المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : سيكولوجية العنف الديني وسياسة الدولة



Dr.M
29-01-2005, Sat 6:57 AM
الكويت: سيكولوجية العنف الديني وسياسة الدولة

علي الطراح *

بالرغم من حوادث العنف التي شهدتها الساحة الكويتية، في بداية حرب إزالة صدام حسين، والتي ذهب ضحيتها أفراد مدنيون وعسكريون من الجنسية الأمريكية، إلا أن الحكومة الكويتية اعتبرتها أحداثا منفردة، ونتيجة لتأجيج المشاعر المعادية للقوات الأمريكية، واتبعت استراتيجية المهادنة مع الحركات الدينية الراديكالية، واعتقدت في اتباعها لهذا النهج، أنه يبعد الساحة المحلية عن أي مواجهات عنيفة قادمة.
وعندما بدأت المواجهات العسكرية مع الراديكالية الدينية في السعودية، بدأت تلوح في الأفق احتمالية انتقال عدوى العنف إلى الساحة الكويتية، إلا أن الحكومة مرة أخرى بقيت حبيسة لرهانات خاسرة، وواصلت مهادنتها للراديكالية الدينية، عبر تقديمها تنازلات عديدة، ومنها منع الحفلات الغنائية ووضعها لما يعرف بـ«ضوابط الحفلات»، التي اقرها مجلس الوزراء الكويتي، بل منعت حتى عزف الموسيقى في صالات الفنادق في احتفالات رأس السنة الميلادية، على أمل أن تكسب ود الجماعات الراديكالية الدينية، وإذا بها تفاجأ باعتداء إرهابي منظم، ذهب ضحيته استشهاد اثنين من رجال الأمن الكويتي. لم تكن المواجهة غير متوقعة للمتتبع لأيديولوجية الراديكالية الدينية، حيث سبق تلك المواجهة اعتقالات لخلية في الجيش الكويتي، وما زالت التحقيقات لم تكشف للعلن وتتم في سرية كاملة.
وبالرغم من المداهمات العسكرية التي شنتها السلطات الكويتية أعقاب «مواجهة حولي»، والاعتقالات بين صفوف خلايا الراديكالية الدينية، إلا أن الحكومة ما زالت مترددة في إعلان المواجهة، حيث خرج نائب رئيس الوزراء ووزير الداخلية في تصريح ينفي فيه أي انتماء لأي تنظيم سياسي للجماعة، التي قتلت العسكريين كما قامت بقتل احد أعضائها، الذي أصيب بطلق ناري خوفا من افتضاح سر تلك الجماعات.
أمام هذا المشهد الدامي والطريقة التي تعاملت معها السلطات الكويتية، باتت الساحة المحلية مفتوحة لكل التوقعات. ولا يستبعد أن تقوم الراديكالية الدينية بمواجهات جديدة، حيث من الواضح أنها اتبعت طريقة محكمة في تنفيذ جريمتها، تشبه إلى درجة كبيرة عصابات المافيا التي عرفتها أوروبا، حيث تقوم بقتل أي عضو من أعضائها عندما يتعرض للاعتقال، خوفا من افتضاح أمره، وهذا ما فعلته الراديكالية الدينية في الكويت عندما قتلت فواز العتيبي خوفا من افتضاح أمرها.
هل الحكومة الكويتية محقة في استراتيجيتها مع الدينية الراديكالية، أم أنها ارتكبت خطأ استراتيجيا في أسلوب المواجهة؟ لا اعتقد أن الأمر ينحصر بين الصواب والخطأ، بقدر ما أن الحكومة برهنت على عدم تفهمها لطبيعة ظاهرة الإرهاب والعنف الديني، فتعاملت معها على أنها عابرة، ولن تؤثر في نسيج المجتمع.

