميع دون تدخل من الدولة إلا لحماية الضوابط الشرعية والضعفاء، ولذلك كانت حماية السوق منوطة بسلطة شعبية تتمثل في نظام الحسبة والرقابة الذاتية والشعبية.
ومن هنا أعطى الرسول _صلى الله عليه وسلم_ الحق في الخيار لمن كان في عقله ضعف كما في حديث ابن عمر رجلاً ذكر للنبي _صلى الله عليه وسلم_ أنه يخدع في البيوع، فقال: " إذا بايعت فقل: لا خلابة " ، ورواه أحمد وأصحاب السنن بلفظ: أن رجلاً على عهد رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ كان يبتاع وكان في عقدته –يعني في عقله- ضعف فأتى أهله النبي _صلى الله عليه وسلم_ فقالوا: يا رسول الله احجر على فلان فإنه يبتاع وفي عقدته ضعف، فدعاه ونهاه، فقال: إني لا أصبر عن البيع، فقال: إن كنت غير تارك للبيع فقل: هاء وهاء، ولا خلابة " . (17) .
فهذا الحديث أصل طيب في الدلالة على إعطاء فرصة أكبر لضعاف العقول والمستأمنين الذين ليس لديهم الخبرة في العقود بأن يشترطوا لأنفسهم الخيار، بل يعطى لهم هذا الحق ما داموا وقعوا في غبن حتى ولو لم يشترطوا الخيار. (18)
رابعاً: تحريم الظلم والربا، وأكل أموال الناس بالباطل، والمقامرة وغير ذلك مما حرمه الإسلام ونهى عنه.
الأسهم:
الأسهم هي جمع سهم، وهو لغة له عدة معان منها: النصيب، وجمعه: "السهمان" بضم السين، ومنها العود الذي يكون في طرفه نصل يرمى به عن القوس، وجمعه: السهام، ومنها: بمعنى القدح الذي يقارع به، أو يلعب به في الميسر، ويقال: أسهم بينهم أي أقرع، وساهمه أي باراه ولاعبه فغلبه، وساهمه أي قاسمه وأخذ سهماً، أي نصيباً، جاء في (المعجم الوسيط): "ومنه شركة المساهمة"(19) وفي القرآن الكريم "فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ" [الصافات: 141] أي قارع بالسهام فكان من المغلوبين (20) والاقتصاديون يطلقون السهم مرة على الصك ، ومرة على النصيب ، والمؤدى واحد، فباعتبار الأول قالوا: السهم هو: صك يمثل جزءاً من رأس مال الشركة ، يزيد وينقص تبع رواجها.
وبالاعتبار الثاني: قالوا: السهم هو نصيب المساهم في شركة من شركات الأموال ، أو الجزء الذي ينقسم على قيمته مجموع رأس مال الشركة المثبت في صك له قيمة اسمية، حيث تثمل الأسهم في مجموعها رأس مال الشركة ، وتكون متساوية القيمة. (21)
وتتميز الأسهم بكونها متساوية القيمة، وأن السهم الواحد لا يتجزأ وأن كان نوع منها –عاديًّا أو ممتازاً- يقوم - من حيث المبدأ- على المساواة في الحقوق والالتزامات وأنه قابل للتداول، ولكن بعض القوانين –مثل النظام السعودي - استثنى الأسهم المملوكة للمؤسسين حيث لا يجوز تداولها قبل نشر الميزانية إلا بعد سنتين ماليتين كاملتين –كقاعدة عامة- وكذلك لا يجوز تداول أسهم الضمان التي يقدمها عضو مجلس الإدارة لضمان إدارته طوال مدة العضوية وحتى تنقضي المدة المحددة لسماع دعوى المسؤولية (22)
حكم تقسيم رأس مال الشركة:
ومن الجدير بالتنبيه عليه أن تقسيم رأس مال الشركة إلى حصص وأجزاء، واشتراط الشروط السابقة لا يتنافى مع المبادئ العامة للشريعة الإسلامية ، والقواعد العامة للشركة في الفقه الإسلامي، إذ ليس فيها ما يتنافى مع مقتضى عقد الشركة ، بل فيها تنظيم وتيسير ورفع للحرج الذي هو من سمة هذه الشريعة، وداخل ضمن الوفاء العام بالعقود "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ" [المائدة: 1] وتحت قول رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: " المسلمون عند شروطهم" (23) وفي رواية:" والمسلمون على شروطهم إلا شرطاً حرم حلالاً أو أحل حراماً " (24) قال الترمذي : "هذا حديث حسن صحيح". (25)
فهذه النصوص وغيرها تدل على أن كل مصالحة وكل شرط جائزان إلا ما دل الدليل على حرمته، وعلى أن الأصل فيهما هو الإباحة ، والحظر يثبت بدليل خاص، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : "وهذا المعنى هو الذي يشهد عليه الكتاب والسنة..." (26) ويقول أيضاً: "إن الأصل في الشروط الصحة واللزوم إلا ما دل الدليل على خلافه... فإن الكتاب والسنة قد دلا على الوفاء بالعقود والعهود، وذم الغدر والنكث... والمقصود هنا: أن مقتضى الأصول والنصوص: أن الشرط يلزم إلا إذا خالف كتاب الله...".
ولا يخفى أن هذه القواعد السابقة تجعل الفقه الإسلامي يقبل بكل عقد، أو تصرف أو تنظيم مالي أو إداري ما دام لا يتعارض مع نصوص الكتاب والسنة، وقواعدها العامة، وأن الشريعة الغراء تجعل كل حكمة نافعة ضالة المؤمن دون النظر إلى مصدرها أو اسمها، وإنما الأساس معناها ومحتواها، ووسائلها وغاياتها، وما تحققه من مصالح ومنافع أو مضار ومفاسد.
خصائص السهم وحقوقه:
للأسهم عدة خصائص من أهمها: تساوي قيمتها حسبما يحددها القانون ، وتساوي حقوقها، وكون مسؤولية كل مساهم بقدر قيمة أسهمه، وقابليتها للتداول، وعدم قابلية السهم للتجزئة وأما حقوق السهم فهي حق بقاء صاحبه في الشركة ، وحق التصويت في الجمعية العمومية، وحق الرقابة، وحق رفع دعوى المسؤولية على الإداريين، والحق في نصيب الأرباح والاحتياطات والتنازل عن السهم والتصرف فيه، والأولوية في الاكتتاب، وحق اقتسام موجودات الشركة عند تصفيتها. (27)
حكم الأسهم باعتبار نشاطها ومحلها:
ذكرنا أن تقسيم رأس مال الشركة إلى حصص متساوية تسمى بالأسهم جائز ليس فيه أية مخافة لمبادئ الإسلامي وقواعده.
وهنا نذكر بصورة عامة حكم تداول هذه الأسهم والتصرف فيها بالبيع والشراء وغيرهما بصورة عامة، ثم نذكر عند بيان كل نوع من الأسهم حكمه الخاص _بإذن الله تعالى_.
ومن الجدير بالتنبيه عليه أن بعض الباحثين (28) أطلقوا اختلاف العلماء المعاصرين حول الأسهم مطلقاً دون تفصيل من غير أن يجد منهم تصريحاً بذلك بل اعتماداً على ما فهم من آرائهم في الشركات بصورة عامة (29)
وهذا الإطلاق لا ينبغي الركون إليه، إذ إن لازم المذهب ليس بمذهب –كما هو مقرر في الأصول- كما أن جل نقاش هؤلاء العلماء في الشركات التي أنشئت في بلاد الإسلام وليس في الشركات التي حدد نشاطها في المحرمات كالخنزير والخمور ونحوها... (30)
- ولذلك نقسم الأسهم إلى نوعين: نوع محرم تحريماً بيناً، ونوع فيه النقاش والتفصيل والخلاف.