أحداث 11 سبتمبر في أمريكا دعتها إلى تشكيل وحدات مخصصة في دراسة سيكولوجية العنف الديني، بينما لم تعمل أي دولة عربية على توظيف العلم النفسي والاجتماعي، في فهم الأبعاد النفسية والاجتماعية لظاهرة العنف الديني، لكي تتمكن من التعرف عن كثب على أسباب الظاهرة ووسائل علاجها ومواجهتها. معظم البلاد العربية اقتصرت جهودها على الجانب الأمني في مواجهة العنف الديني، كما أن معظمها تعامل مع الظاهرة باعتبارها وقتية، وأن الزمن كفيل بالتصدي لها.
في حقيقة الأمر، أن أفكار التطرف مدمرة وتحمل في طياتها سموما قاتلة، وشحنات عاطفية تهيج مشاعر شباب، وتشكل بداخلهم اندفاعية منغلقة غير خاضعة لقوانين المجتمع. أن أحد مظاهر الاضطراب النفسي لدى بعض الفئات، يعرف بفقدان التوازن الداخلي، فعندما يتعرض الإنسان لحالة تصادم بين القيم، يصاب بهزات نفسية عنيفة، ترفع نسبة لجوئه إلى عالم آخر تتساوى فيه الأشياء، ويصعب عليه التمييز بين النافع والمضر، وأحيانا كثيرة يصبح الانتحار الخيار الوحيد، كما قال عالم الاجتماع الفرنسي دوركهايم.
يعد العنف من أشد الظواهر الاجتماعية والنفسية التي بذل علماء الاجتماع والنفس جهدا في تحليل أبعادها وشخصية من يقوم بأعمال العنف. ففي لغة علم النفس، يعد العنف الوسيلة الأخيرة المتاحة للإنسان لكي يتخلص من مأزقه.
الشباب الذين ينضمون إلى التنظيمات الراديكالية الدينية هم الفئة التي تتمثل فيها درجة كبيرة من الفشل والإحباط، ويتحول الإنسان في هذه الحالة، وكأنه مسؤول مسؤولية مباشرة عن تردي المحيط الذي يعيش فيه، فيبدأ في دخول مرحلة التخلص من الخطيئة الوجودية والإثم الذي يحمله بداخله.
ويقرب عالم النفس رايش صورة العدوانية المرتبطة بتدمير الذات والآخر، إلى نوع من السادية، حيث يقول إن السادية العدوانية تأخذ طابعاً مأساويا، أكثر من مسألة الحصول على اللذة الجنسية، من خلال إنزال الألم بالقرين في السادية الجنسية، حيث تنطلق السادية العدوانية من رغبة السطوة، إنها سيطرة على الآخر والحط من شأنه، من أجل إعلان شأن الذات بواسطة العنف المدمر. بمعنى آخر أن المصاب بالسادية العدوانية شخصية يائسة، في الحاجة إلى توكيد الذات، فهو يعبر بأعماله العدوانية ليقول للآخرين: عليكم أن تعترفوا بوجودي، وإذا لم تعترفوا به فأني أنا من يجعلكم تتألمون، فيتحول الألم الذي يتسبب فيه المعتدي إلى لذة. إنها درجة عالية من الاضطراب النفسي، حيث تتحول اللذة لدى المعتدي إلى مصدر للاعتراف بوجوده الذاتي من خلال إنزال العقاب والمعاناة في الآخر، وتتحول العدوانية إلى نشوة القوة بدلا من نشوة المتعة الجنسية. وهذا ما يفسر لنا كيف يقدم إنسان على نحر رقبة الآخر، فالنحر هنا مصدر لذة ونشوة، وشعور بالقوة يشبع فيها حاجات نفسية مضطربة. الجرائم التي شهدناها على التلفزة والتي تظهر مظاهر الألم للمعتدى عليه، يرسل فيها المعتدي رسالة للآخرين لإشاعة الرعب في قلوبهم.
السلوك التدميري يقوم فيه المعتدي بفك الارتباط العاطفي بالآخر، فتنهار روابط الألفة والمحبة وتنهار روابط المواطنة. وهذا ما يفسر لنا جمود المشاعر والأحاسيس لدى المعتدي عندما يذبح ضحيته، ويقف أمامها شامخاً فخورا بفعله.
أما الخطأ الكبير الذي ترتكبه أنظمه الحكم، فيكمن في تسطيحها للظاهرة، وفي خلل السياسات التي تنتهجها الدولة حيث ثبت أن أسلوب المهادنة غير مجد مع الراديكالية الدينية، بل هذا النهج أدى إلى رفع سقف المطالبات الراديكالية الدينية، حين وجدت نفسها تمسك بأوراق اللعبة. وفي ظل هذه السياسات تتحول الجماعات الدينية الراديكالية إلى فضاءٍ ثقافيٍ واجتماعيٍ ودينيٍ نهائيٍ ومغلقٍ، حيث تجد في نفسها تجسيد نموذج الأمة الإسلامية، فيصبح علماؤها هم علماء الأمة في تفسير النص المقدس، مما يخلف حالة من تضارب القيم وتصارعها في داخل المنتمين لهذه الجماعات، بينما تقف الدولة بمؤسساتها عاجزة عن تقديم بدائلها، فيستفحل فكر الراديكالية الدينية.