فالنوع الأول: هو الأسهم التي محلها الخنزير، والخمور والمخدرات، والقمار ونحوها من المحرمات، وكذلك الشركات التي يكون نشاطها محصوراً في الربا كالبنوك الربوية.
فهذه الأسهم جميعها لا يجوز إنشاؤها، ولا المساهمة في إنشائها، ولا التصرف فيه بالبيع والشراء ونحوها، يقول ابن القيم : -بعد أن ذكر الأحاديث الخاصة بحرمة بيع بعض الأشياء-: "فاشتملت هذه الكلمات الجوامع على تحريم ثلاثة أجناس: مشارب تفسد العقول –كالخمر- ومطاعم تفسد الطباع وتغذي غذاء خبيثاً –مثل الميتة، والخنزير- وأعيان –كالأصنام تفسد الأديان وتدعو إلى الفتنة والشرك، فصان بتحريم النوع الأول، العقول عما يزيلها، ويفسدها، وبالثاني القلوب عما يفسدها من وصول أثر الغذاء الخبيث إليها...، وبالثالث الأديان عما وضع لإفسادها" (31)
هذا هو المبدأ الذي لا يجوز تجاوزه، ولا ينبغي التوقف فيه، وما سوى هذا النوع من الأسهم الحرام قسمان:
القسم الأول: أسهم لشركات قائمة على شرع الله _تعالى_ حيث رأس مالها حلال ، وتتعامل في الحلال ، وينص نظامها وعقدها التأسيسي على أنها تتعامل في حدود الحلال، ولا تتعامل بالربا إقراضاً، واقتراضاً، ولا تتضمن امتيازاً خاصًّا أو ضماناً ماليًّا لبعض دون آخر.
فهذا النوع من أسهم الشركات –مهما كانت تجارية أو صناعية أو زراعية- من المفروض أن يفرغ الفقهاء من القول بحلها وحل جميع التصرفات الشرعية فيها؛ وذلك لأن الأصل في التصرفات والعقود المالية الإباحة ، ولا تتضمن هذه الأسهم أي محرم، وكل ما فيها أنها نظمت أموال الشركة حسبما تقتضيه قواعد الاقتصاد الحديث دون التصادم بأي مبدأ إسلامي.
ومع ذلك فقد أثير حول هذا النوع أمران:
الأمر الأول: ما أثاره أحد الكتاب من أن هذه الأسهم جزء من النظام الرأسمالي الذي لا يتفق جملة وتفصيلاً مع الإسلام، بل إن الشركات الحديثة ولا سيما شركات الأموال حرام لا تجوز شرعاً؛ لأنها تمثل وجهة نظر رأسمالية فلا يصح الأخذ بها، ولا إخضاعها لقواعد الشركات في الفقه الإسلامي (32)
وهذا الحكم العام لا يؤبه به، ولا يجنح إليه، فالإسلام لا يرفض شيئاً؛ لأنه جاء من النظام الفلاني، أو وجد فيه، وإنما الحكم في الإسلام موضوعي قائم على مدى موافقاته لقواعد الشرع، أو مخالفته، "فالحكمة ضالة المؤمن فهو أحق بها أنى وجدها" وبما أن الأسهم القائمة على الحلال لا تتضمن مانعاً شرعيًّا فلا يجوز القول بتحريمها، -كما سبق-.
واستدل كذلك بأن الأسهم بمثابة سندات بقيمة موجودات الشركة ، وهي تمثل ثمن الشركة وقت تقديرها، وليست أجزاء لا تتجزأ من الشركة، ولا تمثل رأس مالها عند إنشائها. (33)
غير أن هذا الحكم والتصور للأسهم مجاف للحقيقة، والواقع الذي عليه الشركات المعاصرة، أن الأسهم ليست سندات، وإنما هي حصص الشركة، وأن كل سهم بمثابة جزء لا يتجزأ من كيان الشركة، وأن مجموع الأسهم هي رأس مال الشركة (34)
كما قاس الأسهم على أوراق النقد حيث يهبط سعرها، ويرتفع، وتتفاوت قيمتها وتتغير، ومن هنا ينسلخ السهم بعد بدء الشركة عن كونه رأس مال، وصار ورقة مالية لها قيمة معينة.
والواقع أن هذا التكييف الفقهي للأسهم غير دقيق، وقياسها على الأوراق النقدية قياس مع الفارق؛ لأن الأسهم في حقيقتها هي حصص الشركة ، وأجزاء تقابل أصولها، وموجوداتها، وهي وإن كانت صكوكاً مكتوبة لكنها يعني بها ما يقابلها.
ومسألة الهبوط والارتفاع يختلف سببها في الأسهم عن سببها في النقود، فتغير قيمة الأسهم يعود إلى نشاط الشركة نفسها، حيث ترتفع عندما تزداد أرباحها ، أو تزداد معها موجودات، وثقة الناس بها، وتنخفض عند الخسارة، ومثل ذلك كمثل شخص أو شركاء لهم سلع معينة فباعوها بأرباح جيدة فزادت نسبة مال كل واحد منهم بقدر الربح، وكذلك تنقص نسبة مال كل واحد منهم لو فقد منها بعضها، أو هلك، أو بيعت السلعة بخسارة، فهذا هو الأنموذج المصغر للأسهم في الشركات .
أما الورقة النقدية فيعود انخفاضها إلى التضخم ، وإلى الأنظمة الدولية بهذا الخصوص وسياسة الدولة في إصدار المزيد من الأوراق النقدية التي قد لا يوجد لها مقابل حقيقي، وغير ذلك من العوامل الاقتصادية ، بينما السهم يمثل ذلك المبلغ الذي تحول إلى جزء من الشركة ممثل في أصولها وموجوداتها.
الأمر الثاني: الذي أثير حول هذا النوع من الأسهم هو ما أثير حول شرائها، أو بيعها من ملحوظات ثلاث نذكرها مع الإجابة عنها. (35)
الملحوظة الأولى: الجهالة، حيث لا يعلم المشتري علماً تفصيليًّا بحقيقة محتوى السهم.
للجواب عن ذلك نقول: إن الجهالة إنما تكون مانعة من صحة العقد إذا كانت مؤدية إلى النزاع، أو كما يعبر عنها الفقهاء بالجهالة الفاحشة (36) يقول الإمام القرافي: "الغرر والجهالة ثلاثة أقسام: كثير ممتنع إجماعاً كالطير في الهواء، وقليل جائز إجماعاً كأساس الدار...، ومتوسط اختلف فيه" (37) ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية في بيع المغيبات كالجزر، واللفت والقلقاس: "والأول –أي القول بصحة بيعها وهو مذهب مالك وقول أحمد - أصح...، فإن أهل الخبرة إذا رأوا ما ظهر منها من الورق وغيره وهم ذلك على سائرها، وأيضاً فإن الناس محتاجون إلى هذه البيوع، والشارع لا يحرم ما يحتاج الناس إليه من البيع لأجل نوع من الغرر، بل يبيح ما يحتاج إليه في ذلك، كما أباح بيع الثمار قبل بدو صلاحها مبقاة إلى الجذاذ وإن كان بعض المبيع لم يخلق... وأباح بيع العرايا بخرصها فأقام التقدير بالخرص مقام التقدير بالكيل عند الحاجة مع أن ذلك يدخل في الربا الذي هو أعظم من بيع الغرر ، وهذه قاعدة الشريعة، وهو تحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، ودفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما" (38) ويقول الأستاذ الصديق الضرير: "الغرر الذي يؤثر في صحة العقد هو ما كان في المعقود عليه أصالة، أما الغرر في التابع... فإنه لا يؤثر في العقد" (39)
فالواقع أن المشتري يعلم علماً إجماليًّا كافياً بقيمة السهم، وما يقابله من الموجودات من خلال نشر الميزانية ونشاط الشركة ونحو ذلك، وهذا العلم يكفي لصحة البيع بالإضافة إلى أن العلم في كل شيء بحسبه.
ثم إن بيع الحصص المشاعة جائز بالاتفاق ، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية . "يجوز بيع المشاع باتفاق المسلمين، كما مضت بذلك سنة رسول الله _صلى الله عليه وسلم_" (40) يراجع: المغني (5/45)؛ والمجموع (9/292)؛ ويراجع: د. صالح بن زابن: المرجع السابق ص (348) والمصادر السابقة الأخرى .
الملحوظة الثانية: أن بيع السهم يعني بيع جزء من الأصول، وجزء من النقود، وهذا يقتضي ملاحظة قواعد الصرف من التماثل والتقابض في المجلس بين الجنس الواحد، والتقابض فيه عند اختلاف الجنس؛ وذلك لأن السهم في الغالب يكون مساوياً لموجودات الشركة بما فيها النقود.
للجواب عن ذلك أن وجود النقود في الأسهم يأتي تبعاً غير مقصود؛ لأن الأصل والأساس فيها هي الموجودات العينية، ولذلك تقول: إن بيع السهم قبل بدء عمل الشركة وقبل شراء المباني ونحوها، لا يجوز إلا مع مراعاة قواعد الصرف.
فالسهم يراد به هذا الجزء الشائع من الشركة دون النظر إلى تفصيلاته فما دام للسهم مقابل من موجودات الشركة لا يعامل معاملة النقد بسبب أن جزءاً من الموجودات نقد، والقاعدة الفقهية تقضي أنه يغتفر في التابع ما لا يغتفر في غيره، وأنه يغتفر في الشيء ضمناً ما لا يغتفر فيه قصداً، قال السيوطي: "ومن فروعها... أنه لا يصح بيع الزرع الأخضر إلا بشرط القطع، فإن باعه مع الأرض جاز تبعاً..." (41)
بل إن مسألتنا هذه لها أصل مقرر في السنة المشرفة، حيث إن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ أجاز شراء عبد وله مال –حتى وإن كان نقداً- فيكون ماله تبعاً للمشتري إذا اشترط ذلك دون النظر إلى قواعد الصرف فقد روى البخاري ومسلم ، وغيرهما بسندهم عن عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ يقول:" ومن ابتاع عبداً وله مال فماله للذي باعه إلا أن يشترط المبتاع " (42) قال الحافظ ابن حجر : "ويؤخذ من مفهومه أن من باع عبداً ومعه مال وشرطه المبتاع أن البيع يصح" ثم ذكر اختلاف العلماء، فيما لو كان المال ربويًّا، حيث ذهب مالك إلى صحة ذلك ولو كان المال الذي معه ربويًّا لإطلاق الحديث؛ ولأن العقد إنما وقع على العبد خاصة والمال الذي معه لا مدخل له في العقد (43) قال مالك : "الأمر المجتمع عليه عندنا أن المبتاع إن اشترط مال العبد فهو له، نقداً كان أو ديناً أو عرضاً يعلم أو لا يعلم..." (44)
الملحوظة الثالثة: إن جزءاً من السهم يمثل ديناً للشركة وحينئذ لا يجوز بيعه بثمن مؤجل؛ لأنه يكون بيع الدين بالدين وهو منهي عنه حيث روي أن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ نهى عن بيع الكالئ بالكالئ –أي: الدين بالدين- (45)
والجواب عن ذلك من وجوه:
الوجه الأول: الحديث ضعيف؛ لأن في سنده موسى بن عبيدة، وهو ضعيف (46) فلا ينهض حجة، كما أن الحديث فُسِّرَ بَعْدُ تفسيراتٌ لا يدخل موضوعنا في أكثرها.
الوجه الثاني: لا ينطبق عليه بيع الدين بالدين، إذ إن هذا الجزء من ديون الشركة داخل في السهم تبعاً، وحينئذ يكون الجواب السابق في الملحوظة الثانية جواباً لهذا الإشكال بكل تفاصيله.
الوجه الثالث: ليس الحكم السابق –في كون الدين جزءاً من السهم- عامًّا، إذ قد لا توجد الديون للشركة، وإنما تتعامل بالنقد ، وعلى فرض وجودها فهي تمثل نسبة قليلة من موجودات الشركة، والقاعدة الفقهية تقضي بأن العبرة بالأكثر. (47)
والخلاصة أن الأسهم التي تقوم على الحلال ، وتتبع الشركات التي تمتنع عن مزاولة أي نشاط محرم، وتتوافر فيه قواعد الشركة من المشاركة في الأعباء، وتحمل المخاطر، ولا تكون لهذه الأسهم ميزة مالية على غيرها... فهي حلال لما ذكرناه، ويجوز إنشاؤها، والتصرف فيها؛ وذلك لأن ذلك كله داخل في حدود التصرفات المباحة التي أجازها الشارع للمالك في ملكه، امتثالاً لقوله _تعالى_: "وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ" [البقرة: 275] والأدلة الأخرى التي ذكرنا بعضها.
يتبع
1/3/1426
د. علي محيي الدين القره داغي
كلية الشريعة والقانون والدراسات الإسلامية - جامعة قطر
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعاملين وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فلا شك أن الشركات المساهمة تلعب دوراً كبيراً في الاقتصاد المعاصر، وأن أهم ركائزها وأدواتها هي الأسهم، حيث يتم من خلالها جمع أكبر قدر ممكن من الأموال؛ لأن تجزئة رأس المال إلى حصص صغيرة تمكن الجميع من المساهمة فيها مما يمكن تجميع رأس مال كبير وبذلك تستطيع الدخول في المشروعات الضخمة .
ولم يقف التعامل في الأسهم اليوم على المساهمين المؤسسين للشركة، بل أصبحت كورقة تجارية مالية تتداول بين الناس بشكل واسع ولا سيما في الأسواق المالية العالمية (البورصة).
ومن هنا يثور التساؤل حول مدى مشروعية التعامل في الأسهم بصورة عامة، والاستثمار فيها ولا سيما الاستثمار في الأسهم التي تمتلكها الشركات العالمية، أو الشركات المحلية داخل العالم الإسلامي ولكن معاملاتها لا تخلو من شوائب الربا.
ومن أخطر ما تعاني منه مجتمعاتنا هو وجود النظام غير الإسلامي ( الرأسمالي ، أو الاشتراكي) الذي تكونت في ظله الشركات في عالمنا الإسلامي حيث لا يلتزم معظمهم بالمنهج الإسلامي القويم، فتقرض وتقترض من البنوك الربوية .
ومعظم المسلمين اليوم في حيرة، هل يتركون هذه الشركات فيقاطعونها ولا يساهمون فيها، وبالتالي ينفرد الفسقة وضعفاء الدين بإدارة هذه الشركات التي تعد العمود الفقري للحياة الاقتصادية؛ وذلك لأنها قائمة وأن مقاطعة الغيورين المخلصين لا تؤثر في مسيرتها أم أنهم يدخلون فيها لغرض الإصلاح والتغيير؟
وفي مقابل هذا التحير من عامة المسلمين نجد اختلاف المعاصرين حيث إن منهم من ينظر إلى مقاصد الشريعة وما يترتب على المقاطعة وعدم المساهمة فيها من مفاسد فأجاز المساهمة فيها بشروط وضوابط، ومنهم من نظر نظرة خاصة إلى ما يشوب هذه المعاملة من حرام فرفضها رفضاً مطلقاً.