إن التطرف والعنف إذا خرجا عن إطارهما المرتبط بالنظام الاجتماعي والديني والثقافي والسياسي، يفرغان من محتواهما، فهما ليسا ظاهرة ذاتية المولد، وإنما ظاهرة يتشابه فيها النفسي والاجتماعي والسياسي، لذا يجب الرجوع إلى مصدر الميكانزمات والاستراتيجيات التي تمكن من التحكم فيهما. وأخيرا، ستكون للسياسة الهروب إلى الأمام، وعدم التصدي لهذا الانحراف الفكري في منبته، نتائج مدمرة للمجتمع والدولة على حد سواء، فهذا التطرف والانحراف مثل بقعة الزيت التي تزداد اتساعا، ولذا يجب عمل قطيعة مع ممارسات الماضي والتصدي لها، وهذا يتطلب أولا وعي الدولة وإدراكها بخطورة هذه الظاهرة الغريبة والشاذة، ليكون الحل بعدها بمعالجة الجذور المولدة لها، للقضاء عليها نهائيا وإلى الأبد.

* أستاذ علم الاجتماع بجامعة الكويت



http://www.asharqalawsat.com/default.asp?issue=9548&page=leader&article=277995

Dr.M
29-01-2005, Sat 7:06 AM
الأصولية .. ليست حركة دينية فقط!