ونحن في هذه العجالة نناقش هذه المسألة بكل أمانة وإخلاص راجياً من الله _تعالى_ أن يسدد خطانا، ويلهمنا الصواب، وأن يعصمنا من الخطأ في العقيدة وفي القول والعمل.
أولاً: الاستثمار في اللغة والاصطلاح:
الاستثمار في اللغة:
الاستثمار لغة: مصدر استثمر يستثمر وهو للطلب بمعنى طلب الاستثمار، وأصله من الثمر وهو له عدة معان منها ما يحمله الشجر وما ينتجه، ومنها الولد، حيث يقال: الولد ثمرة القلب، ومنها أنواع المال.
ويقال: ثمر (بفتح الميم) الشجر ثموراً أي: ظهر ثمره، وثمر الشيء أي نضج وكمل، ويقال: ثمر ماله أي كثر، وأثمر الشجر أي بلغ أوان الإثمار، وأثمر الشيء أي آتى نتيجته، وأثمر مالُه –بضم اللام- أي كثر، وأثمر القوم: أطعمهم الثمر، ويقال: استثمر المال وثمره - بتشديد الميم - أي استخدمه في الإنتاج، وأما الثمرة هي واحدة الثمر فإذا أضيفت إلى الشجر فيقصد بها حمل الشجر، وإلى الشيء فيراد بها فائدته، وإلى القلب فيراد بها مودته، وجمع الثمرة: ثمر –بفتح الثاء والميم- وثمر- بضمها- ثمار وأثمار (1)
وقد وردت كلمة "أثمر"، وثمرة، وثمر، وثمرات أربعاً وعشرين مرة في القرآن الكريم منها قوله _تعالى_: "انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ" [الأنعام: 99] أي انظروا إلى ثمار تلك الأشجار والنباتات، ونضجها للوصول إلى الإيمان بالله _تعالى_ حيث يحمل ذلك عجائب قدرته _تعالى_، ومنه قوله _تعالى_: "وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ" [الأنعام: 141]، حيث امتن الله _تعالى_ علينا بالثمار، وأمرنا أن نأكل من ثمار هذه الأشجار والنباتات عندما تثمر وتنتج، وأن نعطي حقها (وهو الزكاة) عند حصادها فوراً للمستحقين، كما أمرنا بأن لا نسرف في الباقي، وهذا يدل على أن حق الملكية ليس حقًّا مطلقاً، بل مقيد بضوابط الشرع.
وفي هذه الآية وآيات أخرى أسند الله _تعالى_ الإثمار إلى الشجر والنبات أنفسهما مما يدل على أهمية العناية بالسنن والأسباب الظاهرة التي لها تأثير على النمو والثمر والنضج مع أن الفاعل الحقيقي هو الله _تعالى_، ولذلك أكد هذه الحقيقة في آيات أخرى فقال: "وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ" [البقرة: 22] وقوله _تعالى_: "رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ" [البقرة: 126].
ويلاحظ أن القرآن الكريم أطلق (في الغالب) الثمر أو الثمرة، أو الثمرات على ما تنتجه الأشجار والنباتات مثل قوله _تعالى_: "وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ" [البقرة: 155]، ولم يطلق على ما تنتجه التجارة من أرباح إلا إذا عممنا المراد بقوله _تعالى_: "أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آَمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ" [القصص: 57].
وقد وردت هذه الكلمة أيضاً في السنة كثيراً وهي لا تعدو معانيها عن ثمار الأشجار والنباتات، منها أنه _صلى الله عليه وسلم_: "نهى عن بيع الثمر حتى يزهو" متفق عليه، وقوله _صلى الله عليه وسلم_:" اللهم ارزقنا من ثمرات الأرض" (مسند أحمد 3/342) وغير ذلك.
الاستثمار في الاصطلاح:
ورد لفظ "التثمير" في عرف الفقهاء عندما تحدثوا عن السفيه والرشيد، فقالوا: الرشيد هو القادر على تثمير ماله وإصلاحه، والسفيه هو غير ذلك، قال الإمام مالك : "الرشد: تثمير المالي، وإصلاحه فقط" (2)
وأرادوا بالتثمير ما نعني بالاستثمار اليوم (3)
وأما لفظ "الاستثمار" فلم يرد بمعناه الاقتصادي اليوم، ولذلك في معجم الوسيط: الاستثمار: استخدام الأموال في الإنتاج إما مباشرة بشراء الآلات والمواد الأولية، وإما بطريقة غير مباشرة كشراء الأسهم والسندات ثم وضع رمز "مج" الذي يدل على أن هذا المعنى هو من وضع مجمع اللغة (4)
حكم الاستثمار:
الذي يظهر من النصوص الشرعية ومقاصدها العامة أن الاستثمار واجب في مجموعه، أي أنه لا يجوز للأمة أن تترك الاستثمار.
* ذلك لأن النصوص الثابتة في أهمية المال في حياة الفرد والأمة، وتقديم المال على النفس في معظم الآيات وامتنان الله _تعالى_ بالمال، والمساواة بين المجاهدين، والساعين في سبيل الرزق كما في آخر سورة المزمل، وتسمية العامل والتاجر بالمجاهد في سبيل الله في أحاديث كثيرة... كل ذلك يدل بوضوح على وجوب العناية بالمال وتثميره وتقويته حتى تكون الأمة قادرة على الجهاد والبناء والمعرفة والتقدم والتطور والسعادة والنهضة والحضارة، حيث إن ذلك لا يتحقق إلا بالمال كما يقول الله _تعالى_:"وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا" [النساء: 5].
فقد سمى الله _تعالى_ المال بأنه قيام للمجتمع الإسلامي، وهذا يعني أن المجتمع لا يقوم إلا به ولا يتحرك إلا به ولا ينهض إلا به، كما أن قوله _تعالى_ :"وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا" [النساء:5] ولم يقل: "منها" يدل بوضوح على وجوب الاستثمار حتى تكون نفقة هؤلاء المحجور عليهم (من الأطفال والمجانين) في الأرباح المتحققة من الاستثمار وليست من رأس المال نفسه.
يقول الإمام الرازي: "اعلم أنه _تعالى_ أمر المكلفين في مواضع من كتابه بحفظ الأموال"، قال _تعالى_: "وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ" [ الإسراء: 26 – 27]. وقال _تعالى_: "وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا" [الإسراء: 29] وقال _تعالى_: "وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا" [الفرقان: 67] وقد رغب الله في حفظ المال في آية المداينة، حيث أمر بالكتابة والإشهاد والرهن، والعقل يؤيد ذلك؛ لأن الإنسان ما لم يكن فارغ البال لا يمكنه القيام بتحصيل مصالح الدنيا والآخرة، ولا يكون فارغ البال إلا بواسطة المال"، ثم قال: "وإنما قال: "فيها" ولم يقل "منها" لئلا يكون ذلك أمراً بأن يجعلوا بعض أموالهم رزقاً لهم، بل أمرهم أن يجعلوا أمواله مكاناً لرزقهم بأن يتجروا فيها ويثمروها فيجعلوها أرزاقهم من الأرباح ، لا من أصول الأموال ...." (5)
* ومن الأدلة المعتبرة أن وجوب الزكاة في الأموال يدفع أصحابها إلى التجارة؛ لأنه إن لم يتاجروا فيها تأكلها الصدقة والنفقة، وهذا ما يؤيده الفكر الاقتصادي الحديث، حيث يفرض أنواعاً من الضرائب لدفع أصحاب الأموال إلى عدم اكتنازها، بل قد وردت أحاديث تصل بمجموعها إلى درجة الصحيح أو الحسن الذي ينهض به حجة على وجوب التجارة في أموال الصغار (اليتامى وغيرهم) والمحجور عليهم : السفهاء ، والمجانين ، وناقصي الأهلية، فقد روى الشافعي بإسناده عن يوسف بن ماهك أن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ قال:"ابتغوا في مال اليتيم –أو في أموال اليتامى - لا تذهبها- أو لا تستهلكها- الصدقة " وقد قال البيهقي والنووي : "إسناده صحيح، ولكنه مرسل معضد بعموم النصوص الأخرى وبما صح عن الصحابة من إيجاب الزكاة في مال اليتيم" (6)
قال البيهقي : "وهذا –أي حديث ابن ماهك- مرسل إلا أنا الشافعي_رحمه الله_ أكده بالاستدلال بالخبر الأول، وهو عموم الحديث الصحيح في إيجاب الزكاة مطلقاً- وبما روى عن الصحابة في ذلك" (7)
وقال النووي : "ورواه البيهقي عن عمر بن الخطاب _رضي الله عنه_ موقوفاً عليه بلفظ: "وابتغوا في أموال اليتامى لا تأكلها الصدقة" وقال: إسناده صحيح، ورواه أيضاً عن علي بن مطرف..." (8)
- وروى الطبراني في الأوسط عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: " اتجروا في أموال اليتامى لا تأكلها الزكاة " قال الهيثمي في (مجمع الزوائد) نقلاً عن شيخه الحافظ العراقي : "إن إسناده صحيح" (9)
يقول فضيلة الشيخ القرضاوي: "إن الأحاديث والآثار قد نبهت الأوصياء على وجوب تثمير أموال اليتامى حتى لا تلتهمها الزكاة...." فواجب على القائمين بأمر اليتامى أن ينموا أموالهم كما يجب عليهم أن يخرجوا الزكاة عنها، نعم إن في هذين الحديثين (أي حديث عمرو بن شعيب المرفوع وحديث يوسف بن ماهك) ضعفاً من جهة السند، أو الاتصال ولكن يقويهما عدة أمور، وذكر منها: " أنه يوافق منهج الإسلام العام في اقتصاده القائم على إيجاب التثمير وتحريم الكنز" (10)
* وكذلك يدل على وجوب تثمير الأموال في قوله _تعالى_: "كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ" [الحشر: 7] حيث إن الأموال لا تتداول إلا عن طريق توزيع الصدقات، والاستثمار الذي يؤدي إلى أن يستفيد منها الجميع من العمال والصناع والتجار ونحوهم، وكذلك قوله _تعالى_:"وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ" [الأنفال: 60] ومن القوة بلا شك قوة المال بل هي مقدمة في معظم الآيات على النفس، فإذا كانت قوة البدن والسلاح مطلوبة فإن قوة المال أشد طلباً ووجوباً.
ثم إن من مقاصد هذه الشريعة الحفاظ على الأموال، وذلك لا يتحقق إلا عن طريق استثمارها وتنميتها، كما أن من مقاصدها تعمير الكون على ضوء منهج الله _تعالى_"هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا" [هود: 61] فقال المفسرون: "معناه: أمركم بعمارة ما تحتاجون إليه فيها من بناء مساكن وغرس أشجار" (11) وكذلك ومن مقاصدها الاستخلاف الذي يقتضي القيام بشؤون الأرض وتدبيرها والإفادة منها وتعميرها وكل ذلك لا يتحقق على وجهها الأكمل إلا عن طريق الاستثمار .
والخلاصة:
أن الاستثمار للأموال بوجهها العام واجب كفائي فيجب على الأمة أن تقوم بعمليات الاستثمار حتى تكون وفرة الأموال وتشتغل الأيادي ويتحقق حد الكفاية للجميع إن لم يتحقق الغنى، ومن القواعد الفقهية في هذا المجال هو أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب .
ويثور التساؤل حول وجوب الاستثمار على الفرد إذا كان له فائض مالي، فالذي يقتضيه المنهج الإسلامي في أن المال مال الله _تعالى_ وأن ملكية الإنسان له ليست مطلقة عن قيد... إنه يجب عليه أن يستثمر أمواله بالطرق المشروعة سواء كان بنفسه، أو عن طريق المضاربة والمشاركة ونحوهما، وأنه لا ينبغي له أن يترك أمواله الصالحة للاستثمار فيعطلها عن أداء دورها في التدوير وزيادة دورانها الاقتصادي الذي يعود بالنفع العام على المجتمع.
كما أن قوة المجتمع والأمة بقوة أفرادهما ولا سيما على ضوء منهج الاقتصاد الإسلامي الذي يعترف بالملكية الفردية، وأن ملكية الدولة محدودة، ومن هنا فتقع على الأفراد مسؤولية كبرى في زيادة الأموال وتقويتها عن طريق الاستثمار، يقول الشيخ محمود شلتوت: "إذا كان من قضايا العقل والدين أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، وكانت عزة الجماعة الإسلامية أول ما يوجبه الإسلام على أهله، وكانت متوقفة على العمد الثلاثة: الزراعة والصناعة والتجارة، كانت هذه العمد واجبة وكان تنسيقها على الوجه الذي يحقق خير الأمة واجباً..." (12)
المعالم الأساسية لمنهج الإسلام في الاستثمار
لا يمكن الخوض في تفاصيل هذا الموضوع في هذا البحث، وإنما نكتفي بذكر أهم معالمه بصورة موجزة، وهي:
أولاً: أن منهج الاستثمار في الإسلام لا ينفصل عنه العقيدة والفكر الإسلامي ، وكما أن الفكر الرأسمالي يسير عجلة الاستثمار في النظام الرأسمالي ، والفكر الشيوعي كان يسير عملية الاستثمار في الاتحاد السوفيتي السابق والدول الاشتراكية نحو إطاره الفلسفي وأهدافه من خلال وسائله الخاصة....
فكذلك العقيدة الإسلامية هي المهيمنة في الفكر الاقتصادي الإسلامي، وفي منهج الاستثمار وأدواته ووسائله وآلياته، فالمسلم يعتقد أن المال مال الله _تعالى_، وأنه مستخلف فيه، ولذا يجب عليه أن يسير في الاستثمار وغيره على ضوء منهج الله _تعالى_، ولا يخالف شرعه كما عليه أن يعمر الكون بالعدل والحق، ويكون شاهداً على الآخرين.
ولأجل هذه العقيدة تختلف تصرفات المؤمن عن الكافر فبينما يضع المسلم في الاكتساب والإنفاق والاستثمار رضاء الله _تعالى_ نصب عينيه يضع الكافر مصالحه الشخصية أولاً ثم مصالح قومه فوق كل الاعتبارات، بل قد لا يكون له اعتبار إلا لهما، يبين ذلك قوله _تعالى_ في وصف المؤمنين: "وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9)" [الإنسان: 8 – 9]. بينما يصف الكافر بأنه ليس راغباً في إطعام اليتامى والمساكين؛ لأنه ليس فيه مصلحة دنيوية له، حتى لو أطعم فإنما يطعم من يرجو منه مصلحة كأصحاب الجاه، حيث يقول _تعالى_: "أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3)" [ الماعون: 1-3] ولأجل هذه العقيدة يرى المؤمن أن الربا محق للأموال ونقص حقيقي، وأن دفع الصدقات زيادة لها، وهذا بالتأكيد عكس تصور الكافر، حيث يقول الله _تعالى_: "يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ" [البقرة: 276].