علي الطراح *

العالم من شماله إلى جنوبه وشرقه إلى غربه يواجه تناميا لظاهرة الأصولية الدينية التي تحول بعضها إلى حركات ثورية راديكالية، تعبر عن احتجاجات اجتماعية ضد المحيط الاجتماعي للذين يعيشون فيه. والأصولية حركة عالمية وليست بالضرورة حركة دينية. ففي أفغانستان لدينا أصولية دينية قبلية شديدة الخصومة مع معالم الحضارة الغربية، وفي ايرلندا الشمالية شهدنا ميليشيات تطلق على نفسها أصولية كانت تقف بالمرصاد للقوات البريطانية. كما لدينا أصولية مسيحية في الولايات المتحدة وأصولية سيخية في البنجاب، وأصولية شيعية في إيران، وحركة الاخوان المسلمين في مصر، وأصولية فلسطينية كحماس والجهاد وغيرها من حركات تطلق على نفسها صفة «أصولية» وجدت نفسها في حالة صراع مع الواقع السياسي والاجتماعي والأمني المحيط بها. الحركات الأصولية الدينية ليست بالضرورة حركات مسلحة، فمنها من تدافع عن مبادئها عبر مؤسسات وتنظيمات الدولة والمجتمع المدني، ومنها من فقد الثقة في هذه المؤسسات وانتهج العنف كسبيل في توصيل رسائله.
والباحث في الحركات الأصولية يخرج بمجموعة من النتائج، أولها ان هذه الحركات ليست بالضرورة محافظة أو تقليدية، وثانيها أنها حركات ليست بالضرورة جامدة، بمعنى أنها ديناميكية وقادرة على التعامل مع الظروف العصرية، وثالثها ان بعض الأصوليات تحمل سمات تجمعها مع العلمانية التي تسعي إلى تأكيد المبادئ الأخلاقية في حياة الإنسان، ورابعها ان الحركات الأصولية ليست على المطلق معادية للعلم والتكنولوجيا، بل أكدت الحقائق أن هذه الحركات الأصولية استفادت من التقدم التقني وخصوصاً من شبكات الانترنت الحديثة في بث دعواها والكشف عن أعمالها وخططها. وخامسا والأهم أن نعي أنه ليس بالضرورة افتراض اختفاء الأصولية في ظل التقدم التقني للبشرية، فهي ظاهرة اجتماعية مرشحة أن تستمر معنا لفترة طويلة قادمة . كما ينبغي التأكيد على أن ليس من الممكن وسم جميع الحركات الأصولية بالإرهابية أو الدينية التي تؤكد على المعتقد الديني ونظرتها إلى طريق النجاة من الهلاك الأخروي. كما ينبغي أن نتذكر أنه ليس من الضرورة أن يكون المنتمون للحركات الأصولية من الفقراء أو غير المتعلمين.
ومن الملاحظات المهمة في هذا السياق أن الأصوليات المختلفة قد تتلاقى على تحقيق أهداف معينة ضد عدو موحد تراه، إضافة الى أن الأصوليات وخصوصا الدينية قد تتحالف مع حركات غير أصولية لتحقيق أهدافها كما يحصل على سبيل المثال في العراق.
الجانب الديني غلب في وصف الحركات الأصولية، وبالتالي ينظر للأصوليات الدينية وخصوصاً المتطرفة على أنها من أشد الحركات عنفا وثورية، حيث تنطلق مفاهيمها من المقدس الذي ترى أن لا حق للبشر في مقاومته أو الاعتراض عليه. الأصولية الدينية المتطرفة تتخذ مواقف غير متفهمة للسلوك البشري وترفض المرونة الاجتماعية في التعامل مع هذا السلوك. فهي دائما تتصلب في فهمها لكل مناح الحياة. فالفن والموسيقى تعد من المفسدات إلا إذا كانت تساعد على نشر رسالة الجماعة الأصولية. كما يغلب عليها التشدد وعدم ترجيح العقل المعاصر في أحكامها.