ولأجل هذه العقيدة أيضاً يمتنع عن المحرمات ويقبل على الطاعات، ويعد أنه مثاب مأجور ينفذ أمر الله _تعالى_ حينما يستثمر ويتاجر ويعمل، إضافة إلى إسناده النتيجة إلى الله _تعالى_ وحينئذ لا يحزن ولا يغتم عند الخسارة، ولا يبطر ويطغى عن الربح والغناء "لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ" [الحديد: 23] فهو دائماً في أحد المقامين أو في كليهما: مقام الشكر والثناء، ومقام الصبر والرضا.
كما يترتب على هذه العقيدة سرعة الامتثال لأوامر الله _تعالى_ ونواهيه، ولذلك يقدم الله _تعالى_ على أوامره ونواهيه ذكر الإيمان فيقول _تعالى_: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ" [النساء: 29] وقوله _تعالى_: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ" [البقرة: 278].
ومن جانب آخر أن المسلم حينما يتحرك ويستثمر فإنما ينطلق من منطلق العقيدة التي تفرض عليه أن يعمر الكون على ضوء منهج الله _تعالى_ وينشر الخير والرحمة للعالمين أجمعين.
ثانياً: أن من أهم المعالم الأساسية للمنهج الإسلامي في الاستثمار قيامه على القيم والأخلاق والمبادئ ، ولذلك حرم الإسلام الحيل والغش والاستغلال والتدليس، ولذلك وردت أحاديث صحيحة على أن "من غشنا فليس منا " (13) وعلى حرمة التدليس، سواء كان بالقول كما في النجش (14) أم بالفعل كما في التصرية (15) ونحوها.
وبالمقابل أوجب الإسلام أن يسير الاستثمار على العدل، والسماحة عند البيع الشراء والاقتضاء، وبيان كل ما في المعقود عليه من عيوب دون كذب ولا حلف ولا زور (16)
ثالثاً: إن من المعالم الأساسية للمنهج الإسلامي في الاستثمار قيامه على التنافس الشريف وإتاحة الفرصة للجميع دون تدخل من الدولة إلا لحماية الضوابط الشرعية والضعفاء، ولذلك كانت حماية السوق منوطة بسلطة شعبية تتمثل في نظام الحسبة والرقابة الذاتية والشعبية.
ومن هنا أعطى الرسول _صلى الله عليه وسلم_ الحق في الخيار لمن كان في عقله ضعف كما في حديث ابن عمر رجلاً ذكر للنبي _صلى الله عليه وسلم_ أنه يخدع في البيوع، فقال: " إذا بايعت فقل: لا خلابة " ، ورواه أحمد وأصحاب السنن بلفظ: أن رجلاً على عهد رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ كان يبتاع وكان في عقدته –يعني في عقله- ضعف فأتى أهله النبي _صلى الله عليه وسلم_ فقالوا: يا رسول الله احجر على فلان فإنه يبتاع وفي عقدته ضعف، فدعاه ونهاه، فقال: إني لا أصبر عن البيع، فقال: إن كنت غير تارك للبيع فقل: هاء وهاء، ولا خلابة " . (17) .
فهذا الحديث أصل طيب في الدلالة على إعطاء فرصة أكبر لضعاف العقول والمستأمنين الذين ليس لديهم الخبرة في العقود بأن يشترطوا لأنفسهم الخيار، بل يعطى لهم هذا الحق ما داموا وقعوا في غبن حتى ولو لم يشترطوا الخيار. (18)
رابعاً: تحريم الظلم والربا، وأكل أموال الناس بالباطل، والمقامرة وغير ذلك مما حرمه الإسلام ونهى عنه.
الأسهم:
الأسهم هي جمع سهم، وهو لغة له عدة معان منها: النصيب، وجمعه: "السهمان" بضم السين، ومنها العود الذي يكون في طرفه نصل يرمى به عن القوس، وجمعه: السهام، ومنها: بمعنى القدح الذي يقارع به، أو يلعب به في الميسر، ويقال: أسهم بينهم أي أقرع، وساهمه أي باراه ولاعبه فغلبه، وساهمه أي قاسمه وأخذ سهماً، أي نصيباً، جاء في (المعجم الوسيط): "ومنه شركة المساهمة"(19) وفي القرآن الكريم "فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ" [الصافات: 141] أي قارع بالسهام فكان من المغلوبين (20) والاقتصاديون يطلقون السهم مرة على الصك ، ومرة على النصيب ، والمؤدى واحد، فباعتبار الأول قالوا: السهم هو: صك يمثل جزءاً من رأس مال الشركة ، يزيد وينقص تبع رواجها.
وبالاعتبار الثاني: قالوا: السهم هو نصيب المساهم في شركة من شركات الأموال ، أو الجزء الذي ينقسم على قيمته مجموع رأس مال الشركة المثبت في صك له قيمة اسمية، حيث تثمل الأسهم في مجموعها رأس مال الشركة ، وتكون متساوية القيمة. (21)
وتتميز الأسهم بكونها متساوية القيمة، وأن السهم الواحد لا يتجزأ وأن كان نوع منها –عاديًّا أو ممتازاً- يقوم - من حيث المبدأ- على المساواة في الحقوق والالتزامات وأنه قابل للتداول، ولكن بعض القوانين –مثل النظام السعودي - استثنى الأسهم المملوكة للمؤسسين حيث لا يجوز تداولها قبل نشر الميزانية إلا بعد سنتين ماليتين كاملتين –كقاعدة عامة- وكذلك لا يجوز تداول أسهم الضمان التي يقدمها عضو مجلس الإدارة لضمان إدارته طوال مدة العضوية وحتى تنقضي المدة المحددة لسماع دعوى المسؤولية (22)
حكم تقسيم رأس مال الشركة:
ومن الجدير بالتنبيه عليه أن تقسيم رأس مال الشركة إلى حصص وأجزاء، واشتراط الشروط السابقة لا يتنافى مع المبادئ العامة للشريعة الإسلامية ، والقواعد العامة للشركة في الفقه الإسلامي، إذ ليس فيها ما يتنافى مع مقتضى عقد الشركة ، بل فيها تنظيم وتيسير ورفع للحرج الذي هو من سمة هذه الشريعة، وداخل ضمن الوفاء العام بالعقود "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ" [المائدة: 1] وتحت قول رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: " المسلمون عند شروطهم" (23) وفي رواية:" والمسلمون على شروطهم إلا شرطاً حرم حلالاً أو أحل حراماً " (24) قال الترمذي : "هذا حديث حسن صحيح". (25)
فهذه النصوص وغيرها تدل على أن كل مصالحة وكل شرط جائزان إلا ما دل الدليل على حرمته، وعلى أن الأصل فيهما هو الإباحة ، والحظر يثبت بدليل خاص، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : "وهذا المعنى هو الذي يشهد عليه الكتاب والسنة..." (26) ويقول أيضاً: "إن الأصل في الشروط الصحة واللزوم إلا ما دل الدليل على خلافه... فإن الكتاب والسنة قد دلا على الوفاء بالعقود والعهود، وذم الغدر والنكث... والمقصود هنا: أن مقتضى الأصول والنصوص: أن الشرط يلزم إلا إذا خالف كتاب الله...".