ومع الأخذ في الاعتبار التفاوت فيما بين الأصوليات الدينية إلا أنها جميعها ترى دورها كوكيل لسلطة مقدسة ستهيمن على الأرض، ومن ثم ترى أن أفكارها كاملة وغير قابلة للجدل.
والظاهرة الأصولية ظاهرة اجتماعية تعبر عن حالة عدم الرضى عن الواقع المعاش، وتحصر جهودها في إعادة التوازن الاجتماعي للمجتمع حسب رؤيتها، وتسعى إلى تحقيق هدفها النهائي بالوصول إلى السلطة، لبدء التغيير المرغوب فيه لإنقاذ المجتمع الطوبائي.
الى ذلك فأحد الأسباب التي أدت إلى انتشار الفكر الأصولي الديني يتجسد في حالة فقدان قوة التفسير لطبيعة الحياة الحديثة، ومن ثم تجد مؤسسي الأصوليات الدينية يبحثون عن وجهات نظر متكاملة من أمهات الكتب التراثية، واستلهام ما قام به السلف الصالح لتريحهم من البحث عن أسئلة لا يملكون الإجابة عليها. ويضاف إلى ذلك السبب بالطبع، حالة الانحدار والانحطاط الاجتماعي، وتأزم المجتمع اقتصاديا وسياسياً، وهي عوامل تلعب بدورها في دفع الشباب الغر نحو تبني الفكر الأصولي المتطرف.
ومن المؤكد أن الأمر يحتاج لمواجهة تنامي الظاهرة الأصولية الدينية، تفعيل دور علماء الدين ومؤسساته في تقديم شروح عقلانية للنصوص الدينية التي تتخذها الأصولية الدينية نبراسا لها. كما أننا بحاجة إلى تفعيل دور علماء النفس والاجتماع في بحثهم عن أسباب تنامي الفكر الأصولي وتقديم مبادرات عملية وعاقلة تقترب من تفكير الشباب التي تبعدهم عما مسهم من تلوث في أفكارهم مما جعلهم في مهب ريح الضياع والهوس الاجتماعي.
كما أننا بحاجة إلى علماء التاريخ لفهم أساس ومنبع الأصوليات وظروفها التاريخية وربطها بالظروف العصرية لكي نتمكن من فهم الأسباب التي أدت إلى تنامي الفكر الأصولي الديني.
الخطورة تكمن في ترك الفكر الأصولي الديني ينتشر في المجتمع ، على اعتبار أن بعضه لا يأخذ من العنف أو الثورية أدوات لتحقيق أهدافه. فالأصولية الدينية لها تأثير دراماتيكي على اقتصاد المجتمع وتملك القدرة على تدمير آليات الاقتصاد العصري. وهنا ربما نجد تفسيرا لأحداث 11 سبتمبر (ايلول) حيث اعتبرت نيويورك المركز الاقتصادي للرأسمالية العالمية، وحتى نسف السكك الحديدية أو المطارات عمليات تعبر عن رغبة في تدمير الآليات الاقتصادية الحديثة المحبطة لهذه الحركات.
ولكي نكون موضوعيين في تقييمنا للحركات الأصولية الدينية، علينا أن نقول إن بعضا من الأفكار التي تحملها هذه الحركات إيجابية. فعلى سبيل المثال مساعدة المجتمع في مقاومة انتشار المخدرات، أو الحد من تفشي الفساد الاجتماعي، هذه المجالات والمبادرات سليمة ومحبذة ومن الممكن تطويرها للاستفادة منها لإصلاح البناء الأخلاقي والقيمي في المجتمع.



http://www.asharqalawsat.com/default.asp?page=leader&article=247340&issue=9375

Dr.M
29-01-2005, Sat 7:10 AM
دورة المجتمع المدني والعنف السياسي.. في البلاد العربية

د. علي الطراح

كان للتغيرات التي حدثت على الساحة الدولية، تأثير كبير على إعادة طرح موضوع المجتمع المدني، فقد أدى انهيار الاتحاد السوفيتي سابقا وسقوط جدار برلين والنضال الذي لعبته المعارضة للنظام الشيوعي في بولندا وبقية الدول الاشتراكية، إلى الإسراع في طرحه من جديد.
أيا كان الأمر، فإن طرح هذا الموضوع من جديد يشير إلى فشل النظام السياسي العربي في تأطير المجتمع والسير به إلى بر الأمان، فسنوات الأحادية الحزبية والنظام السياسي الشمولي والقمع الذي مارسته السلطة الحاكمة ضد كل من يعارضها في التوجه وطمس المجتمع المدني وعدم تفعيله والحاقه قسرا بالنظام السياسي، كلها عوامل ساعدت على بروز الأزمات التي عرفتها بعض الدول العربية من عنف سياسي، الذي مهما كانت مبرراته فإنه يعتبر كمؤشر لفشل الدول الوطنية ما بعد الاستعمار في جميع الميادين: اقتصاديا فشل برامج التنمية، اجتماعيا غياب فعلي لمؤسسات المجتمع المدني، سياسيا فقدان للشرعية السياسية وما يتبعها من حرية التعبير وغياب الديمقراطية.
فقد بدأ بعض الباحثين في العالم العربي استخدام هذا المفهوم النسبي «المجتمع المدني»، عندما ساد الاقتناع بأن الدولة العربية القطرية الحديثة (أي دولة ما بعد الاستقلال) فشلت في إيجاد الحلول للتحديات الناتجة عن التطورات السكانية والاقتصادية والسياسية التي واجهها المجتمع العربي في النصف الثاني من هذا الفشل فسّره كثيرون بأنه نتج ـ جزئيا على الأقل ـ عن الطابع السلطوي الذي اتصفت به معظم الأنظمة العربية والذي لم يتح مجالا كافيا للمشاركة الشعبية.
وهكذا غدا مفهوم المجتمع المدني يقدم إجابة عن العديد من المسائل، فهو الرد عن سلطة الحزب الواحد في الدول الشيوعية بإيجاد مرجعية اجتماعية خارج الدولة، وهو الرد على بيروقراطية وتمركز عملية اتخاذ القرار في الدول الليبرالية، وهو الرد على سيطرة اقتصاد السوق على الحياة الاجتماعية، وهو الرد على دكتاتورية العالم الثالث من جهة، وعلى البنى العضوية والتقليدية من جهة أخرى.
يشير مفهوم المدني إذن إلى التحول الهائل والحاسم الذي حدث في الفكر السياسي خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر بوجه خاص. ويعبر عن الإرادة التي أظهرها الفكر الغربي الحديث عامة في الانتهاء من أزمنة العصور الوسطى والتخلص منها، بل وفي إعلان القطيعة مع النظام القديم جملة وتفصيلا والقول بنظام جديد يقوم على أسس مختلفة ومخالفة.
إن مفهوم المجتمع المدني يتجاوز المصالح الآنية الضيقة، إذ ان هدفه هو الصالح العام ومنشأه ودافعه هو العمل الحر الطوعي لصالح المجتمع، بل هو صمام الأمان للدولة وهو بارومتر التوازنات التي تحدث في المجتمع وهو فوق هذا أداة للتوازن والتنظيم تقف بين الدولة بسلطتها القهرية والمادية وبين المجتمع وتطلعاته التي قد تتجاوز ما هو مسموح به قانونا والحد من هذه النزوعات الأنانية التي قد تتخذ أشكالا تعبيرية تتنافى مع فلسفة ومبادئ المجتمع المدني.
قد يبدو للوهلة الأولى أن مقولة العنف السياسي أو اقتران كلمة السياسي بكلمة العنف، تعني أن العامل السياسي هو الدافع الحقيقي للعنف، وهذا الطرح ليس سليماً ولا يعبّر عن حقيقة الظاهرة ـ العنف ـ إذ تتشابك عدة عوامل وتتضافر لتفسير ذلك، وإذا كان ظاهرياً أن العنف الذي ظهر في بعض الدول العربية ارتبط بالأصولية والإسلام السياسي في العقود الأخيرة. ومن المفارقات، أن ذلك ارتبط أيضاً بدخول مصطلح المجتمع المدني إلى قاموس علماء الاجتماع العرب ـ ومن بين هذه الأسباب ما هو اقتصادي، وما هو ثقافي، وما هو اجتماعي، اضافة إلى العامل السياسي.
ان العنف ليس ظاهرة خاصة بمجتمع دون غيره، وليس بزمان دون غيره، فهو ظاهرة تاريخية عالمية، من هنا، وانطلاقاً من التفكير المنهجي العلمي السليم الذي يقول إن لكل ظاهرة سببا أو أسبابا تؤدي إلى حدوثها، وأنه لا توجد ظاهرة اجتماعية تنشأ من فراغ، يمكننا القول إن هذه الظاهرة ليست ظاهرة ذاتية المولد، بل ان أسباباً عديدة ومتضافرة تؤدي إليه وإلى ممارسته.