ولا يخفى أن هذه القواعد السابقة تجعل الفقه الإسلامي يقبل بكل عقد، أو تصرف أو تنظيم مالي أو إداري ما دام لا يتعارض مع نصوص الكتاب والسنة، وقواعدها العامة، وأن الشريعة الغراء تجعل كل حكمة نافعة ضالة المؤمن دون النظر إلى مصدرها أو اسمها، وإنما الأساس معناها ومحتواها، ووسائلها وغاياتها، وما تحققه من مصالح ومنافع أو مضار ومفاسد.
خصائص السهم وحقوقه:
للأسهم عدة خصائص من أهمها: تساوي قيمتها حسبما يحددها القانون ، وتساوي حقوقها، وكون مسؤولية كل مساهم بقدر قيمة أسهمه، وقابليتها للتداول، وعدم قابلية السهم للتجزئة وأما حقوق السهم فهي حق بقاء صاحبه في الشركة ، وحق التصويت في الجمعية العمومية، وحق الرقابة، وحق رفع دعوى المسؤولية على الإداريين، والحق في نصيب الأرباح والاحتياطات والتنازل عن السهم والتصرف فيه، والأولوية في الاكتتاب، وحق اقتسام موجودات الشركة عند تصفيتها. (27)
حكم الأسهم باعتبار نشاطها ومحلها:
ذكرنا أن تقسيم رأس مال الشركة إلى حصص متساوية تسمى بالأسهم جائز ليس فيه أية مخافة لمبادئ الإسلامي وقواعده.
وهنا نذكر بصورة عامة حكم تداول هذه الأسهم والتصرف فيها بالبيع والشراء وغيرهما بصورة عامة، ثم نذكر عند بيان كل نوع من الأسهم حكمه الخاص _بإذن الله تعالى_.
ومن الجدير بالتنبيه عليه أن بعض الباحثين (28) أطلقوا اختلاف العلماء المعاصرين حول الأسهم مطلقاً دون تفصيل من غير أن يجد منهم تصريحاً بذلك بل اعتماداً على ما فهم من آرائهم في الشركات بصورة عامة (29)
وهذا الإطلاق لا ينبغي الركون إليه، إذ إن لازم المذهب ليس بمذهب –كما هو مقرر في الأصول- كما أن جل نقاش هؤلاء العلماء في الشركات التي أنشئت في بلاد الإسلام وليس في الشركات التي حدد نشاطها في المحرمات كالخنزير والخمور ونحوها... (30)
- ولذلك نقسم الأسهم إلى نوعين: نوع محرم تحريماً بيناً، ونوع فيه النقاش والتفصيل والخلاف.
فالنوع الأول: هو الأسهم التي محلها الخنزير، والخمور والمخدرات، والقمار ونحوها من المحرمات، وكذلك الشركات التي يكون نشاطها محصوراً في الربا كالبنوك الربوية.
فهذه الأسهم جميعها لا يجوز إنشاؤها، ولا المساهمة في إنشائها، ولا التصرف فيه بالبيع والشراء ونحوها، يقول ابن القيم : -بعد أن ذكر الأحاديث الخاصة بحرمة بيع بعض الأشياء-: "فاشتملت هذه الكلمات الجوامع على تحريم ثلاثة أجناس: مشارب تفسد العقول –كالخمر- ومطاعم تفسد الطباع وتغذي غذاء خبيثاً –مثل الميتة، والخنزير- وأعيان –كالأصنام تفسد الأديان وتدعو إلى الفتنة والشرك، فصان بتحريم النوع الأول، العقول عما يزيلها، ويفسدها، وبالثاني القلوب عما يفسدها من وصول أثر الغذاء الخبيث إليها...، وبالثالث الأديان عما وضع لإفسادها" (31)
هذا هو المبدأ الذي لا يجوز تجاوزه، ولا ينبغي التوقف فيه، وما سوى هذا النوع من الأسهم الحرام قسمان:
القسم الأول: أسهم لشركات قائمة على شرع الله _تعالى_ حيث رأس مالها حلال ، وتتعامل في الحلال ، وينص نظامها وعقدها التأسيسي على أنها تتعامل في حدود الحلال، ولا تتعامل بالربا إقراضاً، واقتراضاً، ولا تتضمن امتيازاً خاصًّا أو ضماناً ماليًّا لبعض دون آخر.
فهذا النوع من أسهم الشركات –مهما كانت تجارية أو صناعية أو زراعية- من المفروض أن يفرغ الفقهاء من القول بحلها وحل جميع التصرفات الشرعية فيها؛ وذلك لأن الأصل في التصرفات والعقود المالية الإباحة ، ولا تتضمن هذه الأسهم أي محرم، وكل ما فيها أنها نظمت أموال الشركة حسبما تقتضيه قواعد الاقتصاد الحديث دون التصادم بأي مبدأ إسلامي.
ومع ذلك فقد أثير حول هذا النوع أمران:
الأمر الأول: ما أثاره أحد الكتاب من أن هذه الأسهم جزء من النظام الرأسمالي الذي لا يتفق جملة وتفصيلاً مع الإسلام، بل إن الشركات الحديثة ولا سيما شركات الأموال حرام لا تجوز شرعاً؛ لأنها تمثل وجهة نظر رأسمالية فلا يصح الأخذ بها، ولا إخضاعها لقواعد الشركات في الفقه الإسلامي (32)
وهذا الحكم العام لا يؤبه به، ولا يجنح إليه، فالإسلام لا يرفض شيئاً؛ لأنه جاء من النظام الفلاني، أو وجد فيه، وإنما الحكم في الإسلام موضوعي قائم على مدى موافقاته لقواعد الشرع، أو مخالفته، "فالحكمة ضالة المؤمن فهو أحق بها أنى وجدها" وبما أن الأسهم القائمة على الحلال لا تتضمن مانعاً شرعيًّا فلا يجوز القول بتحريمها، -كما سبق-.
واستدل كذلك بأن الأسهم بمثابة سندات بقيمة موجودات الشركة ، وهي تمثل ثمن الشركة وقت تقديرها، وليست أجزاء لا تتجزأ من الشركة، ولا تمثل رأس مالها عند إنشائها. (33)
غير أن هذا الحكم والتصور للأسهم مجاف للحقيقة، والواقع الذي عليه الشركات المعاصرة، أن الأسهم ليست سندات، وإنما هي حصص الشركة، وأن كل سهم بمثابة جزء لا يتجزأ من كيان الشركة، وأن مجموع الأسهم هي رأس مال الشركة (34)
كما قاس الأسهم على أوراق النقد حيث يهبط سعرها، ويرتفع، وتتفاوت قيمتها وتتغير، ومن هنا ينسلخ السهم بعد بدء الشركة عن كونه رأس مال، وصار ورقة مالية لها قيمة معينة.
والواقع أن هذا التكييف الفقهي للأسهم غير دقيق، وقياسها على الأوراق النقدية قياس مع الفارق؛ لأن الأسهم في حقيقتها هي حصص الشركة ، وأجزاء تقابل أصولها، وموجوداتها، وهي وإن كانت صكوكاً مكتوبة لكنها يعني بها ما يقابلها.
ومسألة الهبوط والارتفاع يختلف سببها في الأسهم عن سببها في النقود، فتغير قيمة الأسهم يعود إلى نشاط الشركة نفسها، حيث ترتفع عندما تزداد أرباحها ، أو تزداد معها موجودات، وثقة الناس بها، وتنخفض عند الخسارة، ومثل ذلك كمثل شخص أو شركاء لهم سلع معينة فباعوها بأرباح جيدة فزادت نسبة مال كل واحد منهم بقدر الربح، وكذلك تنقص نسبة مال كل واحد منهم لو فقد منها بعضها، أو هلك، أو بيعت السلعة بخسارة، فهذا هو الأنموذج المصغر للأسهم في الشركات .