ان أحد الأسباب المهمة لظهور ظاهرة العنف السياسي، هو غياب مجتمع مدني أو عدم فعاليته، ويكفي أن ندلل على ذلك اقتران ظهور هذا المصطلح على الساحة الفكرية والعملية بظهور بوادر فشل الدولة الوطنية في تحقيق مطالب شعوبها وعلى جميع الصعد سياسيا فقدان الشرعية وغياب الديمقراطية والمشاركة السياسية الفعالة، والتعددية السياسية.. الخ، التي أدت في النهاية إلى توفير الأرضية الخصبة التي ترعرع فيها العنف السياسي وعلى ما يقول المفكر المغربي «عبد الإله بلقزيز»، لا يحتاج المرء إلى كبير شرح لبيان درجة الانسداد التي بلغها النظام السياسي لـ «الدولة الوطنية» في الوطن العربي الحديث، وليس من دليل أبلغ على ذلك من عجزه عن تقديم أجوبة حقيقية عن المطالب التاريخية للمجتمع العربي: النهضة، التقدم، والديمقراطية، التي كان بعضها في أساس قيامه أو على الأصح ـ من مزاعم قيامه، وليس من شك في أن هذا الإخفاق السياسي الذي يعيشه النظام الحاكم في دول العرب المعاصرة مرده إلى فقدان الشرعية التي يقوم عليها كل نظام حديث: الشرعية الديمقراطية الدستورية: فهو إما نظام نخبات عسكرية نشأت خارج الحياة السياسية الليبرالية المتواضعة، أو اما نظام قبائل وعشائر وطوائف ينهل ثقافته من النظام السياسي العصبوي القروسطي أو من نظم الحكم المحلي في أوائل العهد الحديث، أو نظام ثيوقراطي يستعيد تقاليد الدولة السلطانية التقليدية.
إذن العنف السياسي التي تقوم به الحركات الأصولية المتطرفة في البلاد العربية، يترجم حقيقة ويعبر عن الأزمة العميقة التي تعيشها الدولة الوطنية التي احتكرت لسنوات طوال كل المجالات والمنابر، وألحقت مؤسسات المجتمع المدني، إن وجدت بها، لخدمة مصالحها ومشروعها الآيديولوجي الذي فشل في الأخير نتيجة لقوة القمع والقهر التي مارسها النظام الحاكم على المجتمع. وللتدليل على صحة ما نقول، نجد ان النظام السياسي هو نفسه الذي كان سباقا إلى استعمال هذا المصطلح ـ المجتمع المدني ـ وشجع على استعماله وهذا لمواجهة الأصولية الدينية. وهذا اعتراف صريح أن غياب مؤسسات المجتمع المدني كان يمكن أن يكون صمام الأمان للدولة لتجنبها العنف السياسي الذي تحول في الأخير إلى إرهاب أعمى.
ان وجود مؤسسات فعالة للمجتمع المدني كان يمكن أن ينشر الديمقراطية والحوار وثقافة التسامح بدل ثقافة العنف والإقصاء، فالمجتمع المدني هو فضاء للحرية والديمقراطية والمشاركة البناءة والمساهمة في تحقيق مشاريع التنمية وتجنب المجتمع والدولة التجاوزات التي قد تظهر نتيجة للإفراط في الذاتية والأنانية.
ان أهمية وجود مؤسسات فعالة للمجتمع المدني دفعت بالبعض إلى وصفه بـ «رأس مال اجتماعي» ففي كتاب صدر في السنوات الأخيرة للعالم الأمريكي «روبرت بونتام» أستاذ بجامعة هارفارد بعنوان «جعل الديمقراطية تعمل» يؤكد المؤلف عبر هذا الكتاب على العلاقة الوطيدة بين المجتمع المدني والديمقراطية، وبعد أن حاول كل التفسيرات الممكنة خلص إلى تفسير رئيس وهو ما أسماه رأس المال الاجتماعي.
ان تأكيدنا على أهمية المجتمع المدني وضرورة وجوده في مجتمعاتنا العربية، ينبع من التاريخ السياسي والاجتماعي للمجتمعات العربية أين غيبت مؤسسات المجتمع المدني وبدلاً من الحوار والمشاركة البناءة حل محلها القمع والإقصاء؟ وهكذا على مر السنين تراكمت الأخطاء والكبت ومع رياح الديمقراطية القادمة من الغرب، وجد المجتمع العربي نفسه مدفوعاً إلى الانتفاضة ضد الأشكال السابقة من التسيير السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وكان من بين مظاهر هذه الأزمة متشعبة الجوانب ما شهدناه من عنف سياسي كاد يعصف ببعض الأنظمة العربية.

أستاذ علم الاجتماع وعميد كلية الدراسات الاجتماعية ـ جامعة الكويت
altarrah@hotmail.com


http://www.asharqalawsat.com/default.asp?page=leader&article=218366&issue=9212