أما الورقة النقدية فيعود انخفاضها إلى التضخم ، وإلى الأنظمة الدولية بهذا الخصوص وسياسة الدولة في إصدار المزيد من الأوراق النقدية التي قد لا يوجد لها مقابل حقيقي، وغير ذلك من العوامل الاقتصادية ، بينما السهم يمثل ذلك المبلغ الذي تحول إلى جزء من الشركة ممثل في أصولها وموجوداتها.
الأمر الثاني: الذي أثير حول هذا النوع من الأسهم هو ما أثير حول شرائها، أو بيعها من ملحوظات ثلاث نذكرها مع الإجابة عنها. (35)
الملحوظة الأولى: الجهالة، حيث لا يعلم المشتري علماً تفصيليًّا بحقيقة محتوى السهم.
للجواب عن ذلك نقول: إن الجهالة إنما تكون مانعة من صحة العقد إذا كانت مؤدية إلى النزاع، أو كما يعبر عنها الفقهاء بالجهالة الفاحشة (36) يقول الإمام القرافي: "الغرر والجهالة ثلاثة أقسام: كثير ممتنع إجماعاً كالطير في الهواء، وقليل جائز إجماعاً كأساس الدار...، ومتوسط اختلف فيه" (37) ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية في بيع المغيبات كالجزر، واللفت والقلقاس: "والأول –أي القول بصحة بيعها وهو مذهب مالك وقول أحمد - أصح...، فإن أهل الخبرة إذا رأوا ما ظهر منها من الورق وغيره وهم ذلك على سائرها، وأيضاً فإن الناس محتاجون إلى هذه البيوع، والشارع لا يحرم ما يحتاج الناس إليه من البيع لأجل نوع من الغرر، بل يبيح ما يحتاج إليه في ذلك، كما أباح بيع الثمار قبل بدو صلاحها مبقاة إلى الجذاذ وإن كان بعض المبيع لم يخلق... وأباح بيع العرايا بخرصها فأقام التقدير بالخرص مقام التقدير بالكيل عند الحاجة مع أن ذلك يدخل في الربا الذي هو أعظم من بيع الغرر ، وهذه قاعدة الشريعة، وهو تحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، ودفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما" (38) ويقول الأستاذ الصديق الضرير: "الغرر الذي يؤثر في صحة العقد هو ما كان في المعقود عليه أصالة، أما الغرر في التابع... فإنه لا يؤثر في العقد" (39)
فالواقع أن المشتري يعلم علماً إجماليًّا كافياً بقيمة السهم، وما يقابله من الموجودات من خلال نشر الميزانية ونشاط الشركة ونحو ذلك، وهذا العلم يكفي لصحة البيع بالإضافة إلى أن العلم في كل شيء بحسبه.
ثم إن بيع الحصص المشاعة جائز بالاتفاق ، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية . "يجوز بيع المشاع باتفاق المسلمين، كما مضت بذلك سنة رسول الله _صلى الله عليه وسلم_" (40) يراجع: المغني (5/45)؛ والمجموع (9/292)؛ ويراجع: د. صالح بن زابن: المرجع السابق ص (348) والمصادر السابقة الأخرى .
الملحوظة الثانية: أن بيع السهم يعني بيع جزء من الأصول، وجزء من النقود، وهذا يقتضي ملاحظة قواعد الصرف من التماثل والتقابض في المجلس بين الجنس الواحد، والتقابض فيه عند اختلاف الجنس؛ وذلك لأن السهم في الغالب يكون مساوياً لموجودات الشركة بما فيها النقود.
للجواب عن ذلك أن وجود النقود في الأسهم يأتي تبعاً غير مقصود؛ لأن الأصل والأساس فيها هي الموجودات العينية، ولذلك تقول: إن بيع السهم قبل بدء عمل الشركة وقبل شراء المباني ونحوها، لا يجوز إلا مع مراعاة قواعد الصرف.
فالسهم يراد به هذا الجزء الشائع من الشركة دون النظر إلى تفصيلاته فما دام للسهم مقابل من موجودات الشركة لا يعامل معاملة النقد بسبب أن جزءاً من الموجودات نقد، والقاعدة الفقهية تقضي أنه يغتفر في التابع ما لا يغتفر في غيره، وأنه يغتفر في الشيء ضمناً ما لا يغتفر فيه قصداً، قال السيوطي: "ومن فروعها... أنه لا يصح بيع الزرع الأخضر إلا بشرط القطع، فإن باعه مع الأرض جاز تبعاً..." (41)
بل إن مسألتنا هذه لها أصل مقرر في السنة المشرفة، حيث إن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ أجاز شراء عبد وله مال –حتى وإن كان نقداً- فيكون ماله تبعاً للمشتري إذا اشترط ذلك دون النظر إلى قواعد الصرف فقد روى البخاري ومسلم ، وغيرهما بسندهم عن عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ يقول:" ومن ابتاع عبداً وله مال فماله للذي باعه إلا أن يشترط المبتاع " (42) قال الحافظ ابن حجر : "ويؤخذ من مفهومه أن من باع عبداً ومعه مال وشرطه المبتاع أن البيع يصح" ثم ذكر اختلاف العلماء، فيما لو كان المال ربويًّا، حيث ذهب مالك إلى صحة ذلك ولو كان المال الذي معه ربويًّا لإطلاق الحديث؛ ولأن العقد إنما وقع على العبد خاصة والمال الذي معه لا مدخل له في العقد (43) قال مالك : "الأمر المجتمع عليه عندنا أن المبتاع إن اشترط مال العبد فهو له، نقداً كان أو ديناً أو عرضاً يعلم أو لا يعلم..." (44)
الملحوظة الثالثة: إن جزءاً من السهم يمثل ديناً للشركة وحينئذ لا يجوز بيعه بثمن مؤجل؛ لأنه يكون بيع الدين بالدين وهو منهي عنه حيث روي أن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ نهى عن بيع الكالئ بالكالئ –أي: الدين بالدين- (45)
والجواب عن ذلك من وجوه:
الوجه الأول: الحديث ضعيف؛ لأن في سنده موسى بن عبيدة، وهو ضعيف (46) فلا ينهض حجة، كما أن الحديث فُسِّرَ بَعْدُ تفسيراتٌ لا يدخل موضوعنا في أكثرها.
الوجه الثاني: لا ينطبق عليه بيع الدين بالدين، إذ إن هذا الجزء من ديون الشركة داخل في السهم تبعاً، وحينئذ يكون الجواب السابق في الملحوظة الثانية جواباً لهذا الإشكال بكل تفاصيله.
الوجه الثالث: ليس الحكم السابق –في كون الدين جزءاً من السهم- عامًّا، إذ قد لا توجد الديون للشركة، وإنما تتعامل بالنقد ، وعلى فرض وجودها فهي تمثل نسبة قليلة من موجودات الشركة، والقاعدة الفقهية تقضي بأن العبرة بالأكثر. (47)
والخلاصة أن الأسهم التي تقوم على الحلال ، وتتبع الشركات التي تمتنع عن مزاولة أي نشاط محرم، وتتوافر فيه قواعد الشركة من المشاركة في الأعباء، وتحمل المخاطر، ولا تكون لهذه الأسهم ميزة مالية على غيرها... فهي حلال لما ذكرناه، ويجوز إنشاؤها، والتصرف فيها؛ وذلك لأن ذلك كله داخل في حدود التصرفات المباحة التي أجازها الشارع للمالك في ملكه، امتثالاً لقوله _تعالى_: "وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ" [البقرة: 275] والأدلة الأخرى التي ذكرنا بعضها.
يتبع